معالم السياسة الدينية في المغرب

برزت أولى معالم إعادة النظر في السياسة الدينية المتبعة في المغرب بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وما أعقبها من ضغوط خارجية إضافة إلى بعض المعطيات المحلية، ولكن مبادرات التغيير الواسعة أطلقت بعد تفجيرات الدار البيضاء في 16 مايو/أيار 2003.








 


منتصر حمادة
إشراف: مصطفى المرابط


من البديهي القول: إن الخوض في المستجدات الميدانية التي طالت الشأن الديني في المغرب ليس بالأمر الهين؛ نظرًا لتقاطع المعطيات المحلية والخارجية من جهة، وتداخل الأبعاد السياسية والإستراتيجية والدينية، من جهة أخرى. إن استحضار هذه الحالة المعقدة سيساعد على فهم وقراءة الخارطة الدينية الجديدة في المغرب، فضلاً عن فهم وتحليل العديد من المبادرات والقرارات التي مهّدت لرسم معالم سياسة دينية جديدة، تستهدف إعادة هيكلة الحقل الديني المغربي في اتجاه إحداث قطيعة نسبية مع أهم معالم تدبير الشأن الديني في عهد العاهل المغربي الراحل، الملك الحسن الثاني، وبما يتناسب والتحولات المحلية والإقليمية والعالمية.


خصوصية السياق المغربي
الصدمات الأولى بين الدولة والحركة الإسلامية في العهد الجديد
مقتضيات ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001
معالم السياسات الدينية الجديدة
سلوك التيارات الإسلامية السياسية
إكراهات المستجدات الداخلية
التأثيرات الخارجية على التوازنات الداخلية
خلاصة


خصوصية السياق المغربي 


تتحدّد علاقة الدولة بالدين في السياق المغربي من خلال الدستور المغربي الذي يؤسس لخصوصية عربية وإسلامية في "التوفيق" بين "المشروعية السياسية" و"الشرعية الدينية"؛ فزيادة على إقرار الدستور المغربي للهوية الإسلامية للدولة(1) -على غرار أغلب الدول الإسلامية التي نصت على ذلك- تتميّز الحالة المغربية بنوع من الخصوصية أُجملت في الفصل التاسع عشر من الدستور، والذي ينصّ على أن "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة، ورمز وحدتها، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين".


بالنتيجة، تُحدّد هذه النصوص، معالم علاقة الدين بالدولة في السياق المغربي، ما دامت مُجسّدة فقط في مؤسسة إمارة المؤمنين، وبالتالي المؤسسة الملكية، وهو التجسيد الذي يُعتبر عائقًا دستوريًا أمام مختلف الحركات الإسلامية التي تسعى إلى منافسة الدولة (إمارة المؤمنين والمؤسسة الملكية) على "تمثيل الإسلام".


ويمكن القول: إن هذه السمة الغالبة في علاقة الدولة بالدين هي التي حكمت طبيعة العلاقة القائمة بين الدولة والحركات الإسلامية على وجه العموم؛ فمنذ سبعينيات القرن الماضي تعرف هذه العلاقة مدًا وجزرًا، وتتراوح بين التسامح النسبي والتقييد، رغم التطور الملحوظ الذي عرفه مسار عموم التيار الإسلامي بالمغرب، الذي يشهد له كثير من المراقبين بنزوعه نحو تغليب خيار العمل السلمي ونبذ العنف، بالإضافة إلى ميله نحو التكيف مع ما يعتبرونه "خصوصية مغربية"، والتي تتجلى بالخصوص على المستوى العقدي-المذهبي، والسياسي، والثقافي-الاجتماعي.


