حلول البحرين المرة: ضغوط الداخل وتحديات الخارج

السلطة البحرينية أمام خيار صعب: فإما خيار الحكومة الديمقراطية التي ستعمل على إنهاء الصدام المحتدم بين السلطة والمعارضة، مما يعرض البلاد لأزمة مع السعودية، أو أن تختار حزمة الحلول الترقيعية التي قد توفر هدوءًا نسبيا لا يقيها من الانتقادات الدولية والخسائر الاقتصادية.
201172364635708734_2.jpg

                                                                                            
أسئلة عدة عمّت الأجواء عشية انطلاق الحوار الوطني في العاصمة البحرينية المنامة مطلع يوليو/تموز بمشاركة 300 شخصية من القوى السياسية والمجتمع المدني، منها: هل يستطيع الحوار الوطني إخراج البلاد من أزمته السياسية التي بدأت في 14 فبراير/شباط الماضي؟
وهل ستفضي المشاركة التي وُصفت "بالمتحفظة والمتشائمة" للمعارضة إلى حل سياسي في ظل تأكيدات المعارضة المستمرة أن الحوار "لا يقوم على تمثيل شعبي حقيقي"، وأنه "يتجاهل جوهر المشكلة لصالح مواضيع أقل أهمية"، على حد وصفهم؟ وهل ستصير الأزمة البحرينية إلى حل قريب بعد أن أصدر عاهل البحرين الملك حمد بن عيسى آل خليفة قرارا يقضي بتشكيل لجنة "تقصي حقائق مستقلة" تنظر في الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها البلاد في ظل أنباء عن الإفراج عن المعتقلين وإعادة المفصولين لأعمالهم، وأحاديث عن "إعادة تمركز لقوات درع الجزيرة" الموجودة حاليا في البحرين.

الأزمة البحرينية.. أبعاد ومظاهر

منذ فبراير/شباط الماضي والبحرين تشهد واحدة من أسوأ موجات الاحتجاج التي عصفت بها منذ تسعينيات القرن الماضي؛ فقد انطلقت الاحتجاجات الشعبية منتصف فبراير/شباط بالتزامن مع الذكرى العاشرة للميثاق الوطني للمطالبة باستقالة الحكومة الحالية، وإجراء إصلاحات سياسية، ووقف التجنيس السياسي، وصياغة دستور جديد بمعية مجلس تأسيسي، وهي مطالب واجهتها السلطة بالرفض وقمعت الاحتجاجات بعنف ما أدى لسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى؛ فارتفع سقف المطالب لتصل إلى حد رفع بعض فئات المعارضة شعار "إسقاط النظام". وهو مطلب تحفظت عليه القوى المعارضة الرئيسية المتمثلة بائتلاف الجمعيات السبع "التي تمثل اتحادًا يضم ممثلي جماعات ليبرالية ويسارية وإسلامية معارضة" التي تمسكت بالنظام الملكي الدستوري ومطلب "الحكومة المنتخبة"، وهو ما أدخل الأزمة البحرينية في نفق مظلم سيما بوجود جماعات موالية للسلطة ترفض هذه الإصلاحات بأكملها وتتمسك ببقاء الوضع على ما هو عليه خشية أن تكون تلك التغيرات بوابة لتطبيق نظام "ولاية الفقيه" في البحرين على حد قولهم.

وقد أصاب الصراع السياسي الأخير الاقتصاد البحريني بالشلل، وألقى بظلاله على سمعة البحرين المتميزة في المنطقة كمركز مالي واقتصادي وسياحي؛ حيث تأثرت السياحة سلبا بشكل كبير،  كما سجّل سوق البحرين للأوراق المالية تراجعًا ملحوظًا، ووُضعت مملكة البحرين مؤخرا ضمن قائمة "الدول المنتهكة لحقوق الإنسان"، وأُلغي سباق البحرين "للفورميولا وان" وألغت كلٌ من المملكة المتحدة وفرنسا تصدير بعض المعدات العسكرية للبحرين للحيلولة دون استخدامها في انتهاك حقوق الإنسان ما ولّد ضغطًا كبيرًا على السلطة لتمد يدها للمعارضة.

من جهة أخرى وجدت المعارضة نفسها في مأزق بعد اعتقال رموزها ومحاكمتهم، وفصل زهاء 2180 موظفًا من أعمالهم، وقطع مصادر رزق الكثير من أتباع المعارضة، بالإضافة لاعتقال جمع من المعلمين والأطباء والمدونين وتوجيه التهم لهم على خلفية مشاركتهم في الاحتجاجات الأخيرة، وهي ضغوط دفعت المعارضة للتفاوض بعد أن كانت قد رفضت الحوار مع السلطة في مارس/آذار الماضي إلا بعد تحقيق عدد من المطالب، أولها: استقالة الحكومة الحالية وإطلاق سراح جميع المعتقلين، إلا أنها عادت وقبلت بالحوار، دون شروط مسبقة، تحت ضغوط إقليمية وداخلية.

