العلاقات السودانية الليبية: صراع الماضي وتقارب المستقبل

مكاسب الخرطوم من نهاية نظام القذافي عديدة، فموقفها بدرافور سيتعزز، ودول الجوار المناوئة لها ستضعف، لكن الدور الغربي القادم في ليبيا قد يشكل تهديدا للنظام السوداني.
20111024102140972734_2.jpg

استكشاف مستقبل العلاقات الليبية السودانية بعد سقوط نظام القذافي, وانطواء صفحته بمقتله, يتطلب قراءة  فاحصة لبعض المحطات المفصلية المهمة في سيرة وطبيعة العلاقات بين ليبيا والسودان على مدار العقود الأربعة الماضية التي كانت فيها شخصية القذافي وخياراته ومواقفه السياسية تجاه ثلاثة أنظمة حكم مرت على السودان هي العامل الرئيس في تشكيل علاقات البلدين بكل تعقيداتها وتقلباتها وتأرجحها من مربع التحالف الوثيق إلى مربع الخصومة الشديدة, وهي تجربة خلقت نمطاً لواحد من أكثر العلاقات بين الدول غرابة, العلاقة الودية الظاهرة التي تستبطن حالة عميقة من التباغض والإيذاء وصب الزيت على الحروب الأهلية المستعرة.

علاقات مضطربة

لم تكن العلاقات السودانية الليبية شيئاً مذكوراً, على الرغم من أنهما دولتان جارتان وتجمعهما فضلا عن عرى الجوار الجغرافي روابط العروبة والإسلام, حتى العام 1969 الذي شهد ميلاد نظامي حكم عسكريين في البلدين, حيث ولد الأول  في السودان بانقلاب 25 مايو/أيار بقيادة جعفر النميري, وجاء الثاني في ليبيا بعده  بثلاثة أشهر بانقلاب الأول من سبتمبر/أيلول بقيادة معمر القذافي.

وسرعان ما أظهر النظامان الجديدان تقارباً كبيراً بينهما على خلفية تأثرهما بزعامة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر, عراب العلاقات بين النظامين "الثوريين" الجديدين اللذين ألهمتهما الشعارات القومية والوحدوية العربية, وتشير الدلائل إلى أن أصابع نظامه لم تكن بعيدة عن الإسهام في تدبير وتشجيع الانقلابين, ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى شكلت البلدان الثلاث بزعامة مصر الناصرية محوراً وحدوياً عُلِّقت عليه آمال عريضة في قيادة تحول في الساحة العربية ليس سياسياً فحسب, بل اقتصادياً كذلك استناداً على تكامل ثلاثة عناصر, الأيدي العاملة لمصرية والأراضي والموارد الطبيعية السودانية ورأس المال الليبي.

وبلغت ذروة التعاون والتفاهم بين النظامين قمتها في يوليو/تموز 1971 حين أقدم القذافي على الإسهام بفعالية في إحباط انقلاب قاده عسكريون من الحزب الشيوعي السوداني على نظام نميري, باعتقاله للمقدم بابكر النور رئيس المجلس الانقلابي الجديد, والرائد فاروق حمد الله, حين أجبر طائرة بريطانية, كانت تقلهما في طريق عودتهما من لندن إلى الخرطوم غداة الانقلاب, عند مرورها بالأجواء الليبية على الهبوط  وسلمهما للنميري الذي أعدمهما ضمن آخرين في محاكمات عسكرية سريعة أعقبت عودته للسلطة بعد ثلاثة أيام من الانقلاب عليه.

وعلى غير المتوقع لم تدم العلاقات الوثيقة بين القذافي ونميري طويلاً بعد هذه الحادثة على غير ما كانت تشي به من تحالف متين بين النظامين, ويبدو أن الطبيعة الشخصية المتنافرة للرجلين أسهمت في توتير علاقاتهما لأسباب غير موضوعية, كما أن رحيل الرئيس عبد الناصر بعد فترة وجيزة من تأسيس التحالف السياسي الثلاثي لم يمنح الفرصة الكافية لتمتين أواصر التقارب, كما أن النميري لم يرتح لإدعاء القذافي الزعامة وتطلعه لخلافة عبد الناصر وتبوء مكانه.

