يمثل الحادي عشر من فبراير/ شباط الماضي لحظة فارقة في التاريخ المصري المعاصر، ففيه أعلن نائب رئيس الجمهورية تخلي حسني مبارك عن منصبه كرئيس للبلاد ونقل سلطاته الرئاسية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليصبح مبارك بذلك أول رئيس مصري سابق.
ووضع بيان عمر سليمان المقتضب حداَ للأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد ما يقرب من ثلاثة أسابيع. فالمظاهرة التي دعت إليها بعض الحركات الشبابية للاحتجاج على تجاوزات الشرطة في 25 يناير/ كانون ثاني سرعان ما تحولت إلى هبة شعبية غير مسبوقة شلّت كافة نواحي الحياة في مصر، بما أصبح معه استمرار مبارك في الحكم أمرا غاية في الصعوبةَ. وفي خضم الأزمة، ظهر اتجاهان متباينان فيما يتعلق بكيفية الخروج منها: اتجاه أكثر راديكالية تمسك برحيل مبارك وإسقاط النظام، ومثّلته الجماهير المعتصمة في ميدان التحرير والمنتفضة في المدن المصرية؛ واتجاه آخر برز في دعوة الولايات المتحدة إلى انتقال منظم للسلطة في مصر. عكس الاتجاه الأول رؤية بدت رافضة لكل سياسات نظام مبارك، وفي القلب منها التحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل، الذي ورثه عن سلفه، وهو ما ظهر في وصف المتظاهرين لمبارك ونائبه بالعميلين للولايات المتحدة ورسم نجمة داود على صور الرئيس المخلوع، ما أثار مخاوف المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين في الأيام الأولى للهبة الشعبية ودفعهم لمساندة مبارك. ولكن مع مرور الوقت أخذ الموقف الأمريكي يتطور في اتجاه التضحية بمبارك من أجل قطع الطريق على تغيرات أكثر جذرية خوفاَ مما قد يترتب على ذلك من تداعيات إقليمية قد تلحق أضراراً فادحة بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية بالمنطقة. وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة أشهر على الإطاحة بمبارك يصبح من الضروري التعرف على أي الاتجاهين كانت له الغلبة حتى الآن.
ينقسم هذا المقال إلى جزئين: يرصد الجزء الأول أهم ملامح المشهد السياسي منذ إسقاط مبارك؛ أما الجزء الثاني فيتناول الأسباب التي أدت إلى أن تأخذ الأمور منحاً أقرب إلى أن يقتصر التغيير على الأشخاص وأن لا يمتد إلى السياسات، خاصة إلى تحالفات مصر الدولية والإقليمية. وينطلق المقال من فكرة الارتباط العضوي والتأثير المتبادل بين السياستين الداخلية والخارجية لأي دولة، بحيث يمكن القول بأن السياسة الخارجية لأية دولة هي تعبير عن قيم ومصالح الفئات والمؤسسات الحاكمة، كما أن تحالفات الدولة الإقليمية والدولية تساهم في الحفاظ على التوازنات القائمة بين المؤسسات والقوى السياسية والاجتماعية داخل الدولة وإعادة إنتاجها.
المشهد السياسي المصري الراهن
ثورة أم قيصرية؟
شكّل البيان الأول الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة معلناً تبني المجلس ما وصفه بمطالب الشعب المشروعة مؤشراً واضحاً على دخول الأزمة السياسية التي بدأت يوم الخامس والعشرين من يناير/ كانون ثاني مرحلتها الأخيرة، خاصة وأن المجلس انعقد في غياب مبارك. وترافق مع صدور هذا البيان تصريحات لمسؤولين حكوميين وحزبيين أشارت إلى نية مبارك في التنحي عن الحكم، إلا أن خطاب مبارك مساء الخميس 10 فبراير/ شباط جاء مخالفا لهذه التوقعات، حيث أكد تمسكه بالاستمرار في الحكم، وهو ما وضع البلاد على مشارف مواجهة دموية لم ينزع فتيلها إلا إعلان تنحي الرئيس في اليوم التالي.
وفي غمرة النشوة التي عمت المعارضين لمبارك والذهول الذي اعترى مؤيديه غاب عن الفريقين أن استقالة مبارك جاءت على نحو يخالف ما أقرته المادتين (83) و(84) من الدستور، والأهم أن هذا الإعلان جاء بعد ثمانية وأربعين ساعة من نشر الصحف المصرية تحذير عمر سليمان من أن البديل للحوار الوطني الذي دعا إليه مبارك هو الانقلاب العسكري، وشدد سليمان على الرغبة في"أن نتجنب الوصول إلى هذا الانقلاب" (1). ويشي تحذير سليمان ببعض ما كان يجري في قمة هرم السلطة بمصر في الأيام الأخيرة من حكم مبارك. فعلى ما يبدو كان الرئيس السابق قد فقد السيطرة على القوات المسلحة، التي كانت قد حسمت أمرها على الإطاحة به في حال ما رُفضت دعوته لإجراء حوار وطني، وأنها كانت قد أبلغته بقرارها. إزاء هذا التطور، لم يكن أمام مبارك من خيار سوى القبول بإعلان خروجه من الحكم بطريقة تحفظ بعض ماء وجه وتضفي شيئاَ من الشرعية على تولي الجيش السلطة.
