اقترب الوعد المضروب للاستفتاء على مصير جنوب السودان، وستكون نتيجته إما الانفصال أو استمرار الوحدة مع الشمال، حسب اتفاقية نيفاشا 2005م. حيث من المقرر أن يصوت أهل الجنوب على تقرير مصيرهم في التاسع من يناير 2011م. وتتدافع المواقف صوب ذلك التاريخ، إما نحو الانفصال كما يجري في الجنوب، حيث نظمت مجموعة تسمي نفسها (شباب من أجل الانفصال)، وبدعم واضح من الحركة الشعبية لتحرير السودان، مسيرتين حاشدتين في كل مدن الجنوب تحث المواطنين هناك على الاستقلال، وتكوين دولة الجنوب الجديدة. أو نحو الاتجاه المعاكس حيث حذرت منظمات للمجتمع المدني وأحزاب سياسية ومراكز بحثية في شمال السودان، من المخاطر الأمنية للانفصال على مصالح الجنوب والشمال معا، وزينت للجنوبيين الفوائد والثمرات التي يمكن جنيها من استمرار البلد موحدا.
اقترب الوعد المضروب للاستفتاء على مصير جنوب السودان، وستكون نتيجته إما الانفصال أو استمرار الوحدة مع الشمال، حسب اتفاقية نيفاشا 2005م. |
الجلسات التي بدأت في الخرطوم في العاشر من يوليو 2010م، وتواصلت في جوبا يوم 19 يوليو، أعلنت أنها توصلت إلى "اتفاق إطاري" يحدد "منهج التفاوض" حول عشر قضايا أساسية، ينبغي حل الخلافات فيها بين الدولتين المحتملتين، بحثا عن جوار آمن إن قدر للجنوب أن يختار الانفصال.
وبالرغم من أن الحديث حول قضايا ما بعد الاستفتاء يهيئ الأنفس والأذهان إلى أن خيار الانفصال أقرب إلى مآل الأمور، وهو أمر يزعج الشمال كثيرا، إلا أن الحوارات العملية أكدت حجم التداخل بين الشمال والجنوب بالدرجة التي يصعب معها تقدير إمكانية توافر مقومات دولة جنوبية بعيدا عن الشمال.
وقد تقاسمت اللجان التي انبثقت عن تلك الجلسات أربعة عشر قضايا من الضروري أن يخرج الجانبان باتفاقية بشأنها قبل الاستفتاء في التاسع من يناير القادم.
هذه القضايا التي أوردها قانون استفتاء جنوب السودان هي:
- الجنسية.
- العملة.
- الخدمة العامة.
- وضع الوحدات العسكرية المشتركة المدمجة، والأمن الوطني السوداني.
- الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
- الأصول والديون.
- حقول النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره.
- العقود والبيئة في حقول النفط.
- المياه.
- حقوق الملكية.
- موضوعات أخرى.
الجنسية: محنة المواطنة
الثروة: حسابات الربح والخسارة
الأمن: ألغام في الطريق
هناك ثلاث احتمالات للتعامل مع إشكالية الجنسية تتعلق بسؤال ماهية الجنسية التي يحملها الإنسان الجنوبي في حالة اختياره الانفصال، وخاصة لأولئك الجنوبيين الذين يقطنون في الشمال، ولا يملكون مقومات الحياة في الجنوب بعدما أسسوا أوضاعهم في الشمال على مدى عشرات السنين، والذين تقدرهم بعض المنظمات الدولية بالمليونين.
والاحتمالات الثلاثة هي:
أن توافق الدولتان على ازدواجية الجنسية لمن يرغب من أبناء الجنوب، فيصبح لهم كامل حقوق المواطنة في الشمال كما هي في الجنوب. ويسمح القانون السوداني الحالي بازدواجية الجنسية، ولكن دون ذلك عقبات أهمها رفض الجنوبيين لهذا الخيار إن طالب الشمال بالمعاملة بالمثل، أي أن يتمتع الشمالي في الجنوب بما يتمتع به الجنوبي في الشمال، وان تمت الموافقة على تبادل الجنسية بين الكيانين فان ذلك يعني عمليا سقوط الانفصال بالرغم رغم الإقرار به.وأهم المصالح المتعلقة بقضايا المواطنة هي وضع الجنوبي في الخدمة العامة، وهي قضية تحظى بكثير من النقاش حيث يترتب عليها المعاش والسكن والتأمينات الصحية والاجتماعية. - والخيار الثاني هو منح أبناء الجنوب الموجودين في الشمال الخيار بين جنسيتي البلدين، فيصبح أحدهم مواطنا في الدولة التي يختار، وهذا يعني فقدان المواطنة في البلد الآخر، وعقبة هذا الخيار ومشكلته هي في احتمال رفضه من الشماليين لضغطه على الموارد في الشمال، واستئثار أقلية جنوبية بالدولة الجديدة في الجنوب.
