استهدفت السياسة الخارجية التركية -منذ بداية حكومة العدالة والتنمية الثانية على الأقل- تصفية مشاكل تركيا المستعصية في جوارها الإقليمي. وهي السياسة التي أصبح عنوانها "صفر مشاكل" التي قادها بدون شك د. أحمد داوود أوغلو، الذي انتقل منذ ربيع 2009م من موقعه كمستشار لرئيس الحكومة ورئيس الجمهورية للشؤون الخارجية، إلى إدارة كل الملف الخارجي من موقعه كوزير للخارجية. فحملت "صفر مشاكل" طموحًا تركيًا متعاظمًا للعب دور واسع في الشأنين الإقليمي والدولي، وعكست إدراكًا واعيًا بأن مثل هذا الدور لا يمكن تحقيقه بينما تحمل تركيا أعباء قضايا ثقيلة الوطأة، يعود بعضها إلى سنوات تأسيس الجمهورية، وأخرى إلى سنوات الحرب الباردة.
نظرًا للصعوبات التي تواجه الولايات المتحدة في العراق وإيران والقضية الفلسطينية وأفغانستان والقوقاز، فقد كان واضحًا أن حاجة إدارة أوباما لتركيا لا تقل عن حاجة تركيا لأميركا. |
بيد أن من الطبيعي أن يطرح التعاظم الحثيث للدور التركي الإقليمي تحديات جديدة؛ فالدول الكبيرة، ذات السياسات الخارجية النشطة، والتي تفترض لنفسها أدوارًا تليق بحجمها وموقعها، لا تقلل من مشاكلها بالضرورة؛ بل على العكس، ربما تواجه مزيدًا من المشاكل. وقد بدا، في الشهور القليلة المتبقية من 2010، أن ثلاثة تحديات رئيسية باتت تواجه السياسة الخارجية التركية.
العلاقات الأميركية–التركية: سُحُب الأزمتين الإسرائيلية والإيرانية
التنافس الروسي–التركي في جنوب القوقاز: الحبل الأرمني الأذري
العلاقات الإسرائيلية–اليونانية: محاصرة تركيا
إعادة ضبط للسياسة الخارجية التركية: حدود الاستقلالية
راج في العاصمة التركية أنقرة مناخ من التفاؤل الكبير عندما تولى الرئيس الأميركي باراك أوباما مقاليد البيت الأبيض؛ فالرئيس الأميركي الجديد لم يقم بزيارة مدوية لتركيا في مطلع ولايته وحسب، بل بدا أن ودًا خاصًا توطد بينه و بين رئيس الحكومة التركية طيب رجب أردوغان. ونظرًا للصعوبات التي تواجه الولايات المتحدة في العراق وإيران والقضية الفلسطينية وأفغانستان والقوقاز، فقد كان واضحًا أن حاجة إدارة أوباما لتركيا لا تقل عن حاجة تركيا لأميركا.
ولكنّ حدثين متتاليين تركا أثرًا لا يخفى على العلاقات التركية–الأميركية خلال الشهور القليلة الماضية:
- أولهما: الهجوم الإسرائيلي في مايو/أيار على قافلة المساعدات البحرية لغزة، والذي أدى إلى مقتل 8 متضامنين أتراك ومتضامن تركي–أميركي؛
- وثانيهما: التصويت التركي في يونيو/حزيران في مجلس الأمن ضد قرار العقوبات الجديدة على إيران، الذي تبنته إدارة أوباما.
في مواجهة تصاعد اللهجة التركية ضد الدولة العبرية، حافظت واشنطن على موقف متحفظ من الأزمة، وأحجمت عن توجيه إدانة صريحة للتصرف الإسرائيلي. ولم تُخفِ أوساط في إدارة أوباما دهشتها من التصويت التركي ضد قرار العقوبات على إيران؛ بل وصدر عن الخارجية الأميركية ما يفيد بأن واشنطن لم تكن تتوقع من تركيا أكثر من الامتناع عن التصويت.