ويعزز هذا التفسير ما أعلنه اللواء ممدوح شاهين أحد أعضاء المجلس العسكري في الشهر الماضي من أن "القوات المسلحة تسلمت زمام الأمور قبل تنحي الرئيس." كما حرص عضو المجلس على التأكيد بأن تدخل الجيش استند إلى الدستور الذي حمل القوات المسلحة مسؤولية حماية البلاد، وخلص إلى أنه "قد يتبادر لذهن البعض أن الجيش يستمد شرعيته من الثورة، ولكن الحقيقة أن شرعيته استمدها من الشعب والثورة والدستور." (2) ويشكل التباين الشاسع بين فهم المجلس العسكري لدور الجيش ومصادر شرعيته وبين تصور من قدمهم الإعلام بوصفهم قادة المعتصمين في التحرير لهذين الأمرين المصدر الأساسي لحالة الشد والجذب بين الطرفين والتي كانت الملمح السياسي الأبرز في المرحلة الماضية. إذ يرى قادة التحرير في أنفسهم أصحاب شرعية ثورية تخول لهم المشاركة في اتخاذ القرارات، بل إن بعضهم يرى أن دور الجيش ينحصر في تنفيذ مطالبهم؛ أما المجلس العسكري فيرى أنه كيان مستقل عن ميدان التحرير وأنه المنوط بحماية البلاد، وهو ما عبر عنه بوضوح المتحدث الرسمي باسم المجلس قبيل الاستفتاء على التعديلات الدستورية، حيث شدد على أن الجيش لم ينضم "للثورة لأنهم ثوار وإنما انضمامنا كان لمصلحة مصر والشرعية الدستورية لمصر، وبهذا لم نكن مع الرئيس ضد الثورة أو مع الثورة ضد الرئيس." (3)
وتتمحور رؤية المجلس العسكري لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية حول مبدأ الاستقرار تفادياً لحدوث انهيار اقتصادي، مع محاسبة رموز الفساد في عهد مبارك وإجراء إصلاحات تدريجية في النظام السياسي؛ وهي بذلك لا تختلف كثيراَ عما اقترحه الرئيس السابق سواء من حيث الطرح أو الجدول الزمني. بل إن القرارات التي اتخذها المجلس العسكري حتى الآن، خاصة فيما يتعلق بالإصلاح السياسي، هي امتداد للإجراءات التي اتخذها مبارك في أيامه الأخيرة. فقد احتفظ المجلس في بادئ الأمر بأخر حكومة تشكلت في عهد مبارك، وحتى عندما استجاب لمطلب تكليف عصام شرف برئاسة الحكومة، عاد واحتفظ لنفسه بالحق في ضبط إيقاع التغيير وتحديد وجهته، وهو ما ظهر جلياَ في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، حيث أصر المجلس على إجراء الاستفتاء متجاهلاَ اعتراضات قادة التحرير. وجدير بالذكر أن معظم المواد التي طرحت في الاستفتاء كان الرئيس السابق قد شكل لجنة لتعديلها، وهو ما يعزز ما ذهبنا إليه من قبل بأن قرارات المجلس العسكري لم تتجاوز حدود الرؤية التي اقترحها مبارك للخروج من الأزمة. وساعد المجلس على ذلك أن القوى السياسية والأفراد الذين يتحدثون باسم ميدان التحرير لم يقدموا حتى الآن برنامجا سياسيا عملياً متكاملاً، واكتفوا برفع شعارات فضفاضة تركز على من يريدون محاسبته دون تقديم بدائل سياسية، إضافة إلى الاحتجاج على تجاهل المجلس العسكري لبعض مطالبهم أو تباطؤه في تنفيذ البعض الأخر، والمطالبة بإشراكهم في صنع القرار.
وقد رأى بعض المراقبين في نتيجة الاستفتاء انتصاراً للتيار الإسلامي الذي دعا إلى الموافقة على التعديلات وهزيمة للقوى العلمانية التي طالبت برفضها، إلا أنه يمكن القول أن الفائز الحقيقي هو المجلس العسكري الذي حصل على شرعية ودعم شعبيين لرؤيته لإدارة المرحلة الانتقالية في مواجهة اعتراضات قادة التحرير. ولعل رغبة المجلس في الحصول على هذا الدعم ما دفعه إلى حث المواطنين على المشاركة بكثافة في الاستفتاء.
