سوريا: توازنات هشة وخيارات محدودة

تبدو الأزمة السورية تدور في حلقة مفرغة، فأطرافها عاجزة عن حسم المواجهة، وتضيق في وجهها مع الوقت خيارات التسوية السلمية.

201191991558976734_2.jpg

لقد قيل الكثير حتى ماضٍ قريب حول سوريا وسياساتها الخارجية والنفوذ الإقليمي المفترض لديها. ومنها الخصوصيات والآليات المتركزة في أيدي النظام السوري التي لها أبعاد واعتبارات تعود إلى حكم حافظ الأسد؛ فقد اتبع الرئيس الراحل طوال عقود حكمه الثلاث مسيرة وسياسات وثوابت قامت على صدِّ كل ما بدا له متناقضًا مع مصالح سوريا القومية والإقليمية على حد سواء. ومن هذا المنطلق بدت سوريا وكأنها من أشد الدول رفضًا للإستراتيجيات المتبعة من قبل الدول الغربية، الولايات المتحدة والدول الغربية التي كثيرا ما كانت وجهة نظرها إلى جانب إسرائيل.

بين رفض الإمبريالية وضرورة الالتزام بالواقعية

هذه الاعتبارات قادت سوريا إلى الميل الإستراتيجي نحو أشد الرافضين لما سُمي بالسياسات الإمبريالية الإقليمية، ومن هنا نبتت بذور علاقاتها الوطيدة مع إيران ما بعد الثورة الإسلامية، وكذلك بُنيت الجسور المتينة مع حزب الله اللبناني في نهاية الثمانينيات، ناهيك عن التقارب السريع وحركة حماس الفلسطينية بعد نشأتها في عام 1987

وقد شاب هذه المواقف الرافضة للخضوع لمطالب الغرب بعض الاستثناءات، كما كان الحال في عام 1991 حينما أدى ضعف الدور الإقليمي الروسي بعد انهيار جدار برلين في عام 1989 إلى انضمام سوريا إلى الحلف الذي أقامته الولايات المتحدة سعيًا منها إلى إخراج العراق من الكويت التي كان صدام حسين قد غزاها، وكذلك ورد استثناء عقب حرب الخليج هذه عندما وافقت سوريا على المشاركة في قمة مدريد في نفس عام 1991 والتي حاول الأميركيون عبرها إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي. بيد أنه وبالمجمل بدت سوريا وكأنها مصرة على الحفاظ على قناة دبلوماسية -ولو ضيقة- تستطيع أن تنفذ عبرها إلى الدول الغربية ولكن دون أن يقودها ذلك إلى أي شكل من الخضوع لها ولمطالبها، فكانت النتيجة أن استطاعت البلاد الإيحاء وكأنها مستعدة دومًا لفتح قنوات حوار والأخذ والعطاء حول كل المسائل المطروحة عليها ولكن شرط ألا يتناقض ذلك والثوابت التي أرادت الحفاظ عليها.

ومع رحيل حافظ الأسد في عام 2000 واستلام أحد أبنائه منصبه، بدا -وعلى عكس أغلب التوقعات- وكأن الرئيس بشار الأسد اقتنع بضرورة الحفاظ على الثوابت والسياسات المتبعة من قبل والده؛ فلا العلاقات السورية-الإيرانية، ولا طبيعة التعامل مع حزب الله، ولا حتى كيفية التعامل وحركة حماس شابها أي تحول ملحوظ. ومع مثابرة النظام السوري في الحفاظ علي سياساته المتبعة مع هؤلاء سعى أيضًا إلى تقارب أكبر مع كل من روسيا والصين، وكذلك تحسين علاقاته مع بعض البلاد المجاورة؛ فبرزت خطوات أولية بدا وكأنها كانت تشير إلى تحبيذ سوريا إيجاد أرضية تعامل مع جوارها تكون أفضل حال مما كانت في الماضي، غير أن عجلة غزو العراق استبقت الأمور فأُطيح بنظام صدام حسين في عام 2003 ولم تتسنى لبشار الأسد فرصة تغيير طبيعة العلاقات القائمة بين البلدين. ولعل خطوات التجديد بدت أكثر توفيقًا في الحالة التركية حيث تمكن الطرفان السوري والتركي من خلق بيئة بنَّاءة فجرى تقاربهما الفعلي على الصعيدين السياسي والاقتصادي وبدت سوريا وكأنها اكتسبت حليفًا جديدًا وذا ثقل لا يستهان به.

