جنوب السودان .. فرص وتحديات ما بعد الاستقلال

أسباب التواصل والتعاون بين دولتي شمال السودان وجنوبه أمر لا فكاك منه, وتؤكد تصريحات القادة السياسيين في الحزبين الحاكمين على هذه الحقائق, لكن حالة التوجس والتوتر والاتهامات المتبادلة ظلت هي السمة الرئيسة لعلاقة الطرفين وهو ما يثير تساؤلات بشأن مستقبل هذه العلاقة
1_1072795_1_34.jpg

بقلم: خالد التيجاني النور

يشكل استقلال جنوب السودان, وولادة الدولة الرابعة والخمسين في القارة الإفريقية, حدثاً تاريخياً مفصلياً بالنسبة للدولة السودانية وكذلك للقارة السمراء, يتعدى مجرد تغيير الحدود الجغرافية للبلد المنقسم, إلى إنهاء حقبة كاملة في تاريخه السياسي, بل إن تبعاته وتداعياته ستؤدي بالضرورة إلى بروز معطيات جديدة تعيد ترتيب الحقائق والوقائع الجيوسياسية في المنطقة, وإلى خلق معادلات استراتيجية جديدة.

صراع النخبتين الشمالية والجنوبية
الثوابت الإفريقية والحدود الموروثة عن الاستعمار
مكامن القوة وعواملها في دولة الجنوب
العامل الخارجي.. أمريكا عراب الانفصال
اقتصاد جنوب السودان.. قدرات وتحديات
العلاقة مع الشمال مسألة حتمية

صراع النخبتين الشمالية والجنوبية

ومن نافلة القول إن "الحركة الإسلامية السودانية" بزعامة حسن الترابي تتحمل المسؤولية التاريخية الأكبر وهي التي سوغت لنفسها الانقلاب عسكرياً في العام 1989, على نظام ديمقراطي بدعوى إنقاذ البلاد والحفاظ على وحدة الوطن, تراباً وشعباً
استقلال دولة الجنوب, التي تشكل مساحتها البالغة ستمائة وأربعون ألف كيلومتر مربعاً ربع مساحة السودان, ويمثل مواطنوه البالغ تعدادهم ثمانية ملايين نسمة خمس سكانه, يعني عملياً نهاية حقبة تاريخية تشرف على القرنين في تاريخ السودان الحديث الذي بدأ مشروع الدولة الموحدة فيه يتشكل مع بواكير الفتح التركي المصري في عام 1821 على يد محمد علي باشا.

ورثت النخبة السودانية الشمالية, بعد الاستقلال في العام 1956, الوحدة الجغرافية للبلاد التي خلفها الحكم الثنائي المصري البريطاني, ولكنها أخفقت على امتداد طيفها السياسي وأنظمة الحكم المتعاقبة على مدى أكثر من نصف قرن من صنع مشروع وطني جامع يحول تلك الوحدة الجغرافية التي صنعتها إرادة ومصالح استعمارية من وحدة كيان جغرافي فحسب إلى وحدة كيان وطني وبناء أمة متجانسة.

وتقسيم السودان, بولادة دولة الجنوب المستقلة, يكتب نهاية حقبة "السودان القديم", التعبير المقابل لمشروع "السودان الجديد" الذي أطلقته الحركة الشعبية لتحرير السودان, بكل دلالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ومشروعه الوطني الذي أصبح في ذمة التاريخ.

ولا شك أن هذا الحدث يعد انتصاراً لا مراء فيه لمشروع "الحركة الشعبية" بزعامة الراحل جون قرنق التي ورثت نضال النخبة الجنوبية وسعيها منذ منتصف القرن الماضي لإيجاد موقع لها ودور في المشروع الوطني السوداني للدولة الموحدة على قدم المساواة مع النخبة الشمالية التي آل إليها الحكم بعد الاستقلال, غير أن قصر النظر السياسي والافتقار إلى رؤية وطنية استراتيجية قعد بها عن الوعي بطبيعة التعدد والتنوع العرقي والديني والثقافي والاجتماعي لمكونات البلاد, وما يترتب عليه من استحقاقات واستيعاب هذا الوعي الذي يشكل مكوناً أصيلاً في بناء المشروع الوطني, واكتفت النخبة الشمالية بإلحاق النخبة الجنوبية على هامش الملعب السياسي, فكان أن بادرت النخبة الجنوبية بالدعوة إلى مشروع قومي جنوبي مقابل أفضت نتيجته المنطقية إلى تقسيم البلاد في نهاية الأمر.