وإذا كان التنافس على الشرعية وسلطة اتخاذ القرار بين المجلس العسكري و ميدان التحرير أهم ملامح المشهد السياسي المصري في الشهرين الماضيين، فإن استمرار الاحتجاجات الشعبية على خلفيات اقتصادية واجتماعية شكلت أكبر تحد للطرفين، وأيضاَ للإخوان المسلمين، ومثلت العقبة الأبرز أمام جهود المجلس العسكري لخلق حالة من الاستقرار تسمح بعودة الاستثمارات الأجنبية. أما فيما يتعلق بقادة ميدان التحرير وبالإخوان فقد أثبتت هذه الاحتجاجات عجزهم عن التحكم في إيقاع التحركات الشعبية، خاصة وأن هذه الاحتجاجات استمرت على الرغم من إعلان الإخوان و قادة التحرير تعليق مظاهراتهم الأسبوعية دعماَ لما أطلقوا عليه حكومة الثورة، وهو ما حرمهم من إمكانية احتكار الحديث باسم الشارع المصري أو الادعاء بأنهما يمثلان كافة قطاعات المجتمع. ولعل خطورة هذا التحدي هو ما دفع الأطراف الثلاثة إلى معارضة هذه الاحتجاجات والدعوة إلى وقفها ومحاولة التقليل من شأنها بوصفها بالفئوية، وما يحمل ضمنيا اتهاماً للقائمين عليها بتغليب مصالحهم" الضيقة" على" الصالح العام" الذي تمثله هذه الأطراف. بل ووصل الأمر بقادة التحرير والإخوان إلى الزعم بأن بعض هذه الاحتجاجات جزء مما وصفوه بالثورة المضادة. وبغض النظر عن صحة هذا الاتهام السياسي، فإن هذه الاحتجاجات تبرز محورية المسألة الاجتماعية في مجتمع تعاني قطاعات واسعة فيه من الفقر ونقص الخدمات الأساسية، وتكشف عن أن أي تغيير سياسي لا يواكبه إعادة توزيع للثروة لن يملك فرصاَ كبيرة للنجاح. ومما يثير القلق أن ما رشح عن التوجهات الاقتصادية لما أطلق عليه حكومة الثورة يشير إلى استمرار تبني التوجهات التي حكمت السياسات الاقتصادية المصرية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، من حيث الاعتماد بشكل رئيسي على الاستثمارات الأجنبية لتمويل عمليات التنمية والتركيز على القطاعات الريعية والمضاربات المالية؛ كما أن تصريحات وزير المالية الجديد الرافضة للضرائب التصاعدية جاءت مشابهة لما كان يردده سلفه الهارب. ويشكل تجريم الإضرابات والاعتصامات بدافع حماية الاقتصاد استمراراَ للرؤية التي ترى في تلك الأشكال النضالية سبباَ للأزمات الاقتصادية لا نتيجة لها، وامتدادا لنهج مبارك و سلفه في تحميل الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية النتائج المدمرة لسياسات لم تشارك في وضعها واستفاد منها آخرون.
وتعد عودة الاحتقان الطائفي في شكل عدد من الهجمات التي نسبت لمجموعات سلفية ضد كنائس وضد بعض المواطنين المسيحيين، إضافة إلى الاشتباكات الدموية بين مجموعات من المسلمين وأخرى من المسيحيين في القاهرة والجيزة في مطلع مايو/ أيار وفي مارس/ آذار الماضي ثالث أبرز ملامح المشهد السياسي المصري الراهن. أما أخطر مظاهر هذا الاحتقان فتمثل في الاصطفاف الطائفي الذي ميز الاستفتاء على التعديلات الدستورية. وتنبع خطورة التوترات الطائفية من احتمال تطورها بمرور الوقت إلى صراع طائفي، خاصة إذا تشكلت أحزاب ذات توجهات طائفية؛ وهو ما قد يهدد في حال حدوثه بفتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات الخارجية في شئون البلاد. واعتمدت الحكومة الجديدة حتى الآن في معالجتها لتلك الأحداث الأسلوب الذي اتبعته حكومات مبارك من حيث عقد لقاءات بين القيادات الدينية والشخصيات العامة من الطرفين دون وضع تصور لحل هذه القضية بشكل جذري.
وتجدر الإشارة إلى أن النظام المصري قد لعب منذ سبعينات القرن الماضي دوراً كبيرا في إشعال الفتنة الطائفية في البلاد؛ بل يمكن القول أن الطائفية كانت الأيديولوجية غير المعلنة للنظام خلال مرحلة طويلة لتمرير التغيير في التوجهات الداخلية والخارجية، بحيث حل الخطاب الطائفي محل لغة التحالف الطبقي، وتم استبدال "عدو" من داخل الوطن بالعدو الخارجي.
ما يمكن قوله، بكلمة أخرى:
- أن السياسات الاقتصادية لما بعد مبارك تمثل حتى الآن امتداداً للتوجهات الاجتماعية التي سادت في مصر منذ أن بدأ الانفتاح الاقتصادي في سبعينات القرن الماضي.
- أنه على الرغم من تصريحات وزير الخارجية نبيل العربي الناقدة لإسرائيل والمنفتحة على إيران بما يعكس رغبة في إعادة صياغة السياسة الخارجية المصرية، (4) إلا أن السياسات الإقليمية وفي مقدمتها التحالف الإستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل، والقائم منذ عهد السادات، لم تكن أحد محاور الحراك السياسي في البلاد في الفترة الماضية، وهو ما يعكسه العدد الصغير- والذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة - من المظاهرات المعادية لإسرائيل خلال الثلاثة أشهر الماضية والمشاركة الشعبية المحدودة نسبيا في هذه المظاهرات. (5) وقد يرى البعض في ذلك أمراً طبيعياً في ضوء ما يعتبره أولوية القضايا الداخلية على السياسات الخارجية خلال الفترات الانتقالية، مستشهداَ بما حدث في دول أوروبا الشرقية. ولكن مثل هذا الفهم يقوم على فصل تعسفي وغير مبرر بين نوعين من القضايا والسياسات، وقراءة غير دقيقة لما حدث في أوروبا الشرقية حيث كانت الرغبة في التخلص من الهيمنة السوفيتية أحد أهم دوافع الثورات هناك كما كان التحول في السياسات الخارجية والتحالفات الدولية لهذه الدول أحد أسرع نتائجها.