التاريخ يعيد نفسه

لاستقراء سيناريوهات الغد البحريني، من المفيد النظر إلى الماضي، فعدا التصعيد الجديد باستعانة البحرين بقوات درع الجزيرة بعد أن دأبت على مدار العقود الماضية على التعاطي "داخليا" مع الاحتجاجات، وعدا توظيف الشق الطائفي لضرب الحركة المطلبية لا يبدو أن هناك فرقا جوهريا في أسلوب تعاطي كل من السلطة والمعارضة مع خلافاتهما الممتدة منذ الخمسينيات من القرن الماضي. فلطالما كان نفس المعارضة البحرينية طويلا في مطالبها عالية السقف، ولطالما رفضت السلطة المطالب الشعبية ثم عادت واستجابت لها بعد تضحيات تقل أو تكثر، ولكن تعقد المشهد اليوم بعد تدويل مشكلة البحرين -إن صح التعبير- يوحي بأن القضية لن تُحل سريعًا، ولن تحل عبر حوار كالذي بدأ مطلع الشهر بتمثيل محدود جدًا للمعارضة "45 مقعدًا من أصل 300"، بل إن الأمر يحتاج لتوافق إقليمي ودولي لا مجرد تنازلات متبادلة من الطرفين كما حدث في العقود الماضية.

معطيات " الجولة الأخيرة"..

بعد تدويل الأزمة في البحرين، ظهر على الساحة لاعبان أساسيان لا يمكن إغفالهما، هما: المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية؛ فالسعودية وقفت بكل ثقلها وراء البحرين وعليه فإن المنامة ملزمةٌ اليوم بتكييف كل قراراتها بما يُرضي الشقيقة الكبرى. أما الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر البحرين حليفًا مهمًا -وقد موضعت أسطولها الخامس على أراضيها- فتضغط لإنهاء ما يحدث في البحرين من مواجهات بأقصى سرعة وبأقل الخسائر لاسيما أنها -خصوصا بعد تفجر موجة الاحتجاجات في سوريا- تواجه انتقادات علنية من المنظمات الحقوقية لازداوجية تعاطيها مع الثورات وهبّات التغيير العربية. فبعد انتقادها للسلطة السورية وتوعدها بالعقاب، ها هي تواجه البحرين -حليفتها- بخطاب ناعم لا يتناسب ودقة الموقف؛ وهو ما يُحرج الولايات المتحدة ويحد من مصداقية موقفها.

وسط كل هذا تبدو السلطات البحرينية وكأنها تتموضع اليوم بين طرفي مقص:
إما الإذعان لرؤية السعودية التي وقفت ضد رياح التغيير واحتضنت ودافعت عن بقاء الأنظمة التقليدية، أو الاستجابة لرغبات الشارع المعارض لتهدئة الأجواء، وإعادة الحياة للسياحة والاقتصاد وهو ما يعني المجازفة بخسارة دعم الشقيقة الكبرى التي تدعم السلطة البحرينية ماديا وعسكريا والتي لن تقبل بقيام مملكة دستورية على تخومها خشيه أن يشجع ذلك الشارع السعودي على الالتحاق بركب الثورات، لاسيما أن السعودية تُدرك وتعي تماما أن الثورة إن اشتعلت في أراضيها المترامية فستكون السيطرة عليها أصعب وأقسى بكثير -سيما في ظل وجود قبائل تتنادى بالفزعة - من السيطرة على الاحتجاجات في دولة صغيرة.

من جهة أخرى فإن كلفة الخسائر في البحرين جرّاء استمرار الإضرابات الشعبية تتزايد؛ حيث ارتفع الدين العام لأكثر من 7.2 مليار دولار، وتواردت أنباء عن دراسة كثير من الشركات والبنوك العاملة في البلاد لفكرة الانتقال لدول أخرى -أكثر استقرارا- في المنطقة ما يهدد بخسارة جهود ممتدة بذلتها البحرين لاستقطاب تلك الشركات والبنوك. ناهيك عن وجود خشية مشروعة من تخلي الولايات المتحدة عن "تغاضيها" عن الشأن البحريني بسبب الضغوط الحقوقية على الإدارة الأميركية التي ستتعالى وتيرتها مع اقتراب الانتخابات الرئاسية..

خارطة العودة.. لا حلول سهلة

تستطيع السلطة في البحرين شراء مساحات هدوء عبر إطلاق سراح المعتقلين، وإسقاط التهم، وحلحلة بعض الملفات التي طالما أثارت حفيظة الشارع المعارض؛ كملف التجنيس والتمييز الطائفي، والفساد المالي، والتوزيع العادل للثروة، والبطالة، وتحسين الخدمات وغيرها. كما يمكنها تهدئة المواجهات عبر تغيير بعض الوجوه الوزارية التي تعتبرها المعارضة سببًا في تأجيج الأزمة. ولكن المتأمل لتاريخ البحرين لا يكاد يخطئ حقيقة أن المواجهات ستطفح من جديد ولو بعد هدوء نسبي أو ما تسميه المعارضة "الإصلاحات التجميلية" والتي لا تتناسب وطموحات الشارع. في الوقت ذاته لا يبدو قبول السلطة في البحرين بمطلب "حكومة منتخبة" قريب المنال؛ لأنه يعني إقالة الحكومة البحرينية التي يترأسها رئيس الوزراء منذ 40 عامًا والذي يحظى بدعم كبير من السعودية ومن جماعات موالية له في الشارع البحريني.

وبالتالي فإن السلطة البحرينية أمام خيار صعب في ظل فشل الخيار الأمني: فإما خيار الحكومة الديمقراطية العصرية التي ستعمل على إنهاء الصدام المحتدم بين السلطة والمعارضة، مما يعرض البلاد لأزمة مع الشقيقة الكبرى "السعودية" وكذلك مع الجماعات الموالية للحكومة الحالية، أو أن تختار حزمة الحلول الترقيعية التي قد توفر هدوءًا نسبيا لا يقيها من الانتقادات الدولية والخسائر الاقتصادية وتبعات الاحتجاجات الشعبية.
_______________
كاتبة وباحثة بحرينية

نبذة عن الكاتب