وإذا اعتبرنا فترة السبعينيات من القرن الماضي هي الفترة التي عرفت بروز أشكال تنظيمية للعمل الإسلامي؛ فإننا سنجد على رأسها جماعة "الشبيبة الإسلامية"، التي سرعان ما ستدخل في صراع مع الدولة بعد اتهامها باغتيال أحد قيادات "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، عمر بن جلون؛ فبعد حملة الاعتقالات في صفوفها وفرار زعيمها -عبد الكريم مطيع- إلى الخارج، عرفت الجماعة مراجعات أفضت بها إلى تأسيس كيان جديد، سُمي وقتها جمعية "الجماعة الإسلامية"، كإطار دعوي وثقافي، وقد ظل هو بدوره يتقلب في أطوار استقرت به في نهاية المطاف نحو تأسيس حركة "التوحيد والإصلاح". ولكن لم يكن هذا الإطار كافيًا للاستجابة لطموحات حركة، ظل الأمل يحدوها لتجاوز العمل الدعوي، والبحث عن واجهة تعبّر من خلالها عن خياراتها السياسية. وهذا ما تحقق لها عندما التحق لفيف معتبر من أهم أطر الحركة بحزب "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" بقيادة عبد الكريم الخطيب سنة 1996، ليتم بعد سنتين من تجربة الاندماج هذه، تغيير اسم الحزب ليصبح "حزب العدالة والتنمية"؛ وذلك في (1998).


وفي بداية السبعينيات أيضًا برزت الإرهاصات الأولى لما سيُعرف بجماعة "العدل والإحسان"، التي لم يُعترف بها رسميًا حتى اليوم، بسبب مواقفها من الشرعية الدينية لإمارة المؤمنين، وبالتالي الشرعية السياسية للمؤسسة الملكية. وقد سبق لمرشدها، عبد السلام ياسين، أن بعث برسالة "نُصح" إلى الملك الراحل الحسن الثاني (رسالة "الإسلام أو الطوفان" سنة 1974)؛ فتسببت بالزج به في مستشفى الأمراض العقلية والإقامة الجبرية لسنوات طويلة)، وكذلك بعث ياسين برسالة أخرى إلى الملك الحالي محمد السادس (رسالة "إلى من يهُمّه الأمر"، في 28 يناير/كانون الثاني 2000) دعاه فيها إلى "التوبة  العمرية"، وقوبلت رسالته برد عادي.


وبجانب هذا الطيف الإسلامي الحركي، برز طيف آخر، أصبح يُعرف بالتيار السلفي، وهو تيار متشعّب يمكن تصنيفه إلى تيارين أو شقين بارزين:



  • الأول: "السلفية العلمية"، ويعمل في المؤسسات الدينية الرسمية (وخاصة في المجالس العلمية) أو خارج هذه المؤسسات، تحت رقابة الأجهزة الأمنية والإدارة الترابية، ويوصف بالعلمية في مقابل تيار "السلفية الحركية".


  • الثاني: "السلفية الحركية"، أو ما اصطُلح عليه إعلاميًا أولاً، ثم أمنيًا فيما بعد (بعد منعطف أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001)، بتيار "السلفية الجهادية".

وقد تكون التصريحات والمبادرات التي صدرت عن رموز هذا التيار (أي السلفية الجهادية) بعد هذه الأحداث مباشرة، هي السبب الرئيس في مراجعة صنَّاع القرار الديني والأمني المغربي لأهم معالم السياسية الدينية -في حقبة "العهد الجديد"- وطرق تنفيذها.


الصدمات الأولى بين الدولة والحركة الإسلامية في العهد





الجديد


مع صعود العاهل المغربي الحالي، الملك محمد السادس إلى سدة الحكم، لم يلاحظ المتتبعون والباحثون أية تطورات نوعية أو مستجدة بخصوص المعالم الكبرى لتدبير الشأن الديني، خاصة أنه تم الإبقاء على وزير الأوقاف والشؤون الدينية السيد عبد الكبير العلوي المدغري، ووزير الداخلية السيد إدريس البصري، وتكمن أهمية هذين المنصبين في كون الوزارتين سياديتين وتابعتين مباشرة للتدبير الملكي، وليس للمؤسسة الحكومية.


كان على المتتبع المغربي انتظار صدمة أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لتبرز أولى معالم مراجعة وإعادة النظر في السياسة الدينية المتبعة. ولا شك أن الضغوطات الخارجية (الأميركية تحديدًا) التي جاءت بعد هذه الأحداث الخطيرة، فضلاً عن المعطيات المحلية، عجّلت بصدور قرارات أولية وجزئية، زعزعت السياسات الدينية المتبعة طيلة عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الأمر الذي اعتبره كثير من المتتبعين تمهيدًا لمبادرات أكبر وأوسع، بدأ تنزيلها مباشرة بعد صدمة تفجيرات الدار البيضاء في 16 مايو/أيار 2003.