وهكذا دخلت العلاقة بين النظامين منذ منتصف السبعينيات فترة خصومة شرسة استمرت حتى أطاحت الانتفاضة السودانية في العام 1985 بالنميري, وكان من محطات تلك الفترة أن استضاف النظام الليبي المعارضة السودانية المسلحة المشكلة من أحزاب الأمة, والاتحاد الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين، وساعدها في محاولة فاشلة لغزو الخرطوم في يوليو/ تموز 1976, ورد السودان بدعم الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا بزعامة محمد يوسف المقريف فساعدها في محاولة فاشلة للإطاحة بالقذافي في عملية هجوم على باب العزيزية في العام 1984. ورد العقيد الليبي على ذلك بتقديم أول دعم عسكري للجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق الذي أنهى اتفاقية أديس أبابا الموقعة في العام 1972 التي أوقفت الحرب الأهلية في جنوب السودان لنحو عقد من الزمان.

اعتبر القذافي أن سقوط نظام نميري بانتفاضة العام 1985 نجاحاً حاسماً له في معركته الطويلة مع خصمه اللدود, ولم يكتف بذلك بل اعتبر أن الوقت حان ليرد له نظام الحكم الجديد في الخرطوم الجميل بدور فاعل لليبيا في تشكيل الوضع السياسي الجديد في البلاد, فشهدت الساحة السودانية حضوراً لافتاً لحركة اللجان الثورية الليبية, وتعزز الدور الليبي بفوز حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي, أوثق حلفاء القذافي بين القوى السياسية السودانية, بأكثرية مقاعد البرلمان في أول انتخابات أجريت بعد الانتفاضة ليتولى رئاسة الوزراء في العام 1986, وزاد من أهمية الدور الليبي أن حكومة المهدي اضطرت في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة للاستعانة بالقذافي للحصول على مساعدات مالية، فاستجاب لها بتوفير إمدادات نفطية ومساعدات عسكرية للقوات المسلحة السودانية التي كانت تجابه اتساع رقعة التمرد المسلح في الجنوب الذي اشتد ساعده، وللمفارقة، بدعم ليبي أيضاً.

وعزز من تنامي الدور الليبي أن علاقة المهدي الوثيقة بالقذافي وكذلك علاقته مع إيران أسهمت في توتير علاقاته مع دول الخليج العربي مما جعلها تحجم عن تقديم العون لحكمه فزاد من اعتماده على دعم القذافي, غير أن ذلك لم يكن مجانياً بلا مقابل فقد تعيّن عليه أن يدفع فاتورة ذلك عندما وجدت حكومته نفسها تتورط في الحرب المستعرة بين ليبيا وتشاد على خلفية النزاع على شريط أوزو, فقد طلب القذافي من المهدي أن يسمح لقوات ما يسمى ب"الفيلق الإسلامي" الليبي بالدخول إلى شرق تشاد عبر دارفور المجاورة في محاولة لمحاصرة قوات غريمه الرئيس التشادي حسين هبري, الذي كان ألحق هزيمة قاسية بقوات القذافي في معارك السيطرة على شريط أوزو. فأثار الطلب أزمة سياسية حادة حين استغلت المعارضة في البرلمان السوداني التي كانت تقودها الجبهة الإسلامية القومية تلك التطورات لإحراج حزب الأمة الحاكم.

غير أن أخطر ما نجمت عنه تلك الخطوة, دخول قوات "الفيلق الإسلامي" الليبي إلى دارفور وارتكازه فيها في النصف الثاني من الثمانينيات, أنها أدت إلى بذر تحولات إستراتيجية في المنطقة لم تتضح أبعادها إلا بعد ذلك بنحو خمسة عشر عاماً عند اندلاع أزمة دارفور, فقد أصبح إقليم دارفور ساحة لتقاطع المصالح والصراعات الليبية التشادية, كما أدت إلى تدفق وانتشار السلاح بكميات كبيرة في دارفور أدت لاحقاً إلى تغيير جذري في طبيعة ومعادلات النزاعات القبلية التقليدية في الإقليم التي ظلت تعالج دائمة بحكمة القادة القبليين وبتسويات سلمية يتم التراضي حولها، فصارت تحل باستخدام القوة المسلحة في حسم المنازعات بين الرعاة  والمزارعين وفي اكتساب الأراضي واحتكارها.

