ألمانيا: الصعود والتأثير

يحلِّل هذا التقرير عناصر القوة الألمانية، ويفسر أسباب صعودها المتسارع، ويقرأ انعكاسات ذلك من الناحيتين السياسية والإستراتيجية على أوروبا والعالم.
201252812232927734_20.jpg

مثّل تاريخ 30 أبريل 1945 نقطة الانهيار السحيق في تاريخ ألمانيا المعاصرة بانتحار "أدولف هتلر"، إثر احتلال قوات التحالف للعاصمة برلين ومقر الحكم في الرايخستاج (*)، إعلانًا لهزيمة ألمانيا القاصمة في الحرب العالمية الثانية، بعد تدمير غالبية مدنها واقتصادها وجيشها ثم تقسيمها إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية وألمانيا الديمقراطية، وبعد اقتطاع أجزاء من أراضيها وضمها لبولندا والاتحاد السوفيتي وفرنسا، وما نجم عن ذلك كله من تشريد نحو 12 مليون ألماني كانوا يعيشون في شرق أوروبا، إضافة إلي 8 ملايين أسير في معتقلات قوات الحلفاء، واستخدامهم في معسكرات عمل لإعادة إعمار ما دمرته النازية لدرجة احتفاظ السوفيت بأسراها حتى عام 1956، وحصول فرنسا على مليون أسير ألماني هدية من الأميركيين والبريطانيين، إلي جانب تدمير السكك الحديدية والطرق، وتفكيك السوفيت للمصانع ونقلها لبلادهم، بل وتطبيق مبدأ "إعادة تربية الألمان" لتخليصهم من النازية بمعاقبة غالبيتهم، وإقالة 90% من العاملين في سلك القضاء وإغلاق دور النشر والإعلام، بل والمدارس "حتى يتم تطهيرها ومناهجها من الفكر النازي" (1).

المعجزة الاقتصادية

ومع كل ما سبق نهضت ألمانيا، ولم يكن الهدف مجرد رغبة في التقدم والرفاهية فقط، بل أيضًا نوعًا من رد الكرامة والاعتبار، وهو ما بدأ على يد "لودفيج إرهارد" الملقب بـ "أب المعجزة الاقتصادية الألمانية"؛ حين شعر منذ عام 1944 بحتمية خروج ألمانيا مهزومة من الحرب فكتب مذكرة بعنوان "تمويل ديون الحرب وإعادة هيكلتها" شملت رؤيته عن كيفية إعادة بناء الاقتصاد الألماني على أساس فكرة "السوق الاجتماعي" التي تقوم على حرية السوق مع الاهتمام بالتوازن الاجتماعي، ليطبق سياسته فور انتهاء الحرب كوزير لاقتصاد مقاطعة بافاريا ثم بعد تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 كوزير لاقتصاد أول حكومة برئاسة كونراد أديناور.

 

ورغم إجبار ألمانيا على دفع تعويضات تبلغ قيمتها 1,1 مليار دولار سنويًا منذ نهاية الحرب الثانية (آخر دفعة 1971)، إلا أن إرهارد قام بخطوات طموحة؛ حيث توافق في البداية مع سلطة الاحتلال على تغيير العملة بصورة مفاجئة في 19 مايو/أيار 1948 بإلغاء عملة "مارك الرايخ" واستبداله "بالمارك الألماني"، وإلغاء ديون الدولة، ثم قام دون إبلاغ سلطة الاحتلال بتحرير السوق وتحديد الأسعار؛ مما أجبر التجار علي إخراج بضائعهم المخبأة لتختفي السوق السوداء وتتراجع أسعار البضائع، لتنتهي الأزمة الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب(2).

بالمقابل فإن النهضة الاقتصادية الألمانية استفادت أيضًا من رفض الرئيس الأميركي "روزفلت" لمشروع "مورجنتاو" الذي كان يهدف إلى جعل ألمانيا دولة زراعية فقط اتقاءً لخطورتها، حتى لا يتكرر خطأ الحلفاء معها بعد الحرب العالمية الأولى، بفرض قرارات مهينة عليها تدفعها للانتقام؛ مما جعلهم يفكرون في بديل يضمن نهضة ألمانيا دون أن تخرج عن نطاق سيطرة الحلفاء الغربيين.