فقد كشفت صدمة هجمات نيويورك وواشنطن لصناع القرار الأمني والسياسي والديني بالمغرب، حجم تغلغل تيار "السلفية الجهادية" وتبعاته في الأوساط السلفية بالمغرب. فما اصطُلِح عليه آنذاك بـ"فتوى علماء المغرب حول دخول المغرب ودول العالم الإسلامي في الحلف الذي دعت إليه أميركا ضد الإرهاب"، والمؤرَّخة في 18 سبتمبر/ أيلول 2001، والتي وقّع عليها تسعة عشر عالمًا من علماء المؤسسة الدينية الرسمية (من مجالس علمية ودار الحديث الحَسَنية) إلى جانب عدد من الوجوه السلفية، شكَّلت أول صدمة لصناع القرار هؤلاء؛ حيث اعتبرت الفتوى هذه أنه "لا يجوز دخول المغرب، حكومة وشعبًا، في الحلف الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأميركية ضد الإرهاب"، كما استنكرت "ما قامت به وزارة الأوقاف من قلب النصوص الشرعية، وإلباس الحق بالباطل في خطبة الجمعة السياسية التي أجبرت خطباء مساجد المغرب على إلقائها بتاريخ الجمعة 14 سبتمبر/ أيلول 2001 بمناسبة الأحداث التي وقعت في أميركا، والذي يُعتبر عدوانًا على حرية الأئمة وخطباء المساجد، وتحريفًا لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم".


وتلا فتوى العلماء المغاربة السابقة الذكر، صدور تصريحات لبعض رموز التيار "السلفي الجهادي"، لم تكن تتردد في الإعلان عن التأييد الشرعي والصريح لتنظيم "القاعدة"، من قبيل "الإفتاء" بأن "نصرة تنظيم القاعدة فرض على كل المسلمين"، وأن "الشيخ أسامة بن لادن مُجدّد هذا القرن، وفَعل ما يجب أن يفعله كل مسلم"، والإعلان عن تأييد ضرب الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من التصريحات التي نبّهت صناع القرار الأمني إلى أن المغرب أصبح يجني ثمار "استيراد" الأدبيات السلفية من المشرق طيلة العقود الماضية، وعلى عهد وزير الأوقاف والداخلية السابقين، في إطار توظيف التيار السلفي والإسلامي عمومًا ضد التيارات الشيوعية والاشتراكية التي كانت تعارض المؤسسة الملكية الحاكمة.


كان وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، عبد الكبير العلوي المدغري، أول ضحايا هذه التطورات الدولية والمحلية؛ حيث تمت إقالته وتعويضه بأحمد التوفيق، المحسوب على إحدى الطرق الصوفية. فبدا واضحًا للمراقبين أن الدولة لجأت إلى توظيف إحدى مقومات التدين المغربي، والمُجسّد في هذه الحالة بالتدين الطرقي/الصوفي، من أجل الانخراط في "حرب طويلة" المدى ضد التدين السلفي (في شقيه العلمي/السلمي، والحركي/الجهادي)، الذي اتُهم من قِبل صناع القرار الديني بأنه بعيد عن طبائع التدين المغربي السائدة منذ قرون مضت، والتي اختزلها يومًا نَظْم تعليمي لابن عاشر(2) جاء فيه: في عقد الأشعري وفقه مالك/ وفي طريقة الجنيد السالك.


مقتضيات ما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 


تطورت الأمور بشكل مثير وجلّي مع صدمة اعتداءات الدار البيضاء (مايو/أيار 2003)، والتي كانت حدثًا صادمًا أمام المراقبين المحليين والإقليميين والغربيين، للإعلان الرسمي عن نهاية ما كان يُصطلح عليه بـ"الاستثناء المغربي"، ويُقصد به آنذاك، خلو المغرب من أية اعتداءات دموية صادرة عن حركات أو جماعات إسلامية، على غرار ما عصف بالعديد من الدول العربية والإسلامية على حد سواء. وتم على إثر هذه الأحداث اتخاذ جملة من التدابير، خاصة إصدار قانون لمكافحة الإرهاب، ومعه قانون آخر يروم تنظيم التعليم الإسلامي العتيق، إضافة إلى إغلاق عدد من المصليات الصغرى. وعمومًا، يمكن القول: إن أغلب السياسات الدينية المتبعة تم تسطيرها على خلفية صدمة اعتداءات الدار البيضاء، والتي راهنت على محورين اثنين على الأقل:



