شهدت حيثيات الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة نوعًا من إعادة الامل لفلسطينيين وإسرائيليين، وحتى نشطاء دوليين حول إمكانية أن يؤدي انتخاب باراك أوباما إلى دفع حقيقي باتجاه حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أو على الأقل إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. لقد بُنِي هذا الامل على الخلفية التي ينتمي اليها أوباما، مثل حقيقة أنه ينتمي إلى الأقلية السوداء، وله ارتباطات عائلية مسلمة، وعلاقات شخصية مع عرب وفلسطينيين من أمثال إدوارد سعيد ورشيد خالدي وآخرين، وهو ناشط في الدفاع عن حقوق المستضعفين في مناطق مسؤولياته قبل انتخابه كرئيس، وحتى حقيقة كونه قام بجمع أموال الدعاية الانتخابية من الجمهور الواسع ولم يعتمد أساسًا على أموال الشركات الكبرى والمتمولين، وداعمي إسرائيل كجزء منهم.
تشير التطورات التي حدثت في مواقف أوباما منذ توليه الرئاسة، وصولاً إلى اجتماع إيباك (مايو/أيار 2011)، إلى أنه في حالة انزياح دائم إلى درجة تبني المواقف الإسرائيلية التي يمثلها اليوم ائتلاف يميني متطرف برئاسة بنيامين نتنياهو. |
ولم يقبل هؤلاء بغير هذا التحليل بالرغم من الخطوات العينية التي اتخذها أوباما، وأشارت بوضوح إلى أنه لا ينوي -وربما لا يستطيع- أن يُحدث اختراقًا جديًا في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل؛ فمثلاً، أدت الانتقادات من مؤيدي إسرائيل لتعيينات معينة كان ينوي أوباما اجراءها إلى تغيير رأيه وتعيين بدائل. أهم هذه التعيينات التي لم تحدث هي نيته تعيين روبرت مالي مستشارًا في حملته الانتخابية، ومالي عمل مستشارا في إدارة الرئيس كلينتون، وكان حاضرًا إبان قمة كامب ديفيد بين عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي، وشاهَدَ عن كثب كيف زوّر رئيسه ما جرى خلال المباحثات، واتهامه لعرفات بتخريب المحادثات، وتمهيده بذلك لممارسات إسرائيلية إجرامية تجاه الشعب الفلسطيني خلال انتفاضة الأقصى، والنية لتعيين تشارلز فريدمان، الدبلوماسي المخضرم الناقد لإسرائيل والسفير الأميركي السابق في السعودية، لمنصب رئيس المجلس القومي للمخابرات الأميركية، في إدارة أوباما وتغيير النوايا على خلفية اتهام فريدمان من قبل مؤيدي إسرائيل بتحيزه للموقف العربي (1).
من ناحية ثانية فقد جرت تعيينات لمؤيدين معروفين لإسرائيل، وعلى رأسهم هيلاري كلينتون كوزيرة الخارجية، وتعيينات أخرى في مواقع رئيسية لمؤيدين معروفين للمواقف الإسرائيلية مثل تعيين رام عمانويل كمدير لطاقم البيت الأبيض، وتعيين ديفيد إكسلرود كمستشار إعلامي، ودينيس روس كمسؤول ملف الخليج وإيران، وعشرات التعيينات الأخرى التي لا يتسع المقال لسردها لمراكز حساسة ومهمة في الإدارة، بحيث تثبت مسبقًا بأنه تنازل عن مواجهة إسرائيل، وبأن ما ترضاه إسرائيل هو الفيصل بالنسبة له ولإدارته.