الأمر الذي أدى إلى إقرار وزير الخارجية الأميركي "جورج مارشال" المشروع المعروف باسمه في عام 1947 لدعم دول أوروبا، بما يعادل 3 مليار مارك ألماني حصلت عليها ألمانيا من مشروع مارشال حتى عام 1952، وهو ما فسرته المحللة السياسية "أندريا نيترشايد" أنه كان طمعًا في ربطها بالنظام الاقتصادي الأميركي والحصول علي العائد مستقبلاً، إلى جانب الحيلولة دون انتشار الشيوعية في ألمانيا الغربية، خاصة أن قبول هذه المساعدات كان مشروطًا بالتعاون مع بقية الدول المتلقية لها؛ مما جعل وزير خارجية الاتحاد السوفيتي فياتشيسلاف ميخائيلوفيتش مولوتوف، يحتج بأن "الولايات المتحدة وبريطانيا تسعيان لاستعباد ألمانيا بهذه المساعدات" (3).

وقد تطور الاقتصاد الألماني بصورة سريعة علي أيدي الشعب الألماني وكذلك المهاجرين وبالذات من تركيا التي كانت ألمانيا قد وقَّعت معها اتفاقية لاستقدام العمالة في عام 1961، حتى أصبح الاقتصاد الألماني رابع أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة والصين واليابان بناتج محلي بلغ 3,518 تريليون دولار في عام 2011، كواحدة من أكثر الدول صناعةً للسيارات والآلات والمواد الكيميائية والمعدات والأدوات المنزلية، وكرائدة في إنتاج الطاقة الشمسية في جميع أنحاء العالم، كما توجد لديها 37 شركة من أكبر 500 شركة في العالم في مجال أسواق الأسهم العالمية(4).

الوحدة الألمانية

رغم رضوخ ألمانيا الاتحادية للتقسيم القسري إلا أنها اعتمدت علي سياسة النفس الطويل بالتركيز علي النهضة الاقتصادية وتكوين الاتحاد الأوروبي ثم قيادته، فقامت في سبيل ذلك في 12 أغسطس/آب 1970 بتوقيع معاهدة "موسكو" مع الاتحاد السوفيتي قبلت فيها الالتزام بتقسيم ألمانيا وبالحدود الحالية بما فيها الأراضي التي ضمها لبولندا بطول نهر الأودر، والتي ضمها لفرنسا في منطقة الإلزاس، ومنطقة "شرق بروسيا" التي احتلها الاتحاد السوفيتي، وألا تطالب بهذه الأراضي في المستقبل، وهو نفس ما وقَّعت عليه مع بولندا في معاهدة وارسو في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1970(5).

وحين بدأ تهاوي الاتحاد السوفيتي وفتحت المجر حدودها مع الغرب ونزح آلاف الألمان الشرقيين للعبور إلى ألمانيا الغربية، واندلعت المظاهرات الحاشدة في ألمانيا الشرقية ثم سقط جدار برلين في 9 أغسطس/آب 1989، حين حدث ذلك كله فإن  المستشار "هيلموت كول" استغل الفرصة ليضغط باتجاه توحيد الألمانيتين في مفاوضات ماراثونية بمشاركة دول الاحتلال (الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا)، حتى حصلت ألمانيا الاتحادية على سيادتها، ثم أعلن في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1990 توحيد ألمانيا بضم الولايات الخمس التابعة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة لجمهورية ألمانيا الاتحادية، وعلى الفور وُضِعت خطة ضخمة لرفع مستوى اقتصاد مدن شرق ألمانيا ضمن برنامج طويل الأمد ينتهي عام 2019، يتم من خلاله تحويل 80 مليار دولار سنويًّا من غرب ألمانيا إلى شرقها.