  1. رسم إستراتيجية جديدة للدولة، طويلة المدى تستهدف جذور "العنف والإرهاب"، من خلال الواجهات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والدينية. وفي هذا جواب على القراءات التي ربطت اعتداءات الدار البيضاء بهذه الواجهات.
  2. استقرار المؤسسة الملكية من خلال التأكيد على مؤسسة "إمارة المؤمنين"، وإعادة الاعتبار لها ولمقتضياتها. وفي هذا رسالة واضحة، سواء بالنسبة للإسلاميين بحكم استنادهم إلى المرجعية الإسلامية، أو بالنسبة للعلمانيين بحكم مطالبتهم بفصل الدين عن الدولة. وهذا ما نستشفه من الخطابات الملكية لما بعد اعتداءات الدار البيضاء، حيث أكد أحدها (30 يوليو/تموز 2003) على مرجعية إمارة المؤمنين، ونص ذلك: "باعتبار أمير المؤمنين مرجعية دينية وحيدة للأمة المغربية، فلا مجال لوجود أحزاب أو جماعات تحتكر لنفسها التحدث باسم الإسلام أو الوصاية عليه؛ فالوظائف الدينية هي من اختصاص الإمامة العظمى المنوطة بنا بمساعدة مجلس أعلى ومجالس إقليمية للعلماء"؛ مثلما أكد في نفس الخطاب على أن "علاقة الدين بالدولة محسومة في ظل تنصيص الدستور على أن المملكة المغربية دولة إسلامية، وأن أمير المؤمنين مؤتمن على حماية الدين".

معالم السياسات الدينية الجديدة 


انطلقت سياسة ما أصبح يُعرف في المغرب بإعادة هيكلة الحقل الديني وإصلاحه، بفتح مجموعة من المشاريع، شملت قطاعات متعددة:


المؤسسات الدينية
جاءت أولى المحطات المؤسساتية للسياسة الدينية عبر إصدار ظهير (مرسوم ملكي) في 4 ديسمبر/كانون الأول 2003 في شأن اختصاصات وتنظيم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وظهير آخر في 22 إبريل/نيسان 2004 بإعادة تنظيم المجالس العلمية.


وبعد هذه القرارات، جاء رد الاعتبار المؤسساتي لرابطة علماء المغرب، وإضفاء اللقب الملكي على النسخة الجديدة من المؤسسة التي تم تغيير اسمها، وأصبحت تحمل اسم "الرابطة المحمدية للعلماء" من خلال تعيين أحمد عبادي على رأس هذه المؤسسة. بالإضافة إلى تجديد الاهتمام بمؤسسة لا تقل عنها أهمية، وهي دار الحديث الحَسَنية، وقد تم تعيين أحمد الخمليشي كمدير جديد لهذه المؤسسة، بالإضافة إلى إحداث مجلس علمي للجالية المغربية المقيمة بالخارج.


الإعلام
صاحب هذا الشق السياسي الرسمي شق آخر لا يقل أهمية عنه، وهو الشق الإعلامي؛ فقد تمَيّزت السياسة الدينية الجديدة بإطلاق "قناة محمد السادس للقرآن الكريم"، ومعها "إذاعة محمد السادس"، كما تم أيضًا إطلاق الموقع الإلكتروني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وموقع الرابطة المحمدية للعلماء، وموقع المجلس العلمي الأعلى، و"إحياء" لائحة من المجلات والدوريات التي تصدر عن بعض المؤسسات الرسمية الدينية، بالإضافة إلى إطلاق مجموعة من البرامج ذات الطابع الديني في مختلف القنوات التلفزيونية المغربية.


