تفجرت أزمة الرشاوى السياسية في الكويت حينما تطرقت بعض الصحف الكويتية إلى تضخم في الأرصدة البنكية لبعض نواب مجلس الأمة الكويتي من خلال إيداعات مبالغ مالية ضخمة "مليونية" في أرصدتهم دون معرفة مصدر هذه الأموال؛ مما أدّى إلى تفاعل الشارع السياسي الكويتي مع هذه الفضيحة وذلك من خلال التصريحات النيابية والندوات والحشود الشعبية، والتي بدأت بأربعاء "إسقاط الراشي والمرتشي". وقد سارع كل من بنك الكويت الوطني وبيت التمويل الكويتي وهما أكبر بنكين في الكويت من ناحية الأصول والعملاء، على إثر هذه الأنباء إلى تقديم بلاغات إلى النائب العام عن التضخم الذي طرأ على بعض الأرصدة، والإفصاح عن الشكوك المحتملة بعمليات غسيل الأموال؛ إذ وصل عدد البلاغات المقدمة حتى تاريخ إعداد هذا التقرير إلى ستة عشر بلاغًا شملت من ضمنها بلاغات عن تضخم حسابات زوجتي نائبين حاليين. واللافت في الأمر أن بقية البنوك الكويتية امتنعت عن تقديم بلاغات تفيد بتضخم أرصدة بعض النواب رغم تواتر المعلومات بوجود حسابات بنكية لدى هذه البنوك تعاني من نفس الشبهة. وقد بررت تلك البنوك عدم تقديمها لبلاغات بهذا الصدد بعدم تلقيها أية تعليمات بهذا الخصوص من البنك المركزي الكويتي.
ولعلّ هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة ولكنها جاءت استمرارًا لأزمات سابقة مرّت بها الحياة السياسية الكويتية خلال دور الانعقاد الماضي والذي استمر من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2010 وحتى يونيو/حزيران من العام الحالي، وكانت ذروتها في تقديم استجوابات وطرح الثقة في رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ ناصر المحمد الصباح، وكذلك أزمة استجواب الشيخ أحمد الفهد الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون التنمية ووزير الدولة لشؤون الإسكان والتي انتهت حينها بتقديمه استقالته دون دخوله إلى جلسة الاستجواب؛ ما كشف بشكل جليّ عمق الصراع الدائر بين أقطاب الأسرة الحاكمة الكويتية.
وليس بمستغرب على أية حكومة تواجه أزمة طرح ثقة برلمانية، أيًّا كانت هذه الحكومة، أن تستخدم أساليب سياسية لاستمالة بعض من أعضاء البرلمان بهدف التصويت لصالحها عند طرح الثقة؛ حيث دأبت الحكومة الكويتية على تقديم تسهيلات للتيارات السياسية أو أعضاء البرلمان شملت تعيينات في مناصب قيادية أو تمرير خدمات أو إرسال طلبات علاج في الخارج للنواب أو للمقربين منهم، ولم يعد مستهجنًا في الشارع السياسي الكويتي أن تسمع عن تعيينات لأقارب النواب من الدرجة الأولى والثانية في مناصب عليا في الدولة، إلا أن ما يميز هذه الأزمة هو اعتقاد نواب المعارضة أن الحكومة قد استخدمت المال السياسي (الرشوة) لاستمالة وكسب النواب لصالحها، وهو أسلوب ونهج جديد للفساد السياسي بدأت الحكومة الكويتية تسلكه، وسيكون بلا شك محورًا إضافيًّا من محاور الفساد التي كانت سببًا في معظم الأزمات السياسية التي تعرضت لها حكومات الشيخ ناصر المحمد السبع السابقة، لاسيما أن هذه الإيداعات المليونية قد تمت خلال فترة الأشهر الستة الماضية، متزامنة مع التصويت على طرح الثقة في الشيخ ناصر المحمد والشيخ أحمد الفهد.
