هل يصبح نهر النيل قنبلة موقوتة بين مصر وإثيوبيا؟

يرى الكاتب بيرارا أن بوسع دول حوض النيل جني منافع كبرى من خلال التعاون بدل اتباع المناهج الأحادية في استخدام مياه النهر فالحوار البناء، وبناء الثقة، وليس اتباع نهج تصادمي ، سيكون بداية لاستهلال عصر جديد من التنمية التعاونية لصالح شعوب المنطقة
1_1083451_1_34.jpg

أكلوغ بيرارا

الورقة الحالية هي الثالثة في سلسلة أوراق تتناول الإعجاب الإثيوبي بالربيع العربي. لكن إذا تجاوزنا هذا الموقف العابر سنجد ثمة أبعادا إستراتيجية على المستوى الاقتصادي والدبلوماسي تتطلب تحليلا أعمق وفهما أفضل لطبيعة العلاقة التي تجمع إثيوبيا بعدد من دول الربيع العربي، وفي مقدمتها مصر، خاصة ما يرتبط بالرؤى المستقبلية لاستخدام مياه نهر النيل بين الجانبين.

بين الجغرافيا والتاريخ
دور العامل الديمغرافي
خيارات التصادم والتعاون
هل من مخرج من الأزمة

بين الجغرافيا والتاريخ

يترعرع الأطفال في المدارس الابتدائية في مصر وإثيوبيا على اعتقاد مفاده أن حقوق أمتهم في مياه النهر تعلو فوق اعتبارات أية دولة أخرى وفي هذا مسلك خاطئ، إذ المطلوب ضرورة تعظيم مبدأ التعاون البيني لتحقيق مستقبل أفضل لشعوب البلدين
لست أعرف قضية أخرى في القرن الحادي والعشرين تستدعي اهتماما وشغفا وتثير الوجدان القومي في مصر وإثيوبيا بمثل ما تفعل قضية تطوير واستغلال نهر النيل وروافده. وينبع هذا الشغف وذلك الاهتمام من حقيقة أن المياه هي من بين أكثر الموارد الطبيعية أهمية في العالم. فهي نبع الحياة ومصدر هوية وحضارة الشعوب، وهي السبيل الوحيد لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، فضلا عن أهميتها الأمنية والتصنيعية وما تمثله من ثروة يمكن لمن يتمكن من الإمساك بزمام استغلالها تحديد خطوات المستقبل، كما أنها تثير حسد وغيرة العاجزين عن حسن إدارتها.

وبدهي أن الناس يحتاجون للمياه كي يبقوا على قيد الحياة، كما أنهم يحتاجون أرضا خصبة وقابلة للري وذلك من أجل إنتاج الطعام وتأمينه مصادره. ومع زيادة السكان وتزايد امتداد شبكات البنية الأساسية والطلب الاقتصادي تجد الحكومات نفسها ملتزمة بتلبية حاجات شعوبها كضرورة ملحة لا تقبل التأجيل. وليس لدى هذه الحكومات كثير من الخيارات سوى تسخير موارد المياه لتحسين مستوى مواطنيها.

وغني عن البيان أن المسؤولين الحكوميين والخبراء والأكاديميين وأعضاء المجتمع المدني في كل من مصر وإثيوبيا يعبرون عن آراء تعكس المصالح القومية المتعارضة للطرفين. فالأطفال في المدارس الابتدائية في كلتا الدولتين يترعرعون على اعتقاد مفاده أن حقوق أمتهم في مياه النهر تعلو فوق اعتبارات أية دولة أخرى وتتجاوز أية مطالب بالتعاون المتبادل بين الجانبين. وفي هذا مسلك خاطئ، إذ المطلوب ضرورة تعظيم مبدأ التعاون البيني لتحقيق مستقبل أفضل لشعوب البلدين.

ويعبر الشاعر الإثيوبي الشهير سيفو ميتافيري فيروي عن النظرة الشائعة بين الإثيوبيين بقوله "يا لها من مفارقة.. فبلادنا وهي منبع النيل ما تزال تعاني من شح المياه وتكرار المجاعات". ويرى فيروي أن استمرار هذا الوضع "المخزي" لا يعود إلى أن إثيوبيا ليست لديها مياه كافية بل لأن حكومة هذه الدولة غير قادرة على "تطوير وتسخير واستخدام موارد المياه الهائلة في البلاد ولا تحسن استغلال تربتها الطميية الخصبة، وتبقى عاجزة عن إقامة سدود على الأنهار أو ري الأراضي الصالحة للزراعة أو إنتاج الغذاء وإطعام العدد الأكبر المتنامي من شعبها.

وبحسب كلمات فيروي فإن إثيوبيا تخسر مرتين، مرة لأن الكميات الضخمة من مياه نهر أبيى (النيل الأزرق) تتدفق مباشرة نحو المجرى الأكبر لنهر النيل خارج الأراضي الإثيوبية والمرة الثانية لأن النيل الأزرق يحمل ملايين الأطنان من التربة الطميية الخصبة التي ينتزعها من المرتفعات الإثيوبية ويلقي بها إلى نهر النيل المتجه إلى السودان ومصر. هذا في الوقت الذي تعاني فيه إثيوبيا من نوبات مزمنة من الجفاف والمجاعات، وارتفاع مخيف في أسعار الغذاء، فضلا عن انتشار الجوع بين السكان.

ويعاني اليوم نحو 4.5 مليون إثيوبي واحدة من أسوأ نوبات المجاعة التي لم تشهد لها البلاد مثيلا منذ ثمانينات القرن العشرين. وفي ضوء ذلك، يرى المؤلف أن "الحكومة الإثيوبية ستتعرض يوم ما للمساءلة والحساب لما تقترفه من إهمال شامل حيال تطوير نهر أبيى، الذي بوسعه أن ينهي الحالة التي يجد فيها الإثيوبيون أنفسهم معرضين لذل الجوع والفاقة والعوز وسؤال المجتمع الدولي تقديم المساعدات الغذائية.

ولعل نقص الأولويات في القطاع الزراعي بصفة عامة والزراعة المروية بصفة خاصة يمثل الآن "أزمة قومية" في إثيوبيا. ولن تكون هناك فرصة لأية حكومة إثيوبية للبقاء ما لم تجد حلا لهذه الكارثة القومية الكبرى. ويزداد هذا الوضع سوءا في وقت تعمدت الحكومات المصرية المتعاقبة تهميش المساعي الإثيوبية والوقوف عقبة أمام مسعاها لاستغلال أنهارها الرئيسة، وفي مقدمتها نهر النيل الأزرق.

ومن المفارقات أن إثيوبيا وهي "برج المياه في إفريقيا" تعاني من أزمة التأمين الذاتي للغذاء وتفتقر إلى التحديث الذي ينتظره الدولة. وفي المقابل، فإن مصر، التي تعتمد على النيل بشكل كلي، نجحت في تلبية حاجة شعبها من الغذاء وتأمين اقتصاد زراعي ناجح، وظفت فيه ملايين من الفلاحين. وقد حققت مصر ذلك متحججة بمبدأ "الحقوق التاريخية" أو "المكتسبة"، في وقت تنكر فيه الحق العادل لإثيوبيا في مياه النيل(1).

ولعل هاتين الرؤيتين المتعارضتين لمصر وإثيوبيا تقوداني إلى الفكرة الرئيسة لهذه المقالة: فمن جانب هناك مبدأ "الحقوق التاريخية" أو "المكتسبة" وهو المبدأ الموروث من الفترة الاستعمارية التي تعطي مصر هيمنة كاملة على نهر النيل. وتصطدم هذه الهيمنة مع مبادئ المشاركة المتساوية والعادلة، وهي المبادئ التي تتبناها دول حوض نهر النيل باستثناء مصر والسودان. ويدرك الجانب الإثيوبي بشكل متنامي أن "الحقوق التاريخية" التي ترفعها مصر وبدرجة ما السودان (الشمالي) هي مبادئ ظالمة، وأن التنظيمات القانونية والمعاهدات الاستعمارية والقائمة على التدخل الأجنبي لم تعد صالحة ولا قابلة للتطبيق. فلا يمكن للمرء أن يقيّم عمق واتساع هاتين الرؤيتين المتعارضتين دون الرجوع إلى التاريخ وتتبع مساره.

وليست مطالب إثيوبيا بمشاركة عادلة ومتساوية في مياه النيل جديدة، بل تعود جذورها إلى إمبراطورية أكسيوم الإثيوبية وأوج الحضارة المصرية. ويشير التاريخ الإثيوبي إلى أن الملك لاليبيلا أراد بناء سد قبل تاريخ طويل من معرفة الأهمية الاقتصادية للسدود. كما أن أباطرة من أمثال زار وياكوب ويوحنا وتيودورس ومينليك وقادة من أمثال منغستو هيلا ماريام، ومليس زيناوي أعربوا عن رؤيتهم وتطلعاتهم للدفاع عن المصالح القومية الإثيوبية في استخدام الموارد المائية. أما الإمبراطور يوحنا الرابع فمات وهو يدافع عن هذا المبدأ الأصيل، وهو نفس المنحى الذي اتخذه الإمبراطور تيودورس.

دور العامل الديمغرافي

لعل ما تواجهه مصر وإثيوبيا من مصير مشترك واعتماد متبادل على مياه نهر النيل يؤكد على الارتباط الوثيق بين شعبين متنافسين على مياه النيل ويعتمدان على نفس النهر لتحقيق ذات الأهداف. غير أن الجهود المصرية الإثيوبية لبلوغ مستوى من التفاهم الذي تم بلوغه في مطلع تسعينيات القرن العشرين لم يتحقق لها النجاح بسبب التركة القديمة من التشكك بين الطرفين
كان نهر النيل مصدرا رئيسا للنزاع والتنافس والعداء بين مصر وإثيوبيا منذ عصور سحيقة. وليس هناك خلاف حول الدور المحوري الذي لعبه النهر في تشكيل الحياة المصرية. وتعد الحضارة المصرية هبة النيل الذي يأتي أكثر من 85 % من مياهه من المرتفعات الإثيوبية. وتعود معركة التحكم والتأثير على الدول المحيطة بالنهر إلى ما قبل حكم الفراعنة لمصر وعلى مدار نحو 7000 سنة. ومن وقت لآخر، تدخلت قوى أتت من خارج الحوض للتأثير على مصير ومستقبل استغلال مياه النهر. واستمر هذا التراث من ممارسة الاحتكار في ظل حكم الإمبراطورية البريطانية التي فرضت تنظيمات واتفاقات مقيدة على دول الحوض نيابة عن مصر، التي كانت آنذاك مستعمرة بريطانية.

قد وقعت مصر اتفاقية بشأن نهر النيل في عام 1929 وفرت لها حقوقا طبيعية وحصرية على مياه النهر. ولم تكشف هذه الترتيبات عن نفسها سوى بعد أن حصلت دول الحوض جنوب الصحراء على استقلالها. وحتى ذلك التاريخ، كانت إثيوبيا تقف بمفردها تدافع عن مبدأ المشاركة المتساوية والعادلة لمياه النهر، لكن دون أن تحقق نجاحا في مسعاها. وكان السبب في ذلك المبدأ المصري المطالب بحقوق موروثة وتاريخية، وهو ما وقف عائقا أمام الحقوق المشروعة لإثيوبيا أمام سعيها لتحقيق تنمية قومية ببناء سدود للري وتوليد الطاقة الكهربائية.

ويؤكد الخبراء الإثيوبيون والخبراء المستقلون أيضا أن مصر لا تسهم بقطرة مياه واحدة في ميزانية نهر النيل، في الوقت الذي تسهم إثيوبيا بنحو 86 % من ميزانية نهر النيل ولا تستخدم سوى 1 % من هذه المياه في ري أراضيها الزراعية. ويقع نحو ثلث الأراضي الإثيوبية (والتي تغطي 385,400 كم2) في حوض نهر النيل الأزرق وروافده. ويتضمن ذلك مساحات شاسعة من الأراضي تبلغ نحو 3,500,000 هكتار من الأراضي القابلة للري، وهي مساحة تفوق ما تحتاجه إثيوبيا لإطعام شعبها لعقود مقبلة.

ومنذ عام 1990 وإلى اليوم، استخدمت إثيوبيا 90,000 هكتارا فقط من أراضيها الصالحة للزراعة في حوض النيل الأزرق. وأخذا في الاعتبار الانتشار الجغرافي، والحجم السكاني، ومساحة الدولة، فإن إثيوبيا تتمتع بميزة جيوسياسية وديموغرافية لا تضارعها فيها أية دولة أخرى من دول الحوض.

ويبلغ سكان إثيوبيا نحو 90 مليون نسمة، وهي ثاني أكبر دول القارة الإفريقية من حيث الحجم السكاني، وسيبلغ هذا العدد 278 مليون نسمة بحلول عام 2050، لتصبح عاشر أكبر دولة في العالم. وهذا التغير السكاني الجذري سيكون له تأثير سياسي واقتصادي كبير، ليس فقط على منطقة القرن الأفريقي بل أيضا على كافة القارة الأفريقية والشرق الأوسط. وينبئنا هذا التغير بدوره عن الحاجة لاتباع نهج مغاير في طبيعة حوكمة مياه نهر النيل. وتتمتع شرعية الموقف الإثيوبي بقوة أكبر من ذي قبل. فليس هناك شك في أن إثيوبيا ستظهر كاقتصاد رائد خلال السنوات الخمس والعشرين إلى الخمسين المقبلة.

لقد حاولت القوى الاستعمارية، وبصفة خاصة بريطانيا، تقييد إثيوبيا في وقت كانت الدولة فيه ما تزال ضعيفة. ففي 15 مايو 1902 نظمت المعاهدة التي عقدت بين بريطانيا وما كان يسمى وقتها "الحبشة" ترسيم الحدود بين إثيوبيا والسودان، والتي كانت آذناك مستعمرة بريطانية. وتشير المادة الثالثة من هذه المعاهدة على أن الإمبراطور منليك يتعهد "بعدم بناء أو السماح ببناء أية أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط، وهي المناطق التي بمقدورها التأثير على تدفق مياه نهر النيل، وذك دون الرجوع إلى بريطانيا العظمى والسودان".

وهذه الاتفاقية، وما تلاها من اتفاقية عام 1929 أضعفت موقف إثيوبيا، ذلك لأنها سجلت سابقة استخدمت فيما بعد لتسويغ ترتيبات غير عادلة وظالمة. فاتفاقية مياه النيل لعام 1959 الموقعة بين جمهورية السودان وجمهورية مصر العربية استفادتا من هذه الاتفاقات الاستعمارية التي لم تكن إثيوبيا طرفا فيها. وفي بؤرة هذه الترتيبات يجب أن تولى عناية كبيرة للمبدأ الاقتصادي القائل بأن النهر "يحتاج إلى مشروعات تضمن ضبطا شاملا لمياهه من أجل زيادة الإنتاج". وينطبق نفس هذا المبدأ على إثيوبيا.

وتعود الحقوق التاريخية أو المكتسبة في جذورها إلى ذلك النوع من التنظيمات والترتيبات التي منحت مصر والسودان حقوقا استثنائية لتطوير استغلالها لمياه النيل. وما تزال كلتا الدولتين تعتصم بهذه الاتفاقات التي عفا عليها الزمن وكأن العالم ساكن لا يتغير.

وتبدو المفارقة المؤلمة في أن الأرض المحيطة بالنيل الأزرق تموت عطشا، على نحو ما حدث خلال المجاعة الكبرى في ثمانينيات القرن العشرين والتي راح ضحيتها مليون نفس، فضلا عن مجاعة العام الجاري التي يواجه فيها نحو 5 ملايين نسمة الموت جوعا. ومن الملاحظ أن مصر في ثمانينيات القرن العشرين كانت على شفا مواجهة نفس الكارثة، لولا المياه التي كانت مصر قد خزنتها خلف السد العالي.

ولعل ما تواجهه مصر وإثيوبيا من مصير مشترك واعتماد متبادل على مياه نهر النيل يؤكد على الارتباط الوثيق بين شعبين متنافسين على مياه النيل ويعتمدان على نفس النهر لتحقيق ذات الأهداف. غير أن الجهود المصرية الإثيوبية لبلوغ مستوى من التفاهم الذي تم بلوغه في مطلع تسعينيات القرن العشرين لم يتحقق لها النجاح بسبب التركة القديمة من التشكك بين الطرفين.

لقد ولدت مصر على يد نهر النيل، وحده دون سواه. كما أنها تعيش على هذا النهر ويزداد اعتمادها عليه في سعيها للتحدث ومواكبة النمو السكاني. كما أن نفس العوامل التي تكرس من اعتماد مصر الكلي على مياه النيل هي نفسها التي تشكل المجتمع الإثيوبي بمعدلات لم يدركها أحد في القرن الفائت. ولا أقصد هنا الإشارة فقط إلى التغير الديمغرافي. فإثيوبيا تسعى إلى بلوغ تحديث شامل وسريع، وهي تمتلك القدرات البشرية الضرورية والموارد المادية الكافية لبلوغ تلك الأهداف على مدار العقود المقبلة، وينعكس ذلك في مختلف السدود التي أتمتها إثيوبيا بالفعل والسدود المخطط إقامتها مستقبلا(2).

وليس السعي الإثيوبي لاستغلال وتطوير مواردها من المياه من أجل التنمية بجديد. فقد حاولت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة إقناع حكومتي مصر والسودان بحق إثيوبيا في الاستثمار ف&