التكوين والتأطير
لقد تم في هذا السياق إطلاق خطة "ميثاق العلماء"، والتي تشمل خصوصًا المجلس العلمي الأعلى والأئمة والمساجد إلى جانب الجاليات المغربية المقيمة بالخارج تأسيسًا على خطاب ملكي أُلقي في 27 سبتمبر/أيلول 2008؛ فخلال ترؤسه للمجلس العلمي الأعلى، دعا من خلاله إلى تفعيل خطة "ميثاق العلماء" وفق برنامج محدد، يشرف عليه المجلس العلمي الأعلى، ويقوم على التعبئة الجماعية، والخطاب "الديني المستنير"، قبل صدور تصريح عن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، أقرّ من خلاله أن "أمير المؤمنين اختار (ميثاق العلماء) ليكون محور ومركز خطابه السامي خلال ترؤس جلالته للدورة العادية للمجلس العلمي الأعلى؛ نظرًا للأهمية التي يتمتع بها العلماء ودورهم في حفظ العهد القائم بين جلالته وبين الأمة"، مضيفًا أن هذا الميثاق عبارة عن عقد "يلزم العلماء بمساعدة الأمة في حماية دينها وملتها، وأن لا يتركوا مجالاً للتشويش على العقيدة"، حسب ما جاء في تصريح أدلى به أحمد التوفيق خلال برنامج "ضيف خاص" بثته القناة التلفزيونية الثانية يوم 30 سبتمبر/أيلول 2008.


أما مجال الإفتاء، فقد "عرف بدوره تجديدًا، حيث استُحدثت لدى المجلس العلمي الأعلى الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء، والتي "تختص وحدها بإصدار الفتاوى الشرعية، صيانة لها من تطاول الخارجين عن الإطار المؤسسي الشرعي لإمارة المؤمنين، الذي نحن مؤتمنون عليه"، بتعبير العاهل المغربي في خطاب ألقاه خلال ترؤسه للمجلس العلمي الأعلى بتطوان (شمال المغرب) يوم 27 سبتمبر/أيلول 2008، وتختص الهيئة "وحدها دون غيرها بإصدار الفتاوى في القضايا ذات الصبغة العامة، ومن مقاصد هذه الهيئة تفعيل الاجتهاد الجماعي في الوقائع والنوازل المستجدة، وتحصين الفتوى من الدخلاء الذين لا علم لهم"، بتعبير محمد يسف، الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى.


ولعل الحدث الأبرز هو إشراك المرأة في مجالات التكوين والتأطير الدينيين، وذلك بتدشين ورش عمل لتكوين المرشدات الدينيات. فضلاً عن اختيار امرأة لعضوية المجلس العلمي الأعلى، وإدماج نساء أخريات في المجالس العلمية المحلية، كما عيّن العاهل المغربي 40 رئيسًا جديدًا للمجالس العلمية خلال سنة 2009، وأعلن خلال خطاب ألقاه في 27 سبتمبر/أيلول عن رفع عدد المجالس العلمية من 30 إلى 70 مجلسًا بهدف "تحقيق سياسة القرب الديني من المواطنين، وتعزيز المساهمة الفاعلة للعلماء في المسار الإصلاحي والتحديثي، الخاص بتأهيل الشأن الديني".


ويُلاحَظ أن تعامل صناع القرار الديني مع موضوع علماء المؤسسات الرسمية، قد تميّز بالانتقال من مرحلة "التأهيل"، نحو مرحلة "القرب"، نظريًا على الأقل؛ لأنه عمليًا لا زال هناك العديد من التحديات الذاتية والعالمية التي تعوق الحديث عن تأهيل نوعي رصين لمؤسسة العلماء في مغرب "العهد الجديد".


فقد كانت الدفعة الأولى من الإصلاحات التي طالت إعادة هيكلة الشأن الديني، في الشق الخاص بالعلماء، وحملت عنوان "التأهيل"، من منطلق أن إعادة الهيكلة تلك، كانت تتطلب بالدرجة الأولى رسم معالم الطريق ووضع الاختيارات الكبرى للدولة، في حين جاءت المرحلة الثانية، تحت شعار "القرب"، في ما يُشبه إقرارًا ملكيًا بحتمية التأسيس لنوع من التقييم العملي لتلك التجربة بعد أربع سنوات من عمرها، وذلك عبر التأكيد على اللا مركزية في المؤسسات الدينية، من خلال إعادة النظر في خريطة انتشار المجالس العلمية المحلية وتعميمها.