وقد تعرضت سوريا منذ ذلك الوقت للكثير من الضغوط التي أوحت أحيانًا وكأن نهاية النظام بدت وشيكة، فغزو العراق وانهيار نظام صدام حسين، ومقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وتداعيات هذا الحدث على النفوذ السوري في لبنان، واللهجة التهديدية التي اعتمدتها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا نحو نظام بشار الأسد، لم تكن لتبشر بمستقبل آمن للنظام، فلا سياسته الإقليمية ترضي الدول الغربية وحلفاءها، ولا الوضع الداخلي والمتميز بالركود السياسي العام كان يوهم أحدًا بأن ثمة بوادر تغيير بدت مطروحة في البلاد. بيد أن النظام السوري -وعلى الرغم من مخاوفه الفعلية أمام الضغوط والتهديدات المستهدِفة له- قد قرر عدم تغيير أي من سياساته وآلياته المعتمدة تقليديًا.

أما نهاية المطاف فتمثلت في التقارب السوري مع كل من فرنسا في 2008 والولايات المتحدة في 2009، تبعته مباشرة خطوات مماثلة من قبل الاتحاد الأوربي وحتى دول عربية كان قد حدث لها سابقًا أن عرفت مشاحنات مع سوريا، كما كانت الحال مع المملكة العربية السعودية. فمع صيف 2008 قرر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مد يده للنظام السوري فدُعِيَ بشار الأسد إلى باريس وحضر جلسة افتتاح وانطلاق مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، وبدا مِن ثَمَّ واضحًا أن النظام السوري بات بمقدرته الاعتماد على علاقات أفضل مع دول غربية لم تحبذ هذا السيناريو من قبل. ولعل أهم ما وقع هنا هو مقدرة النظام السوري على الاستفادة من هذا المناخ الإيجابي المفاجئ دون أن يعدِّل أيًّا من سياساته المعتمدة تقليديًا.

بيد أنه ومع انطلاق موجة الثورات العربية بدءًا من تونس في شهر ديسمبر/كانون الأول 2010 عرفت سوريا مظاهرات مماثلة لتلك التي وقعت في بعض البلدان الإقليمية. ومع تشديد لهجة وآليات الرد السورية على مطالب المتظاهرين تشكلت من جديد بيئة غير ملائمة لتطلعات النظام السوري على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي على حد سواء؛ ومن ثَمَّ فقد باتت تطورات الشرق الأوسط المعاصرة توحي بموجة تغييرات فعلية من المتوقع لها أن تطول عدة دول من المنطقة في الشهور والسنوات القادمة، وستصنَّف أغلب دول الشرق الأوسط -على الأرجح- بين من هو خاسر ومن هو أقل خسارة من هذه الموجة. فبعد أن أصبح واضحًا أن كلاًّ من زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي هم من خسروا المرحلة الأولى من الثورات العربية، أصبحت الأنظار متجهة نحو عدد من الدول الأخرى ومن ضمنها سوريا؛ حيث بات السؤال الأهم والذي لم يجد أحد إجابة واضحة له بعد هو: هل ما زال من المعقول أن يستمر نظام بشار الأسد على ما هو عليه رغم كل الضغوط الجديدة التي انهالت عليه في الآونة الأخيرة؟

الثورة الشعبية ومرتكزات سوريا الدولية

منذ أن انطلقت قبل بضعة شهور حركات مناهضة للوسائل المعتمدة من قبل السلطة والجهات الأمنية السورية، وتلتها بعد ذلك موجة غضب أشد انتشارًا في أرجاء عدة من البلاد، بدا أيضًا وكأن النظام السوري يواجه عددًا كبيرا من المعضلات والضغوط القائمة على الساحتين الداخلية والدولية على حد سواء. ومن الواضح أن الرئيس بشار الأسد كان قد أخطأ إلى حد كبير عندما صرح لصحيفة الوول ستريت جورنال في نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2011 بأن بلاده من غير المحتمل أن ينالها ما وقع آنذاك في تونس، غير أن الوضع الأليم الذي آلت إليه سوريا منذ ذلك الحين لم تؤثر نتائجه على المستوى الداخلي فحسب، بل باتت له أيضا نتائج على بعض المرتكزات الإستراتيجية التي بنى عليها النظام السوري جزءًا من سياساته.

في واقع الأمور يكون من المبالغة اليوم -وقد مرت ستة أشهر على الأحداث السورية- القول: إن سوريا عرفت تحولاً جذريًا نقلها من وضع محدد إلى حالة أخرى مختلفة جذريًا؛ فالحقيقة أنه -وبشكل عام- ما زال الحلفاء الفعليون والتقليديون لسوريا كما كانوا سابقًا لم يتغيروا. ويشهد على ذلك عدم تغير موقف إيران من سوريا وكذلك محافظة حزب الله اللبناني على الدفاع عن موقف النظام السوري، وكذلك ميل إيران الواضح إلى جانب النظرية السورية المتحدثة عن مؤامرة خارجية هي التي تقف وراء الأحداث القائمة في البلاد.