تأسيس وقيادة الاتحاد الأوروبي

وقد لعبت ألمانيا الاتحادية دورًا محوريًّا في توحيد أوروبا، للحيلولة دون تكرار اندلاع حروب بين دولها، بدءًا من تشكيلها "المجموعة الأوروبية للفحم والصلب" بمشاركة فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج عام 1951، ثم  التوصل من خلال توقيع اتفاقية "روما" في 15 مارس/آذار 1957 لأول وحدة جمركية أوروبية عُرفت باسم "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" والتي تحولت بتوالي انضمام الدول الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي بتوقيع معاهدة ماستريخت في ديسمبر/كانون الأول 1991، الذي وصل الآن إلى 27 دولة، 17 منها دخلت في منطقة العملة الموحدة "اليورو".

ورغم أن ألمانيا وفرنسا كانتا من الدول المؤسسة، بينما لم تنضم بريطانيا سوى عام 1973 ولم تنضم لمنطقة اليورو حتي الآن، إلا أن القيادة السياسية للاتحاد كان يتنازعها الفرنسيون والبريطانيون بينما كانت ألمانيا تكتفي بالتنازع على القيادة الاقتصادية، ثم تلتها مرحلة المحور الألماني-الفرنسي داخل الاتحاد وتراجع الدور البريطاني، حتى انفردت ألمانيا بالزعامة الاقتصادية ثم السياسية مؤخرًا؛ فقد زاد وزنها السياسي وفقًا لمعاهدة "نيس"، كأكبر الدول الأعضاء عددًا للسكان مما جعل عدد أعضاء البرلمان الأوروبي الممثلين لألمانيا هو الأكبر (99 عضوًا)، يليها فرنسا وإيطاليا وبريطانيا 72 عضوًا، ثم تنامى نفوذها لدرجة أنها أصبحت القائد الحقيقي مع توالي اتخاذها القرارات المصيرية وبالذات في أزمتي مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية، ثم أزمة الديون اليونانية والمحتمل انتقالها لدول أخرى، مثل: إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، خاصة أن ألمانيا تدفع النصيب الأكبر (211 مليار يورو) من المساهمات في ميزانية مظلة الإنقاذ المالي لمنطقة اليورو(6).

من ناحية أخري استطاعت ألمانيا استغلال انهيار الاتحاد السوفيتي بتوحيد شطريها الشرقي والغربي، ثم بتوسيع الاتحاد الأوروبي لأكبر حد ممكن (رغم أن هذا كان له تداعياته التي تجلَّت في أزمة الديون الأوروبية)، كما نجحت في ملء الفراغ الذي تركه سقوط الاتحاد السوفيتي في أوروبا الشرقية، ليصل نفوذها الإقليمي إلي الحدود الروسية، حتى إن المارك الألماني كان عملة معترفًا بها في عديد من دول شرق أوروبا قبل دخول اليورو.

الانضمام للأمم المتحدة وحلف الناتو

وقد انضمت ألمانيا إلى الأمم المتحدة عام 1973 وأصبحت في سنوات قليلة إحدى أهم دولها، وباتت ثالث أكبر دولة مساهمة في تمويل الأمم المتحدة وتتحمل عشرة بالمائة من ميزانيتها البالغة 1,6 مليار دولار، ومع تزايد مساهماتها المالية والسياسية بمشاركاتها المهمة في التفاوض في القضايا الدولية، ثم زيادة مساهماتها العسكرية في مهام الأمم المتحدة لمواجهة أعباء القضايا الدولية باتت من أهم المرشحين للانضمام للدول دائمة العضوية في المطالب المتكررة لتوسيع مجلس الأمن ليكون أكثر تعبيرًا عن دول العالم في القرن الحادي والعشرين، لا كما كان إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية(7).

