اختار رئيس الوزراء المصري عصام شرف أن يكون السودان هو أول دولة يزورها بعد تكليفه في إشارة لا تخطئها العين على التوجه الإستراتيجي الجديد لمصر بعد الثورة تجاه عمقها الإستراتيجي المتمثل في السودان خصوصا وأفريقيا ودول حوض النيل عموما.
هذا التقرير يناقش أبعاد ودلالات هذه الزيارة ويستعرض أبرز الملفات التي تم مناقشتها ويرصد أهم النتائج العملية التي تمخضت عنها.
العلاقات المصرية السودانية قبل الثورة
مصر والسودان: لقاء في ظروف انتقالية
الأمن الغذائي الهم المشترك
نتائج ومستخلصات
العلاقات المصرية السودانية قبل الثورة
الصفة التي لازمت العلاقات المصرية السودانية معظم سنوات حكم الإنقاذ هي السوء بدرجات ترتفع فيها وتيرته أحيانا لتبلغ مدى المواجهة العنيفة، وتخبو أحيانا أخرى. |
ورغم التناقض الجوهري في الرؤى، والمواقف، والسياسات، إلا أن الطرفين استطاعا إدارة علاقات ظلت في حد أدنى ظلت متسمة بالهشاشة والاضطراب، وضاعت بسبب تلك الإدارة كثير من المقدرات الإستراتيجية القومية والوطنية عربيا ومصريا وسودانيا، وكان أفدح الخسارات انفصال جنوب السودان، الذي من أسبابه، كما يرى بعض المراقبين، غياب الدور المصري عن الفعل، على المستوى الإقليمي والدولي حيث كان من الممكن إن وظفت مصر وزنها السياسي المهدر الإبقاء على السودان موحدا. بل يرى كثيرون أن مصر اصطفت بقوة مع معارضي الإنقاذ دون التفريق بين خطر حكم الإنقاذ وخطر ذهاب الجنوب في تراجيديا سياسية كما حدث في الاستفتاء الذي اختار بسببه الجنوبيون الانفصال.
مصر والسودان: لقاء في ظروف انتقالية
والآن تأتي زيارة رئيس الوزراء المصري في ظل حالة من السيولة السياسية في البلدين، فرئيس الوزراء المصري وطاقمه الوزاري المرافق له، لا يتعدى مدى فعلهم السياسي أكثر من ستة أشهر، حيث يتولون مسؤولية السلطة في ظل نظام انتقالي، ستنتقل بعده مصر إلى نظام جديد كاستحقاق لنجاح ثورة 25 يناير، أساسه التعددية والديمقراطية، ويحكم فيه منتخبون من أحزاب وقوى سياسية ليست هي التي حكمت مصر على مدى الثلاثين عاما الماضية. وتتهيأ مصر إلى وضع تشريعات لحياة سياسية جديدة، تختلف عن التي مضت من حيث الروح، والرؤى، والسياسات، والأولويات والدور في الإقليم والعالم. وهي فترة ينتظر فيها أن تنتبه مصر لحقيقة وزنها الإقليمي والدولي، من حيث الوعي بقواها الناعمة، واستدراك ما فاتها من دور في عمقها الحيوي جنوبا، وفي إقليمها عربيا وأفريقيا، ودور هي مؤهله له عالميا كما يرى الكثيرون.