وكذلك يبقى من غير الدقيق القول: إن مواقف الدول الغربية المنتقدة لسوريا وإقرارها المتواصل بحِزَم عقوبات على العديد من شخصيات النظام يمثل تحولاً جذريًا إذا ما قارنَّاه بما كان قائمًا سابقًا؛ ففي الواقع بقيت الدول الغربية بشكل عام عبر السنوات الماضية مستاءة من النظام السوري وأخفقت في إخضاعه لرغباتها سواء فيما يخص طبيعة علاقاته مع إيران وإسرائيل أو رفضه المضي في عقد شراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوربي، وكذلك اتجاهه الواضح في سياسات تقارب مع كل من روسيا والصين وغيرها من المسائل المتعلقة بما يقال عن سياساته الإقليمية "غير البناءة" بشكل عام. ومن هذا المنظور يبدو "شهر العسل" الغربي-السوري الذي سبق المرحلة الحالية وكأنه نموذج لآونة استثنائية ينبغي علينا عدم المبالغة في مضمونها الفعلي.

وفي المقابل ثمة تحولات جزئية -لابد أن نلاحظ أنها ظهرت على الساحتين الدولية والإقليمية ولو بشكل ما زال بعيدًا- توحي بأن ثمة تغييرًا دراماتيكيًّا لسير الأمور أصبح واردًا؛ فقد باتت بالطبع اللهجة القاسية المتبعة من قبل تركيا إزاء معاملة النظام السوري مناهضيه مثالاً لما أراد البعض تفسيره وكأنه استعداد تركي لمواكبة عجلة القرارات والخطوات التي قد تهيئ الأجواء للانتقال إلى مرحلة ما بعد الأسد، إلا أن الأتراك لم يعلنوا إلى حد الآن بشكل واضح قناعتهم بأن الرئيس السوري فقد شرعيته، فيبقى إذًا الباب مفتوحًا لإعادة تركيا فتح مسار تحاول من عبره أن تؤثر على آلية القرار السورية، وهو شيء يعد مهمًا من وجهة نظرها لسببين أساسيين: الأول منهما يرجع إلى أنها تريد أن تثبت لنظرائها من الدول أنها ما زالت قادرة على التحدث مع السوريين خلافًا لما هو الحال مع العديد من الدول الأخرى عربية كانت أم غير عربية، أما السبب الثاني فيكمن في حاجة تركيا إلى إبقاء بعض سبل الشراكة مفتوحة مع سوريا سواء لإبقاء قنوات الحوار مفتوحة أيضًا مع حليفتها إيران أو نظرًا لأهمية الدور السوري في الحد من مساعي الأكراد الاستقلالية في المنطقة.

أما دفاع كل من روسيا والصين عن سوريا ومعارضتهما الشديدة لأي قرار أممي يدين النظام أو يوحي بإمكانية التدخل العسكري في البلاد فيعود بشكل أساسي إلى معارضتهم لأية إستراتيجيات تتفق مع ما قد تسعى إليه الولايات المتحدة للدفاع عن مصالحها الإقليمية؛ ففي واقع الأمور ليس هناك ما يؤكد على القيمة الاستثنائية الإستراتيجية والتجارية المضافة لسوريا من وجهة نظر روسيا والصين؛ إذ إن كلتيهما لا تعتمد سياساتها شرق الأوسطية على سوريا بشكل رئيسي، غير أنه وفي المقابل لا يتناسب احتلال مفترض لسوريا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها مع ما يراه ويسعى إليه البلدان؛ فيبقى من وجهة نظرهما صد مساعي من ينافسهما أفضل من أي سيناريو آخر. غير أنه وبالطبع لا تبشر هذه الاعتبارات بتاتًا بقدرة النظام السوري على الاعتماد على موسكو وبكين إلى أبد الآبدين.

الثورة السورية: تفاعل الداخل والخارج

أما على الصعيد الداخلي فمن وجهة نظر مبدئية ليس هناك ما يوحي بإمكانية أن يؤثر الظرف الدولي بشكل قاطع على الوضع السائد. لقد أثبتت التطورات السارية منذ قرابة ستة أشهر على عدم استعداد النظام للتجاوب مع الضغوط التي تُمارس عليه، سواء تعلقت بعدم شرعية النظام أو حتى اللجوء الفعلي إلى عقوبات اقتصادية. وتعود أسباب هذا الوضع إلى اعتبارات عدة منها ما يتعلق بالنظرة السورية لطبيعة العلاقات الدولية ومنها ما يعود إلى خبرة البلاد في التعامل مع ظروف قاسية منذ زمن بعيد.