كما كانت ألمانيا الاتحادية قد انضمت لحلف الأطلسي في 9 مايو 1955، ولكن طبقًا للقانون الألماني الذي لم يكن يسمح بإرسال قوات عسكرية خارج أراضيها، فإن دورها كان يقتصر على تقديم الدعم اللوجيستي إضافة لوجود القواعد الأميركية على أراضيها، وما سُمِّي بسياسة "الشيكات" بتمويل الحملات العسكرية لدول الحلف كما حدث في حرب الخليج الأولى.

وقد اهتمت ألمانيا بتطوير جيشها وزيادة مشاركاته خارج الأراضي الألمانية بوضوح  في إطار حلف الناتو ومهام الأمم المتحدة لحفظ السلام منذ حرب كوسوفو ثم أفغانستان، حتي بلغ عدد جنودها المتواجدين في بلاد أجنبية 6793 جنديًّا منهم 4734 في "إيساف" في أفغانستان وأوزبكستان، و1226 في "كي فور" في كوسوفو، و341 في "أطلنطا" في القرن الإفريقي، و227 في "يونيفيل" في لبنان، والباقون في مهام في ألمانيا وجنوب السودان والسودان والمجر وأوغندا والكونغو والبوسنة(8).

من ناحية أخرى فإنها طوّرت صناعتها التسليحية المتفوقة تكنولوجيًّا لدرجة أنها أصبحت ثالث أكبر دولة مصدرة للسلاح في العالم مباشرة بعد الولايات المتحدة وروسيا؛ حيث احتلت 11% من سوق تصدير السلاح العالمي في الفترة بين 2006 و2010 (بمبلغ 13,215 مليار دولار) مقابل 30% للولايات المتحدة (بمبلغ 36,552 مليار دولار)، و23% لروسيا (بمبلغ 27,781 مليار دولار)، ومتقدمة على فرنسا التي احتلت المرتبة الرابعة بنسبة 7% (بمبلغ 9,057 مليار دولار)، وبريطانيا الخامسة 4% (بمبلغ 5,018 مليار دولار) (9).

القوة الناعمة

تُعد ألمانيا الدولة الأوروبية الأكثر سكانًا بحوالي 82,3 مليون نسمة، يشكِّل المهاجرون نسبة 9% منهم، وهي ثالث أكبر دولة تستقبل مهاجرين سنويًّا.

ويحتل التعليم والبحث العلمي أهمية بالغة في ألمانيا بوجود 383 مؤسسة للتعليم العالي منها 103 جامعات و176 معهدًا تخصصيًّا عاليًا. ويقارب عدد الدارسين 2 مليون دارس، وتحتل المرتبة الأولى في أوروبا من حيث عدد براءات الاختراع، والثالثة بعد اليابان والولايات المتحدة من خلال 11188 براءة اختراع فردية مسجلة، وهو ما انعكس في حصول علمائها وباحثيها علي 80 جائزة نوبل(10).

ومن أهم علمائها ألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية الأشهر، وماكس بلانك صاحب نظرية الكم، ورونتجن مكتشف الأشعة التي سُميت باسمه، وفيرنر فون براون الذي طور أول صاروخ فضائي، ويوحنا جوتنبرج مكتشف الطباعة، وكونراد زيوس أول من صنع حاسوبًا رقميًّا.

هذا إلى جانب أهم الفلاسفة، مثل "كانت" و"هيجل " و"شوبنهور" و"نيتشه"، وأهم الشعراء مثل "جوته" و"شيلر"، وأهم علماء الاجتماع، مثل "ماكس فيبر" و"هابر ماس"، وأهم المفكرين السياسيين، مثل "ماركس" و"أنجلز"، وأهم الموسيقيين، مثل "بيتهوفن" و"باخ"، وأدباء مثل "جونتر جراس".

وتشتهر ألمانيا بالرياضة وعلى رأسها كرة القدم التي حصل منتخبها الوطني علي كأس العالم ثلاث مرات، و 4 مرات للمرتبة الثانية ومثلها للمرتبة الثالثة، وكذلك حصل علي كأس الأمم الأوروبية 3 مرات ومثلها للمرتبة الثانية.