كان التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل أحد أكثر سياسات الرئيس المصري السابق تعرضاَ للانتقاد من قبل المعارضين له، وهو ما عكسته شعارات المعتصمين التي سبق الإشارة إليها في المقدمة. وقد زاد الدعم الأمريكي - الإسرائيلي لمبارك في بداية الأزمة، واستخدام قوات الأمن ذخيرة وأسلحة أمريكية الصنع لقمع الانتفاضة الشعبية، من غضب المتظاهرين على الدولتين. وعلى الرغم من ذلك لم تحظ هذه السياسة بأية مراجعة نقدية جدية حتى الآن، بل تحول الغضب من الموقف الأمريكي الداعم لمبارك إلى احتفاء بإشادة اوباما البلاغية بالشباب المصري وترحيب بالمسؤولين الأمريكيين الذين زاروا مصر عقب سقوط مبارك. أما الملف الإسرائيلي، فقد تم اختزاله بشكل كبير في قضية إهدار مال عام تتعلق ببيع الغاز بأسعار أقل من مثيلتها العالمية.
وينسجم هذا التحول بما رصدناه في الجزء السابق من الاستمرار في تبني الرؤى الاقتصادية والاجتماعية التي سادت خلال حكم مبارك وعدم القطيعة معها والاكتفاء بمحاكمة رموز عهد مبارك بما فيهم الرئيس وأسرته بتهم فساد. وسنحاول في هذا الجزء تحليل العوامل التي جعلت الأحداث تأخذ هذا المنحى، وطبيعة الهبة الشعبية التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير/ كانون ثاني الماضي والكيفية التي أنهيت بها الأزمة السياسية التي نتجت عنها، بالإضافة إلى عوامل خاصة بالقوى والحركات التي تصدرت المشهدين السياسي والإعلامي في مصر بعد خروج مبارك من الحكم. (6)
تميزت الهبة الشعبية ضد الرئيس المصري السابق بالعفوية الشديدة وعدم تبني خطاب أيديولوجي واضح نتيجة عدم وقوف أي تنظيم سياسي بعينه خلفها، وقد انعكس ذلك في الشعارات التي رفعها المتظاهرون والتي جاءت في مجملها عامة لا تحمل أي مضمون محدد، باستثناء مطلب واحد هو رحيل الرئيس. ولعل ذلك شكل عامل قوة وعامل ضعف في آن واحد، فلم يكن بمقدور أي شعار أيديولوجي أو تنظيم من التنظيمات الموجودة على الساحة أن يحشد ويوحد الملايين التي انتفضت ضد مبارك، وفي المقابل فإن غياب تنظيم سياسي ذي برنامج واضح وقدرة على قيادة الجماهير حال دون استيلاء المتظاهرين على السلطة، على الرغم من الانهيار السريع لقوات الأمن. وربما يمكن القول أنها المرة الأولى في التاريخ التي تنزل فيها الجماهير إلى الشوارع بتلك الأعداد الغفيرة دون أن تستولي قيادتها على الحكم؛ وهو ما أشار إليه أحد أعضاء المجلس العسكري في سياق مقارنته بين ثورة23 يوليو/ تموز 1952 والانتفاضة الأخيرة بقوله "ما حدث في عام 1952 هو بالفعل شرعية ثورية لأن حركة الضباط الأحرار في عام 1952 هي التي قامت بالثورة وهى التي تولت مقاليد الحكم...الآن لدينا ظروف مختلفة فالثورة التي قامت في 25 يناير/ كانون ثاني 2011 ليست هي التي تولت الحكم."
والمفارقة الأكبر في هذا المجال هو أنه لم تجر حتى محاولة للاستيلاء على الحكم واكتفت الجماهير بالاعتصام في الميادين في انتظار إزاحة الجيش لمبارك، وهو ما شكل اعترافاَ بعجزها عن القيام بذلك وحدها بحيث يمكن القول أن ما حدث كان نموذجاً لما وصفه جرامشي بالقيصرية التي تنتج في حال عجز أي من القوتين المتصارعتين عن حسم الصراع لصالحها بما يسمح بتدخل قوة ثالثة تنصب من نفسها قيصراَ على ما تبقى من القوتين وحكماَ بينهما. (7) ويتماشى فهم جرامشي لهذه الظاهرة مع توصيف المتحدث باسم المجلس العسكري لموقف الجيش من المعتصمين والرئيس السابق الذي أشرنا إليه في الجزء الأول، وما أكده في نفس الحديث من أن "القوات المسلحة لا تفرق أو تفضل فئة على أخرى أو ديناَ على دين أو حزباَ على حزب ولكننا نفضل وننحاز للوطن فقط." (8) والأهم، أن توصيف الوضع الحالي في مصر بالقيصرية يساعد على تفسير الطبيعة التوفيقية للإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري حتى الآن، فالمجلس اتخذ من دستور 1971 والذي شكل في آن واحد أساس نظام مبارك - السادات وأحد مصادر شرعية المجلس نقطة الانطلاق لرؤيته الخاصة للفترة الانتقالية، ثم بدأ في إدخال تعديلات عليها مسترشداَ في ذلك بمطالب المعارضة في الماضي القريب. ولما كانت هذه المطالب قد قدمت أثناء وجود الرئيس السابق في الحكم فقد جاءت إصلاحية تركز على تخفيف القيود المفروضة على العمل السياسي والحد من صلاحيات الرئيس، لا جذرية تهدف إلى تغيير توجهات النظام.
