أوروبا أمام الثورة الليبية: اتحاد بمواقف متضاربة

على الرّغم من وجود وزيرة خارجيّة أوروبية رسميّة يفترض أن تعبّر عن مواقف أوروبا وهي كاترين آشتون، فقد ظل الاتّحاد الأوروبي بالنسبة لليبيا الخاسرَ الأكبر لاختلاف وجهات نظر أعضائه، وبدا الأوروبّيون بعيدين عن اتخاذ موقف واحد.







 

براء ميكائيل


على الرغم من أنّ الأفق الليبي لم يكشف بعد عن ما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف، فقد باتت هناك العديد من المؤشّرات والوقائع الّتي نستطيع أن نستخلصها انطلاقاً من مجريات سيناريو العمليّات العسكريّة الّتي استهدفت البلاد بعد تبنّي مجلس الأمن للأمم المتحدة قراره رقم 1973.


ولعلّ الموقف الأوروبي من التطوّرات الليبيّة يعدّ أفضل دليل على محدوديّة المفهوم القاضي باتّفاق الغرب المسبق على تطوير إستراتيجية جماعيّة إزاء المنطقة العربيّة بشكل عام. فعلى عكس ما توحي به الأمور أحيانا، بدت التطوّرات الليبيّة وكأنّها مرآة معبّرة عن حجم الفجوة القائمة بين العديد من الدول الغربيّة بشكل عام والأوروبيّة بشكل أخص. ولعلّ المسار الّذي قاد كلاّ من فرنسا وألمانيا إلى محاولة التعامل الأكثر ملاءمة مع المعضلة الليبيّة يعدّ من أفضل المؤشّرات على هذا الواقع، غير أنّ هذا المثال بحدّ ذاته ما هو إلا جزء من مسألة أكبر وأهمّ تعود اعتباراتها إلى مزيج من العناصر المتّصلة بتمسّك بعض القادة بنيل مرتبة هامّة حيناً وعدم توافق وجهات نظر بعض القادة السّياسيّين حيناً آخر.


فرنسا والبحث عن الريادة
ألمانيا وسياسة كبح فرنسا
بريطانيا الوفيّة للولايات المتّحدة
إيطاليا والتأرجح بين الاعتبارات الشّخصيّة والإستراتيجية
أوروبا أمام سؤال الوحدة


فرنسا والبحث عن الريادة 





لعلّ الموقف الأوروبي من التطوّرات الليبيّة يعدّ أفضل دليل على محدوديّة المفهوم القاضي باتّفاق الغرب المسبق على تطوير إستراتيجية جماعيّة إزاء المنطقة العربيّة بشكل عام.
منذ أن تولّى نيكولا ساركوزي الحكم عام 2007 بات من الصعب معرفة ما إذا كانت السّياسة الفرنسيّة تحبّذ مصلحة البلاد بحدّ ذاتها أم أنها أصبحت تعبّر عن هوى ووجهات نظر واعتبارات الرّئيس الشخصيّة. فعلى عكس ما كان قائماً أثناء فترات الحكم الرئاسيّة الّتي سبقته، بدا ساركوزي وكأنّه حوّل اعتباراته وقناعاته الشخصيّة إلى محور أساسي لسياسته الخارجيّة. ومن الأدلة على ذلك أمثلة كثيرة منها تقلّبات موقفه من الملف السّوري أثناء السنة الأولى من حكمه، وقراره إطلاق مشروع الاتّحاد من أجل المتوسّط دون أخذ وجهات نظر نظرائه الأوروبيين والشرق أوسطيين بعين الاعتبار، وكذلك تمسّكه بتطوير علاقات وطيدة ومتينة مع القائد الليبي معمّر القذّافي دون تحديد أي شروط مسبقة تجعل القذّافي يحذو حذوها.

ومن هذا الأساس فقد بدا الإصرار الفرنسي على اعتماد لهجة وموقف شديدين إزاء القائد الليبي متناقضاً والمجرى المنطقي المفترض للأمور. فساركوزي الّذي كان قد دافع سابقاً عن الرّئيسين التونسي بن علي والمصري مبارك، ها هو يحبّذ فجأة التدخّل المباشر في الشّؤون الليبيّة. وقد يفسّر التشدّد هذا بمثابة وضع أراد عبره الرّئيس الفرنسي التّعديل من موقفه السّابق الموالي لبن علي ومبارك والّذي انتقده الكثيرون من خصومه السّياسيّين بشدّة، خصوصاً بعد أن اتّضح أن سقوط هذين الرّئيسين أضعف من موقع حلفائهم السياسيّين التقليديّين. غير أنّ ثمة اعتبارات سياسيّة وإستراتيجية بحتة تفسّر أيضا خصوصيّة الموقف الفرنسي من ليبيا القذّافي.