صحيح أن الحركة الشعبية نجحت بالانفصال في إسقاط "السودان القديم" ومشروعه الوطني, ولكنها في الوقت نفسه لم تنجح في تحقيق حلم زعيمها جون قرنق, ومشروعها السياسي المعلن بإقامة "سودان جديد" يحافظ على وحدة البلاد على أسس جديدة تدعو لها وتعتبرها لازمة لتحقيق المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين كل مواطنيه وتستوعب تعدد وتنوع مكونات المجتمعات السودانية المتعددة.

وبالضرورة فإن تقسيم السودان ونهاية مشروع الدولة الوطنية الموحدة يمثل فشلاً ذريعاً للنخبة الشمالية التي عجزت على مدى أكثر من نصف قرنق عن الإجابة على السؤال الأهم عن كيفية الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية للسودان, ومن نافلة القول إن "الحركة الإسلامية السودانية" بزعامة حسن الترابي تتحمل المسؤولية التاريخية الأكبر وهي التي سوغت لنفسها الانقلاب عسكرياً في العام 1989, على نظام ديمقراطي بدعوى إنقاذ البلاد والحفاظ على وحدة الوطن, تراباً وشعباً, وهدفها المعلن حينها كان مواجهة مشروع الحركة الشعبية الذي شهد صعوداً وتمدداً في الساحة الوطنية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

وانتدبت "الحركة الإسلامية" نفسها لتحمل هذه المسؤولية ملقية باللوم في تنامي مشروع الحركة الشعبية على ضعف وقلة حيلة الأحزاب السياسية الحاكمة وقتها. ولذلك فإن الوصول إلى محطة تقسيم السودان وإنهاء مشروع الدولة الوطنية الموحدة, ونجاح "الحركة الشعبية" في مساعيها يشكل فشلاً ذريعاً للمشروع السياسي لانقلاب "الإنقاذ" بإخفاقه في تحقيق أهم مبرراته, كما يعني أيضاً أن المشروع السياسي "للحركة الإسلامية السودانية" خسر معركته الأساسية, وأخفق في المهمة التي انتدب نفسه لها في مواجهة المشروع القومي الجنوبي بقيادة الحركة الشعبية, خاصة أن انفصال الجنوب لا يعني نهاية القصة, فالحفاظ على وحدة ما تبقى من شمال السودان أمر محل تساؤل وشكوك مع بروز أزمات تبعات وتداعيات التقسيم في ما بات يعرف بقضايا الجنوب الجديد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, وضبابية مستقبل الوضع في دارفور, وحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي السائدة.

الثوابت الإفريقية والحدود الموروثة عن الاستعمار

يمثل استقلال جنوب السودان وبروز دولته الجديدة تحدياً استثنائياً للقارة الإفريقية على وجه الخصوص, فقد مرت عشرون عاماً منذ شهدت القارة السمراء أول سابقة تقسيم دولة إثيوبيا خروجاً على توافق الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية على ضرورة الحفاظ على الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري خشية انفراط عقد الاستقرار، وتفادي الحروب الأهلية في القارة التي رسمت حدود دولها في أغلب الأحيان بإرادة خارجية دون اعتبارات موضوعية, فقد كان مألوفاً أنه عند تلاقي مصالح وجنود الدول الأوروبية المستعمرة تتم صناعة الحدود الجغرافية للدول الإفريقية.

ولئن جاء انفصال إريتريا عن إثيوبيا في العام 1991, ثم استقلالها رسمياً بعد ذلك بعامين, بعد نضال استمر ثلاثة عقود لإنهاء حالة ضم إثيوبيا لإريتريا التي كانت تحت الانتداب الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة إيطاليا التي كانت تحتلها, ولئن تمت تلك السابقة دون أن تثير قلق القادة الأفارقة بحكم الوعي بالخلفية السياسية لتلك القضية, فإن استقلال جنوب السودان, وعلى الرغم من تعاطف أغلب الأفارقة مع مطالب الجنوبيين, يثير الكثير من المخاوف في الأوساط الإفريقية خشية من تأثير تبعاته وتداعياته.

