تسعى هذه الورقة إلى مقاربة ما يجري من تحولات جيوبوليتيكية على رقعة الشطرنج الإقليمية إثر الثورات العربية، وانعكاسات ذلك على سياسة كل من اللاعبين الإقليميين الأكثر أهمية في المنطقة العربية أي تركيا وإيران، وعلى مصالحهما ونفوذهما كما على طبيعة وشكل ومستقبل العلاقة بين البلدين في ضوء هذه التحولات، وذلك من خلال النقاط التالية:
- الثورات العربية من المنظور التركي والإيراني
- الثورات العربية وانعكاساتها على مصالح البلدين
- انعكاسات الثورات على العلاقة بين البلدين
الثورات العربية من المنظور التركي والإيراني
تحمل كل من إيران وتركيا رؤية خاصة للمنطقة تتلاءم مع توجهات السياسة الخارجية لكلا البلدين وبما يخدم الإستراتيجية الكبرى لكل منهما. ومن الطبيعي ضمن هذا السياق ووفق هذه المعطيات أن تنعكس رؤية كل منهما على طبيعة فهمهما لما يجري في العالم العربي، وما يتمنيان ويسعيان إلى أن ينتج عنه.
تحمل كل من إيران وتركيا رؤية خاصة للمنطقة تتلاءم مع توجهات السياسة الخارجية لكلا البلدين وبما يخدم الإستراتيجية الكبرى لكل منهما. |
أمّا على الجانب الإيراني، وباستثناء الحالة السورية، تُعتبر الثورات العربية وفقا لمنظور النظام المتمثل بأعلى سلطة فيه -أي المرشد الأعلى والولي الفقيه علي خامنئي، ومن بعده رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان- امتدادا للثورة الإيرانية عام 1979، وتعبّر هذه الثورات العربية عن صحوة إسلامية تقودها الشعوب المسلمة، وتتمحور حول نفس قيم الثورة الإيرانية المتمثلة بالإطاحة بـ"الطغاة" و"عملاء الغرب"، ومعاداة أميركا وإسرائيل، ومساندة المستضعفين والمظلومين ضد الاستكبار العالمي بما يساهم في قيام شرق أوسط إسلامي. أمّا عن طريقة تحقيق ذلك، فيُفهم من التصريحات الإيرانية أن المحبَّذ أن تتم من خلال الشعوب وخاصة الحركات الإسلامية التي عانت وناضلت، ولا مانع من حصول انقلابات إذا أدت هذا الغرض علما أنّ المادة 3 من الدستور الإيراني والمادة 154 تعطي الحق لإيران بـ"الحماية الكاملة لمستضعفي العالم"، و"بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم".
الثورات العربية وانعكاساتها على مصالح البلدين
حتى فترة ما قبل الأزمة السورية، كانت معظم التحليلات تقول: إنّ الثورات ستؤدي إلى تقوية موقع إيران في المعادلة الإقليمية على اعتبار أنّ موجة الثورات تتجه حصرا لضرب الأنظمة الحليفة للولايات المتّحدة، وأنّ السبب الرئيسي في ذلك هو التقاعس في نصرة القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل.
ومع تطور الأحداث بدا أنّ هذا التقييم غير صحيح من ناحية التخصيص، وأنّ المسألة لا تتعلق بمعطى خارجي مرتبط بالقضية الفلسطينية أو باستعداء لأميركا أو بالعداوة لإسرائيل؛ فالدوافع داخلية والمطالب الأساسية مرتبطة بالحريات والحقوق الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية (دون تجاهل ما هو خارجي فيما بعد).
وسرعان ما أدرك الجميع دقّة هذا التشخيص عندما وصلت الأمور إلى دمشق. ورغم أنّ الجزم باستفادة أحد الطرفين دون الآخر أمر غير ممكن حاليا بانتظار جلاء الأحداث، إلا أنّ ذلك لا يلغي إمكانية تقديم تصوّر لانعكاسات الثورات العربية على مصالح البلدين، ومكاسب وخسائر كل منهما على المدى القصير والمتوسط والبعيد من خلال المعطيات المتوافرة، ويمكن اختصارها فيما يلي:
أ- الخسائر والمكاسب (على المدى القصير)
أولا: سياسيا
- تؤدي حالة عدم الاستقرار التي تخلقها الثورات العربية إلى تقويض السياسة الخارجية التركية، والإستراتيجية التركية الداخلية والخارجية القائمة برمتّها على تحقيق الأمن والاستقرار للمحيط الإقليمي وصفر نزاعات. لقد كان من السهل على تركيا أن تطبّق رؤيتها في السياسة الخارجية عندما كانت العناصر التي تعمل عليها ثابتة (الأنظمة المحيطة والإستاتيكو الإقليمي)، أمّا مع تغيّر البيئة الإقليمية وانتشار حالة عدم الاستقرار التي فرضتها الثورات العربية، فمن المنتظر أن يخلق ذلك تحدّيا لمنظومة السياسة الخارجية التركية من حيث الاصطدام بين المثالية والواقعية مع ما يفرضه ذلك بالضرورة من تكيف مع التغير الجديد بإحداث تغييرات مماثلة.