فيما يتعلق بالاعتبارات السياسية، لقد اقتنع النظام السوري قبل وقت طويل بأن أي نوع من الضغوط قد يُمارَس عليه ما هو إلا مرحلة استثنائية يراد بها إرباكه وإخضاعه لمطالب تؤول كلها إلى زواله في نهاية المطاف. ومن هذا المنطلق فقد اعتادت القيادة السورية على عدم التفاعل والتهديدات الموجهة إليها بقدر الإمكان، والسعي قدمًا في تطبيق السياسات المتناسبة وقناعاتها الشخصية. وقد تبدو طريقة التصرف هذه متناقضة وما يتوقعه المرء؛ إذ إن السياسة الأميركية التي ما زالت قائمةً حتى الآن، وكذلك استياؤها وبعض الدول الأخرى من طريقة تعامل سوريا مع بيئتيها الداخلية والإقليمية، كلها مؤشرات على أن سوريا قد ينالها عاجلاً آم آجلاً ما سبق ونال جارتها العراق. غير أن الحسابات السورية لا تتبنى هذا المنظور. سواء فيما يخص بشار الأسد أو فيما يعود إلى كل المعنيين بتنسيق السياسات واتخاذ القرارات في سوريا؛ فهناك قناعة راسخة لديهم بأن ما هو ناتج عن الخارج يخص الخارج وأن ليست هناك أي قوة على الأرض باستطاعتها أن تحدد لوازم الأمن القومي السوري؛ ومن هنا نفهم لماذا تبدو القيادة السورية أحيانًا غير واعية لبعض التحولات الإستراتيجية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار سواء شئنا أم أبينا، لاسيما سقوط كل من بن علي ومبارك والقذافي وما يترتب بعد ذلك من نتائج محتملة على كافة العالم العربي.

أما اعتياد سوريا التعامل مع هذا النوع من الضغوط وقدرتها على تحمل نتائجه فيعود إلى كونها عاشت تحت الحصار الاقتصادي منذ عام 1978، حينما تبنت الولايات المتحدة أول حزمة عقوبات تجاهها؛ فمنذ ذلك الزمن تتالت الفترات التي استطاع النظام امتصاص نتائجها، بل قد يكون الأصح هنا القول: إن الشعب السوري هو الذي تحمل العبء وحده. أما البديل فقد تمكنت القيادة السورية أيضًا من إيجاده بطرق أخرى، سواء باستغلالها المتنفس اللبناني أو تطوير علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي أو حتى فتح مجال الاستثمار فيها لشركات عربية وآسيوية بل وإيرانية وتركية كما حدث بعد استلام بشار الأسد الرئاسة واعتماده سياسة الانفتاح الاقتصادية.

وتبقى مسألة التوازنات الداخلية الكامنة على صعيد الحكم والعسكر ورجال الأعمال المستفيدين من قرابتهم مع القيادة السورية. لعل ما تؤول إليه العقوبات الاقتصادية المفروضة على القيادة السورية هو صد المتنفس المتاح للمستفيدين من النظام وجعلهم ينقلبون على السلطة. ولكن حتى هذا وإلى الآن على الأقل لم تجد هذه القرارات أية ثمار بل وليست هناك أية علامات تدل على اقتراب ظهور انشقاقات فعلية وجديرة بالذكر على مستوى النظام. وقد يظن البعض أن هذا الوضع ناتج عن استباق النظام أي انهيار لوحدة الصف، وإمساكه بزمام الأمور، وممارسته سياسة الخوف على كل من استلم مناصب حساسة، وقد تكون هذه أو تلك من الافتراضات مطروحة في واقع الأمور. ولكن وفي المقابل يجب علينا أيضًا أن نعي أنه، وعلى عكس ما جرى في تونس أو مصر، فقد قرر الجيش السوري منذ البداية الاصطفاف إلى جانب النظام وتكوين كتلة واحدة وإياه.