أبرز ما في القضيّة هو أنّ الرّئيس الفرنسي أراد الانفراد في بادئ الأمر بضربة استباقيّة تتيح له البروز كقائد لبلد رائد في مجال مواكبة التغييرات الواقعة على السّاحتين الشّمال-أفريقيّة والشّرق-أوسطية، خصوصاً وأنّ فرنسا تعدّ من أكثر الدول الغربيّة المعنيّة بهذه التطوّرات: سواء لدواع تاريخيّة (دورها أثناء فترتي احتلال شمال أفريقيا والانتداب) أو سياسيّة وإستراتيجية (قربها الجغرافي من المنطقة وإصرار دبلوماسيّتها منذ زمن بعيد على لعب دور فعّال فيها). ويضاف إلى ذلك نوع من الفصام "الشيزوفرنية" الّتي طالما ميّزت ساركوزي منذ تسلّمه الرّئاسة الفرنسيّة، إذ انّه لم يخف منذ البداية وحتّى في عهد الرّئيس السّابق جورج دبليو بوش إعجابه الشديد بأميركا ومؤسّساتها وأطوارها السياسيّة الداخليّة، وكذلك دورها السّائد في مجال العلاقات الدوليّة. ولكنّه بدا في الوقت نفسه وكأنّ الذهول هذا رافقته عقدة نقص من قبل الرّئيس الفرنسي الّذي آمن وما زال يؤمن بقدرة بلاده على اللعب في "ساحة الكبار". ظهرت حينئذ فرنسا وكأنّها البلد المتمسّك بخلق حركة وحيويّة تحاول عبرها جرّ نظرائها الغربيّين والأوروبيين والعرب وكلّ من كان له شأن في التطوّرات الليبيّة وراءها، وذلك من أجل إنجاز ما تحبّذه من مواقف لدعم الثوّار الليبيّين المناهضين للقذّافي.


وهكذا تبلور الموقف الفرنسي عبر دور مجلس الأمن للأمم المتّحدة الّذي أتى بالقرارين 1970 و1973 سامحاً بتطوير إستراتيجية عسكريّة كانت غايتها الرسميّة الأساسية حماية المدنيين الليبيين من ضربات وأفعال القذّافي. وقد حاولت فرنسا الظهور وكأنّها قائدة العمليّات هذه سواء عبر شنّها ضربات على الأراضي الليبيّة أم عبر اعترافها بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي ممثلا رسميا لشؤون الشّعب الليبي. ولكن هذه الاعتبارات عامّة لم تمنع ساركوزي من التنبّه لواقع الأمور. فمع طبيعة التطوّرات الّتي ظهرت في ليبيا اضطرّت فرنسا إلى الحدّ من دورها لصالح حلف الناتو وهو وضع تحبّذه الولايات المتّحدة حرصاً منها على التخفيف من دورها وأدائها الشخصيين دون السّماح لساركوزي بتسليط الأضواء عليه. أما الرّئيس الفرنسي فقد بدا سريعاً وكأنّه أحد أكبر الخاسرين جرّاء هذا الوضع إذ أنّ ضعف موقفه السّياسيّ رافقته أزمة عبّرت عنها وجهات النظر المختلفة الّتي نبعت من قبل بعض نظرائه الأوروبيين وعلى رأسهم الجارة ألمانيا.


ألمانيا وسياسة كبح فرنسا 


طالما عرفت العلاقة الفرنسيّة الألمانية بأنّها المحرّك الأساسي والبنيوي للحيويّة الأوروبية بمجملها. وقد كان من أبرز العلامات على ذلك طبيعة العلاقات الّتي توطدت بين كلّ من فرانسوا ميتران وهلموت كول من جهة، وجاك شيراك وغيرهارد شرودر من جهة أخرى، فالمصالح المشتركة الّتي اتّفق عليها البلدان وكذلك الودّ الكبير الّذي جمع كلا من هؤلاء الزعماء السياسيّين كان لهما دور كبير في دفع النموذج الفرنسي الألماني إلى قيادة الساحة الأوروبية، وإقناع أغلب دول الاتّحاد الأوروبي بأنّ مصلحتهم يكمن كثير من عناصرها في صحّة ومتانة الثنائي هذا.