والسودان يواجه أيضا وضعا انتقاليا بعدما فقد ثلث مساحته، وربع سكانه بعد القرار القاضي بانفصال الجنوب، وأضحى دولة أصابها كثير من التغيير في وضعها الجغرافي والديمغرافي، وبالتالي مقدراتها الاقتصادية والسياسية، ووزنها الإقليمي. وهي الآن تواجه استحقاق صياغة دستور جديد، مع ما يقتضيه ذلك من متطلبات التطور السياسي لهذه الدولة الجديدة، في ظل انقسام بل تمزق سياسي بين مختلف القوي السياسية والمجتمعية، وفي ظل بيئة غير مواتية للاستقرار محليا وإقليميا، حيث تثور قوى جهوية في الغرب وتضطرب أخرى في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ضد الحكومة المركزية، وإقليميا حيث تثور قوى المعارضة العربية وتسقط حكومات بذات معطيات الوضع السوداني، وتنشئ نظما ديمقراطية، وهي حالة تتشوق لها جماهير الشعب السوداني، وتتجدد دعوات الشباب عبر المواقع الاجتماعية على شبكة الإنترنت للحاق بركب القوى العربية التي أطاحت بحكوماتها. وإن كان تصرف الحكومة المصرية المؤقتة يتسق مع الشعور بكونها محدودة التفويض فإن حكومة الخرطوم بالرغم من ذلك لا ترى نذرا تهدد استمرارها.
وقع نائب الرئيس السوداني علي عثمان محمد طه، ورئيس الوزراء المصري عصام شرف على ثمان اتفاقيات في مجالات الإعلام والثقافة والبيئة والاستثمار خاصة في ما وصفاه بمشروعات الأمن الغذائي، بالتركيز على الحبوب الزيتية، وإنتاج القمح والسكر والأرز واللحوم، ومذكرات تفاهم بين البنكين المركزيين في كل من مصر والسودان بالإضافة إلى توقيع مذكرات للربط الكهربائي. وأكد الطرفان على الأهمية الإستراتيجية للعلاقة بين البلدين فقد قال طه: "إن علاقات السودان بمصر علاقات إستراتيجية، لا تؤثر فيها تقاطعات الأحداث"، بينما وصفها رئيس الوزراء المصري عصام شرف قائلا: "إن العلاقة إستراتيجية، والإطار هو التنمية المتكاملة، والوسيلة هي المصارحة والإصرار على تخطي العقبات، والوصول لما يرضي الشعبين".
بالطبع الخطوة والتعبير عنها ينمان عن وعي عميق بالتكامل الاستراتيجي بين البلدين، فالموارد الطبيعية الهائلة، وخاصة الزراعية في السودان في حاجة إلى الإمكانات والخبرات المصرية، ليتكامل تفاعل المعطيات وللخروج من عنق الزجاجة، والمأزق التنموي هو، وإلى حد كبير، الذي أقعد البلدين، إذ تشير قراءة بعض الخبراء إلى أن من أسباب غياب الدور المصري إقليميا وعالميا رضوخها للضغط الاقتصادي الغربي، حيث تتلقى القمح –الغذاء الرئيس لشعبها- بشروط اقتصادية وسياسية قاسية، والسودان يدرك هذه الحقيقة ويدرك عجزه عن استثمار موارده الطبيعية، والطرفان على دراية تامة بأن السبيل لتحرير القرار السياسي يمر بتحرير القرار الاقتصادي. ولكن المشكلة أن الشعوب ضعيفة الثقة في مثل هذا الكلام، وخاصة بين الدول العربية، لكثرة ما تردد دون أن يتبع الكلام المحض إجراءات عمل ومشروعات يمكن الإمساك بنتائجها العملية، ودائما ما لا ينظر الإنسان في مصر والسودان لمثل هذه الاتفاقيات بجدية تعيد الثقة المفقودة لكثرة ما وقعت مثل هذه الاتفاقيات في أزمان مختلفة، فقد سبق لنظام النميري أن وقع مواثيق التكامل المصري السوداني، وسارت على الدرب كثير من الحكومات، دون أن يحصد مواطنو البلدين شيئا فهل يمكن أن نرى شيئا مختلفا هذه المرة؟
هناك ملفات هامة خضعت لنقاشات مستفيضة حسب مصادر الطرفين أهمها:
1- الملف الأمني: تعاني البلدان حاليا من أواضع أمنية غير مستقرة، فمصر لا تزال تعيش تداعيات انهيار جهاز الشرطة إبان الثورة، وتشكل الجبهة الليبية المفتوحة على الحدود الغربية لها بابا من العواصف يحتاج إلى الحذر، والسودان يعيش على وقع الاضطرابات الأمنية الناجمة عن المشكلات المستعصية في دارفور، كما تتشكل الحدود السودانية المصرية من جهة الشرق مصدرا للفلتان الأمني أيضا وقد تجلت مظاهر ذلك مؤخرا بمحاولات تهريب الأسلحة والبشر ولا يزال الجدل حول وجهتها لم يحسم بعد.القاهرة في عهد مبارك كانت لا ترى في الخرطوم إلا نظاما أصوليا يعمل في اتجاه يعاكس جذريا نظريتها ومسلكها السياسي، تجاه كل الملفات التي تطلع بها في المنطقة وفي العالم.