ولكن، بما أن التعيينات نفسها لم تقنع هؤلاء بأن أوباما لا يختلف عن أسلافه في التعامل مع إسرائيل وحل الصراع، فهناك حاجة لعرض وجه آخر من تعامل أوباما مع مسألة حل الصراع، وأعني تحديدًا تعيينه للسيناتور الأميركي القدير في شؤون المفاوضات وفض النزاعات، جورج ميتشل، كمبعوثه الخاص للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
لقد قام أوباما بتعيين ميتشل كمبعوثه الخاص لحل الصراع في الشرق الاوسط بعد أسبوعين من استلامه الرئاسة، مستلهمًا من تجربة ميتشل في فض الصراع بين البروتستانت الموالين لبريطانيا والكاثوليك الموالين للجمهورية الإيرلندية في شمال أيرلندا. لقد نجح ميتشيل خلال عامين من المفاوضات الجدية (1996-1998) في ايصال الطرفين المتصارعين إلى اتفاق تاريخي عُرف باتفاق بلفاست أو اتفاق "الجمعة العظيمة".
أثناء المفاوضات في شمال أيرلندا استعمل ميتشيل تكتيكات محددة لايصال الطرفين إلى توقيع الاتفاق؛ فمثلاً قام بوضع إطار زمني محدد، والحصول على التزام بوقف العنف، واللجوء إلى المفاوضات، والقبول بالحسم الديمقراطي، وإشراك كل أطراف النزاع بما في ذلك القوى التي كانت غير شرعية أو إرهابية. إلا أن أهم ما ساعد ميتشل في الوصول إلى حل في شمال أيرلندا كانت عوامل لها علاقة بدوره كطرف ثالث، وعلى رأس هذه العوامل يمكن أن نذكر: حيادية الولايات المتحدة في الصراع بين الأطراف المتنازعة، ووضع مشروع واضح للمصالحة وأسسها وقواعدها من خلال اتباع مركبات أساسية في تفاهمات واضحة.
أجرى ميتشل جولات من المحادثات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وحثَّ الادارة الأميركية على وضع برنامج واضح للحل، ودفعها لاتخاذ مواقف متوازنة بين الأطراف؛ فطلب مثلاً من السلطة الفلسطينية الالتزام بمنع عمليات المقاومة، والتنسيق الأمني مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، وفعلاً قامت السلطة الفلسطينية بذلك، في المقابل فإنه –وبالتنسيق مع الرئيس– طلب من إسرائيل وقف الاستيطان، والتوقف عن خلق واقع جديد على الأرض، إلا أن إسرائيل رفضت ذلك، وقامت بعمليات استيطان وإيجاد واقع جديد، حتى من خلال تعمد إهانة الإدارة الأميركية وممثليها، من قبيل إعلان خطط استيطانية خلال زيارة نائب الرئيس، جوزيف بايدن، للقدس.
وكما هو معروف فإن ميتشل فشل في إقناع إسرائيل أو إلزامها بشئ جدي للوصول إلى تسوية في المنطقة، وقدم استقالته (يوم 13 مايو/أيار 2011) على خلفية عدم نجاحة في إقناع أوباما باتخاذ إجراءات ومواقف عينية ملزمة لإسرائيل. بذلك تشير استقالة ميتشيل إلى ذروة تُمثل عدم قدرة، أو عدم رغبة، الإدارة الأميركية الحالية في تنفيذ أية خطوات تجبر إسرائيل على الرضوخ لمتطلبات التسوية.
وربما أكثر من ذلك، إذ تشير التطورات التي حدثت في مواقف أوباما منذ توليه الرئاسة، وعلى خلفية التوقعات منه قبل انتخابه كرئيس أميركي، وصولاً إلى خطابيه الأخيرين في مقر وزارة الخارجية الأميركية وفي اجتماع إيباك (مايو/أيار 2011)، إلى أنه في حالة انزياح دائم إلى درجة تبني المواقف الإسرائيلية التي يمثلها اليوم ائتلاف يميني متطرف برئاسة بنيامين نتنياهو.