غير أنّ ثمة تغيير جذري أتى وعدّل من هذا الواقع المتّفق عليه. وقد نتجت أكثر التعديلات انطلاقاً من التعكير النسبي للأجواء الّذي تلى استلام نيكولا ساركوزي الرّئاسة الفرنسيّة. فكلّ من ساركوزي وإنجيلا ميركل يتميزان بشخصيّة قويّة ويتمسك كلّ منهما بسياسات يصعب في الكثير من الأحيان التوفيق بينها. وقد عبّرت الفترة التمهيدية لإقامة الاتحاد من أجل المتوسط عن مدى الشرخ القائم بين البلدين، إذ بدا ساركوزي وكأنّه يريد أن يتصرّف لوحده ويصون على هواه طبيعة العلاقات الأورومتوسطية، بينما اعتبرت ميركل أنّه ليس من حقّ فرنسا أن تقرّ بنفسها، ودون استشارة أعضاء الاتّحاد الأوروبي مسبقاً، تفاصيل قضيّة جوهريّة كهذه. غير أن مجرى الأمور سار بالنهاية لصالح الرئيس الفرنسي الذي استطاع أن يجمع بين أغلب دول الاتّحاد الأوروبي، فدشّن مشروع الاتّحاد من أجل المتوسّط انطلاقا من باريس في شهر يوليو /تموز 2008.


لكن ثمة اختلاف جذري سيطرح نفسه في الواقع مع بداية سنة 2011 وبروز المعضلة الليبيّة. فقد رفضت ألمانيا في بداية الأمر الانجرار نحو الموقف الفرنسيّ المحبّذ لتدخّل عسكري في ليبيا من أجل حماية المدنيين وصدّ سياسة معمّر القذّافي الهادفة إلى ترسيخ موقعه السياسي الشخصي. ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ هذا لم يعن بتاتاً أنّ ألمانيا كانت تعتبر أنّ على المجتمع الدوليّ الوقوف مكتوف الأيدي أمام ما يجري في ليبيا. فعلى العكس من ذلك، كان الموقف الألماني واضحاً من القضيّة الليبيّة انطلاقاً من فكرة أنّ سياسة القذّافي المتّبعة إزاء معارضيه هي سياسة تعسفيّة لا مبرّر لها وينبغي من ثمّ إيقافها عند حدّها.





كان الموقف الألماني واضحاً من القضيّة الليبيّة انطلاقاً من فكرة أنّ سياسة القذّافي المتّبعة إزاء معارضيه هي سياسة تعسفيّة لا مبرّر لها وينبغي من ثمّ إيقافها عند حدّها.
غير أنّ ما أثار انزعاج الدبلوماسيّة الألمانية هو محاولة فرنسا جرّ غيرها من الدول الأوروبيّة وغير الأوروبيّة إلى إستراتيجية من صنعها الشّخصي. فعلى الرّغم من ضرورة التدخّل في شؤون ليبيا من أجل حماية المدنيّين، انزعجت ألمانيا مما بدا وأنّه مخطّط تحاول عبره فرنسا استغلال ظرف إنساني من أجل تمتين مكانتها السياسيّة والإستراتيجية والبروز كالمنقذ الأساسي لليبيّين. ومن ثمّ أتى قرار ألمانيا الامتناع عن التصويت لصالح القرار 1973 للأمم المتّحدة القاضي بضرورة حماية المدنيّين الليبيين عبر كلّ الوسائل المشروعة، وتكون على هذا الأساس قد لجأت إلى إستراتيجية ظهرت عبرها وكأنّها هي اللاعب الأساسي في العلاقات الدوليّة الّذي أراد أن يلفت الانتباه إلى تحبيذ حلول أخرى دون أن يعني ذلك أنّه على استعداد لعرقلة قرارات نابعة عن اتّفاق واسع بين العديد من ممثّلي المجتمع الدوليّ. وتكون إذاً ألمانيا قد استطاعت هنا ضرب عصفورين بحجر، إذ أنها بدت من ناحية وكأنّها البلد المستقلّ القرار الّرافض للانصياع إلى مواقف ترتضيها الأغلبية، ومن جهة أخرى ثمة اعتبارات داخليّة ومتعلّقة بعدم تحبيذ الرّأي العام الألماني اللجوء الآلي للحلول العسكريّة، وبحث إنجيلا ميركل عن شعبيّة إضافيّة.

بريطانيا الوفيّة للولايات المتّحدة 


لكنّنا قد نكون من المخطئين إذا ظنننا أن تبلور الموقفين الفرنسي والألماني إزاء القضيّة الليبيّة يكفي وحده لفهم مجمل الآليّات والمعادلات المطروحة على الساحة الأوروبيّة. فثمة مؤشّرات أخرى تلقي الضوء على بعض الخصوصيّات المتواجدة على مستوى الاتّحاد الأوروبيّ، من ضمنها الدور المنفرد الّذي اعتادت أن تلعبه بريطانيا.