والوضع في السودان أكثر خطورة على ضوء الانفصال الذي لا يزال عدائيا مع الجنوب، وما خلفته اتفاقية نيفاشا من مهددات، سواء في جنوب كردفان أو في جنوب النيل الأزرق، حيث عشرات الآلاف من المسلحين من أبناء هذه المناطق في صفوف جيش الحركة الشعبية، ووضع المنطقتين الغامض بشأن ما يمكن أن تفضي إليه إجراءات المشورة الشعبية فيهما، فضلا عن التهديد الذي تحمله أزمة أبيي المتنازع عليها، والتي كانت ميدانا لحرب بين الجيش الشعبي والسوداني في مايو/أيار من العام 2008م .
2- ملف مياه النيل: الذي يشهد حراكا متسارعا على ضوء الاتفاق الذي وقعته خمس دول من دول المنبع ولحقت به السادسة (بروندي) مؤخرا بهدف مراجعة اتفاقيات 1929 واتفاقية 1959 بين دولتي المصب مصر والسودان. وفي ظل ما هو متوقع من أثر للسدود الأربعة التي يجري إنشاؤها في منابع النيل الأزرق الرئيسية التي تمد مصر بـ 85% من حاجتها من المياه، وأثر كل ذلك على حصة مصر والسودان، وكذلك أثر انفصال الجنوب الذي أوجد دولة جديدة لها حاجاتها المائية، ويتوقع أن تنزع سياسيا نحو الاصطفاف مع دول المنبع في مواجهة دولتي المصب مصر والسودان.
كل ذلك يقتضي حوارا دار في الخرطوم وحمله معه رئيس الوزراء المصري إلى جوبا، التي استكمل بها زيارة السودان، وإن كان الحوار مع الخرطوم يجري على أرضية التحالف معها باعتبار الشراكة في صفة دول المصب، وباعتبار تشابك المصالح المتعددة الأبعاد، فإن الحوار مع جوبا عاصمة دولة الجنوب الوليدة يقوم أساسا على استكشاف النوايا، وقراءة بوصلة التفكير تجاه هذه القضايا الحساسة.
ويستصحب الحوار إمكانية استكمال مشروع قناة جونقلي، الذي قطع شوطا بعيدا في التنفيذ بتمويل وتنفيذ مصري، وتوقف تحت ضربات حركة الجيش الشعبي الذي كان يقوده جون قرنق في عام 1984. وقد أصبح الجيش الشعبي حاكم دولة الجنوب الجديدة وكان من المقدر أن يضيف هذا المشروع أربعة مليارات متر مكعب من المياه لنصيب دولتي المصب. وقد وقعت وزارتا الري في كل من مصر وجنوب السودان برتوكولا، يقدم به المصريون عونا لتطهير مجاري بعض الأنهار في بحر الغزال، والتزمت حكومة الجنوب بعدم المس بنصيب مصر وفق اتفاقية 1959 حيث أنها تنال نصيبها من حصة السودان.