وعلى الرغم من تأكيد المجلس العسكري المتكرر على نيته في تسليم السلطة إلى المدنيين إلا أنه من المستبعد خروجه تماماَ من الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد قريباَ، ليس فقط لأن ذلك يتنافى مع الدور المحوري الذي لعبته المؤسسة العسكرية في المجتمع المصري والحركة الوطنية منذ القرن التاسع عشر وخاصة بعد ثورة يوليو/ تموز 1952، ولكن أيضاً لأن ذلك يتعارض مع فهم المجلس العسكري الحالي للدور الذي أناطه الدستور بالقوات المسلحة من حماية البلاد. وإذا كانت المؤسسة العسكرية رأت أن ذلك يتضمن التدخل لوقف خصخصة أحد البنوك، وذلك في ظل وجود مؤسسة رئاسة راسخة يقودها أحد أبناء المؤسسة العسكرية، فأنه من الأحرى أن يتوسع المجلس العسكري في ممارسة هذا الدور الآن وإلى أن تتكون مؤسسات مدنية قوية، وهو ما سيستغرق بعض الوقت. لذا، لن يكون مفاجئا أن يضطر المجلس العسكري إلى لعب دور القيصر -الحكم بين التيارات السياسية المختلفة حتى بعد استلام المدنيين للسلطة، أو أن تستمر العلاقة القائمة حالياَ بين المجلس العسكري وحكومة عصام شرف حتى بعد انتخاب برلمان وتشكيل حكومة جديدة، بحيث يرسم المجلس الإطار العام لسياسات الدولة ويحتفظ لنفسه بحق نقض قرارات الحكومة المدنية، بينما تتولي الحكومة وضع وتنفيذ سياسات لا تتعارض مع الإطار العام الذي حدده المجلس.
حالت الأوضاع الحالية للتيارات السياسية، المعارضة لبعض أو لمجمل سياسات النظام السابق، دون طرح مطالب أكثر جذرية، سواء فيما يتعلق بالمسألة الاجتماعية أو السياسات الإقليمية. إذ أن غالبية مكونات التيار الإسلامي، على سبيل المثال، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، منشغلة بإعادة ترتيب أوضاعها بما يتناسب مع التطورات الحالية على الساحة السياسية والتي وإن منحت للتيار الإسلامي فرصة العمل بحرية وبطريقة علنية لم تتوفرا له من قبل إلا أنها في المقابل وضعته في مواجهة بعض التحديات غير المسبوقة، بحيث أصبح مطالباَ بترجمة شعار الإسلام هو الحل إلى برامج سياسية واقتصادية قابلة للتنفيذ. كما أن غياب القمع الأمني الذي لعب في الماضي دوراَ مؤثراَ في الحفاظ على وحدة الإخوان المسلمين سيرغم قياداتها على التعاطي بطريقة مختلفة مع مطالب الإصلاح التي رفعها العديد من كوادرها لتفادي انشقاقات جديدة عن الجماعة. والتحدي الأخطر الذي سيواجه التيار الإسلامي في المرحلة المقبلة هو التنافس بين أحزابه على الحديث باسم الإسلام، خاصة مع التباين الشديد في مواقفها المعلنة من عدد من القضايا، وهو ما قد يؤدي بمرور الوقت إلى إضعافها جميعاَ. أما أكثر التحديات آنية فهو توجس بعض قطاعات المجتمع المصري من التيار الإسلامي. وزادت بعض تصريحات و ممارسات السلفيين الأخيرة من مخاوف هذه القطاعات، إضافة إلى ترقب الغرب لموقف الإسلاميين من بعض الملفات الداخلية والخارجية. ولم يغب بالطبع عن الإسلاميين المصريين المواقف التي اتخذها الغرب من جبهة الإنقاذ بالجزائر ومن حركة حماس، على الرغم من فوزهما في الانتخابات التشريعية. أدت تلك العوامل إلى وضع التيار الإسلامي في موقع دفاعي معظم الوقت، بحيث اهتم المتحدثون باسمه بنفي تهمة التطرف عن أنفسهم وتأكيد عدم رغبتهم في الاستئثار بالحكم، أكثر من اهتمامهم بطرح بدائل لسياسات النظام السابق؛ بل وذهب الإخوان إلى حد التخلي عن بعض المواقف التي اعتنقوها لسنين طويلة، مبررين ذلك بتأثير تجربة اعتصام التحرير - التي لم تتجاوز ثمانية عشر يوماَ - على توجهاتهم السياسية!