لقد بدا واضحاً منذ زمن بعيد أنّ للدبلوماسيّة البريطانيّة خصائصها المتناقضة نسبيا مع المصلحة الإستراتيجية الأوروبيّة. ولعلّ من أبرز الأدلة على هذا الوضع غزو العراق في عام 2003، حين قرّرت بريطانيا الانتساب لخطّة أسستها حينذاك إدارة الرّئيس الأميركي جورج دبليو بوش، وانصاعت لها أيضا في هذه الأثناء أسبانيا، فبرز مجدداً مدى وحجم الفجوة القائمة بين دول الاتّحاد الأوروبيّ. ويبدو واضحاً هنا أنّ عدم قدرة الأوروبيين على الاتّفاق حول رؤى إستراتيجية جماعيّة هو الّذي يتيح لكلّ منهم التصرّف على هواه فيما يخصّ الكثير من القضايا الدوليّة، غير أنّه ومن ناحية أخرى فقد بدا واضحاً منذ زمن طويل أنّ بريطانيا لا تكنّ اهتماماً بالغاً لضرورة إيجاد وحدة صفّ أوروبية. فالقلب البريطاني لطالما مال لصالح القطب الأميركي المهيمن، ومن ثمّ قلّت المناسبات الّتي تبيّنت عبرها قدرة البريطانيّين على تطوير رؤى ووجهات نظر تحبّذ المصالح الأوروبية وتفضّلها على التوجهات الأميركية.


ومن هذا المنطلق لم يكن من العجيب أن تنصاع بريطانيا لخطّة تحبّذ التدخّل العسكري في الشؤون الليبية. وإذ عبّر هذا الوضع عن مشروع وفكرة كانت فرنسا أول من شجّعها فقد بدا للبعض أنّ العلاقة الفرنسيّة البريطانيّة باتت حينئذ أكثر ملائمة مع وجهات نظر اليميني نيكولا ساركوزي خصوصاً بعد أن خلفت اليساريّ توني بلير حكومة بريطانية يمينية. ولكن يبقى هذا الافتراض أقلّ واقعيّة ومنطقاً لمن يعي طبيعة المسار الّذي سلكته بريطانيا خلال الخمسين سنة الماضية، إذ ما زالت لندن مقتنعة بأنّ سلامة مصالحها وخياراتها الإستراتيجية تمرّ عبر خانة واشنطن فقط لا غير. وبعبارة أخرى، فبريطانيا لا تكنّ أهمية مبالغ بها تجاه القرارات والأولويات الفرنسيّة سواء حكمها يساريّون أم يمينيّون. ففي عام 2004 مباشرة بعد قرار القذّافي الرّسمي الامتناع عن تطويره أي نوع من أسلحة الدمار الشامل الممنوعة، هرع توني بلير إلى طرابلس وكان من أول المؤكّدين على انفتاح أفق جديد للعلاقات الليبيّة الغربيّة إلى جانب بلدان كفرنسا وإيطاليا. غير أن التحرّك الدبلوماسي البريطاني هذا كان من الصّعب عليه أن يتبلور لولا موافقة إدارة الرئيس بوش عليها. فالولايات المتّحدة لم تكن راغبة آنذاك في استعجال الأمور والبعث الفوري بوفود رفيعة المستوى إلى طرابلس، غير أنها لم تمانع فكرة إعطاء ضمانات للنظام الليبيّ. ومن هذا المنطلق ظهر فتح المجال البريطاني الليبيّ وكأنّه ترجمة لتموضع جديد لواشنطن تجاه العقيد القذّافي، غير أن هذه الآليّة الغير مثمرة بمجملها ما برح أن حانت ساعتها فخلفها وضع تبلور في ربيع 2011 في إلقاء بريطانيا القنابل على ليبيا بناء على إستراتيجية أملتها الولايات المتّحدة عليها باسم علاقتهما الخاصّة.