- في المقابل، فإن إيران أكثر قدرة على إدارة الوضع الإقليمي في ظل الفوضى المؤقتة الناجمة عن الثورات العربية لما تمتلكه من خبرة ومن أدوات وأذرع إقليمية تخولها الصمود في مثل هذه الظروف التي طالما اعتادت العمل فيها، بل ومحاكاتها في كثير من الأحيان لاستدراج بعض القوى للتفاوض والحصول على تنازلات. وفي مناخ كهذا، قد تستفيد طهران من الفراغ الحاصل في بعض الدول العربية ومن حالة التخبط من أجل الدخول إليها، كما أن من الممكن لها أن تستغل اختلال التوازن الجيوبوليتيكي في مناطق أخرى واستثماره لمصلحتها.
ثانيا: اقتصاديا
-
تؤدي الثورات العربية على المدى القصير إلى تقويض المشروع الاقتصادي التركي الذي هو أساس الإستراتيجية التركية التي تتمحور حولها كافة السياسات الأخرى، ومن المعروف أنّ حالة عدم الاستقرار هي العدو الأول للاقتصاد والاستثمارات. كانت تركيا قد بَنَت مشروعها الإقليمي على الانفتاح الاقتصادي على دول المنطقة والذي أدى إلى ارتفاع حجم التبادل التجاري بين تركيا والعرب من 7 مليار دولار عام 2002 إلى قرابة الـ40 مليار دولار عام 2008 مع خطط تركية لرفعه لحدود 100 مليار دولار خلال سنوات قليلة من خلال استغلال المجالس الإستراتيجية التي أنشأتها أنقرة مع (سوريا والعراق والأردن ولبنان ومجلس التعاون الخليجي)، ورفع التأشيرات مع (لبنان، سوريا، الأردن، العراق، ليبيا، اليمن.. إلخ)، ومن خلال الأسواق الحرة المشتركة وأهمها السوق الحرة المشتركة التي تضم تركيا وسوريا والأردن ولبنان. كل هذه المنجزات عرضة للخطر في ظل حالة عدم الاستقرار التي قد تتطور إلى فوضى.تمثل الحالة السورية تحديّا بالغ الأهمية والخطورة لكل من تركيا وإيران لأن الطريقة التي ستنتهي بها الأمور في سوريا ستؤثر بشكل دراماتيكي على مسار أحد الطرفين في المنطقة بالضد من الآخر. - في المقابل إيرانيا، تؤدي حالة عدم الاستقرار التي تمر بها المنطقة إلى ارتفاع أسعار النفط، ما يعني عمليا أنّ الثورات العربية لا تغذّي فقط خزانة طهران المالية بالدولارات وتحقق لها نموا اقتصاديا، وإنما تساعدها -وهذا هو الأهم بالنسبة لها- على تقويض العقوبات الدولية المشددة المفروضة عليها والتي كان لها وقع شديد مؤخرا، وإفراغ هذه العقوبات من مضمونها؛ ما يحرر إيران من الضغط الاقتصادي، وينسف في نفس الوقت العمل الجماعي الذي قادته أميركا لسنوات مع القوى الدولية لاسيما روسيا والصين والدول الإقليمية لحصارها والضغط عليها.
ثالثا: أمنيا
- قد تؤدي حالة عدم الاستقرار التي تخلقها الثورات العربية إلى انتقال حالة التوتر التي قد تنشأ إلى داخل تركيا أو إلى تغذية أعمال العنف خاصة إذا كان البلد على تماس مباشر مع تركيا؛ كحالة سوريا والعراق مع تخوّف من عودة حزب العمّال الكردستاني إلى استنزاف الجيش التركي في حال انفلات الوضع على الحدود، والتداعيات الضخمة على مجمل الوضع التركي في حال حصول تدخل عسكري أجنبي كما حصل في العراق سابقا.
- في المقابل، تدافع إيران عن نفسها تقليديا عبر خط دفاع تقيمه خارج حدودها. وفي مثل هذا الوضع لا تواجه طهران مشكلة في حالة عدم الاستقرار الإقليمي، بل من المنتظر أن يؤدي ذلك إلى انشغال القوى الكبرى عن ملفها النووي، وأن يقوي موقفها وهو المطالبة بأن يتم توسيع برنامج التفاوض مع أميركا ليضم مختلف الملفات الإقليمية بما يؤدي للاعتراف بنفوذها ومصالحها الإستراتيجية والحيوية في المنطقة.
كما أنّ صمود الأنظمة في البلدان التي تشهد انتفاضات أمام التدخلات العسكرية الأجنبية كالنظام الليبي يفيد إيران من ناحية جعل خيار التدخل العسكري غير جذّاب مستقبلا لأنه غير مثمر وبشكلٍ ما غير فعّال، وسيؤخذ بالضرورة في الحسبان قبل أن يتم التفكير في اعتماده ضد طهران.