أما التيارين القومي والماركسي، فيعانيان منذ سنوات من التشرذم والصراعات الداخلية، كما خسر التياران الكثير من الكوادر الذين تم استقطابهم من قبل المنظمات غير الحكومية ذات التوجهات الليبرالية. وأثر ذلك بالسلب في قدرتهما على التأثير بفاعلية في توجهات السياسة المصرية خلال هذه المرحلة، على الرغم من الأوضاع المحلية والدولية المهيأة لممارستهما دوراَ محورياَ. فالسياسات الليبرالية الجديدة التي تبناها نظام مبارك أدت إلى إفقار الملايين من المصريين وتركيز الثروة في يد طبقة صغيرة الحجم؛ وكانت أوضاع مماثلة سبباَ في صعود شعبية التيارات اليسارية والقومية في دول أخرى، بل وإلى وصولها إلى الحكم في عدد من دول أمريكا الجنوبية. وجاء الانهيار المالي الذي شهدته دول المركز الرأسمالي في نهاية العقد الماضي ليؤكد النتائج الكارثية لتلك السياسات حتى على الاقتصاديات المتقدمة، ولم يعد هذا الانهيار فقط الاعتبار إلى النماذج التنموية التي تلعب فيها الدولة دوراَ محورياَ وحسب، بل وأثبت عجز الديمقراطية الليبرالية عن حماية المواطنين من تغول ما أسماه الاقتصادي المصري الراحل رمزي زكي بالرأسمالية المتوحشة، وحتى معاقبة الأخيرة عند خروجها على القانون. (9)
وترافق مع تراجع الهيمنة الفكرية لليبرالية الجديدة انحسار الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية نتيجة تصاعد النزعات الاستقلالية عند الكثير من الحكومات في آسيا وأمريكا الجنوبية. وهذه كلها تطورات تصب - ولو نظرياَ - لمصلحة اليسار، بجناحيه الماركسي والقومي، ويجعل تبني المتحدثين باسمه خطاباَ يركز على الإصلاح السياسي ويهمش المسألة الاجتماعية والسياسات الإقليمية، إلى الحد الذي يصعب معه تمييزه عن خطاب القوى الليبرالية، أمراً مثيراَ للدهشة، خاصة وأن الخطاب اليساري تميز تاريخياَ بالربط ما بين تلك القضايا، كما أن مشاركة شبانه في الانتفاضة على مبارك جاءت انطلاقا من مفاهيم معادية للرأسمالية والامبريالية والصهيونية.
أدت الظروف الحالية التي يمر بها الإسلاميون واليسار إلى هيمنة الخطاب الليبرالي على الساحة السياسية المصرية في الثلاثة أشهر الماضية. ويمكن القول أن هذه الهيمنة كانت بين الأسباب الرئيسية وراء تهميش المسألة الاجتماعية والقضايا الإقليمية في النقاشات الحالية. فالخلاف الرئيسي بين القوى الليبرالية ونظام مبارك ينحصر في ملفي الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، أما فيما يتعلق بالتوجهات الاقتصادية والاجتماعية فالاختلاف - إن وجد - يتمثل في معارضة القوى الليبرالية للأسلوب والوتيرة التي تمت بها عمليات الخصخصة وما اعتراها من فساد، لا لسياسات التكيف الهيكلي في حد ذاتها. وبالنسبة للسياسات الإقليمية، فمواقف القوى الليبرالية من الصراع العربي - الصهيوني مثلاَ تتفق مع توجهات نظام مبارك ولا تتجاوز صيغة حل الدولتين، بل إن رموز التطبيع وأعلى الأصوات رفضاَ لخيار المقاومة في مصر تنتمي إلى المعسكر الليبرالي. وقد تمكن الخطاب الليبرالي من فرض هيمنته من خلال قوتين غير حزبيتين، اكتسبتا حضوراَ كبيراَ على الساحة المصرية في السنوات الأخيرة، هما رجال الأعمال ومنظمات حقوق الإنسان. ويسيطر عدد صغير للغاية من كبار رجال الأعمال على ما يطلق عليه في مصر الصحف المستقلة والقنوات الفضائية. ولما كان هؤلاء وغيرهم من كبار رجال الأعمال كونوا ثروات طائلة بفضل السياسات الليبرالية الجديدة التي تبناها مبارك وتحالفاته الدولية؛ بل إن بعضهم كوّن ثروات من خلال علاقات شراكة مع نظرائهم الإسرائيليين، كان من الطبيعي أن يحرصوا على أن يقتصر التغيير على الإصلاح السياسي والأشخاص دون أن يمتد إلي التوجهات السياسية للنظام، وهو ما عبرت عنه دعوة أحد أبرز رجال الأعمال المصريين في اليوم السابق على سقوط مبارك إلي فض اعتصام التحرير والاكتفاء بالخطوات الإصلاحية التي وعد بها الرئيس السابق. (10) ولعبت وسائل الإعلام المملوكة لرجال الأعمال دوراَ كبيراَ بعد سقوط مبارك في دفع النقاش العام في هذا الاتجاه من خلال تخصيص مساحة كبيرة للقوى والشخصيات الليبرالية دون غيرها لطرح أفكارها ورؤاها، وهو ما أدى إلى أن يتركز الجدل على نوع النظام السياسي المناسب للبلاد في المرحلة المقبلة والعلاقات ما بين السلطات المختلفة في المستقبل، وتهميش المسألة الاجتماعية والقضايا الإقليمية والترويج لفكرة أن الانتفاضة على نظام مبارك كانت ذات طبيعة ليبرالية تهدف فقط إلى توفير الحريات السياسية.