سلوك التيارات الإسلامية الرئيسية 


يمكن إيجاز أهم معالم تفاعل الحركات الإسلامية المغربية مع تدبير الشأن الديني -وقبله الشأن السياسي- في توجهين بارزين، يُهيمنان على أداء الإسلاميين المغاربة بشكل عام:



  • هناك أولاً توجه نحو المشاركة في المؤسسات الرسمية، سياسية كانت أم دينية، والقائم أساسًا على الإقرار بشرعية المؤسسة الملكية ومعها منظومة إمارة المؤمنين (إضافة طبعًا إلى نبذ اللجوء إلى العنف)، وهو الشعار الذي يميز أداء حركة "التوحيد والإصلاح" التي تعتبر النواة الصلبة لحزب العدالة والتنمية، فهذا التيار إضافة إلى مشاركته في العمل السياسي، نجده مندمجًا أيضًا في المؤسسات الدينية الرسمية، وخصوصًا في المجالس العلمية المحلية، وفوقها، المجلس العلمي الأعلى، الذي يضم قيادات سابقة في حركة "التوحيد والإصلاح".


  • في مقابل التيار الإسلامي المشارك في العمل السياسي الشرعي، والمنخرط في المؤسسات الدينية الرسمية، نجد جماعة "العدل والإحسان"، غير المعترف بها رسميًا، والتي أصبحت مواقفها تجاه أحداث الساحة الدينية والسياسية مثيرة ومباشرة.

يلاحظ أن مُجمَل ردود الفعل والتعليقات الصادرة عن رموز الجماعة تصبّ في نقد أداء المؤسسة الدينية الرسمية والتقليل من دورها (كالمجلس العلمي الأعلى¬)، وتوجيه انتقادات حادة لـ "مؤسسة لا تواكب قضايا العصر"، بتعبير فتح الله أرسلان، الناطق الرسمي باسم الجماعة.


ويحيلنا الحديث عن التيارات الإسلامية التي تشتغل خارج العمل السياسي إلى الحديث عن حركات "الإسلام المغربي غير الرسمي"، سواء تعلَّق الأمر بالتيارات "السلفية" (العلمية والدينية)، أو العلماء والدعاة المستقلين، من الذين يحظون بمتابعة جماهيرية نوعية عبر أشرطة الأقراص المدمجة أو المؤلفات أو المواقع الإلكترونية، وقد يكون الانتماء للتيار السلفي الموصوف بالوهابي القاسم المشترك بين هؤلاء، بما يفسر سعي صناع القرار للتعامل مع هذه التيارات، سواء تعلق الأمر بتبني المقاربة المؤسساتية، عبر إدماج هؤلاء في مؤسسات الدولة (كما هو الحال مع نموذج تيار "السلفية العلمية")، أو تبني المقاربة الأمنية الصارمة (بالنسبة لتيار "السلفية الجهادية").


إكراهات المستجدات الداخلية 


كانت هذه أبرز معالم السياسة الدينية طيلة "العهد الجديد" اللصيق بحقبة حكم الملك محمد السادس، ولعل بروز لائحة من المستجدات الميدانية، محليًا وعالميًا، يقف وراء طرح العديد من الأسئلة والاستفسارات من لدن الباحثين والمتتبعين لقضايا الشأن الديني، ليس في المغرب وحسب، ولكن أيضًا في الوطن العربي وفي بعض مراكز البحث الأوروبية والأميركية.


ويوجد على رأس هذه المستجدات، جملة من التحديات تكشف عنها، بين الفينة والأخرى، بعض التصريحات الرسمية، كتلك التي أكد عليها البيان الختامي لأعمال الدورة العاشرة للمجلس العلمي الأعلى -والتابع للوزارة الوصية على الشأن الديني، أي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والذي انعقد في منتصف إبريل/نيسان 2010-؛ حيث اعتبر أن أهم التحديات تكمن في ثلاثي "التشيع والتنصير والسلوكيات المنحرفة". وفي سياق مقتضيات هذه التحديات، برزت خلال السنين الأخيرة جملة من التحديات المحلية المرتبطة بالتحدي العلماني، في شقه السياسي والمدني والإعلامي في آن واحد، لتنضاف إلى التحدي العقدي المرتبط خصوصًا بالتشيع والتنصير، على اعتبار أنهما لصيقان بمشاريع خارجية.