- الخيار الثالث هو اعتبار كل الجنوبيين مواطنين في الدولة الجديدة في حالة الانفصال بشكل تلقائي دون النظر إلى أية خيارات أخرى.
ولكل خيار ميزاته وتبعاته المتعلقة بحقوق ومسؤوليات المواطنين.
ولكن ما هو أخطر، كما أشار الكاتب الصحفي فيصل محمد صالح، هو تحذير منظمة (ريفويو انترناشونال) من ظهور مجموعات (البدون) أي مجموعات بلا جنسية لا تنتمي إلى أي من الدولتين، ولا يُعترف بمواطنيها في أي من الكيانين، مما يعرضهم لأوضاع إنسانية قاسية يفقدون فيها كل الحقوق الطبيعية للمواطن.
وأهم المصالح المتعلقة بقضايا المواطنة هي وضع الجنوبي في الخدمة العامة، وهي قضية تحظى بكثير من النقاش حيث يترتب عليها المعاش والسكن والتأمينات الصحية والاجتماعية. وقد أقرت اتفاقية نيفاشا نسبة للجنوبيين في الخدمة العامة لا تقل عن30%، وهو أمر جرى تحقيقه ولا يزال قيد التنفيذ بإضافة أعداد من الجنوبيين إلى ديوان الخدمة العامة، وهو أمر لاشك في أن يطوله التعديل إن اختار الجنوبيون الانفصال، ولاشك في أن تترتب عليه أوضاع قانونية وإنسانية صعبة بفقدان الآلاف وظائفهم في الدولة الأم.
وتأتي، بعد قضايا المواطنة، قضايا ذات طابع اقتصادي، مثل الموقف من أصول الدولة السودانية سواء في الشمال أو الجنوب، فضلا عن الموقف من الديون الخارجية البالغة قرابة 35 مليار دولار، حيث اختلفت نبرة الحوار حول هذه الديون؛ ففي وقت سابق نظر الجنوبيون إليها باعتبارها مسؤولية الحكومات المتعاقبة في الشمال، ولم يستفد منها الجنوب شيئا، بل إنها كانت وقود الحرب التي خاضها الشمال على الجنوب لعشرات السنوات. لكن النظر الآن اتجه إلى نقاش يجعل الطرفين مسئولا على الديون الخارجية، بغض النظر عن كيف نشأت، وفيما استخدمت، وهناك عدة خيارات للتعامل معها، منها أن تقسم بين الدولتين، في حالة انفصال الجنوب، حسب نسبة السكان.
ومن قضايا الملف الاقتصادي لما بعد الاستفتاء قضية النفط الذي يُنتج أكثر من 80% منه في جنوب السودان، وتتوافر في الشمال كل البنيات الأساسية لتصديره، من تصفية وأنابيب نقل وموانئ تصدير..إلخ. ومن نتائج هذا التداخل والاندماج في اقتصاديات النفط السوداني بين الشمال والجنوب، أخذ الكثيرون ينظرون إليه كعنصر تحفيز للوحدة، بدلا من أن يكون سببا في الانفصال، خاصة بعدما تبين، حسب الخبراء، استحالة تصدير نفط جنوب السودان في اتجاه الجنوب إلى ميناء مومباسا الكيني، حيث تتضافر عدة عقبات تحول دون تحقيق ذلك. منها:
الانحدار الطبيعي والطوبوغرافي لجنوب السودان من منطقة البحيرات في اتجاه الشمال، ولهذا فالنيل يجري طبيعيا نحو الشمال، ومحاولة تصديره في الاتجاه المعاكس إلى ميناء مومباسا الكيني، في اتجاه الجنوب الشرقي، ستكون عسيرة.يمد البعض حبل الأمل والتفاؤل إلى أن عنصر النفط ربما يكون العامل الحاسم في وحدة طرفي البلاد، خاصة إذا أعيد النظر في اتفاق نيفاشا الذي يمنح الجنوب 50% من النفط المنتج فيه بحيث يمنح الجنوب أفضلية نسبية في التوزيع ثمنا للوحدة. - المسافة التي يحتاجها النفط الجنوبي ليصل إلى ميناء مومباسا تتجاوز1900كيلو متر، وتمر بمناطق وعرة من الناحية الطبيعية، حيث الجبال والهضاب، ومضطربة من الناحية الأمنية حيث يكون خط الأنابيب في مرمى جيش الرب الأوغندي.