وساهمت منظمات حقوق الإنسان من خلال التركيز على الحقوق السياسية والمدنية وتهميش الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على مدى ما يقرب من عقدين في تعزيز حضور الخطاب الليبرالي في مصر. وتملك هذه المنظمات بنية تنظيمية قوية وعدداً كبيراً من الكوادر المدربة، سواء بالداخل أو بالغرب، كما تتوافر لديها قدرات مالية جيدة بفضل التمويل الذي تحصل عليه من هيئات أمريكية وأوروبية، تمكنها من التأثير في الساحة السياسية بشكل يفوق قدرة العديد من الأحزاب والقوى السياسية.
وقد لعبت تلك المنظمات دوراَ هاماَ في كشف وتوثيق انتهاكات الحقوق السياسية والمدنية في عهد مبارك، وإن انتقدها البعض للتعاون مع هيئات تمويل تعتبر من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، مثل الصندوق الوطني للديمقراطية ومؤسسة فورد، (11) وما اعتبره البعض تطبيعاَ من خلال قيام عدد منها بالترويج لما سمى بثقافة السلام والمشاركة في لقاءات مع شخصيات ومنظمات إسرائيلية. ويهدد استمرار هذا التعاون ما بين المجتمع المدني المصري وتلك الجهات بإمكانية إعادة إنتاج بعض سياسات عهد مبارك، أو في الحد الأدنى وضع عقبات أمام محاولات تبني توجهات سياسية جديدة، بطريقة مشابهة لما قامت به منظمات غير حكومية في دول أخرى شهدت انتفاضات شعبية، اقتصر التغيير فيها على إقامة ديمقراطية تنحصر في الفصل بين السلطات المختلفة وتوازنها وتنهي احتكار حزب سياسي بعينه للسلطة مع استمرار الهيمنة الأمريكية والعلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة في ظل الديكتاتوريات السابقة. (12) ولتفادي تكرار هذا السيناريو في مصر من الضروري خلق آليات رقابة شعبية على عمل تلك المنظمات، التي فرضت نفسها كمتحدث باسم المجتمع دون أن ينتخبها أحد ودون أن تمارس الديمقراطية داخلها، ناهيك عن أنواع الفساد المختلفة التي تستشري في الكثير منها. وإذا كان التضييق الأمني الذي مارسه نظام مبارك سبباَ في لجوء هذه المنظمات للتعاون مع جهات ذات تاريخ حافل في خدمة السياسات الأمريكية، بحثاَ عن الدعم المالي والحماية السياسية ومبرراَ لغياب الشفافية والمشاركة الشعبية في عمل تلك المنظمات، فإن تلك الذريعة سقطت الآن وأصبحت تلك المنظمات قادرة إن أرادت على فك ارتباطها بتلك الجهات، كما أصبحت مطالبة بتطبيق معايير الشفافية والديمقراطية والتمكين والمشاركة الشعبية وغيرها من المعايير التي تطالب الآخرين بالالتزام بها.
دشن انقلاب السادات على شركاءه في الحكم ممن وصفهم بمراكز القوى في الذكرى الثالثة والأربعين لنكبة فلسطين في مايو/ أيار 1971 نهجاَ جديداَ في السياسة المصرية في الداخل والخارج. وتكرّس هذا النهج في عام 1974 الذي شهد فض الاشتباك بين الجيشين المصري والإسرائيلي في سيناء وبداية الانفتاح الاقتصادي. وقد توجت زيارة السادات للقدس المحتلة، والتي جاءت في أعقاب انتفاضة شعبية كادت أن تطيح به، هذا التغير، بينما أرسى الصلح المنفرد الذي وقعه السادات في عام 1979 للمعادلة التي ظلت تحكم السياسة المصرية منذ ذلك الحين. قامت تلك المعادلة على الاعتراف بإسرائيل والانخراط في المشاريع الأمريكية للمنطقة مقابل استعادة سيناء، مع وضع قيود على حركة وتسلح الجيش المصري، والحصول على معونة اقتصادية وعسكرية أمريكية. مكنت تلك المعادلة الولايات المتحدة وإسرائيل من التغلغل في الحياة السياسية والاقتصادية المصرية، مستخدمين في ذلك آليات حكومية وغير حكومية، حتى وصل الأمر بأحد الأعضاء البارزين السابقين للحزب الوطني إلى التصريح بأن الرئيس القادم للبلاد لابد أن يحظى بموافقة أمريكية وإسرائيلية.
وعلى الرغم من أهمية ما تم إنجازه في مجال الإصلاح السياسي حتى الآن إلا أنه لم يمس بعد تلك المعادلة التي إذا ما استمرت تحكم السياسة المصرية فسيظل جوهر أية سياسة جديدة - بغض النظر عن النوايا والرغبات - امتداداً لسياسات مبارك - السادات لا قطيعة معها. وفي هذا السياق، فإن من الخطأ المبالغة في اعتبار رعاية الحكومة المصرية للمصالحة بين فتح وحماس مؤشراً على تحول نوعي في السياسة الخارجية المصرية؛ فالمصالحة، وإن عكست انفتاحاً مصرياً جديداً على حماس، إلا أنها تمت على أساس حل الدولتين وتصب في صالح جهود السلطة لإصدار قرار أممي لإنشاء دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 في سبتمبر/ أيلول القادم. (13) ولا يتعارض هذا التوجه مع توجهات نظام مبارك - السادات ولا مع جوهر المعادلة التي سبق الإشارة إليها. من جهة أخرى، لا يعني تغيير هذه المعادلة الدخول في علاقة عدائية مع الولايات المتحدة بالضرورة، وإنما يعني إقامة هذه العلاقات على أسس جديدة لا تجعلها رهناَ للمواقف المصرية من إسرائيل، ويسمح لمصر بأن تطور سياساتها الإقليمية المستقلة، التي قد تتفق مع المصالح الأمريكية في بعض الأحيان وتختلف معها في أحيان أخرى.