لم يفقد نظام القذافي تأثيره ودوره في المشهد السياسي السوداني بعد الإطاحة بحكومة الصادق المهدي بالانقلاب العسكري الذي قاده عمر البشير في العام 1989, فقد احتفظ النظام الجديد في الخرطوم بعلاقات وثيقة مع طرابلس زادت تقارباً بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990 والذي أدت تداعياته وتبعاته إلى دخول نظام البشير في عزلة خانقة دولياً وإقليمياً, خاصة من قبل دول الخليج العربي, على خلفية ما اعتبرته انحيازاً من الخرطوم للجانب العراقي, ووجد النظام الجديد في الخرطوم في القذافي الداعم شبه الوحيد له مالياً, وردت له الجميل بتبني نظام سياسي يقوم على "المؤتمرات الشعبية" فيبدو إلى حد كبير مستلهماً للنموذج الليبي, وتمت محاولة لتطوير العلاقات باتجاه إقامة "تكامل اقتصادي" بين البلدين أُنشئت له أطر سياسية وهياكل إدارية, لم تحقق إنجازات اقتصادية ذات بال في أرض الواقع, وعملت الخرطوم بجد وانخرطت في دعم الجهود لكسر العزلة الدولية على ليبيا التي فرضتها القوى الغربية على خلفية حادثة لوكربي.

وطغى على السياسة الخارجية السودانية في فترة التسعينيات من القرن الماضي الدوران في فلك السياسة الخارجية الليبية خاصة في الساحة الإفريقية التي شكلت رأس الرمح في محاولات القذافي كسر طوق العزلة الدولية المفروضة عليه, وظلت الخرطوم تتجاوب مع كل المبادرات الليبية الساعية لتعزيز توجه القذافي الإفريقي في مواجهة ما اعتبره خذلاناً عربياً له وقعوداً عن نصرته, حيث تحمس السودان لتأسيس تجمع دول الساحل والصحراء وكان من مؤسسيه الأوائل, وكان التجمع المعروف اختصاراً بـ (س ص) مبادرة ليبية خالصة لخلق فضاء إفريقي إقليمي جمع الدول المناهضة للعقوبات الدولية على طرابلس, وتجاوبت الخرطوم مبكراً مع دعوة القذافي لتأسيس "الاتحاد الإفريقي" بديلاً عن منظمة الوحدة الإفريقية.

أزمة دارفور: دور طرابلس الخفي

أزمة دارفور التي أطلت نذرها مع مطلع القرن الجديد وتضافرت عوامل محلية وإقليمية ودولية لتجعلها تأخذ أبعاداً أعمق بكثير من الأسباب المباشرة لاندلاعها في العام 2003, شكلت عاملاً فارقاً كان من شأنه أن يغير من طبيعة وتأثير الدور الليبي في السودان, فقد لعب نظام القذافي في أزمة دارفور واحداً من أكثر الأدوار تعقيداً والتباساً.

فأزمة الإقليم التي أخذت الخرطوم على حين غرة في وقت كان تتهيأ فيه لطي ملف الحرب الأهلية في الجنوب في مفاوضات السلام التي كان تشهد وقتها اختراقات مهمة وحاسمة برعاية دولية, وفي الوقت الذي كانت حكومة البشير في انتظار قطف ثمار ذلك تطبيعاً مع الدول الغربية الكبرى بعد طول عزلة, اندلعت أزمة دارفور وتسارعت وتيرتها وتداعياتها وتبعاتها لتعيد الخرطوم إلى مربع العزلة الخانقة بأسرع مما كانت تتوقع.