- بنية تصدير النفط في اتجاه مومباسا من مصافي وأنابيب وموانئ تصدير باهظة التكلفة المادية، حيث قدرتها بعض المصادر بعشرات المليارات من الدولارات.
- إن توفر التمويل الضروري فان الخبراء يقدرون حاجة هذه البنيات لزمن يمتد من أربع إلى خمس سنوات لتكتمل.
- لا تستطيع حكومة جنوب السودان الحالية التي تحكمها الحركة الشعبية، أو حكومة السودان المرتقبة، الاستمرار لأسبوع واحد دون تلقي التدفقات النقدية لعائد النفط الذي تقدر نسبته بـ 98% من الإيرادات المالية للجنوب.
ولهذا يرى كثير من الخبراء أن الحساب الاقتصادي المحض لمعادلة النفط في العلاقات بين الشمال والجنوب، يقتضي التفاوض الموضوعي الذي لن يفضي إلا لاتفاق يؤمن استمرار تدفق الصادرات النفطية عبر الشمال، ويمد البعض حبل الأمل والتفاؤل إلى أن عنصر النفط ربما يكون العامل الحاسم في وحدة طرفي البلاد، خاصة إذا أعيد النظر في اتفاق نيفاشا الذي يمنح الجنوب 50% من النفط المنتج فيه بحيث يمنح الجنوب أفضلية نسبية في التوزيع ثمنا للوحدة.
ومن القضايا الهامة التي يجب مناقشتها، في سياق التهيؤ لمرحلة ما بعد الاستفتاء، العقود والبيئة في مجال النفط، وان كانت هنالك اتفاقات تفرض على الشركات المنتجة المحافظة على بيئة نظيفة في الحيز الجغرافي لحقول النفط، بحيث يتم تجنب الآثار البيئية المدمرة لإنتاجه، والتي عانت منها كثير من البلدان المنتجة للنفط، التي استخرجت الشركات الأجنبية خيراتها النفطية، وتركتها تواجه الكوارث الناجمة عن تلوث البيئة. فبالرغم من اتفاقيات الحفاظ على البيئة إلا أن الحديث يكثر عن ضعف التزام هذه الشركات بما تم الاتفاق عليه، وهذا يقتضي إعادة التفاوض معها، وإحكام آليات المراقبة والمحاسبة.
ولكن الأمر الأكثر أهمية هو العقود النفطية التي تمت في غياب الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي جرت مع شركات صينية وماليزية وهندية، في غياب الشركات الغربية التي تقاطع السودان لأسباب سياسية، وبالطبع فان استئثار الشركات الآسيوية، يتقدمها العملاق الصيني، بالحصة الأكبر في السودان من أهم محركات الصراع في هذه المنطقة، ومن أهم محفزات التدخل الغربي الأمريكي والأوروبي في الشؤون السودانية، بل إن الغرب يتجاهل المخاطر الماثلة، والتي تسترسل معظم مراكز الدراسات في تبيانها في حال قيام دولة في جنوب السودان، وهي مخاطر تضعف مقومات قيام هذه الدولة، ويتجاهل الغرب ذلك كله بحثا عن موطئ قدم لاستثماراته في الجنوب، ولهذا فان مشكلة العقود، كأحد قضايا ما بعد الاستفتاء، القصد منها مخاطبة الرغبات والأطماع الاقتصادية الغربية كي تحتل مواقع نفوذ استثماري في الجنوب كمكافأة لما يبذله الغرب في مناصرة الجنوب في مواجهة الشمال. وإذا سارت الأحداث في اتجاه الانفصال، وتأسيس دولة جديدة في هذه المنطقة من إفريقيا، فإن المنطقة مرشحة لمزيد من صراع المصالح بين عمالقة الاقتصاد العالمي.
يلحق بالحزمة الاقتصادية عنصر هام هو مياه النيل. والملاحظ أن مسألة مياه النيل على أهميتها لم تول ما تستحق من اهتمام في اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في 2005م. |
ويلحق بالحزمة الاقتصادية عنصر هام هو مياه النيل. والملاحظ أن مسألة مياه النيل على أهميتها لم تول ما تستحق من اهتمام في اتفاقية السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في 2005م. ولم تحظ إلا بإشارة عابرة في برتوكول السلطة، وليس برتوكول الثروة. والإشارة لم تفعل أكثر من تحميل أمرها للسلطة المركزية دون الانتباه إلى أن 45% من حوض النيل يقع في جنوب السودان، كما أن 90% من جنوب السودان يقع داخل الحوض، وأن حوالي 28% من مياه النيل تعبر الحدود من جنوب السودان إلى شماله، ومن ثمّ إلى مصر، كما أن كمية المياه التي يمكن استخلاصها من مستنقعات جنوب السودان وإضافتها إلى المكون الكلي لمياه النيل تصل إلى 20 مليار متر مكعب.