خلال الفترة التالية، تصاعدت أصوات يمينية ومؤيدة لإسرائيل في واشنطن وأوروبا تقول: إن حكومة العدالة والتنمية تقود تركيا بعيدًا عن تحالفاتها التقليدية مع أميركا والغرب. وقد عمل صقور الكونغرس الأميركي على تعطيل التصويت على مرشح أوباما الجديد لمنصب السفير الأميركي بأنقرة، بحجة أنه يفتقد الصلابة الكافية للتعامل مع حكومة أردوغان. وفي منتصف أغسطس/آب، نشرت الفايننشيال تايمز البريطانية تقريرًا أفاد بأن أردوغان تلقى تهديدًا مباشرًا من أوباما بأن تركيا ستواجه صعوبات في مشترياتها للسلاح من الولايات المتحدة إن لم تقم حكومته بتصحيح سياستها الخارجية.
سارعت كل من أنقرة وواشنطن إلى تكذيب تقرير الصحيفة البريطانية، ولكن من غير المستبعد أن يكون مصدر التقرير أوساطًا معينة في إدارة أوباما أو الكونغرس، تستهدف بالفعل توجيه رسالة لأنقرة.
في محاولة لاحتواء المناخ غير الصحي في العلاقات مع واشنطن، أرسلت تركيا في الأسبوع الأخير من أغسطس/آب وفدًا من وزارة الخارجية، يقوده وكيل الوزارة، للعاصمة الأميركية. وقد التقى الوفد بعدد كبير من المسؤولين في البيت الأبيض ووزارات الدفاع والخارجية والتجارة الأميركية؛ كما صدرت عن الوفد تصريحات تصالحية بشأن العلاقات التركية–الإسرائيلية، وتأكيدات إضافية على ثبات العلاقات التركية مع أميركا. بيد أنه يتوجب الانتظار بعض الوقت لنعرف على وجه الدقة ما إذا كانت أنقرة قد نجحت في تجاوز مناخ الأزمة مع واشنطن، وما إذا كانت ثمة مطالب أميركية بات من الضروري على تركيا الاستجابة لها، أو الالتقاء معها في منتصف الطريق على الأقل.
التنافس الروسي–التركي في جنوب القوقاز
يشكِّل الاتفاق مع أرمنيا خطوة نوعية في علاقات روسيا مع أرمنيا، أما الاتفاق مع أذربيجان فيشير إلى أن باكو لم تعد تسلم كلية لتحالفها مع تركيا، وإلى أن روسيا تود التوكيد لكل ذي علاقة أنها اللاعب الرئيس في جنوب القوقاز، بالرغم من الخلافات الأرمنية–الأذرية المستعصية. |
بيد أن زيارة غل سرعان ما تلتها -بعد أيام قليلة فقط- عدة خطوات روسية بارزة؛ إذ وقَّعت روسيا، وقبل أيام قليلة أخرى من زيارة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيدف لأرمنيا، اتفاقًا أمنيًا إستراتيجيًا مع أرمنيا، وفَّر ضمانة روسية صريحة لأمن أرمنيا وحدودها. وقد واكب الاتفاق نشر روسيا صواريخ س 300 في أرمنيا، والتمديد للقوات الروسية المتمركزة في أرمنيا (4 آلاف جندي) حتى منتصف القرن. في الوقت نفسه، كانت روسيا توقع على اتفاق أمني آخر مع أذربيجان، أقر بيع روسيا بطاريات صواريخ س 300 المضادة للطائرات لأذربيجان. ويشكِّل الاتفاق مع أرمنيا خطوة نوعية في علاقات روسيا مع أرمنيا، أما الاتفاق مع أذربيجان فيشير إلى أن باكو لم تعد تسلم كلية لتحالفها مع تركيا، وإلى أن روسيا تود التوكيد لكل ذي علاقة أنها اللاعب الرئيس في جنوب القوقاز، بالرغم من الخلافات الأرمنية–الأذرية المستعصية.
ثمة من يرى في الاندفاع الروسي في جنوب القوقاز تحذيرًا واضحًا لتركيا بأن هناك حدودًا لا يمكن لها أن تتخطاها في المنطقة. ولكن قيام روسيا بنشر بطاريات صواريخ س 300 في أبخازيا، المنشقة عن جورجيا تحت الحماية الروسية، ربما يحمل رسالة أكبر، ليس لتركيا وحسب، بل ولحلف الأطلسي أيضًا، لاسيما وأن جورجيا، ركيزة الأطلسي في جنوب القوقاز، باتت محاطة كلية بالنفوذ الروسي العسكري.