إن تقسيم السودان حَدَثَ على تماس العرق والدين أي أن اعتبارات الخلافات العرقية والدينية والعجز عن استيعابها في مشروع وطني يحفظ وحدة الكيان السياسي للبلاد كان السبب الرئيس في الانفصال, وهو ما ينذر بقنابل موقوتة في قارة لا تنقصها الأزمات المتعلقة بتماس العرق والدين, ولقد أصبح هذا النموذج سابقة, وهو ما انتبه الحكماء والقادة الأفارقة إلى خطورة حدوثه منذ مطلع ستينيات القرن الماضي ودعوا لتفاديه عندما حذروا من المساس بحدود الدول الموروثة من الاستعمار لأي أسباب كانت خشية تداعي الدول والمجتمعات.

مكامن القوة وعواملها في دولة الجنوب

يملك الجنوب العديد من أسباب القوة السياسية والاقتصادية, بعضها ذاتي والآخر توفره عوامل خارجية. ولعل في مقدمة ذلك القوة المعنوية الهائلة التي يتمتع بها حالياً شعبه المتطلع لبناء دولته المستقلة حديثاً, تحقيقاً لتوق قديم للاستقلال والتحرر والانعتاق
ما إن ينفض الاحتفال المفعم بالمشاعر الجياشة في جوبا فرحة بالاستقلال وتحقيق الحلم المنتظر طويلاً, حتى تأتي ساعة الحقيقة حيث يتواصل البحث عن إجابة عن السؤال المؤرق الذي يشغل بال القادة الجنوبيين, وطالما أثار أيضاً قلق حلفائهم الدوليين, هل تستطيع النخبة الجنوبية بناء دولة جديدة قادرة على الحياة والبقاء مستقرة, وبناء أمة متجانسة تتوفر لها أسباب التعايش؟ أم تتحقق تمنيات خصومها الذين يراهنون على عجزها عن الوفاء باستحقاقات بناء الدولة والحفاظ على وحدة واستقرار كيانها وشعبها, ويتوقعون قدرتها على الصمود.

في الواقع لا ينقص جنوب السودان شيئاً من أسباب بناء الدولة المستقلة القادرة على البقاء مما يتوفر لعشرات الدول الإفريقية التي سبقتها في الاستقلال, وإن تفاوتت في قدراتها ومدى نجاحها, فمن ناحية عملية يمتلك الجنوب الموارد البشرية والطبيعية والجدوى السياسية والاقتصادية لبناء الدولة الجديدة, ولكن كشأن تجارب الدول الأخرى تبقى الإجابة عن سؤال مدى الاستفادة من هذه الفرصة المتاحة والقدرة على التعاطي مع تحديات البناء والتأسيس مرهونة برؤى وقدرات وأساليب النخبة الجنوبية في الحكم وقدرتها على تأسيس وإدارة الدولة الوليدة.

والسؤال المطروح هو: هل ستقدم هذه النخبة الحاكمة نموذج قادة الدول الذين امتلكوا البصيرة والرؤى الإستراتيجية والتخطيط السليم والأداء التنفيذي الفعال في بناء أوطانهم, والأهم من ذلك تقديم هموم مواطنيهم وطموحاتهم وأجندة أوطانهم على أجندتهم الشخصية, أم يغرقون في نموذج النخب الحاكمة التي تصادر أحلام شعوبها وتختصر الأجندة الوطنية في مكاسبها الذاتية ومصالحها الضيقة, وعدم تورعها عن التورط في فساد الحكم فقط من أجل الاستئثار بالسلطة بأي ثمن؟

يملك الجنوب العديد من أسباب القوة السياسية والاقتصادية, بعضها ذاتي والآخر توفره عوامل خارجية. ولعل في مقدمة ذلك القوة المعنوية الهائلة التي يتمتع بها حالياً شعبه المتطلع لبناء دولته المستقلة حديثاً, تحقيقاً لتوق قديم للاستقلال والتحرر والانعتاق, وتحقيقاً لحلم إقامة وطن يحسون فيه أنهم مواطنون من الدرجة الأولى ولا يخشون فيه تمييزاً عرقياً أو دينياً وهو أمر طالما انتظروه, وتشكل هذه القوة المعنوية عاملاً مهماً في توفير الطاقات لبناء الدولة المنشودة وتحقيق الطموحات المرجوة, وتخييباً لظن المراهنين على ولادة دولة فاشلة.