في خضم تلك الأجواء بدا للخرطوم لأول الأمر أن العقيد القذافي, الذي كان يقدم نفسه بحسبانه"راعي السلام في فضاء س ص", حليفها الموثوق المفترض،  وأنه الشخصية المناسبة التي يمكن أن تركن إليها للعب دور الوسيط في إطفاء أزمة دارفور وإحلال السلام خاصة في ظل العلاقات السودانية المتردية مع تشاد, التي كان رئيسها إدريس دبي على صلة وطيدة مع القذافي, فسوء العلاقات بين الخرطوم وإنجمينا له تأثير مباشر في صب المزيد من الزيت على النار المشتعلة أصلاً في دارفور, مع الاتهامات المتبادلة بين العاصمتين بدعم كل منهما لمعارضي الحكم في البلد الآخر.

ومع كثرة القمم الرئاسية التي بدأ القذافي استضافتها منذ العام 2004 وضمت البشير ودبي, وزعماء من المنطقة, من أجل تطبيع العلاقات بين الخرطوم وإنجمينا, ثم التوصل إلى تسوية سلمية لأزمة دارفور, إلا أن أيا من تلك القمم لم تسفر عن نتائج إيجابية.

ومع ازدياد الضغوط على حكومة البشير وفشل مساعي السلام المتعددة واستمرار نزيف الحرب في دارفور, بدأت الخرطوم تشير بأصابع الاتهام إلى نظام القذافي في تأجيج أوار الحرب الأهلية بدعمه لجماعات المعارضة المسلحة في الإقليم, غير أن الخرطوم لم تجرؤ أبداً على اتهام القذافي صراحة وعلانية بذلك حتى بعد غزو أم درمان من قبل حركة العدل والمساواة في مايو/أيار 2008, على الرغم من قناعة كبار المسؤولين في حكومة البشير بأن ذلك الهجوم تم بدعم ليبي سخي.

شهدت العلاقات الليبية السودانية في تلك الفترة واحدة من أكثر العلاقات الدبلوماسية غرابة, فنظام الحكم في الخرطوم كان على قناعة بأن القذافي كان يدعم تشاد في صراعها مع السودان, كما كان يدعم جماعات التمرد المسلح في دارفور, إلا أنها في الوقت نفسه آثر الصمت والتغاضي عن ذلك الواقع المرير وعدم الإفصاح عنه علانية, وإن كانت بعض الصحف السودانية المحسوبة على النظام تشير أحياناً إلى الدور الليبي في تأجيج الصراع في دارفور, ويبدو أن حسابات معقدة أملت على الخرطوم اتخاذ الحيطة والحذر في التعاطي مع العامل الليبي البالغ التأثير في أزمة دارفور, فمن جهة كانت علاقاتها مع تشاد متوترة ووصلت إلى حد القطيعة والحرب شبه المفتوحة عن بعد بواسطة جماعات المعارضة في البلدين, ولم يكن بوسع الحكم في الخرطوم تحمل تبعات الدخول في خصومة علنية مع نظام القذافي لأن ذلك سيعني اتساع رقعة حربها المباشرة مع الجماعات المتمردة, وغير المباشرة مع تشاد بدخول ليبيا أيضاً مما يعني فقدانها لأهم جارين لإقليم دارفور, والأمر الثاني أن الخرطوم آثرت اتقاء "شر القذافي" وعدم تورعه عن دعم المتمردين في دارفور علانية إن وجد نفسه في قفص الاتهام  من قبل السودان بتأييدهم سراً, ولم يكن بوسع أحد في حكم البشير التنبؤ بالمدى الذي يمكن أن يصل إليه القذافي في الإضرار بالنظام في الخرطوم إن خاصمه علانية, ولذلك ارتضت الخرطوم أهون الشرّين بأن تغض الطرف عن دعم القذافي للجماعات المتمردة في دارفور, وأن تظهر في الوقت نفسه تعويلها على دوره كوسيط سلام عسى أن يخفف ذلك من غلوائه.

وسعت الخرطوم في الوقت نفسه للالتفاف على دور القذافي والخروج من ربقته بإجراء مصالحة مباشرة مع تشاد في العام 2010 بعد سلسلة من المحاولات غير الناجحة, مما أفقد القذافي ورقة مهمة في يده, كما شجعت الخرطوم منبر الدوحة والدور القطري في مفاوضات سلام دارفور, وبالطبع لم يرق للقذافي أن يجد دوره يتقلص, فهو وإن لم يعارض علانية منبر الدوحة إلا أنه لم يتحمس له, وجاءته الفرصة للتأثير على مجرى الأحداث ومحاولة عرقلة تلك المفاوضات حين لجأ إليه رئيس حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم بعد منعه من دخول تشاد على خلفية تقاربها مع حكومة البشير.