تداعيات الثورات العربية على الموقف الأميركي تجاه القضية الفلسطينية
يعتقد البعض بأن الثورات العربية أنضجت ظروفًا أكثر الحاحًا مما سبقها لحمل الولايات المتحدة على الدفع باتجاه حل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل (2)، ومن الممكن أن نستشف أن هذا الموقف يعتمد على المبررات التالية:
- أولا: الثورات العربية تشكلت على خلفية تفاقم الأوضاع العربية داخليًا وخارجيًا، أي أن المواطنين في الدول العربية وصلوا الى مستويات عالية من عدم الرضى عن سياسات حكوماتهم بما في ذلك كل ما يتعلق بمواقف الحكومات السابقة من القضية الفلسطينية وإسرائيل، وكذلك مواقف الولايات المتحدة المؤيدة أتوماتيكيًا لإسرائيل، ولذلك من الأفضل للإدارة الأميركية تحريك المحادثات السلمية والمبادرة إلى وضع نهاية للصراع.
- ثانيا: أحد أهم عوامل الثورات العربية هو البحث العربي عن الكرامة، التي تمثل هدرها في سياسات داخلية وخارجية –على رأسها السياسات الأميركية تجاه العرب عمومًا، والقضية الفلسطينية وإسرائيل خصوصًا، وعلى الإدارة الأميركية الإسراع في إصلاح سياساتها تجاه إحدى أهم القضايا العربية: الصراع مع إسرائيل.
-
ثالثا: الموقف الأميركي من الثورات العربية حسّن مكانة الولايات المتحدة مرحليًا، وعلى الإدارة الأميركية الاستفادة من هذه الصورة وتثبيتها، كمن يدافع فعلا عن حقوق الشعوب من خلال التسريع بوضع نهاية لمعاناة الفلسطينيين.يعتقد البعض بأن الثورات العربية أنضجت ظروفًا أكثر الحاحًا مما سبقها لحمل الولايات المتحدة على الدفع باتجاه حل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. - رابعا: عدم وجود أفق لحل سياسي قد يفاقم الأوضاع موضوعيًا، ويؤدي إلى خيارات سياسية معادية للغرب عمومًا وللولايات المتحدة وإسرائيل خصوصًا، في الانتخابات المزمع إجراؤها في الدول التي جرت بها ثورات وتغييرات سياسية، أو حتى في الدول التي وعدت بإجراء إصلاحات وعلى رأسها إجراء انتخابات نزيهة، كالأردن على سبيل المثال.
- خامسا: التشجيع العربي الرسمي والشعبي لتدخل الغرب في ليبيا هو إشارة إلى استعداد لقبول التعامل مع الغرب على خلفية تقديم المصالح المشتركة، والعرب الآن أكثر قبولاً لتدخل أميركي فعال لأجل حل الصراع مع إسرائيل.
أتى خطاب الرئيس الأميركي، باراك أوباما، يوم الخميس 19 مايو/أيار 2011 في مبنى وزارة الخارجية الأميركية، وخطابه أمام منظمة إيباك المناصرة لإسرائيل يوم الأحد 22 مايو/أيار 2011، ليضع حدًا للتكهنات (3)، وليستمر في نفس إستراتيجية العمل التي اتبعها سابقوه، بيل كلينتون وجورج بوش، في التعامل مع القضية الفلسطينية، مع تغييرات طفيفة في بعض الجوانب أعني أن الرئيس الأميركي عرض في موقفه خلال الخطاب خمسة أبعاد تسترعي الإشارة:
- أولا: تبنى أوباما الخطاب الإسرائيلي بشكل شبه كامل في كل القضايا التي عرضت: الدولة اليهودية أو الدولة القومية للشعب اليهودي، مطالبة الفلسطينيين بأن يُثبتوا (مرة أخرى) أن رغبتهم بالسلام جدية، القبول ببقاء غالبية المستوطنات مكانها مع تبديل أراضٍ، التراجع في مسألة مستقبل القدس على الأقل مقارنة مع الإجماع الدولي وموقف حلفائه الأوروبيين. ورغم أنه طرح على إسرائيل العودة إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران فقد تراجع عن هذا الموقف غداة يومه خلال خطابه في مؤتمر "الإيباك"؛ حيث أوضح موقفه بأنه يقصد أن تكون حدود 1967 هي المبدأ ولكنه لا يقبل بعودة إسرائيل إليها، وأن هنالك حاجة للتبادل لضم الكتل الاستيطانية.