وفي جوبا أعلن الوفد المصري أنه سيعترف بدولة الجنوب وأكد اعتزامه مدها بعون مقدر في مجالات كثيرة، وخاصة الطاقة الكهربائية، إلا أنه لم يصدر شيء من الطرفين المصري والجنوبي يختص بمشروع جونقلي والموقف الجنوبي مما يحدث في منابع النيل. وكما تسرب عن حكومة الشمال فإن ما جرى بين الجنوبيين والمصرين تم بموافقة الشمال ورضاه.
3- ملف حلايب: ظل ملف حلايب مفتوحا منذ 1956م حيث انفجرت المشكلة للمرة الأولى حين أراد الرئيس عبد الناصر تضمين المنطقة في الاستفتاء على الوحدة مع سوريا وتزامن مع ذلك انتخابات سودانية محلية، وتواجهت قوتا البلدين عسكريا غير أن عبد الناصر زعيم الوحدة العربية وقتها نزع فتيل الأزمة بأمر الجيش المصري بالانسحاب. وظلت الأزمة كامنة تتجدد من حين إلى آخر حتى عام 1992 حيث سيطرت القوات المسلحة المصرية على حلايب فتقدمت الحكومة السودانية بمذكرة إلى مجلس الأمن تجددها سنويا إلى اليوم، في حين ترفض السلطة المصرية مجرد الحوار حولها باعتبارها قضية سيادة، ولما كان التحكيم الدولي يقتضي موافقة الطرفين، فإن السبيل إليه يمر بموافقة مصرية ممتنعة. وقد فتح هذا الملف في زيارة الوفد المصري لكن الطرفين لم يتوصلا إلى حسم أو حل نهائي فيه واكتفيا بالتعبير عن تواجد وتوفر الإرادة السياسية للحوار والحل عنها الطرفان بعمق.
وعلى كل فإن المراقب يمكن أن يستخلص خمس نتائج لهذه الزيارة:
الزيارة كانت تعبيرا سياسيا مباشرا وقويا عن الرغبة في فتح صفحة جديدة للتعاون بلا سقف، وخاصة في مجال استثمارات الأمن الغذائي والتي كانت تتعثر استجابة لضغوط أمريكية عبر عنها الرئيس حسني مبارك حين طلب منه الرئيس البشير الاستثمار الواسع لإنتاج القمح في شمال السودان غير أن رد الرئيس مبارك يومها كان "إن أمريكا لن توافق".الطرفان السوداني والمصري على دراية تامة بأن السبيل لتحرير القرار السياسي يمر بتحرير القرار الاقتصادي. - هناك توافق كبير خرج به الطرفان في الرؤية حول القضايا الإقليمية خاصة الوضع الصومالي والفلسطيني وربما الإيراني، وهي ملفات -وخاصة الأخيران- كانت محل اختلاف بين البلدين على عهد النظام المصري السابق.
- اتفق الطرفان على الموقف من حكومة الجنوب الوليدة، وعلى جعل الجنوب جزءا من منظومة التوافق الإقليمي, ومساعدة الجنوبيين على تأسيس دولتهم.
- اتفقا على رفع مستوى الإدارة والتشاور بين مصر والسودان إلى مستوى وزراء الخارجية في البلدين، وهي المرة الأولى التي ينتقل فيها شأن العلاقات مع السودان، من جهاز المخابرات إلى وزارة الخارجية المصرية، وهو تقدم مهم يشي بتجاوز الهواجس الأمنية إلى أفق التوافق الاستراتيجي بين البلدين.
- لم يحدث تقدم ملموس يستحق الإعلان عنه في قضايا الحريات الأربع (التنقل، الإقامة، العمل، التملك) التي يتعثر تطبيقها في الجانب المصري بالرغم من تكرار شكوى السودان من ذلك. وربما يكمن وراء ذلك التخوف المصري من الهجرة عبر مصر إلى إسرائيل وما وراء البحار وما يترتب عليها من مضاعفات وتداعيات أمنية.
____________________
مدير مكتب الجزيرة في الخرطوم