ولعل السؤال المهم ما الذي جعل القذافي يلعب هذا الدور المزدوج والملتبس في أزمة دارفور, من الصعب اتهام نظام القذافي بأنه يقف وراء اندلاع الأزمة ابتداءً إذ من المؤكد أن هناك عوامل محلية وتراكمات موضوعية أدت إلى انفجارها ثم اتساع نطاقها لاحقاً بإضافة عوامل خارجية, لقد كان من الطبيعي أن يجد نظام القذافي نفسه حاضراً بقوة في خضم هذه الأزمة، فإقليم دارفور يجاور ليبيا كما يجاور تشاد, وكلاهما يمثل فضاء مهماً في حسابات الأمن الليبي, ولكن السؤال ما هي طبيعة الدور الذي يمكن لنظام القذافي لعبه؟

لعله أراد بادئ الأمر أن يكون وسيطاً للسلام فعلاً على اعتبار أنها أزمة داخل فضاء (س ص) وأن نجاحه في حلها سيعزز من زعامته في الإقليم وفي القارة الإفريقية, ولكن تسارع وتيرة تدويل أزمة دارفور وتدخل المجتمع الدولي المباشر شكل إنذاراً مبكراً للقذافي بأنه سيفقد أهم أوراق لعبه في المنطقة ويجعل ظهره مكشوفاً, ولذلك سارع لأن يكون طرفاً خفياً في الصراع إضافة إلى دور الوسيط الظاهر, فقدم دعماً للجماعات المسلحة المختلفة في الإقليم ليضمن استمراره في اللعبة, وامتلاك أوراق تجعله صاحب الكلمة الأخيرة في أية تسوية محتملة عن طريق التحكم في مواقف الجماعات المتمردة أو حتى تفتيتها لتسهيل السيطرة عليها.

ما جعل مهمة القذافي سهلةً في لعب دور مزدوج في أزمة دارفور, دور الوسيط بين الفرقاء ودور مؤجج الصراع في الوقت نفسه, أن حكومة البشير الواقعة تحت ضغوط دولية عنيفة لم تكن تملك الكثير من الخيارات أو الأصدقاء في الساحة الإقليمية لتفرض شروطها، وكانت مضطرة للخضوع لحسابات القذافي الذي أدرك أن أزمة دارفور لم تعد لعبة إقليمية بعد أن تحولت بسرعة إلى قضية دولية بامتياز, ولما كان القذافي يريد أن يحظى بدور معترف به في الجهود الدولية لتسوية الأزمة فلم يكن بوسعه أن يمضي بعيداً في الوقوف إلى الخرطوم دون أن يضع اعتباراً أنها في نظر وقرارات مجلس الأمن الدولي محل اتهام بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات للقانون الإنساني الدولي حيث أحيل ملفها للمحكمة الجنائية الدولية منذ وقت مبكر من الأزمة, مارس/آذار 2005, ووصل تداعيات ذلك إلى إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير نفسه.

ليس سراً أن سقوط نظام القذافي مثّل أسعد خبر لحكومة البشير لدرجة أن والي ولاية شمال دارفور عثمان يوسف كبر وصفه بأنه "تطور أكثر أهمية من اتفاقيتي الدوحة وأبوجا" للسلام في الإقليم, في صيغة مبالغة تدلل على المدى الذي وصله التبرم والانزعاج السوداني من دور القذافي في تعقيد أزمة دارفور, كما اعتبر أمين حسن عمر كبير مفاوضي الحكومة في منبر الدوحة أن مقتل القذافي أنهى مصدر تهديد، معتبراً أنه في كل الأحوال  "نحن رابحون بعد أن تحولت المحنة إلى منحة". وعلى الرغم من أن الخرطوم انخرطت في دعم الثوار الليبيين بتنسيق مع قطر إلا أنها آثرت إبقاء الأمر خفياً تحسباً لردة فعل انتقامية من القذافي إن لم ينجح الثوار في الإطاحة بنظامه تزيد من تعقيد الأوضاع في دارفور بأكثر مما هي عليه.