- ثانيا: لن تقدم الولايات المتحدة على وضع مشروع متكامل لحل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين كما أمّل الكثيرون؛ فحلّ الصراع مرتبط بالمفاوضات المباشرة وبتبعات الخطوات على الأرض (4)، وبالتالي فإن ما سوف يحكم النتيجة هي القدرات الخاصة لكل طرف، بنيته السياسية وميزان القوة بين الأطراف. عمليًا هذا ما تريده إسرائيل ولن يضيف أي شئ على ما جرى حتى الآن من مسار لم يؤد إلى إنجاز اتفاق. برأيي هذا هو السبب المباشر والرئيسي لاستقالة مبعوث الرئيس الأميركي الخاص لمحادثات السلام، جورج ميتشل، من منصبه لكونه أيّد عرض خطة أميركية متكاملة للتسوية بينما مال الرئيس الأميركي إلى تأييد موقف إسرائيل واللوبي الإسرائيلي ممثلاً في موقف دنيس روس داخل الإدارة الأميركية من هذا الموضوع.
- ثالثا: الولايات المتحدة تدعم قيام دولة فلسطينية مع تغييرات في الحدود (أي إبقاء بعض الكتل الاستيطانية مكانها)، وهي مقولة أعلن عنها سابقًا الرئيس لأميركي جورج بوش عام 2003، عندما أعلن رؤيته بشأن إقامة دولة فلسطينية. يكمن التغيير الجزئي الذي ورد في خطاب أوباما في تحديد أوضح من الماضي للمعالم الجغرافية لهذه الدولة، وهي رغبة إسرائيلية وافق عليها الفلسطينيون مرغمون وجزئيًا من خلال محادثات عباس مع أولمرت قبل تنحي الأخير عن السلطة عام 2009.
- رابعًا: قام الرئيس الأميركي بتوجيه ضربة سياسية عينية للجهود الفلسطينية لإعلان دولة فلسطينية في سبتمبر 2011 وعرضها على الجمعية العمومية أو مجلس الأمن للحصول على اعتراف دولي بهذه الدولة. بعد خطاب أوباما تناولت وسائل الإعلام خبر دعوة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، القيادة الفلسطينية إلى اجتماع طارئ؛ إذ فهمت القيادة الفلسطينية أن النتيجة السياسية والمباشرة الوحيدة لخطاب أوباما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، هي ضرب برنامجهم الوحيد على الساحة، وتبني الموقف الإسرائيلي كاملاً، وإبقاؤهم بالتالي بدون أي برنامج يقدم للشعب الفلسطيني أو حتى للعالم.
- خامسًا: حدد الرئيس الأميركي في خطابه قضيتي الحدود والأمن كقضايا يجب إنجازها خلال المفاوضات المفترضة بين إسرائيل والفلسطينيين، وطلب تأجيل قضيتي اللاجئين والقدس، وقال بشكل مباشر: إن إنجاز اتفاق سلام حاليًا لا يعني نهاية الصراع. لقد أدرك عمليًا الرئيس الأميركي أنه لا يمكن إنهاء الصراع في المدى المنظور، وبعث برسالة مزدوجة: للفلسطينيين بعدم انتظار حل كل قضاياهم خلال المفاوضات الحالية، ولإسرائيل بأن تفهم أن الاتفاق المتاح لا يمكن أن يُنهي الصراع كما أرادت إسرائيل من خلال مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، أو حتى من خلال موقف نتنياهو الذي اشترط في خطابه أمام الكنيست (يوم 16 مايو/أيار 2011) (5)، "ضرورة أن يضع الاتفاق بيننا حدًا للنزاع وللمطالب الموجهة إلى إسرائيل".
هذا الموقف المعلن رسميًا، يعني خروجا عما كان مفهومًا ضمنيًا، وكان محل ا&