إيطاليا والتأرجح بين الاعتبارات الشّخصيّة والإستراتيجية 


وأخيرا وليس آخراً، تكمن في الوضع الايطالي بعض العناصر والحقائق الّتي تشير أيضا وبشدّة إلى مدى الأزمة الواقعة على الصعيد الأوروبي. ففي إيطاليا وضع يشبه بعض الشيء الحالة القائمة في فرنسا إذ تتبلور الآليّة الدبلوماسيّة للبلاد عبر قرارات يعبّر معظمها عن اعتبارات وقناعات رئيس الوزراء سيلفيو برلوسكوني الشّخصيّة. ومن الأدلة على ذلك موقف إيطاليا الأول حينما صرّح برلسكوني بأنّه لا ينوي التصرّف إزاء ليبيا أو التعليق على الوضع القائم بها حرصاً منه على عدم إحراج القذّافي. غير أنّه ومع تفاقم الوضع في ليبيا فقد اضطرّ رئيس الوزراء الايطالي إلى اتّخاذ موقف من بلاد أقام علاقات وطيدة معها ولا يفصل بين إيطاليا وبينها إلا البحر الأبيض المتوسّط. ويضاف إلى ذلك الصعوبة الّتي تواجه برلسكوني لو أنّه حبّذ اجتناب دعم الإستراتيجية المدعومة من قبل الأمم المتّحدة في ظرف كهذا؛ ومع العلم بأنّ قرب إيطاليا الجغرافي من ليبيا يعطي لها أهمية فيما يخصّ إمكانية الاستفادة من قواعدها لتزويد الطائرات المستهدِفة لليبيا وضمان مجال انطلاق قريب لها. ومن ثمّ فقد قرّر رئيس الوزراء الإيطالي اعتماد نوع من البراغماتيّة وفضّل كسب الولايات المتّحدة وحلفائها ولو كان ذلك على حساب طبيعة علاقاته بالقذّافي، فكان ما كان. غير أنّه من المهمّ الإصرار مجدّداً هنا على أن موقف ايطاليا برّرته حسابات البلاد تجاه الولايات المتّحدة لا تمسّكها بموقف يعبّر إلى حدّ ما عمّا يريده أغلب الأوروبيين. فبرلسكوني أيضا قلّما عرف عنه أنّه متمسّك بإيجاد سبل تعزّز من دور الاتّحاد الأوروبي ومكانته وقدرته على البروز كلاعب أساسي في العلاقات الدوليّة. بل على العكس من ذلك فقد امتثلت أغلب قراراته لما بدا له متوافقاً ومصلحة بلاده سواء كان هذا انطلاقاً من اعتبارات دوليّة أم إقليميّة أو حتّى سياسيّة داخليّة.


أوروبا أمام سؤال الوحدة 





القلب البريطاني لطالما مال لصالح القطب الأميركي المهيمن، ومن ثمّ قلّت المناسبات الّتي تبيّنت عبرها قدرة البريطانيّين على تطوير رؤى ووجهات نظر تحبّذ المصالح الأوروبية وتفضّلها على التوجهات الأميركية.
في نهاية المطاف يبدو وكأنّ الاتّحاد الأوروبي ما زال هو الخاسر الأكبر جراء كلّ التناقضات واختلاف وجهات النظر القائمة بين أعضائه، وقد أعطت الحالة الليبيّة الّتي ما زالت قائمة حاليّاً مؤشّرات عدّة على بعد الأوروبيّين كلّ البعد عن قدرتهم على اتخاذ موقف واحد والتكلّم بصوت جماعي. ومن المفارقات أن هذا الوضع ما زال سارياً اليوم على الرّغم من وجود وزيرة خارجيّة أوروبية رسميّة يفترض أن تعبّر عن مواقف الدبلوماسية الأوروبية وهي كاترين آشتون. ولكن يبقى السؤال: هل ستؤول الأمور إلى تغيير جذري على المدى المتوسّط أو البعيد بعد أن أصبح هناك للاتّحاد الأوروبي كرسي رسمي في قاعة الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة؟ الأمل مشروع ومعقول هنا بالطبع. فبالرّغم من أن الاتّحاد الأوروبي ما زال غائباّ عن القضايا السياسيّة والإستراتيجية الهامّة المعاصرة، غير أن الأوروبيين سلكوا طريقاً طويلاً منذ أن قرّروا تأسيس بنية مشتركة في خمسينيّات القرن الماضي استطاعوا عبرها تكوين هيئة رسميّة ذات قدرات ماليّة هائلة. أما إمكانية تحويل هذه الموارد إلى قدرات سياسيّة فعّالة فهو افتراض ما زال الشكّ يشوبه، غير أن التأكيد الملح من عدد متزايد من السياسيّين الأوروبيين على ضرورة الخروج من هذه الخصوصيّة الغير بنّاءة لا بدّ له أن يؤدّي إلى تغييرات جذريّة عاجلاً أم آجلاً، حتى وإن بقي السّؤال هنا هو: كيف إذاً؟
_________________
مدير أبحاث في شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا الشماليّة في المعهد الأوروبي للعلاقات الدوليّة والحوار الخارجي (FRIDE)





نبذة عن الكاتب