مكاسب الخرطوم بعد القذافي

لا شك أن انتهاء دور القذافي بغيابه الدرامي يشكل العامل المتغير الأكثر أهمية في تشكيل مستقبل العلاقات الليبية السودانية بعد أن تعرضت طوال الأربعين عاماً الماضية لمواقف متناقضة تأرجحت بين التقارب والتحالف أحياناً, والعداء الظاهر والمستتر في أغلب الأحيان, وكانت تتأثر إلى حد كبير بالطبيعة الشخصية المتقلبة للقذافي في مواقفه المتناقضة من السودان, ومن ذلك أنه في الوقت الذي كان يدعو لوحدة القارة الإفريقية على نسق يلغي الحدود السياسية للدول وتشكيل حكومة موحدة للقارة, لم يمنعه ذلك في العام 2009, وهو المحسوب حليفاً للخرطوم, من تشجيع الحركة الشعبية على فصل جنوب السودان وإعلان استعداده لدعم دولة الجنوب إذا اختارت الانفصال، معتبراً أن وجود الجنوب ضمن السودان الموحد كان خطأً من البداية.

ولذلك فإن متغير غياب القذافي سيضع على الأقل نهاية لحالة عدم الاستقرار في الموقف الليبي وحسابات مصالحه تجاه العلاقة مع السودان, مما يتيح فرصة لحوار جدي حول بناء أسس جديدة للعلاقات المستقبلية بين البلدين. وثمة عوامل عديدة لا تزال تطوراتها تتفاعل ومن شأن نتائجها أن تلعب دوراً حاسم في رسم واقع جديد للعلاقات الليبية السودانية.

ومن هذه العوامل المؤثرة على مستقبل العلاقات الليبية السودانية السيناريو النهائي الذي سترسمه الثورة الليبية من ناحية قدرتها على بسط سيطرتها الأمنية والعسكرية على كامل الترابي الليبي، والقضاء تماماً على جيوب المقاومة المحتملة لبقايا نظام القذافي خاصة في المناطق الصحراوية المتاخمة للسودان وتشاد, لأن استمرار أي نفوذ لعناصر تابعة لفلول لقذافي في المنطقة تحاول زعزعة استقرار الوضع الجديد في ليبيا قد يشكل مورد إمداد للسلاح لإقليم دارفور مما يُجهض جهود التسوية السلمية، ويُعزز فُرص استمرار حرب العصابات إذا رفضت بعض الحركات المسلحة الانخراط في عملية السلام.

وقد تواترت أنباء عن تهريب كميات من الأسلحة الليبية إلى دارفور مع انهيار نظام القذافي, كما أن عودة زعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم إلى دارفور بعد إقامة قسرية في ليبيا طالت لأكثر من عام ستعيد خلط الأوراق في الإقليم من جديد. في ما وجّه الثوار أكثر من اتهام لحركات مسلحة من دارفور بالتورط في مقاتلة الثوار لصالح القذافي, وهو ما يشكل عامل ضغط إضافي على الحركات المسلحة في دارفور التي ظلت تتلقى دعماً من نظام القذافي, كما يشكل أيضاً عامل تقارب موضوعي مع الخرطوم.

ومن العوامل المتغيرة التي واكبت سقوط نظام القذافي تلك المرتبطة بمصير تحالفاته الإقليمية مع بعض دول الجوار السوداني والتي ظل يوظفها لصالح حسابات علاقاته مع الحكم في الخرطوم, فمن المعروف أن نظام القذافي ارتبط بعلاقات وثيقة فضلاً عن تشاد, مع يوغندا وكذلك إرتريا التي تقع على حدود السودان الشرقية لكنها تمكنت بفضل الدعم الليبي من لعب دورا مؤثر في أزمة دارفور الواقعة غرب البلاد باستضافة زعماء ومعسكرات للجماعات المتمردة على الرغم من أنها لا تتمتع بأية حدود جغرافية معه بل  تبعد عنه في الواقع آلاف الكيلومترات, كما أن يوغندا الجارة الجنوبية البعيدة أيضاً عن دارفور شكّلت حضوراً في أزمة الإقليم بفضل العلاقة الوثيقة التي ظلت تربط القذافي بالرئيس يوري موسيفني, ولذلك فإن غياب القذافي وفقدان دعمه  سيؤدي بالضرورة إلى تراجع تدخلات حلفائه الإقليميين في أزمة دارفور, في وقت لا تزال الخرطوم قادرة على المحافظة على مصالحتها مع إنجمينا.