وبالرغم مما يمكن تسميته تجاهل اتفاقية السلام الشامل قضية مياه النيل، فيبدو أن التطورات الأخيرة بين دول الحوض -التي دعت سبع منها إلى مواجهة دولتي المصب مصر والسودان كما حدث في اتفاقية عنتبي في مايو الماضي-، جتمت ضرورة وضع مشكلة مياه النيل في صلب قضايا ما بعد الاستفتاء. وبالرغم من قلة اكتراث الحركة الشعبية بهذا الموضوع الآن إلا أن كل المؤشرات تدل على إمكانية اصطفاف جنوب السودان في حالة الانفصال مع دول المنبع للاعتبار الطبيعي، حيث أنه جزء منها، وللاعتبار السياسي لكون دول المنبع الجار المباشر الذي سيزداد أثره السياسي والاقتصادي في الجنوب المنفصل، وستكون أيضا مصدر الدعم المباشر له في مواجهة أية احتمالات لرفض الشمال لنتائج الاستفتاء إن جاءت انفصالا وذهب الأمور باتجاه ميلاد دولة جديدة.
ومن القضايا ذات الطابع الاقتصادي أيضا في مفاوضات ما بعد الانفصال حقوق الملكية سواء للجنوبيين الذين يملكون حقوقا اقتصادية في الشمال أو الشماليين الذين يتملكون في الجنوب. وهناك وعي كبير لدى كل الأطراف بمتانة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الطرفين. وجل الأفكار التي تدور حول موضوع الملكية تؤكد على ضرورة الاحتفاظ بها في سياق نظام اقتصادي مفتوح بين البلدين الجارين في حالة انفصال الجنوب. ويدعم ذلك الاتجاه، إضافة إلى قوة الاندماج والتداخل الاقتصادي بين البلدين، تجارب التكامل الاقتصادي السوداني عبر القارة ومع دول الجوار، وأقرب نموذج للتجارب، التي يُسترشد بها، ما يجري العمل به بين مصر والسودان من خلال اتفاقية الحريات الأربع التي تقوم على حرية مواطني البلدين في:
- العمل.
- التنقل.
- الإقامة.
- التملك.
جل قضايا ما بعد الاستفتاء ذات طابع اقتصادي ولكن هنالك مسائل أخرى متعلقة بالأوضاع الأمنية، وهي ذات أهمية خاصة في بلد مسكون بعناصر التفجر الأمني كغموض الحدود والاختلافات حولها، وقضية أبيي التي دارت فيها حرب بين الجيش السوداني والحركة الشعبية في مايو 2008م، والتداخل القبلي بين الرعاة والمزارعين، والأوضاع الأمنية التي أقرتها اتفاقية السلام بوجود جيشين مستقلين للحكومة السودانية والحركة الشعبية، وقوات مدمجة مشتركة مكونة من الفريقين، وجهاز للأمن والمخابرات تشارك فيه الحركة بنسبة مشاركتها في السلطة في الشمال (28%). كل هذه الموضوعات الأمنية موضوعة على طاولة مفاوضات قضايا ما بعد الانفصال.
ولكن الأهم فيها ما يتعلق بالقوات المدمجة المشتركة، ويتراوح التفكير في أمر هذه القوات بين الحل أو إيجاد دور جديد تقوم به في حفظ الأمن المشترك، وربما توكل إليها مهمة حفظ أمن الحدود. كما يجري الحوار بشأن مصير الشراكة الحالية في جهاز الأمن والمخابرات الوطني.
جل قضايا ما بعد الاستفتاء ذات طابع اقتصادي ولكن هنالك مسائل أخرى متعلقة بالأوضاع الأمنية، وهي ذات أهمية خاصة في بلد مسكون بعناصر التفجر الأمني. |
تلك أهم قضايا ما بعد الاستفتاء التي انخرط الطرفان في مفاوضات بشأنها، اتسمت بكثير من التكتم. وسيكون نجاح الطرفين في الوصول إلى اتفاقات حول هذه القضايا، خلال الأشهر القليلة القادمة، عنصرا إيجابيا يدفع في اتجاه الوحدة أو على الأقل يحقق الجوار الآمن.
_______________
مدير مكتب الجزيرة بالسودان