ب- المكاسب والخسائر (على المديين المتوسط والبعيد)
- من المنتظر أن تفضي الثورات العربية (إذا لم نذهب إلى سيناريو الفوضى الشاملة) إلى أنظمة تعبّر عن الواقع الشعبي فتكون أكثر صحّة في تمثيل الشعوب، وأكثر ديمقراطية في الحكم، وتحقّق البيئة الأكثر استقرارا على الصعيد الإقليمي. ولا يمكن التقليل من شأن القوة الناعمة التركية التي أثّرت في الشعوب العربية خلال السنوات القليلة الماضية من خلال الانفتاح الاقتصادي والاحتكاك الثقافي والنموذج السياسي وكلها تحمل رسالة مفادها أنه يمكن للشعوب العربية وغالبيتها المسلمة أن تقيم دولا عصرية متطورة ديمقراطية مستقلة تمتلك قرارها، وتتعامل بندية مع الحلفاء والخصوم، وتستطيع أن تقول: لا لإسرائيل أيضا.
ولا شك أنّه أثناء سعي الشعوب العربية لتحقيق هذا التصور فإن التجربة الإقليمية التركية ستبقى حاضرة لما قدّمته من نجاح في تحقيق مفاهيم الديمقراطية وتداول السلطة والإسلام في نموذجها السياسي، الاعتدال الإسلامي في نموذجها الديني، الاستقلالية في القرار في سياستها الخارجية، والتفوق في النموذج الاقتصادي والصناعي، وهي كلها سمات مطلوبة في الأنظمة الجديدة التي تحاول أن تشكّل نموذجا قائما بحد ذاته. - في المقابل، فمن المنتظر أن تعاني إيران على المديين المتوسط والبعيد من خسائر فادحة قد تكون الأكثر كلفة على الإطلاق منذ الثورة الإيرانية عام 1979، خاصة إذا ما أدّت الثورات إلى سقوط النظام السوري وهو ما سيتبعه تراجع دراماتيكي للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية بدءًا من فلسطين (وهو الأمر الذي أخذ يتحقق)، ومرورا بلبنان والعراق والخليج وانتهاءً بإيران نفسها؛ حيث يترقب العديد من الشرائح المعارضة للنظام الإيراني مصير النظام السوري كمؤشر على وضع النظام في طهران. وحتى لو نجا النظام الإيراني، فمن المرجح أن يصبح معزولا، وألا يلقى نموذجه الثيوقراطي أية جاذبية تُذكَر خاصة بعدما حصل عام 2009، دون أن يعني ذلك أن ليس لهذا النموذج أنصار داخل البيئة العربية.
انعكاسات الثورات على العلاقة بين البلدين
لطالما نجح الطرفان (تركيا وإيران) في كبت خلافاتهما وعدم تصعيدها أو تحويلها إلى مسألة علنية، وقد كان التوازن في قدرات البلدين أحد أهم العوامل -إلى جانب اختلاف دوائر المصالح الجيوبوليتيكية- التي حالت وتحول دون انفجار الخلاف بينهما. |
مع التحولات الحالية التي تتعرّض لها المنطقة، من المحتمل أن تؤدي الثورات العربية إلى خلل في هذا التوازن لصالح دولة دون الأخرى إضافة إلى تضارب عميق في المصالح وفي الرؤى وفي المشروع (كأن تنتصر رؤية على أخرى، أو يسود نموذج على حساب آخر، أو أن تستغل إيران الأحداث وتمتلك سلاحا نوويا). وفي هذه الحالة، سيصبح الطرف الثاني أكثر حساسية وضعفا بما يهدد بتطور سلبي للعلاقة بين البلدين. ويتمثل إطار الاحتكاك حاليا في دائرتين إقليميتين إضافة إلى ملفين أساسيين:
أولا: دائرة الخليج العربي
وهي تُعتبر بعد العراق الحيّز الجيوبوليتكي الأكثر أهمية بالنسبة لإيران، وقد تم إدخال تركيا إلى هذا الحيز رسميا من قِبَل مجلس التعاون الخليجي في العام 2008 عبر اتفاقية إستراتيجية سياسية واقتصادية وأمنية هي الأولى من نوعها بين مجلس التعاون مجتمعا وأي دولة في العالم. وعلى الرغم من أنّ الأتراك لا مشكلة لديهم أو حساسية في الموضوع الطائفي السني-الشيعي مما يخوّلهم القدرة على التواصل مع الجميع، إلا أنّ إيران تعلم جيدا أنّ إحدى دوافع الاتفاقية في الخلفية الخليجية تحقيق توازن معها؛ الأمر الذي يزعج طهران جدا.
وحاولت تركيا خلال الأزمة البحرينية، أن تلعب دورا وسطيا لاحتواء الأزمة، وتمثّلت رسالتها الرسمية في ثلاثة عناصر أساسية، هي: ضرورة حفظ أمن واستقرار الخليج، احترام سيادة ووحدة البحرين، وأيضا المضي قدما في الإصلاح. وقد بدا التباين واضحا بين الجانب