متغير مهم آخر يرتكز على طبيعة النظام السياسي الذي سيتم تأسيسه في ليبيا في عهد ما بعد القذافي, وكيف سيحدد خياراته الإستراتيجية وحسابات سياسته الخارجية, وتوجهاته نحو جيرانه, وهذا يعتمد على خريطة القوى السياسية التي ستبرز في الساحة الليبية, ففي حال صعود قوى محسوبة على "التيار الإسلامي الحركي" فسيكون ذلك مدعاة لقيام علاقات ليبية وثيقة مع نظام الحكم في الخرطوم ذي الخلفية "الإسلامية" والذي يحتفظ بصلات قديمة معها.

ومن العوامل المحددة لمستقبل العلاقات الليبية السودانية تلك التي تتعلق بالمدى الذي سيصله المجتمع الدولي عموماً, ودور حلف الناتو والغرب على وجه الخصوص فيما يعتبر استحقاقات الدعم الذي قدمته  للثورة الليبية والدور الذي لعبته في نجاحها, في التأثير على تشكيل مستقبل الأوضاع في ليبيا وانعكاس ذلك على أولويات وحسابات نظام الحكم الجديد فيها وتوجهات سياساته الخارجية, وهي مسألة ذات أهمية خاصة ستنعكس بالضرورة على طبيعة العلاقة المستقبلية بين الخرطوم وطرابلس في ظل استمرار علاقات السودان المتوترة مع الدول الغربية التي تفرض عقوبات وضغوطاً متفاوتة على نظام الحكم في الخرطوم, سواء بشأن الوضع في دارفور أو بسبب العلاقة الملتبسة مع دولة جنوب السودان.

فالدول الغربية ظلت تحسن بفعالية توظيف الدول الأخرى التي تحتفظ معها بعلاقات وثيقة في تكثيف الضغوط على الخرطوم التي ظلت تعاني من حصار شبه مستمر, أو تتمتع بسقف منخفض من التعاون مع الدول التي تنجح في الإفلات من التأثير الغربي في علاقتها بحكومة البشير.

ومن الراجح أن يسعى النظام السياسي الجديد في ليبيا إلى توثيق صلاته مع الغرب, ليس فقط بتأثير استحقاقات دعمه للثورة ولكن أيضاً بحسابات مصالح ليبيا في عهدها الجديد, وهو عامل سيدفع طرابلس بالضرورة إلى الاهتمام برعاية مصالحها الجديدة ولن تكون, حتى لو لم تتعرض لضغوط غربية مباشرة, متحمسة لإقامة علاقات وثيقة مع الخرطوم إلى درجة قد تؤثر سلباً أو تكون خصماً من مصالحها. ويزيد من ترجيح هذا التوجه أن النظام السياسي الجديد في ليبيا لن يكون حريصاً على الاحتفاظ بإرث اهتمامات القذافي وأجندته الإفريقية, ومن ضمنها السودان, بسبب التعقيدات والتكلفة السياسية والاقتصادية لتبعاتها التي شكلت عبئاً كبيراً على ليبيا, ولذلك ستكون نهاية القذافي فرصة سانحة للتحرر من مغامرات القذافي الإفريقية بإشكالها كافة.

على أن أهم تداعيات وتبعات النهج الذي أنهى حكم نظام القذافي على المنطقة, وعلى السودان على وجه الخصوص في ظل استمرار أزماته السياسية والاقتصادية المستفحلة وعلاقاته المتوترة مع الغرب, أنها أرست سابقة تشكل خطورة محتملة على حكم البشير, والمقصود هنا الشرعية الأخلاقية والسياسية التي اكتسبها نموذج الثورة الشعبية المحمية بغطاءٍ دولي وتدخل عسكري مباشر من حلف الناتو الذي نجح في إنهاء حكم القذافي, وهو تحالف غير مسبوق حظي بالقبول لأول مرة ولم يعد محل مقاومة عند شعوب المنطقة التي كانت تتوجس وتعارض التدخلات الأجنبية، كما يتضح الفرق في ردود الأفعال الشعبية عند التعاطي مع النموذجين الليبي والعراقي, وهو ما يشكل تحولاً استراتيجياً في المفاهيم والحسابات السياسية ويشكل عنصر تهديد ماثل وعامل ضغط إضافي على الخرطوم, كما يشكل عامل تشجيع لتدخل دولي عسكري مباشر في السودان حال حدوث انتفاضة شعبية, ويزيد من الضغوط على الخرطوم وجود أكثر من عشرين ألف جندي أجنبي على أراضيه سلفاً تابعين لقوات حفظ السلام الدولية في دارفور في مهمة مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

أما على صعيد البعد الاقتصادي في مستقبل علاقات البلدين تبرز مفارقة لافتة وهي أنه طوال أربعة عقود لم يحتفظ نظام القذافي بأي علاقات اقتصادية ذات بال مع السودان على الرغم من كل الوعود المبذولة في هذا الصدد, إذ لا توجد مبادلات تجارية يعتد بها, وحسب تقارير بنك السودان المركزي فإن جملة ما حصل عليه السودان من ليبيا خلال أربعين عاماً بلغت نحو ستمائة وخمسين مليون دولار, معظمها بين عامي 1987 و1993, أي في أواخر عهد الصادق المهدي وبداية حكم البشير, وسدّد السودان إثر محادثات بين البلدين بشأن هذه الديون نحو نصف هذا المبلغ عبر تمليك ليبيا مشروعات وأراض ومؤسسات, ولا يزال مديناً بنحو ثلاثمائة مليون دولار.

وفي حين تشهد ليبيا بعد القذافي سباقاً بين الدول الكبرى لنيل حصص من الاستثمارات فيها كما أنها تتطلع شمالاً لتعزيز علاقتها الاقتصادية مع تلك الدول لتعظيم المنافع الاقتصادية من قدراتها النفطية و تلبية حاجاتها في عادة البناء والتعمير, فإنه من المستبعد أن يكون العامل الاقتصادي حاضراً بدور مؤثر في صناعة المستقبل القريب للعلاقات بين ليبيا والسودان.

على أي حال لا يمكن للحكومة السودانية, بغض النظر عن تأثير العوامل التي أوردناها آنفاً كمحددات لمستقبل العلاقات الليبية السودانية, إلا أن تعد نفسها في غمار أكبر المستفيدين من سقوط نظام القذافي الذي أزاح عن كاهلها واحداً من أكبر المهددات الأمنية المباشرة, فحتى إذا لم يؤثر ذلك فوراً وبصورة جذرية على معادلات الوضع الراهن في دارفور أو مناطق الصراع الأخرى بالسودان, إلا أنه بحسابات إستراتيجية بعيدة المدى فإن خروج عامل القذافي الذي كان طرفاً في تأجيج الصراع في الإقليم سيسهم في تعزيز عملية البحث عن حلول سياسية سلمية لأزمة دارفور وباقي المناطق السودانية. غير أنه يتعين على حكومة البشير، في الوقت نفسه، أن تضع في الاعتبار أن نموذج الانتفاضة الشعبية المعززة بتدخل عسكري دولي مباشر مرشح للتكرار في السودان ما لم تتحسب لذلك بإجراء تحولات سياسية واقتصادية عميقة وحاسمة وسريعة، تعالج جذور الأزمة السودانية المستفحلة فتحقق تغييراً سلمياً حقيقياً مقنعاً، يشكل بديلاً لخيار التغيير العنيف.
___________________
خالد التيجاني النور- مختص في الشؤون السودانية 

نبذة عن الكاتب