ميناء "مبارك الكبير": تحد جديد للعلاقات الكويتية العراقية

بناء ميناء "مبارك الكبير" محل نزاع بين الكويت والعراق، ترى الأولى أنه حق لها ولمصلحتها، وترى الثانية أنه انتهاك لسيادتها وخنقا لها، لكن البلدين يبحثان عن توافق بين هذين الموقفين.
1_1079597_1_34.jpg

 

محمد بدري عيد

استقبلت العلاقات الكويتية-العراقية الذكرى الحادية والعشرين للغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس/آب عام 1990م؛ بحالة من الاحتقان والتوتر السياسي والتصعيد النيابي والإعلامي عند الجانبين، على نحو هدد ببروز أزمة جديدة بين البلدين الجارين، وسط مجموعة من المعطيات الإستراتيجية والتطورات الدراماتيكية في السياقين الإقليمي والدولي.

فقد شهدت الأسابيع الأخيرة جدلاً عراقيًا-كويتيًا حول ميناء مبارك الكبير الذي بدأت الكويت في تنفيذه بجزيرة بوبيان الواقعة في شمال الخليج، وهو الجدل الذي تصاعد إلى حدٍّ اتخذ معه منحنى متشنجًا جعل من "ميناء مبارك الكبير" عنوان الأزمة الأحدث في ملف العلاقات الكويتية-العراقية المتخم أصلاً بالعديد من القضايا العالقة التي تنتظر الحسم والحل.

وضمن هذا السياق، يحاول هذا التقرير تقديم قراءة لمضامين ودلالات هذا التطور الجديد في العلاقات بين الكويت والعراق، واستشراف سيناريوهات المسار المستقبلي لهذه العلاقات في ضوء معطيات ومحددات القضايا العالقة بين الجانبين.

ميناء "مبارك الكبير" بين التحفظ العراقي والإصرار الكويتي
مسار العلاقات الكويتية-العراقية
الملفات العالقة بين العراق والكويت
السيناريوهات المحتملة لأزمة ميناء مبارك الكبير

تحفظ عراقي وإصرار كويتي 

يقع ميناء مبارك الكبير في جزيرة بوبيان بأقصى شمال غربي الخليج، وتبلغ كلفة إنشائه نحو 1.1 مليار دولار، ويضم الميناء في مرحلته الأولى، التي يُتوقع إنجازها عام 2016م، أربعة أرصفة مع وجود مخطط هيكلي مستقبلي يصل إلى 60 رصيفًا.

وتنظر الكويت، التي دشنت المشروع في مايو/أيار الماضي، وتعاقدت مع شركة هيونداي الكورية لبنائه، إلى الميناء باعتباره الخطوة الأولى على طريق جعلها مركزًا ماليًّا وتجاريًّا على المستويين الإقليمي والعالمي.

وقد بدأت شرارة الأزمة حول ميناء مبارك الكبير بعد طلب بغداد رسميًا من الكويت التوقف مؤقتًا عن تنفيذ بناء الميناء، لحين تأكد الجانب العراقي من خلو المشروع من أية أضرار ملاحية أو بيئية أو اقتصادية على العراق.

وتصاعدت حدة الأزمة مع وجود تراشق إعلامي وتصعيد نيابي بين الجانبين العراقي والكويتي، حتى بلغ الأمر أن أطلقت ما تسمى بكتائب حزب الله العراقي تهديدات بوقف المشروع بالقوة ما لم يوقفه الجانب الكويتي طواعية، كما حذرت بعض الأطراف الصحفية العراقية الكويت من مواجهة "2 أغسطس آخر" في حال استمرت في بناء الميناء بدعوى أنه يمثل انتهاكًا للقانون الدولي، واجتراءً على المياه الإقليمية للعراق(1).

وقد أعادت هذه الحالة المتأزمة نيابيًا وإعلاميًا في العلاقات الكويتية-العراقية حول ميناء مبارك الكبير؛ للذاكرة الإستراتيجية للمنطقة مشاهد التوتر العراقي-الإيراني في سبعينيات القرن الماضي، حين مثَّل الخلاف حول مياه شط العرب هاجسًا قاد في نهاية المطاف إلى نشوب حرب بين إيران والعراق في سبتمبر/أيلول من عام 1980م بعد نقض اتفاقية الجزائر التي أبرمها الجانبان لتسوية هذا النزاع عام 1975م.

وترى وجهة النظر العراقية أن إنشاء الكويت لهذا الميناء يمثل خطورة على مستقبل الملاحة العراقية، وستكون له تأثيراته السلبية على إطلالة العراق البحرية على مياه الخليج.

ويستند العراق في ذلك إلى مجموعة من الحجج تتمثل في التالي:

  • سوف يؤدي إنشاء ميناء مبارك الكبير إلى تضييق المسطح المائي في خور عبد الله، الذي يعد مياهًا مشتركة بين الكويت والعراق؛ مما سيؤدي بدوره إلى تقليل أهمية الموانئ العراقية لاسيما مينائي أم قصر والزبير مما سيؤثر على القدرات الاقتصادية للعراق.
  • سوف يقلص الميناء الجديد من مساحة السواحل العراقية ليحصرها فيما لا يتجاوز الـ 50 كيلو مترًا بينما ستتسع مساحة السواحل الكويتية لتصل إلى نحو 500 كيلو متر.
  • سيزيد الميناء الجديد من الترسيبات الطينية في القنوات الملاحية مما سيعرقل حركة الملاحة في الموانئ العراقية، ويرتب آثارًا بيئية خطيرة.
  • سيجعل ميناء مبارك الكبير في حال استكمال إنشائه، مشروع ميناء الفاو الكبير بلا قيمة، وهو الميناء الذي أعلن العراق عن التخطيط لتنفيذه منذ عام ووضع حجر أساسه في إبريل/نيسان عام 2010م، وهو الميناء الذي يراهن العراق على أن يكون واحدًا من أكبر الموانئ المطلة على الخليج، ويسعى لأن يصبح بموجبه نقطة محورية للتجارة الإقليمية والعالمية، عبر ربط الميناء برًّا بطرق وسكك حديد بأوروبا مرورا بتركيا فيما يُعرف بالقناة اليابسة أو الجافة(2).

وكان وزير النقل العراقي قد اعتبر خلال مؤتمر صحفي في مايو/أيار الماضي أن مشروع ميناء مبارك الكبير يخالف قرار مجلس الأمن الدولي رقم (833) لسنة 1993م بشأن ترسيم الحدود بين العراق والكويت.

وفي المقابل، ترى الكويت أن الميناء يقام على أراض كويتية؛ ومن ثَمَّ فإن قرار إنشائه أمر سيادي يخص الكويت وحدها وليس من حق العراق التدخل فيه، لاسيما أنه بعيد عن خط التماس البحري مع العراق، ولن يؤثر على الملاحة البحرية العراقية(3).

على أن مراقبين عراقيين يحسبون أن الهدف الرئيس للكويت من وراء بناء ميناء مبارك الكبير يتمثل في السعي لتضييق الخناق على العراق وحصره بحريًا ومحاصرته اقتصاديًا، خشية من تمكنه من استعادة قدراته ودوره ومكانته الكبيرة في منطقة الخليج من جديد(4).

لكن مراقبين كويتيين يرون أن "الضجة العراقية" حول "ميناء مبارك" هي نتاج للواقع السياسي العراقي الداخلي المعقد والمتشابك، معتبرين أن بعض القوى المحلية في العراق، المفتقد لحكومة إجماع وطني، والذي يعاني اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا، تحاول تصدير مشكلاتها الداخلية إلى الخارج عن طريق افتعال أزمات مع دول الجوار ومنها الكويت لصرف نظر الرأي العام العراقي عن مشكلات الداخل المتفاقمة(5).

وبوجه عام، يشير إمعان النظر في المواقف العراقية والكويتية، الرسمية والشعبية، بشأن ميناء مبارك الكبير، أن الأمر يتجاوز مسألة الميناء إلى مجمل العلاقات بين البلدين؛ حيث تلقي المشكلات المزمنة والقضايا العالقة بينهما -فضلاً عن الإرث التاريخي المتأزم وتداعيات غزو الكويت- بانعكاساتها السلبية على كل قضية خلافية تبرز بين العراق والكويت، لتتحول إلى كرة نار تلهب من جديد الجدار الهش لعلاقات البلدين المتجاورين جغرافيًا، والمتشابكين سياسيًا، والمتداخلين اجتماعيا واقتصاديًا.

مسار العلاقات الكويتية-العراقية 

ظل ملف العلاقات بين العراق والكويت، منذ القرن الماضي، حافلاً بالأزمات المعلنة تارة والمكتومة تارة أخرى، وذلك على الرغم من اختلاف الحكومات وأنظمة الحكم المتعاقبة في العراق بدءا من النظام الملكي حتى الأنظمة الجمهورية المتلاحقة منذ عام 1958م وحتى الغزو العراقي للكويت عام 1990م(6).

وقد ظلت حالة المد والجزر السمة المميزة للعلاقات بين البلدين حتى بعد الإطاحة بنظام صدام حسين من حكم العراق عام 2003؛ حيث بقيت العلاقات الثنائية باردة تارة وفاترة تارة أخرى(7).

وذلك على الرغم من أن الفترة التي تلت عام 2003 شهدت تحسنًا رسميًا في العلاقات الكويتية-العراقية على النحو الذي تبدّى في إعادة فتح السفارات، وإرسال الكويت سفيرها إلى بغداد في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2008، وتعيين العراق سفيرا له لدى الكويت العام الماضي، بالإضافة إلى تبادل زيارات رسمية لكبار المسؤولين والوزراء، ووفود إعلامية وأكاديمية في البلدين، وعقد اجتماعات للجان مشتركة.

ويُعزى هذا التناقض بين التحسن الظاهر في العلاقات بين العراق والكويت وبقاء حالة المد والجزر على حالها، إلى حجم ونوعية المشكلات المزمنة، والقضايا العالقة في العلاقات الكويتية-العراقية منذ تحرير الكويت عام 1991م.

الملفات العالقة بين العراق والكويت 

تتمثل أهم القضايا العالقة في مسار العلاقات بين الكويت والعراق، والناجمة عن الغزو العراقي للكويت عام 1990م، في القضايا المتعلقة بترسيم الحدود، والتعويضات، والديون، والأسرى، والشهداء، وإعادة الممتلكات، والأرشيف الوطني الكويتي؛ حيث يشكل ملفا التعويضات والديون، العقبة الأساسية في تسوية بقية القضايا البينية.

وبوجه عام، لا يوجد تصور واحد بشأن حل أو تسوية القضايا العالقة بين الكويت والعراق خلال المرحلة القادمة، وإنما هناك سيناريوهات متعددة تستند إلى المعطيات الداخلية في كلا البلدين، والسياقات الإقليمية والدولية ذات الصلة.

السيناريوهات المحتملة لأزمة ميناء مبارك الكبير 

استنادا إلي القراءة التحليلية للأوضاع الداخلية في كلا البلدين وطبيعة ومحددات العلاقات الثنائية الكويتية-العراقية، وأخذا بعين الاعتبار مجمل الأوضاع الإقليمية والدولية ذات الصلة، يمكن القول: إن هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة لمسار أزمة ميناء مبارك الكبير، وذلك على النحو التالي:

1- سيناريو استمرار بناء الميناء في موقعه الحالي
يفترض هذا السيناريو نجاح الكويت في إزالة المخاوف العراقية من خلال زيارة الوفد العراقي للكويت في الأيام المقبلة وشرح الأبعاد الفنية للمشروع، وقدرتها على إقناع العراق بخلو المشروع من أية أضرار على الملاحة العراقية، ومن ثم سيتم إغلاق ملف هذه الأزمة، وتكمل الكويت ما بدأته من مراحل بناء الميناء في موقعه الحالي بجزيرة بوبيان.

ومن شأن تحقق هذا السيناريو أن يساهم في فتح المجال للتوصل لحلول توافقية مستقبلاً حول العديد من الملفات العالقة.

ويعتمد تحقق هذا السيناريو على أرض الواقع على مدى تمسك الكويت بموقفها المبدئي من بناء الميناء باعتباره قرارًا سياديًا كويتيًا خالصًا، وهو الموقف المرجح استمراره لاسيما في ضوء الضغوط النيابية والإعلامية الداخلية الدافعة بقوة في هذا الاتجاه.

كما يعتمد تحقق هذا السيناريو على احتمالات تدخل الولايات المتحدة كطرف ثالث لممارسة ضغوط على  الجانب العراقي للقبول ببناء الميناء في موقعه الحالي، ربما مقابل الحصول على ضمانات أميركية بتقديم تسهيلات للعراق فيما يخص قضايا إسقاط الديون والتعويضات.

ويتمثل التحدي الأهم الذي يواجه هذا السيناريو في عدم وجود مؤشرات واضحة -حتى الآن- بشأن رغبة أميركية للتدخل لتسوية النزاع الكويتي-العراقي في هذا الصدد، فضلاً عن احتمالات إقدام أطراف عراقية غير رسمية على اتخاذ ردود أفعال غير محمودة العواقب في حال موافقة العراق رسميًا على بناء الميناء وفي موقعه الحالي.

2- سيناريو إلغاء أو تأجيل بناء الميناء
ويقوم هذا السيناريو على افتراض قبول الكويت بإلغاء بناء الميناء تجنبًا لتصعيد سياسي قد يقود لمواجهة عسكرية مع العراق.

غير أن احتمالات تحقق سيناريو الإلغاء ضعيفة وإن كانت واردة؛ نظرًا لكون الكويت لن تفرط في المكاسب الاقتصادية والتجارية والمالية التي تأمل أن تجنيها من وراء بناء هذا الميناء، ناهيك عن أن هذا الخيار مرفوض رسميًا وشعبيًا لاعتبار مسألة بناء ميناء مبارك الكبير شأنًا سياديًا كويتيًا في المقام الأول، يُضاف لذلك تأكيد الكويت أنها على أهبة الاستعداد للتعامل مع أية احتمالات لتطورات الخلاف مع العراق حول الميناء بما في ذلك الخيار العسكري، فضلاً عن أن وجود القوات الأميركية في العراق من شأنه أن يحول دون وقوع أية مواجهة عسكرية بين البلدين في المدى المنظور.

وهناك سيناريو فرعي يتمثل في التأجيل، واحتمالات تحققه تبدو أكثر وضوحًا، وذلك في حال لجأ الجانب العراقي إلى انتهاج سياسة المماطلة والتلكؤ في إرسال الوفود ودراسة المشروع، أو يأتي إذا ما قام العراق بتحويل ملف الأزمة إلى الأمم المتحدة أو الاحتكام إلى المحكمة الدولية للفصل في هذا النزاع.

وقد يلجأ العراق لهذا السيناريو، استجابة لضغط الرأي العام الداخلي ومحاولة لتهدئته وإقناعه بإمكانية  استخدام ملف أزمة الميناء كورقة تفاوضية رابحة للحصول على مكاسب من الكويت ومقايضته بقضايا الديون والتعويضات العراقية، بما يخفف من ثقل الالتزامات المالية على العراق؛ حيث تقدر ديون الكويت المستحقة عليه بـ 13.2 مليار دولار بدون الفوائد المالية؛ وذلك من إجمالي الديون العراقية الخارجية المقدرة بنحو 450 مليار دولار، كما تقدر التعويضات الدولية المقررة للكويت بنحو 37.2 مليار دولار تسلمت منها حتى الآن 9.3 مليار دولار فقط(8).

ويرجح أن تتعامل الكويت مع هذا التلكؤ العراقي المحتمل بقدر عال من المرونة وضبط النفس، مستندة إلى وجود قرارات وقوانين دولية تؤكد أحقيتها في الاستمرار في بناء الميناء، على أن تسعي حثيثًا لوضع هذا التسويف في أضيق نطاق زمني ممكن.

3- سيناريو بناء الميناء مع تغيير موقعه
وفق هذا السيناريو قد يوافق العراق على بناء الكويت لميناء مبارك الكبير لكنه سيطالب بتغيير الموقع الحالي له، بدعاوى الأضرار الملاحية والاقتصادية والبيئية التي قد يسببها الميناء في حال إنشائه بموقعه الحالي.

ويرجح أن يلجأ العراق إلى هذا السيناريو كنوع من المساومة السياسية مع الكويت، لدفعها لمساعدته في بناء ميناء الفاو الكبير الذي يحتاج لكلفة مالية باهظة والمقدرة بنحو 4 مليارات و400 مليون يورو(9).

ومن الناحية العملية، ثمة عدة مؤشرات تدل على  حدوث درجة ما من الانفراج في الأزمة، وحصرها في &