ويضاف إلى ذلك أنه ليس هناك مبدئيًا أي وجود لوجوه جديدة يبدو وكأن باستطاعتها إبعاد القيادة الحالية وإعلانها استلام السلطة ولو بشكل انتقالي في ظرف باتت فيه المؤسسات السورية كلها تحت وطأة الحصار والاتهامات الدولية. ربما تظهر مفاجأة نشاهد عبرها انشقاقًا على مستوى الجيش قد يوحي بنهاية نظام الأسد القريبة، وبدء الانتقال إلى مرحلة أخرى، غير أن الواقعية تدعو إلى ملاحظة أن هذا السيناريو لا شيء يدل حتى الآن على أنه مطروح بالفعل.

السيناريوهات المحتملة للموقف الدولي تجاه سوريا

يصعب إذًا معرفة ما ستؤول إليه الأمور في سوريا في نهاية المطاف؛ فقد بات من المؤكد أن الاحتجاجات والمسيرات المناهضة للنظام ستستمر في الأسابيع والأشهر القادمة، غير أنه بات من المؤكد أيضًا أن القوات الأمنية السورية ستستمر باللجوء إلى "الحلول" الأمنية. كذلك من المتوقع أن تستمر الضغوط الدولية الساعية إلى تغيير المسار المتبع داخليًا من قبل السلطات السورية، غير أنه وفي المقابل سيبقى الحكم مصرًّا على أن جزءًا مما يدور في البلاد متصل بمؤامرة مدبرة له من الخارج فتبقى طرقه المعتمدة كما هي لا تتغير.

وبالطبع لا داعي هنا للذكر والتذكير بأنه فيما يتعلق بمحاولة اللجنة العربية طرح المبادرات الساعية إلى إنهاء الوضع المتأزم القائم في البلاد فإن القيادة السورية اعتبرت بيان مجلس وزراء الخارجية العرب عدائيًّا، فليس من الوارد إذن أن يكون جهاز الدولة السورية مستعدًا للتعامل مع اللجنة العربية والسماح لها بتطبيق آليات المبادرة العربية. فهنا أيضًا ما زالت الأوساط السورية مقتنعة بأن مبادرة اللجنة العربية وضغطها على النظام ما هي إلا نتيجة إملاءات أميركية، وقد كان هذا السبب في إلغاء أول الزيارات التي كان من المتوقع أن يقوم بها نبيل العربي لدمشق.

أما المعارضة السورية -والتي يتواجد أغلب أعضائها خارج سوريا- فهي مشتتة بل وعبارة عن مجموعة أجندات فردية تفتقر إلى إيجاد آليات عمل وأفق مشترك يسمح لها بتقديم البديل الفعال. وأما الدول الغربية فهي واعية لحساسية الوضع الاجتماعي في سوريا نظرًا لسهولة تداخل الاعتبارات السياسية بالعناصر الطائفية، كما أنها تعي أن موقعها الجغرافي والجيوسياسي قد يجعل من انهيار مفاجئ للنظام الحالي مرحلة حرجة في المنطقة على الصعيد الأمني؛ ومن ثَمَّ يبدو وكأنه لا الدول الغربية ولا حلف الناتو ولا حتى أي من القوات السياسية التي تساندهم مستعدة لفتح صفحة عراق جديد في المنطقة، وذلك على الرغم من أنهم يحبذون سقوط نظام الأسد.

وتبقى مبدئيًا الحلقة مغلقة هنا، وتساؤلات عديدة حول مستقبل سوريا القريب المفترض هي المطروحة؛ فلا المراهنون على سرعة تلاشي النظام السوري، ولا المؤمنون بقدرة المعارضة السورية على التكلم بصوت واحد ومقنع، ولا المؤمنون بمقدرة النظام على استيعاب حقيقة التحولات الجذرية التي دخلت فيها المنطقة ولا حتى المتأملون من قدرة المجتمع الدولي على التأثير على الوضع الراهن في البلاد ثبتت صحة نظريتهم إلى الآن، فتبقى الحقيقة الوحيدة هي أن النظام السوري -وعلى عكس ما يقال- ما زالت موازين القوى بيديه. ولكن كذلك ما زالت قدرة البلاد على اجتناب الأسوأ أيضا متوقفة على ما قد يؤول إليه النظام؛ فقد تصرفت السلطات السورية ومنذ بداية الاحتجاجات بطريقة خاطئة عجَّلت ظهور لهيب مشتعل منعه من استعادة جزء من الشارع العربي والسوري إلى صفه. ومن هذا الأساس فقد بات من المتوقع -إن لم نقل من المؤكد أيضًا- أن لا تجدي الإصلاحات والانتخابات المطروحة من قبل النظام ولا تثمر أية نتيجة ملحوظة على عكس توقعاته.
_______________
مدير أبحاث حول شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد
FRIDE : www.fride.org

نبذة عن الكاتب