موقف التيارات السياسية من أزمة الرشاوى المليونية
دعت القوى والتكتلات السياسية والحركات الشبابية ممثلة في تجمع "نهج" إلى ما سُمِّي بأربعاء إسقاط الراشي والمرتشي كبداية لسلسلة من التجمعات والندوات السياسية، بهدف تعرية النواب المرتشين وإسقاطهم سياسيًّا، وكذلك للإعلان عن رفضهم للنهج الحكومي الجديد المتمثل في استخدام المال في العملية السياسية (الرشوة)؛ حيث وُجهت السهام مباشرة إلى الشيخ ناصر المحمد الصباح بالاتهام بتقديم مثل هذه الرشاوى، وهي المرة الأولى التي يتم فيها توجيه التهمة للشيخ ناصر بشكل مباشر وصريح؛ مما يدلل على الدخول في أزمة سياسية تفوق الأزمات السابقة، من حيث توجيه الخطاب النيابي مصحوبًا باتهامات مباشرة رغم عدم تمتع النواب خلال فترة العطلة النيابية بالحصانة البرلمانية، وهذا سيؤدي حتمًا إلى رفع سقف المطالب النيابية مستقبلاً وصولاً إلى المطالبة بحكومة شعبية منتخبة.
من خلال رصد التجمع النيابي والشبابي في أربعاء إسقاط الراشي والمرتشي يمكن ملاحظة ما يلي:
-
غلب على التجمع الخطاب الإنشائي المكرر من قبل النواب وممثلي التيارات السياسية دون أن يكون هناك برنامج عملي واضح لخطوات مستقبلية محددة؛ حيث سيطر الخطاب الحماسي على كلمات النواب وذلك لاستثارة مشاعر الحضور.
-
شعور الحضور من الجمهور باختطاف النواب للخطاب من القوى الشبابية، والتي كان لها دور كبير خلال دور الانعقاد الماضي في تحريك الشارع السياسي للوقوف ضد الممارسات الحكومية الداعمة للفساد وصولاً إلى المطالبة برحيل الشيخ ناصر المحمد عن المشهد السياسي.
-
عدم اتفاق النواب على مطالب محددة وواضحة في هذا اللقاء، فمنهم من طالب بحل الحكومة ورحيل الشيخ ناصر المحمد كونه المتهم الأول بتقديم الرشاوى والمال السياسي، ومنهم من طالب بحل مجلس الأمة لوجود أعضاء مرتشين شوهوا سمعة البرلمان الكويتي، ومنهم من طالب بحل الاثنين معًا وذلك لتنظيف الساحة السياسية من الفساد.
-
تواجد عدد من النواب والناشطين السياسيين الذين تحوم حولهم علامات استفهام؛ من حيث استفادتهم في السابق من تمرير المعاملات غير القانونية أو المناقصات والمشاريع الحكومية باختلاف أشكالها، بل إن من النواب من هو حاليًا ضمن دائرة الشك بتضخم أرصدته المالية البنكية.
-
مشاركة التيارات السياسية المختلفة كالتيار التقدمي الكويتي والمنبر الديمقراطي وكتلة العمل الوطني في هذا التجمع رغم كونهم -وقبل مدة لا تزيد عن شهرين- كانوا يُعَدُّون من حلفاء الحكومة؛ حيث شاركوا بالتصويت على منح الثقة لرئيس الوزراء في جلسة طرح الثقة، وكانت أصواتهم هي المرجِّح الأساسي لبقاء رئيس الحكومة.
-
رغم أن عدد الحضور من الجمهور فاق الحضور في التجمعات السياسية السابقة إلا أن العدد لا زال دون المتوقع لكي يشكل نذير خطر على الحكومة الكويتية أو كمؤشر على قوة تفاعل الشارع السياسي الكويتي مع هذه الفضيحة.
-
كان من اللافت حضور أغلب الكتل البرلمانية والتيارات الفاعلة على الساحة السياسية الكويتية، وهذا سُجِّل كنقطة قوة لهذا التجمع، وشكَّل رسالة واضحة مضمونها يقضي برفض جميع أطياف المجتمع الكويتي لهذا الأسلوب (الرشوة) الذي يشوّه العملية السياسية الكويتية.