فالمجموعة الإعلامية "تيل كيل" مثلاً، والتي تُصدر أسبوعية "نيشان" بالعربية و"تيل كيل" بالفرنسية، أصبحت بمثابة "الناطق الإعلامي" للتيار العلماني المتشدد أو المتطرف، ويبرز هذا جليًّا في طبيعة الخط التحريري لهذه المجموعة، التي تدعو صراحة إلى فصل صارم بين الدين والدولة، وتندد علنا باحتفالات المغاربة بعيد الأضحى، باعتباره "مجزرة حيوانية لا تمُت بصلة لرقي التحضر الإنساني"، كما تدعو المجموعة الإعلامية إلى تطبيق النموذج التونسي في التعامل مع شهر رمضان، بأن يتم فتح المقاهي والحانات في فترة الصوم، وتروج للشذوذ الجنسي وغيرها من الملفات والمواد الصادمة، والتي لم يسبق لعلماء المؤسسات الدينية الرسمية -وخاصة المجلس العلمي الأعلى- أن أصدروا بيانات تتناولها بالتقييم والتقويم، وهو ما يطرح تساؤلات عن فعالية هذه المؤسسات، وعن أسباب غيابها عن التعاطي مع هذه الإشكالات، مع أن ميثاق تأسيسها "يُلزم العلماء بمساعدة الأمة في حماية دينها وملتها، وأن لا يتركوا مجالاً للتشويش على العقيدة" حسب تصريح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق.


التأثيرات الخارجية على التوازنات الداخلية 


فيما يتعلق بتأثيرات العوامل الخارجية على توازنات الحقل الديني في المغرب؛ فهي تكمن على الخصوص في الحضور الوازن والفعال لما أصبح يُسمى بـ "تنظيم القاعدة في بلاد المغربي الإسلامي"، والذي أصبح وجوده في منطقة المغرب العربي يقلق صناع القرار الأمني في المنطقة بأسرها، ناهيك عن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، خاصة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، بحكم القرب الجغرافي وبسبب طبيعة التحالفات الإستراتيجية بين هذه الدول الثلاث والدول المغاربية.


ولا تقتصر التأثيرات الخارجية على مناورات "جهاديي" المنطقة، ولكن هناك أيضًا مناورات البلدان المجاورة للمغرب؛ حيث كانت أبرز الخلاصات الصادمة للمتتبعين للشأن الديني في المنطقة، على هامش انعقاد أعمال "مؤتمر مكافحة الإرهاب في دول الصحراء والساحل" الذي احتضنته الجزائر في 16 مارس/آذار 2010، عدم دعوة المغرب للمشاركة في أعمال المؤتمر، مقابل دعوة جميع باقي دول المغرب العربي وبعض الدول الأفريقية من الساحل، وخاصة بوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر، بما لا يخدم إستراتيجية المغرب الأمنية والدينية والسياسية في مواجهة أتباع بن لادن في المنطقة.


أما بالنسبة للتأثيرات المحتملة للمحسوبين على تيار "السلفية الجهادية"؛ فإن إدارة هذا الملف يتوزّع على منحيين اثنين، هما:



  • المستجدات الخاصة بالمحسوبين على التيار، حيث يُعلَن بين الفينة والأخرى عن "تفكيك خلايا إسلامية كانت تعتزم القيام بأعمال تخريبية".
  • وهناك في المقابل، المنحى النوعي الصادر عن رموز تيار "السلفية الجهادية"، ونقصد به بروز سلسلة مراجعات داخل السجون المغربية، وقد جسّد ذروتها صدور وثيقة تحت عنوان "أنصفونا.. في سبيل البحث عن مخرج لملف ما يُعرف بالسلفية الجهادية"، عن عبد الوهاب رفيقي (الملقب بأبي حفص)، في فبراير/شباط 2010، وروّجت الوثيقة لمشروع إصلاحي يروم تحقيق ستة أهداف تدعو إلى "الوسطية"، وتبرئة المعتنقين للمنهج الوسطي، وفتح قنوات التواصل من أجل حل الملف الشائك، وتنوير الرأي العام بكل مراحل القضية وحيثياتها وإشكالاتها وتصنيفاتها وتحدياتها.