العلاقات الإسرائيلية–اليونانية
شهد الأسبوع الثاني من أغسطس/آب زيارة مفاجئة قام بها رئيس الوزراء اليوناني، جورج بباندريو، للدولة العبرية. ولم ينته الأسبوع الثالث من الشهر، حتى قام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو بزيارة اليونان. والعلاقات اليونانية–الإسرائيلية ليست علاقات جيدة تقليديًا، ولا حتى طبيعية، نظرًا للصلات الوثيقة التي تربط اليونان بأغلب الدول العربية المطلة على المتوسط، ودعم اليونان الدائم للقضية الفلسطينية. ولأسباب تاريخية عميقة، تعاني العلاقات التركية–اليونانية من توتر مستمر، لم تفلح عضوية الدولتين المشتركة في حلف الناتو في احتوائه. وفي المقابل، وقفت الدول العربية إلى جانب اليونان، في معظم محطات خلافاتها مع تركيا، لاسيما فيما يتعلق بالمسألة القبرصية.
قبل وصول نتانياهو لأثينا، اتصل بباندريو بالرئيس المصري حسني مبارك، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، في خطوة فُهِم منها تأكيد أثينا على موقفها التقليدي من العلاقات مع العرب، وسعي بباندريو للعب دورٍ ما في عملية السلام. كما صدرت عن اليونانيين والإسرائيليين تصريحات تشير إلى أن التقارب بين الجانبين ليس موجهًا ضد تركيا. ولكن نتانياهو وقَّع في أثينا عددًا غير عادي من الاتفاقيات المشتركة في مجالات التجارة والاقتصاد والثقافة والسياحة والأمن؛ كما حصل على موافقة اليونان على تدريب الطيارين الإسرائيليين في المجال الجوي اليوناني، كبديل عن التسهيلات التي اعتادت إسرائيل الحصول عليها من تركيا وأوقفتها حكومة أردوغان مؤخرًا.
تعكس الخطوة اليونانية غير المسبوقة في التوجه نحو الدولة العبرية حاجة أثينا الملحة لدعم إسرائيلي في مجالات السياحة والاستثمار، ودعم المؤسسات المالية العالمية الصديقة لإسرائيل، في وقت تواجه اليونان أزمة مالية–اقتصادية خانقة. ولكنها تعكس أيضًا محاولة يونانية للرد على ازدياد الثقل الاقتصادي والسياسي لتركيا. أما من الجانب الإسرائيلي، فليس ثمة شك أن نتانياهو يحاول الرد على العداء التركي المتزايد للسياسات الإسرائيلية والتقارب التركي الحثيث مع الدول العربية. ولا تقدم اليونان بديلا لتركيا وحسب، بل وتفتح الطريق أمام إسرائيل لدخول المجال البلقاني، إحدى الدوائر الحيوية للسياسة التركية الجديدة. وقد لوحظ أن رئيس وزراء جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك خلال زيارته لإسرائيل في أغسطس/آب قد حرص على توجيه انتقادات صريحة للدور التركي في البلقان، بالرغم من محاولات تركيا بناء علاقات صداقة مع صربيا مؤخرًا.
إعادة ضبط للسياسة الخارجية التركية
وتدرك الدولة العبرية في النهاية أن الذهاب بعيدًا في محاولة التسبب بصداع لتركيا في البلقان، يعني مزيدًا من التباعد التركي–الإسرائيلي، بكل ما يعنيه هذا من دلالات إستراتيجية بعيد المدى. |
بيد أن ذلك لا يعني أن التحديات الثلاث يمكن التغاضي عنها بسهولة؛ ليس لأنها تعكس صعوبة تحقيق سياسة "صفر مشاكل" وحسب، ولكن لأنها أيضًا تشير إلى حدود المدى الذي يمكن أن تذهب إليه تركيا الجديدة في استقلالية سياستها الخارجية عن حلفائها التقليديين في الغرب، وفي محاولتها كسب مواقع جديدة في الجوار على حساب جارة كبرى مثل روسيا.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات