لا يبدو أن الجهود التي تبذلها شخصيات أصولية لمنع الانقسام الذي بدت تلوح بوادره داخل التيار الأصولي سيكتب لها النجاح. وما تشهده الساحة السياسية الإيرانية اليوم ينبئ بولادات جديدة كتلك التي شهدتها الجمهورية الإسلامية قبل أكثر من عقد ونصف من الزمن حين كانت القوى السياسية الرئيسية تنقسم إلى مسارين، هما: "اليمين" و"اليسار".
يسعى هذا التقرير إلى رصد تفاعلات الساحة "الأصولية الإيرانية"، وقراءة مؤشرات الخلاف داخلها، وأسبابه، وما يمكن أن يفضي إليه من انقسام، قد يتيح الفرصة لعودة التيار الإصلاحي إلى الساحة السياسية في الانتخابات البرلمانية في مارس/آذار المقبل.
خلاف اقتصادي وانقسام سياسي
نجاد من رفيق إلى خصم عنيد
عودة الإصلاحيين
أهم النتائج والتوقعات
تقليديا، تكوّن الجناح اليميني على يد طبقتين تشكلتا من رجال الدين التقليديين والمنظمات الدينية المرتبطة بأسواق التوزيع التقليدية. ولعب الاختلاف في التوجهات الاقتصادية بين اليمين واليسار الإيراني، في السنوات الأولى من عقد الثمانينيات، وخاصة فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية لحكومة مير حسين موسوي خلال الحرب، دورا كبيرا في تعميق الخلاف بين الثوريين، وكان مفتاحا للانقسام الذي ما زال قائما إلى اليوم؛ فقد كانت غالبية طاقم مير حسين موسوي الوزراي من خط الاعتدال في "حزب الجمهورية الإسلامية"، ومن الناحية الفكرية كانوا من المنادين بالعدالة والمساواة، وبناء على ذلك فقد تبنى هذا التيار في المجال الاقتصادي سياسة تضمنت القبول بمسؤولية الدولة في جميع الميادين الاقتصادية، والحد من الملكية الخاصة، ومعارضة نقل المراكز الاقتصادية المهمة إلى القطاع الخاص، وهو ما لقي معارضة قوية من اليمين الإيراني صاحب العلاقة القوية مع البازار.
تمثل اليسار بـ"تيار العدالة" في حكومة مير حسين موسوي، وتيار "خط الإمام" الذي تكوّن من الطلبة الذين اقتحموا السفارة الأميركية في طهران. وكان من أبرز تشكيلات اليسار "مكتب تحكيم الوحدة" و"مجمع رجال الدين المقاتلين". وتشكّل اليمين بصورة أساسية من ائتلاف البازار و"مجمع رجال الدين المقاتلين" و"مجتمع مدرسي حوزة قم العلمية". ويُعد حزب مؤتلفة الإسلامي الهيئة الرئيسية لجناح اليمين، ومن أقوى أذرعه الاقتصادية ما يعرف بــ "مؤتلفة بازار".
كانت هذه الثنائية على موعد مع التغيير الذي حمله فوز خاتمي عام 1997، لينتهي استخدام مصطلحي اليمين واليسار بعد عقد ونصف من الزمن؛ فبعد فوز خاتمي ظهر ما سُمي بـ"تيار الثاني من خرداد"، وكذلك مصطلح الإصلاحيين، واستخدمه جناح اليسار لتوصيف نفسه، وتم الاستفادة من مصطلح المحافظين للدلالة على منافسيهم سياسيا الذين لم تعجبهم التسمية واختاروا لأنفسهم مصطلح الأصوليين.
وجاءت صياغة الخطاب الأصولي لتحقيق مجموعة من الأهداف، أهمها: سحب الشرعية من الخطاب الإصلاحي بالاستناد إلى المباني الأساسية للثورة الإسلامية. ووجد التيار الأصولي طريقه نحو الفضاء السياسي، واستطاع أن يكون ندا للخطاب الإصلاحي؛ فاستطاع أن يعرقل مشروع الإصلاحيين وساهم في إفشاله (1).
وكان لمرشد الثورة الإسلامية دوره الكبير في إعادة التعريف وتبيين مفاهيم هذا الخطاب وتوجيهه، ليذهب الخطاب الأصولي إلى ما هو أبعد من الجناح السياسي. تمكن "آبادگران" (المعمرون) وهو أحد أطياف الجناح الأصولي، من الفوز في الانتخابات المحلية في المدن والقرى، بشعارات غير سياسية، وبالتركيز على الجوانب العمرانية وتقديم الخدمات ، وكانت هذه خطوتهم الأولى.
وجاء التفوق الثاني للأصوليين في فوزهم في انتخابات مجلس الشورى الإسلامي، وبعد الانتخابات الرئاسية الثامنة عام 2001 ركزوا اهتمامهم على شعارات العدالة، ورفع الظلم، ومقاومة الفقر والتمييز، ومحاربة الفساد. وفي عام 2004 أعلنوا عن تجمع كبير قالوا: إنه "خطوة جديدة" لأصولية الفكر (2) والتجديد في الأسلوب والتنسيق في العمل، ولاحقا استطاعوا أن يخرجوا الإصلاحيين من اللعبة السياسية بعد فشلهم في الانتخابات الرئاسية التاسعة.
مع الفوز في الدورة الثانية للانتخابات البلدية، بدأت شخصية نجاد بالظهور، وما لبث أن وصل إلى منصب رئيس بلدية طهران، لكن هذا النجاح لم يكن كافيا ليحصل على دعم الأصوليين في الانتخابات الرئاسية التاسعة عام 2005، وظهر أن التيار يحمل في داخله توجهات عدة مهيأة للانقسام بصورة دائمة؛ لذا سعى ائتلاف "السوق- رجال الدين" داخل التيار الأصولي إلى توحيد الصفوف واختيار مرشح واحد يكون محل إجماع لكن هذا السعي مُنِي بالفشل.
كان أحمدي نجاد عضوا مؤسسا في الجمعية الإسلامية للمهندسين، وعضوا في لجنة الشورى المركزية لجمعية "المؤثرين"، لكن كلتا المنظمتين قررتا دعم مرشحين آخرين (3). وأعلن مجلس التنسيق الذي تألف من جميع الجماعات المعارضة للإصلاحيين في مؤتمره الثامن والعشرين قائمة المرشحين الذين يدعمهم ولم يكن اسم نجاد من بينهم، ثم استقر في النهاية على دعم ترشيح علي لاريجاني الذي هُزِم في الدور الأول من الانتخابات (4). لم يكن صعود نجاد إلى الدور الثاني كافيا ليجمع التيار على دعمه؛ فقد تناثرت أصوات مؤيدي المرشحين السبعة السابقين في المرحلة الأولى على مرشحي الدور الثاني، وأُلقي الكثير من أصوات مؤيدي قاليباف ولاريجاني الأصولية في سلة هاشمي رفسنجاني.
ويمكن القول: إن التيار الأصولي لم يكن داعما لنجاد، وفي مرحلة الحسم سجّل الكثير من مرشحيه مواقف داعمة لرفسنجاني، ومنهم علي لاريجاني وولايتي وقاليباف؛ لذا فمع الفوز بدأ نجاد يشكل فريقه الخاص مقصيا الكثير من المسؤولين الأصوليين ويضع مكانهم مقربين منه.
وجد التيار الأصولي مع الانتخابات الرئاسية العاشرة أن لا خيار أمامه سوى دعم نجاد أمام منافس قوي مثل مير حسين موسوي. كان شعار "وحدة التيار الأصولي" سببا جعل الكثيرين من منتقدي نجاد يتجاوزون مواقفهم الناقدة ويقدمون الدعم للرئيس الإيراني، وعزز من هذا الخيار الدعم الواضح والكبير من قبل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الذي يعد أبرز مرجعيات التيار الأصولي.
شهدت علاقات نجاد بالتيار الأصولي صعودا لافتا أعقبه هبوط ما زال مستمرا، فبعد أن حظي بموقع ممتاز داخل صفوفه بدأ التوتر مع مجلس الشورى الإسلامي الذي اتهم نجادا وفريقه بتجاوزات قانونية، وامتد الخلاف إلى مجلس الخبراء والسلطة القضائية، وتوسع ليصل إلى طاقم نجاد الوزاري نفسه، وهو الخلاف الذي عبّر عن نفسه بعدد من الإقالات والاستقالات.
لم تكن الحال مع رجال الدين المحافظين بأحسن من ذلك فقد سعى نجاد إلى تقليص دورهم وتأثيرهم السياسي في حين قادوا هم حملة مضادة ضد آراء الرئيس وفريقه التي وصفوها بـ "المنحرفة".
وبقيت الكفة تميل في كل مرة لصالح نجاد إلى أن وصلت المواجهة إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية (5).
ما كاد الأصوليون يلمحون أولى إشارات تراجع دعم خامنئي للرئيس حتى بدأ الهجوم من كافة الجهات. وتحكي علاقة نجاد بالتيار الأصولي اليوم قصة الصديق الذي تحول إلى منافس ثم إلى خصم يسعى بعناد إلى المنافسة في الانتخابات البرلمانية القادمة بتشكيلته الخاصة وفريقه المنتقى (6). ورغم أن نجادا يبدي ظاهريا عدم اهتمام بمجريات العملية الانتخابية إلا أن الواقع يقول: إنه -كما منافسيه- يرون فيها منصة للقفز إلى مقعد رئاسة الجمهورية في انتخابات 2013.
يبدو أن بذور الانقسام في الصف الأصولي ترجع في جزء كبير منها إلى وجود شخصيات لديها مواقف معارضة لسياسات نجاد ومواقفه لكنها اختارت الصمت لإيمانها بضرورة طاعة الولي الفقيه، وبما أن الولي الفقيه قد أبدى دعما غير مسبوق لنجاد فقد ظلت هذه الأصوات حبيسة صمتها، أو أنها اختارت دعم الرئيس الإيراني نزولا على ما يريده المرشد الأعلى للثورة، لكن الكثير منها بدأ يخرج عن صمته ويتخذ مواقف ناقدة ومعارضة عندما التقط أولى إشارات تراجع دعم القيادة العليا للرئيس صاحب القرارات المثيرة للجدل، فيما بقي آخرون يراوحون مكانهم مترددين لأن الولي الفقيه لم يحسم المسألة بشكل قطعي.
وينتظر "الموت المبكر" (7) التيار الأصولي نتيجة غياب النقد والمراجعة، وبدونه سيكون الفناء وانتقال السلطة إلى يد التيار المنافس هو المصير المحتوم. وتعتقد أصوات أصولية عدة أن نجادا تجاوز خطوطا حمراء كثيرة، أهمها تجاوز القانون، والإحجام عن تطبيقه، وقد قابل الأصوليون هذه التجاوزات بالسكوت والمماشاة، ولم يرفعوا صوتهم بالنقد إلا عندما حدث الصدام بين نجاد ومرشد الثورة.
وسط أجواء كهذه تدخل "وحدة الصف الأصولي" في مأزق كبير خاصة وأن الجهود باتت تنصرف بصورة واضحة إلى سبل مواجهة نجاد والحلقة المحيطة به، أو مواجهة "عودة الإصلاحيين" المحتملة، ولعل البحث عن حل لهذا المأزق يقف سببا لتشكيل لجنة مشتركة (7+8) جاءت نتيجة اندماج لجنتين (8)، تتكون الأولى من سبع شخصيات تمثل "مجتمع رجال الدين المقاتلين" و"مجتمع مدرسي حوزة قم العلمية"، ومن أبرز شخصيات هذه اللجنة حبيب الله عسگر أولادی، وحداد عادل، وعلی أکبر ولايتي.
أما لجنة الثمانية فتضم ممثلين عن تشكيلات أصولية عدة، ويلاحَظ أن ستة من أعضاء هذه اللجنة يمثلون حصة "الجبهة الأصولية المتحدة" والتي تشمل "جبهة متبعي خط الإمام والقائد"، و"جمعية مؤثري الثورة الإسلامية"، و"جبهة قوى الثورة"، و"جمعية السالكين". وسيكون لكل من رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني ورئيس بلدية طهران محمد باقر قاليباف ممثل في اللجنة.
وقد خرجت أصوات من داخل صفوف هذه التجمعات تتساءل عن قدرة التيار الأصولي على تقديم مرشحين يمكنهم أن يكونوا منافسين أقوياء لمرشحي "تيار الانحراف"، وهي التسمية التي أطلقها الأصوليون على الحلقة القريبة من نجاد فيما يُنظر إلى مدير مكتبه إسفنديار رحيم مشائي كشخصية محورية في هذا التيار.
ونموذج (7+8) هذا، نموذج ناقص لأنه جاء على عجل بهدف تهيئة قائمة موحدة للمرشحين، لكنه نموذج لا بديل عنه لدفع الضرر المحتمل والحفاظ على وحدة الصف الأصولي، كما أن القول بجدواه أمر ستحسمه الانتخابات وما ستسفر عنه من نتائج (9). يقوم هذا النموذج على تمثيل ومحاصصة تبعا للوزن السياسي للأحزاب والتشكيلات الأصولية. وتفرض هذه الآلية البدء بعملية جديدة لتقييم الوزن والحضور السياسي، وهو ما يجعل الكثير منها يحجم عن قبوله خشية تراجع مكانتها ومكتسباتها (10).
لا تخلو هذه التجمعات من شخصيات معروفة ما زالت تقدم الدعم لنجاد، وترى أن من مصلحة التيار الأصولي الإبقاء على دعمه للرئيس والسعي لفصل مساره عن مسار "الانحراف"، وتستند في ذلك إلى رؤية مرشد الثورة بأن إقصاء نجاد سيعود بتبعات سيئة على إيران أكثر مما سيحمله من فوائد، لكنه رأي لا يجد إجماعا خاصة وأن نجادا وفريقه قد ترجلوا من حافلة الأصوليين التي استقلوها لفترة من الزمن.
لكن هذه اللجنة التي تشكلت لترسم مسارا أصوليا واحدا لم تحظ بإجماع الكل، وغاب عنها 11 تجمعا أصوليا تنضوي تحت راية "جبهة صمود إيران الإسلامية" (11) وهي قريبة من محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري الذي لم يمثَّل في اللجنة (12). وهذا الغياب يشي بتناقضات واصطفافات ستحدث شرخا في صفوف الأصوليين، تتضح معالمه شيئا فشيئا مع ارتفاع حرارة أجواء التنافس الانتخابي. ولا يخفي الأمين العام لمجتمع رجال الدين المقاتلين آية الله مهدوي خشيته من نتائج قيام مثل هذه التكتلات الجديدة ويقرأ فيها مقدمة لإحداث شرخ في صفوف الأصوليين (13).
ما زالت الدعوة للحفاظ على وحدة الصف الأصولي لمواجهة الإصلاحيين قائمة داخل أوساط أصولية محافظة، ويتزعم ذلك حزب المؤتلفة ورجال دين بارزون، بل إن شخصية أصولية هي النائب علي مطهري الذي لا يقول أصلا بوحدة الأصوليين، يرى أنهم يجب أن يتحدوا كلما لمحوا أشارة على وجود منافسة إصلاحية، فيما يظهر توجه آخر يرى ضرورة الاتحاد لمواجهة مزدوجة مع الإصلاحيين و"تيار الانحراف"، ويحدد آخرون ضرورة "الصمود ومقاومة الضغط الخارجي" كعامل أساسي في وحدة الأصوليين.
بدأت إعادة التركيز على وحدة التيار الأصولي في مواجهة التيار الإصلاحي بعد حديث للرئيس الإيراني السابق والزعيم الإصلاحي محمد خاتمي عن "عودة مشروطة" إلى الساحة السياسية، تكون بالتزام جماعي بأحكام الدستور، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وضمانات لحرية الأحزاب والإعلام، وإيجاد الأجواء المناسبة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة (14).
تعددت أطراف النقد لخاتمي، والرفض لعودته لأنه لم "يفصل مساره عن مسار رؤوس الفتنة" (15)، وطالب يد الله جواني رئيس الدائرة السياسية في الحرس الثوري (16)، بمساءلة ومحاسبة نواب في مجلس الشورى لأنهم قبلوا الاجتماع مع واحد من هذه "الرؤوس"؛ لأن "نواب الشعب يجب أن لا يغضوا الطرف عما ثبت من دور لهؤلاء في محاولة إشعال الثورة المخملية، والعلاقات مع السفارات الأجنبية والصهيونية"، في إشارة إلى لقاء جمع خاتمي مع عدد من نواب المجلس، وهو اللقاء الذي حدد فيه خاتمي شروط العودة والمشاركة في الحياة السياسية ومن ذلك الانتخابات القادمة (17). وقد بدأ التيار الإصلاحي فعليا بتهيئة قائمة مرشحين ضمت حتى الآن ما يقرب من 600 اسم معظمهم لم يسبق له الترشح.
وفيما يدا