وفيما يتعلق بالعلاقات المصرية - الإسرائيلية فإن تغيير تلك المعادلة لا يتطلب إعلان حرب على إسرائيل، كما أنه لن يتحقق فقط عبر مراجعة بعض بنود المعاهدة التي وقعها السادات؛ فمراجعة تلك البنود لن تكون ذات جدوى ما لم يصاحبها إعادة اعتبار للقيم التي انتهكتها تلك الاتفاقية، والاستعداد المعلن لاستخدام كافة عناصر القوة للدفاع عن قيم ومصالح مصر، كما تفعل كل القوى الإقليمية في العالم؛ وهو ما يتطلب بدوره تضافر جهود القوى السياسية ومؤسسات الدولة التي ترى في استقلال القرار الوطني هدفاَ يفوق في أهميته أية مكاسب حزبية أو شخصية لتشكيل كتلة تاريخية تنتج خطاباَ يتجاوز حدود الديمقراطية الليبرالية ويضع حداَ للتغلغل الأجنبي في الحياة السياسية المصرية تحت مسمى نشر الديمقراطية، خاصة في ضوء الكوارث التي نتجت عن النظام السياسي الجديد في العراق الذي شارك في تصميمه كبار منظري الديمقراطية من الأكاديميين الأمريكيين والعاملين في مؤسسات التمويل الذين تتسابق الشخصيات الليبرالية ومنظمات حقوق الإنسان المصرية في الوقت الحالي على الترويج لأطروحاتهم على أنها خريطة طريق تضمن الانتقال الآمن لنظام ديمقراطي. أما التحدي الأكبر الذي سيواجه هذه الكتلة - في حال تشكلها - فسيكون وضع خطط للتنمية لا تقوم على مقايضة دور مصر الإقليمي مقابل استثمارات ومعونات أجنبية كما تم في كامب ديفيد؛ وهو ما سيشكل في حال حدوثه الركيزة الرئيسية لسياسة خارجية مصرية جديدة، يصبح معها من الممكن تطوير تصريحات نبيل العربي بخصوص الانفتاح على إيران وتبني توجه جديد حيال القضية الفلسطينية، بحيث تصبح خياراً جدياً، يتفادى تكرار ما حدث في عهد مبارك عندما ظن البعض أن إعادة العلاقات مع الدول العربية ومنظمة التحرير في بداية عهده ستمهد لقطيعة مع سياسات السادات، وهو ما أثبتت السنوات التالية خطأه.
__________________
حاصل على دكتوراه في الدراسات الدولية
1- للاطلاع، أنظر الروابط التالية: الرابط 1 - الرابط 2
2- أنظر الرابط.
3- أنظر الرابط.
4- تمثل هذه التصريحات بلا شك تغيرا في خطاب الدبلوماسية المصرية، إلا أن من الضروري ملاحظة محدودية هذا التغيير والذي لا يرقى حتى الآن إلى المستوى الذي كان يطالب به معارضو مبارك من إسلاميين وقوميين، مثلا، كما لا يشكل هذا التغير تهديدا وجوديا لإسرائيل كما يدعي بعض الإسرائيليين للتحريض على مصر ووزير خارجيتها الجديد. للدلالة على محدودية هذا التغير انظر تصريحات العربي لجريدة الشروق المصرية، إضغط هنا.
5- لا يتنافى هذا الأمر مع رغبة أغلبية من المصريين في إلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل كما كشف استطلاع رأى أجرى مؤخرا، وإن كان يدل على وجود فجوة بين عدد الذين عندهم فقط رغبة في إلغاء الاتفاقية وعدد الذين يتوافر لديهم بالإضافة إلى الرغبة الاستعداد للضغط لإلغائها.
6- أنظر الرابط.
7- Gramsci, Antonio. Selections From the Prison Notebooks, New York: International Publishers,1971
8- أنظر الرابط.
9- Greider, William, “How Wall Street Crooks Get out of Jail Free” The Nation April 11, 2011, 11-15
10- انظر تصريحات نجيب ساويرس، إضغط هنا.
11- لمعرفة حجم الدعم المالي الذي قدمته هاتان المنظمتان للمجتمع المدني المصري في السنوات القليلة الماضية انظر الروابط التالية:
الرابط 1، الرابط 2، الرابط 3، الرابط 4، الرابط 5.
12- Robinson, William. Promoting Polyarchy: Globalization, US Intervention, and Hegemony. Cambridge: Cambridge University Press, 1996
13- أعلن خالد مشعل في كلمته في الاحتفال بتوقيع المصالحة بأن حماس "تريد دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة"، إضغط هنا.