الحكومة وتعاملها مع الأزمة
صُدِم الشارع السياسي المؤيد لرئيس الوزراء والمعروف اصطلاحًا بـ "معسكر إلا الرئيس" بعدم وجود رد فعل واضح من قبل الحكومة على هذه الفضيحة، وسوء تعاملها وإدارتها لهذه الأزمة من الناحيتين: الإجرائية والإعلامية؛ ما جعل هذا المعسكر في موقف دفاع ضعيف أمام الهجمة الإعلامية لنواب المعارضة. ويمكن تلخيص الدور الحكومي في التعامل مع الأزمة في التالي:
-
ملاحظة تهرب البنك المركزي الكويتي من ممارسة صلاحياته في مراقبة البنوك والاستفسار عن هذه الإيداعات مجهولة المصدر في حينها، وترك الأمر للبنوك لاتخاذ إجراءاتها بشكل ذاتي دون تدخل البنك المركزي ودون تشكيل لجان تحقيق في هذه الإيداعات. وقد زادت تصريحات وزير المالية بعدم وجود أية محاولات لغسيل أموال في الجهاز المصرفي الكويتي -دون التطرق بشكل صريح لهذه الإيداعات المليونية النيابية- من محاولات التهرب الحكومي لمواجهة الأزمة.
-
انشغال الحكومة وأعضائها بشكل كبير بالإضرابات العمالية المتتالية في الدولة والمطالبة بزيادات الأجور، وكذلك تهديد الاتحادات العمالية بالاستمرار بالإضرابات حتى تتحقق مطالبها.
-
كان من اللافت أيضًا حضور وزير الداخلية بشخصه لمتابعة ورصد تجمع (أربعاء إسقاط الراشي والمرتشي)، والذي يعد مؤشرًا لتوجس حكومي مباشر من النتائج التي قد يسفر عنها مثل هذا التجمع.
- محاولة الحكومة وضع عوائق وعراقيل لعقد هذا التجمع، وتمثّل ذلك في الحشود العسكرية، والتشويش على أجهزة الهاتف النقال، ومنع تصوير القنوات الفضائية، ووضع حواجز لمنع تدفق السيارات إلى موقع التجمع، وإغلاق الخدمات في المباني المحيطة.
سيناريوهات المسار المستقبلي
رغم ادعاء كلا الطرفين: نواب المعارضة ممثلين في تجمع "نهج" والقوى السياسية من ناحية، والحكومة و"معسكر إلا الرئيس" من ناحية أخرى بكسب الجولة والتحرك في الجولات اللاحقة، إلا أن المواطن العادي في الشارع الكويتي لا زال في حيرة من أمره؛ فبينما يرفض الأسلوب الحكومي في شراء الذمم ورشوة النواب من ناحية، إلا أنه لا يؤيد نواب المعارضة بشكل تام في تحركاتهم لإسقاط الراشي والمرتشي، خاصة وأنه كان ضمن المشاركين في هذا التجمع نواب وفعاليات سياسية تحوم حولها علامة استفهام، وهذا ما يفسر عدم تجاوز الحضور في أفضل تقدير خمسة آلاف مشارك في "أربعاء إسقاط الراشي والمرتشي".
وتتجلى الرؤية المستقبلية في السيناريوهات التالية:
-
أقوى السيناريوهات المطروحة هو توجه النيابة لحفظ القضايا المرفوعة من البنوك على النواب؛ وذلك لعدم توافر شبهة غسيل الأموال في هذه الإيداعات وفقًا لمتطلبات القانون رقم 35 لسنة 2002 في شأن مكافحة عمليات غسيل الأموال؛ ومن ثَمَّ عبور النواب "المرتشين" للشق الجنائي في الفضيحة، فيما يبقى الشق السياسي مرهونًا بردّة فعل الشارع السياسي على حفظ هذه القضايا، والتي بلا شك سيصاحبها رفع قضايا رد اعتبار وتعويض من قبل الأعضاء المتهمين بالرشوة على البنوك، وعلى من قام بالتشهير بهم سواء في المواقع الاجتماعية أو في الصحف الالكترونية.
-
استمرار المعارضة في توحيد جهودها وصفوفها وتوحيد مطالبها وتقديم استجواب محدد خاص بالإيداعات المليونية وإخلال البنك المركزي بدوره الرقابي، على أن يشارك في هذا الاستجواب أكثر من نائب من مختلف القوى والكتل السياسية؛ حيث سيتم من خلاله إيصال رسالة واضحة للحكومة بعدم جدوى استمرارها، وكذلك السعي لتجميع أكبر قدر ممكن من النواب للتوقيع على طلب طرح الثقة برئيس مجلس الوزراء.