ومن مقومات القوة الذاتية لدولة الجنوب موقعها الجيوسياسي, فهي تجاور ست دول, شمال السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والكنغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى, مما يمنحها فرصة الاستفادة من مساعي هذه الدول للحفاظ على مصالحها الحالية, أو تحقيق مصالح جديدة, وتنافسها من أجل خلق علاقات مميزة مع الدولة الجديدة. مما يجعلها لاعباً مؤثراً في لعبة التوازنات الإقليمية ويفتح لها الباب لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.

كما أن موقعها الجغرافي في منطقة مهمة في حسابات الاستراتيجيات والمصالح الدولية, يمنحها بعداً أكثر أهمية للقوى الباحثة عن موطئ قدم ووجود في هذه المنطقة الإستراتيجية من القارة الإفريقية، لاسيما إسرائيل المدركة لأهمية الورقة الجنوبية في توازناتها الإقليمية, وقد ظلت إسرائيلا لاعباً فاعلاً من وراء الكواليس في المسألة الجنوبية وقدمت دعماً مؤثراً للحركات الجنوبية الثائرة منذ أواخر الستينيات وهو أمر ليس سراً. كشف جوزيف لاقو زعيم حركة إنيانيا في مذكراته عن تفاصيل تأسيس تلك العلاقة. وقد أصبحت دولة الجنوب مستقلة فسيحرر ذلك الطرفين ويمكنهم من تحويل تلك العلاقة المستترة إلى علاقة مفتوحة الآفاق, وتمتلك القدرة في التأثير على معادلات وتوازنات القوة في الإقليم مما يحقق لدولة الجنوب فرصة سانحة بفعل هذا الوزن السياسي للاستثمار في موقعها الجغرافي.

ولعل هذه الحقيقة بالذات هي التي ظلت مصدر قلق بالنسبة لمصر حيث جعلت فصل الجنوب خطاً أحمر في استراتيجيتها وقاومت محاولة تقسيم السودان طويلاً, قبل أن تجد نفسها مضطرة للتعامل مع الأمر الواقع وتتحول باتجاه كسب ود الجنوبيين وإظهار الاستعداد لدعم دولة الجنوب الجديدة, وهو مكسب مهم أظهر أهمية عامل قوة الموقع الجغرافي, وإمكانية تحقيقه لمصالح مهمة لدولة الجنوب.

العامل الخارجي.. أمريكا عراب الانفصال

الإدارة الأمريكية وبدعم جماعات الضغط المؤيدة للجنوبيين تعتبر نفسها عراب الدولة الجنوبية المستقلة, وتتحمل مسؤولية خاصة تجاهها تجعلها متكفلة بحمايتها ورعايتها وتوفير أسباب الحياة لوجودها, وضامنة الدعم الدولي لها سياسياً واقتصادياً
أما أهم عوامل القوة الخارجية التي تصب في مصلحة دولة الجنوب فهو بلا شك أنها صنعت على عين الولايات المتحدة, فالرعاية الأمريكية المباشرة والحثيثة للقضية الجنوبية على مدار العقدين الماضيين شكل مصدر قوة ودعم حاسم لجنوب السودان. والملاحظ أنه على الرغم من أن مسألة الجنوب ظلت حاضرة بقوة في السياسة السودانية منذ منتصف القرن الماضي, إلا أن الولايات المتحدة لم تشكل حضوراً فاعلاً فيها إلا خلال العشرين سنة الماضية, حيث تركز الدور الأمريكي خلال العشرية الأولى على العمل الإنساني والإغاثي, في ما تركز بشدة خلال العشرية الثانية على لعب دور حاسم على الصعيد السياسي في البحث

نبذة عن الكاتب