وما يزيد من تعقيد هذه التحديات الخارجية زيادة على التحديات العقدية والإيديولوجية سالفة الذكر (أي التحدي الشيعي والتنصيري والعلماني)، بروز بعض العوائق الذاتية في مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني، بعضها يرجع إلى انعدام التنسيق بين المؤسسات الدينية الرسمية وغياب رؤية واضحة تجمع عملها؛ مما يخلق تشوشًا وتصادمًا ينعكس سلبًا على الساحة الدينية، وبعضها الآخر يعود إلى غياب تقييم مستمر لنتائج هذه السياسات الجديدة، بالإضافة إلى شيوع خطاب الطمأنة الذي يصرف النظر عن حقيقة التحديات والإشكالات التي تواجه الشأن الديني.


خلاصة 


يقدم هذا التقرير معالم الخارطة الدينية في المغرب، ويبرز مدى تنوعها الخصب وتعقدها كـ"ظاهرة" يتداخل فيها الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي، من جهة، والداخلي والخارجي، من جهة أخرى؛ ولذلك ليس بغريب أن يصبح موضوع الحالة الدينية في المغرب في كل أبعادها، من أكثر المواضيع، دراسة ومتابعة، خاصة من طرف مراكز البحوث الغربية. ويمكن اعتبار المغرب على هذا المستوى من بين النماذج المتقدمة في العالم العربي والإسلامي في اختبار تلك العلاقة الشائكة بين الإسلام والسياسة؛ حيث نجد من جهة، مؤسسة إمارة المؤمنين (التي تجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية) والتيارات الإسلامية (التي يتماهى لديها الديني والسياسي)، ومن جهة أخرى تيارات سياسية وفكرية يتراوح موقفها من الدين بين العداء السافر والدعوة الصريحة إلى الفصل، ليس فقط بين الديني والسياسي، وإنما فصل القيم أيضًا عن المرجعية الدينية وربطها بما يعتبرونه المنظومة الحقوقية الإنسانية الكونية. فالمغرب، وهو يعيش على إيقاع تحولات سريعة وعميقة، طاولت كل مستويات الحياة الفردية والجماعية، في أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والروحية، انخرط بشكل مباشر في تفكير ونقاش مجتمعي حول سؤال الهوية، الذي يتجلَّى -على الأقل- في مستويين:



  1. المستوى المؤسساتي: المتمثل في مسلسل الإصلاحات الشاملة للحقل الديني، والسعي إلى إعادة هيكلته وفق ما يُعتبر خصوصية مغربية في طبائع التدين وأنماطه على مستوى العقيدة (الأشعرية)، والمذهب (المالكية)، والتصوف (على طريقة الجُنيد). وهو ما أدى إلى مراجعة وظائف مؤسسات تسيير الشأن الديني والعلاقات القائمة بينها، وإلى إعادة الاهتمام بقضايا التدين والإصلاح في المجتمع -كما بيَّن التقرير- من خلال المخططات والبرامج التي تتراوح بين التعليم والتكوين والإعلام...


  2. المستوى المجتمعي: المتمثل في تصاعد الصراع بين التيارات السياسية والثقافية حول منظومة القيم والمحددات الثقافية والحضارية للمغرب، الأمر الذي أفرز مجموعة من التحديات تبتدئ من الأسرة والمرأة وتنتهي بالمسألة اللغوية، مرورًا بالمجالات الفنية والحقوقية والحريات العامة والفردية...

_______________
* منتصر حمادة، كاتب وباحث في الشؤون الدينية والحركات الإسلامية.


** باحث في مركز الجزيرة للدراسات.


 


هوامش
(1) الفقرة الأولى من ديباجة الدستور تقول: "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة"، والفصل السادس من الدستور ينص على أن "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية".



(2) نظم ابن عاشر من كتب مذهب المالكية (المرشد المعين على الضروري من علوم الدين في مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى) للعلامة عبد الواحد ابن عاشر، ويحتوي هذا المتن على317 بيتاً، بين فيها الأحكام الدينية الضرورية التي لا ينبغي لأحد أن يجهلها، وبدأها بمقدمة كلية في العقيدة على مذهب أبي الحسن الأشعري قبل أن يتسع ليشمل بقية الأحكام الأخرى.

نبذة عن الكاتب