كما تُولِي ألمانيا اهتمامًا خاصًّا لالفنون، وبالذات مهرجان برلين السينمائي الدولي الذي استطاعت أن تجعله أكبر مهرجان سينمائي دولي ليتفوق في الحضور الجماهيري علي مهرجاني كان وفينيسيا.

المحور الألماني-الفرنسي في مواجهة واشنطن

ومع كل ذلك تزايد شعور ألمانيا بثقتها في نفسها وإمكاناتها وقدراتها، إلا أن الموقف الفارق لهذا البلد الذي حصل على استقلاليته الاقتصادية دون استقلاليته السياسية عن الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تمثل في رفضها القاطع  للحرب الأميركية على العراق في عام 2003، والتي اعتبرها البعض بمثابة "إعلان الاستقلال الحقيقي" عن الهيمنة السياسية الأميركية؛ حيث اصطدم المستشار جيرهارد شرودر حينها بالرئيس الأميركي جورج بوش في مواجهة ضارية ليس فقط لرفض قبول ألمانيا المشاركة العسكرية للحرب ولسياسة الشيكات، بل ووقوفها موقفًا معارضًا ومعرقلاً للحرب حتى أفشلت مع فرنسا حصول واشنطن علي قرار من الأمم المتحدة لتبرير الحرب.

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تتحدث مع رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل أثناء انعقاد قمة ببروكسل (أرشيف - رويترز)

وقد اشتدت المواجهات بين واشنطن ومحور برلين-باريس، لدرجة وصف الإعلام الأميركي لهذا المحور بـ "دول الحلفاء" في مواجهة "دول المحور"، ووصف وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد ألمانيا وفرنسا بأنهما يمثلان "أوروبا العجوز"، بينما جعل المستشار شرودر الصراع هو أهم نقاط حملته الانتخابية، بل ووصل الأمر بوزيرة العدل في حكومته" هيرتا دوبلر جملين" أن تشبه بوش بأدولف هتلر(11).

ورغم أن حكم حزب المستشارة أنجيلا ميركل المحافظ قد خفّف من المواجهة الألمانية-الأميركية، إلا أن الاستقلالية التي أحدثها شردور قد استمرت، إلى جانب تثبيت المحور الألماني-الفرنسي داخل الاتحاد الأوروبي، وداخل الناتو وفي الأمم المتحدة، والرافض للوصاية الأميركية علي أوروبا، ولتدخلاتها في إفريقيا، ومحاولة السيطرة على ثروات العالم، ولمحاولة تحكمها في الاقتصاد الدولي بفرض واشنطن قيودًا تجارية على الدول التي لا تؤيد سياساتها التجارية في العالم، ورفض تقليص الفوائد المصرفية المفروضة على الشركات والمؤسسات الأميركية، وتأييد دخول الصين والمملكة العربية السعودية وروسيا منظمة التجارة العالمية(12).

وبوجه عام تؤكد ألمانيا بوضوح على رفض الوصاية الأميركية على العالم، من خلال تأكيدها على فكرة التعددية القطبية تحت إطار الأمم المتحدة، مع وجود رغبة ملحّة للنخبة السياسية الألمانية الشابة للخروج من حالة التبعية للأخ الأميركي الأكبر إلى لعب دور ألماني أكبر على حلبة السياسة الدولية(13).

ومع ذلك توجد اختلافات وخلافات أحيانًا بين الموقفين الألماني والفرنسي ولكنها ليست بالجوهرية، فرفض ألمانيا المشاركة في التصويت على قرار لمجلس الأمن بالتدخل العسكري في ليبيا وسوريا متوافق مع قناعاتها بعدم اللجوء إلى القوة إلا في حدوده الدنيا، بينما فرنسا لها مصالح سياسية وجيوستراتيجية في إفريقيا تسعى لحمايتها من الانفراد الأميركي، ورغم وجود خلافات اقتصادية بين ميركل والرئيس الفرنسي الجديد أولاند إلا أنه سرعان ما سيتم تجاوزها بتقديم ميركل لحلول وسط، حتى يعود المحور الألماني-الفرنسي، ولكن بقيادة ألمانيا؛ وهو ما سينعكس على العلاقات الألمانية-العربية، فهذا المحور يفتح بابًا لإحداث نوع من التوازن في العلاقات العربية-الغربية، خاصة أن ألمانيا ليس لها ماض استعماري مع العرب، وتؤيد إلي حد كبير الدخول في شراكة ألمانية-عربية بعلاقات خاصة مع مصر والسعودية، إلى جانب دفع الاستثمارات الألمانية والاستفادة من الخبرات التكنولوجية لها.

أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإن موقف ألمانيا ورغم أنه أصبح أكثر انتقادًا للتصرفات الإسرائيلية لدرجة وصف بعض سياسيها أحيانًا بأنها تصل إلى "حرب إبادة جماعية"، وقيامها بدور وساطة في عمليات تبادل الأسرى بين إسرائيل وحزب الله وحماس، إلا أنه لن يتغير كثيرًا بسبب الإرث النازي، فسياستها قائمة على دعم العملية السلمية في إطار حل الدولتين لكن مع أولوية "الحفاظ على أمن وسلامة إسرائيل"،  بما في ذلك إهداؤها غواصات يمكن تحميلها بالرؤوس النووية.

إلا أنه يبدو واضحًا أن ألمانيا فرضت إرادتها في النهاية، وهو ما عكسه الاعتراف الضمني لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز" -في عددها الصادر 27 فبراير/شباط 2012- بأن ألمانيا الأغنى والأكبر أصبحت الزعيم الفعلي لأوروبا، وذهبت إلى أن "مصير الاقتصاد العالمي يكمن الآن في أيدي المسؤولين الألمان"، وختمت برأي المحلل الألماني الشهير "جوزيف جوفه" الذي قال فيه "يمكنني القول إن ميركل أصبحت ملكة أوروبا"، مضيفا قوله "وقد ولت الأيام التي كان ينظر فيها إلى ألمانيا باعتبارها قوة على الصعيد الاقتصادي وقزما على الصعيد السياسي... بعد أن نجح العملاق الاقتصادي في التحول أيضاً إلى عملاق سياسي". (14)
________________________________
وليد الشيخ - باحث متخصص في الشأن الألماني.

هامش
(*) مبنى الرايخستاج هو مبنى البرلمان السابق في الرايخ الألماني افتتح في عام 1894م حتى عام 1933م عندما تم احراقه، ويعد بمثابة برلمان حقيقي للنظام النازي (1933-1945) وفي سنة 1990 تم تغيير اسمة إلى البوندستاغ. (المحرر)

المراجع
1 - http://www.almarefh.org/news.php?action=show&id=2472

2 - http://www.dw.de/dw/article/0,2144,2061172,00.html

3 - http://www.almarefh.org/news.php?action=show&id=2472

4 - http://www.therichest.org/world/worlds-largest-economies/

5– عبد الرحمن المشهداني كتاب" الحزب الاشتراكي الديمقراطي" دار اقتصاديات الشرق للتأليف والترجمة والنشر. ص 181 , 185

6 - http://www.economist.com/blogs/newsbook/2011/09/germany-and-euro

7- http://www.faz.net/themenarchiv/politik/vereinte-nationen/un-sicherheitsrat-zweiklassengesellschaft-alten-rechts-11056862.html

8 - http://de.statista.com/statistik/daten/studie/72703/umfrage/anzahl-der-soldaten-der-bundeswehr-im-ausland/

9–http://armstrade.sipri.org/armstrade/html/export_toplist.php

10 - http://www.almania.diplo.de/Vertretung/almania/ar/01/02__Blick__Zahlen__Fakten/__Blick__Zahlen__Fakten.html#topic16

11 -http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_2270000/2270258.stm

12 - http://www.alwasatnews.com/161/news/read/196458/1.html

13 - http://www.dw.de/dw/article/0,,1675783,00.html

14http://www.latimes.com/news/nationworld/world/la-fg-germany-europe-20120228,0,2973408.story

نبذة عن الكاتب