-
تحويل الاستجواب -إذا ما قُدِّم بالفعل- إلى المحكمة الدستورية بطلب من الحكومة، وذلك بهدف الفصل في مدى دستورية مناقشة الاستجواب للقضية المطروحة للتحقيق أمام النيابة وأمام القضاء؛ حيث إنها ليست بأول سابقة تحويل للمحكمة الدستورية تقوم الحكومة بتقديمه، خاصة وأن للحكومة الحق في المشاركة في التصويت على طلب الإحالة، وهي بهذه الحالة تمتلك بأعضائها ومؤيديها الأغلبية الكافية لإقرار هذا التحويل.
-
خلط الأوراق من خلال تحويل حسابات نواب آخرين "ممن يوصفون بنواب شرفاء" في بعض البنوك الموالية للسلطة إلى النيابة العامة بتهمة التضخم في أرصدتهم البنكية، وبالتالي تثور دائرة الشك لدى الشارع الكويتي باشتراك الكل في هذه الرشاوى، وبوجود علامات استفهام على الكل: نواب المعارضة والنواب الموالين للحكومة؛ لذا قد يضطر هؤلاء النواب وبشكل سريع، الكشف عن حساباتهم المصرفية أمام الرأي العام الكويتي دون الحاجة لانتظار تحقيق البنك المركزي بطلبات التفويض بالتدقيق على الحسابات.
-
استبعاد فكرة حل البرلمان وحل الحكومة ولو بشكل مؤقت، وتوجيه المعارضة والحكومة لمناقشة القضايا داخل قبة البرلمان وباستخدام الأدوات الدستورية التي كفلها الدستور الكويتي، وهي إذا ما تمّت ستكون مكسبًا قويًّا للجانب الحكومي الذي يمتلك الأغلبية النيابية لإقرار ما يراه مناسبًا، خاصة وأن الحكومة -وكبادرة حسن نية- قامت بتقديم مشروع قانون لمكافحة الفساد وكشف الذمة المالية. والذي لا زال يُناقَش في لجان مجلس الأمة.
-
استمرار الحراك الشعبي لإسقاط الحكومة ورئيسها بالتحديد من خلال الندوات والتجمعات الأسبوعية سواء في ساحة الإرادة أو في ديوانيات الناشطين السياسيين. ولكن قد لا يحقق الاستمرار في أسلوب الهجوم المباشر على رئيس الوزراء، والذي يتّبعه النواب حاليًا، نتائج أفضل مما حقق في السابق. وبالتالي قد يكون ناجعًا التحرك بإستراتيجية جديدة تتمثل في أن "إسقاط رئيس الحكومة يأتي كتحصيل حاصل لإسقاط وزرائه". أي الاتجاه إلى محاولة إسقاط الوزراء بدلاً من التوجه إلى إسقاط رئيس الوزراء مباشرة، والذي سيؤدي بدوره إلى إسقاط الحكومة وتقديم استقالتها، وإرجاع قرار إسناد رئاسة الوزراء إلى أمير البلاد مرة آخرى.
إنّ الأزمة الحالية للإيداعات المليونية النيابية، أو بمعنى آخر الرشاوى السياسية لن تكون آخر الأزمات التي تمر بها الحياة السياسية الكويتية، ولكنها تشكِّل دون أدنى شك فضيحة سياسية من العيار الثقيل لأقدم برلمان في منطقة الخليج العربي، والذي يراه المراقبون في المنطقة نموذجًا قابلاً للتطبيق في دول تتشابه أنظمتها مع نظام الحكم في دولة الكويت. كما أنه في حالة تجاوز الحكومة الكويتية لهذه الأزمة بسلام رغم اتفاق جميع فئات وأطياف الشعب الكويتي على استنكار قضية الرشاوى السياسية، فإنّ ذلك سيكون نذير فشل لأية جهود لاحقة للتصدي لهذه الحكومة حتى نهاية مدتها الدستورية.
خلاصة القول أن مؤشرات كسب الحكومة للجولة تتمثل في قدرتها على إعادة النقاش في هذه القضية إلى داخل قبة البرلمان، فيما ستكمن قوة المعارضة في النزول إلى الشارع ورفع سقف المطالب.
________________________
أسامة الجهيم - كاتب ومحلل سياسي كويتي