أكراد سوريا في الحسابات التركية من الأزمة السورية

تخشى أنقرة من أن يؤدي الفراغ في السلطة في سوريا إلى استغلال الأكراد لهذا الوضع للمسارعة باتجاه تحقيق الحكم الذاتي، الفيدرالية أو الاستقلال، الأمر الذي سيكون له تداعيات على وحدة سوريا وعلى أمن تركيا القومي وتماسكها.
15 أغسطس 2012
201281513275352734_20.jpg
تخشى أنقرة من حكم ذاتي أو مستقل لأكراد سوريا، أو أن تصبح المناطق الحدودية ملاذا لحزب العمال الكردستاني (الجزيرة)

ما أن قام النظام السوري مؤخرًا بالانسحاب من بعض المناطق التي يقطنها الأكراد في شمال شرق سوريا وشمال غربها وتسليم إدارتها إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي قام باستعراض قوته وإنزال الأعلام السورية ورفع الأعلام الكردية مكانها على المؤسسات والمباني الرسمية، حتى نقل هذا الحدث معه التركيز التركي على الصعيد الرسمي والعام من الثورة السورية إلى الملف الكردي، دافعًا ما دونه من ملفات إلى المرتبة الثانية من حيث الأهمية، وأثار ما يقرب من الهلع الإعلامي، وقد تجلّى بانصباب الاهتمام التركي برمته على أكراد سوريا، والكيفية التي يمكن من خلالها درء المخاطر الناجمة عن هذا التحوّل الذي يتم الإعداد له داخل سوريا بدعم من أطراف إقليمية أخرى.

المخاوف التركية من "الورقة" الكردية السورية

تخشى أنقرة من أن يؤدي الفراغ في السلطة في سوريا إلى استغلال الأكراد لهذه المرحلة للمسارعة باتجاه تحقيق الحكم الذاتي، الفيدرالية أو الاستقلال في سوريا، أو أن تتحول هذه المنطقة الكردية في سوريا إلى ملاذ آمن لحزب العمال الكردستاني خاصة مع دعم النظام السوري لحزب العمال.

وقد انعكس هذا الاهتمام الذي يمكن القول: إنه وصل حد "الفوبيا" بالتركيز الحصري على مبالغات في توصيف الواقع الكردي في سوريا، وموقع الأكراد في الخارطة الديمغرافية والإثنية السورية، و"الإنجازات" التي حققها أكراد سوريا باتجاه تحقيق مطالب تتعلق بإنشاء منطقة حكم ذاتي أو احتضان حزب العمال الكردستاني، والتعامل مع سيناريوهات تقسيم سوريا وإنشاء دولة كردية تستجلب معها أخرى علوية كأمر واقع الآن، وانعكاسات سيناريوهات التقسيم هذه على تركيا في ظل هواجس التقسيم أو استغلال الملف الكردي لضرب الداخل التركي أرضًا وشعبًا.

وفي هذا الإطار، يمكن القول: إن بعض هذه "المبالغات" إنما يعود في الأساس إلى ثلاثة عوامل أساسية:

  1. جزء من المبالغة يعود إلى حساسية الأتراك من الملف الكردي وبالتحديد من المواجهات الدموية المسلحّة مع حزب العمال الكردستاني على مدى عقود، وانعكاسات ذلك على الوضع الداخلي في هذه المرحلة الدقيقة؛ لذلك جرى التعامل مع السيناريوهات المحتملة في سوريا والمرتبطة بالملف الكردي كأنها أمر واقع انطلاقًا من هذه المخاوف التركية؛ وبالتالي فإن التضخيم الإعلامي في الداخل التركي والاستنفار الرسمي الذي جرى في البداية إنما الهدف منه العمل كجرس إنذار مبكّر لمخاطر التطورات الحاصلة في الملف السوري وانعكاساتها على الداخل التركي أو على المواجهة المسلحة بين الجيش التركي وحزب العمال.
  2. جزء يدخل في إطار اللعبة الداخلية بين حزب العدالة والتنمية وبين أحزاب المعارضة التي لا تمتلك سوى الملف السياسي مدخلاً لانتقاد الحكومة التركية، ومؤخرًا أصبحت ترى في الملف الأمني فرصة أخرى للنيل منها. وبهذا المعنى فإن الملف الكردي الأمني والملف السوري السياسي يجتمعان في أكراد سوريا وهي فرصة سانحة للزج بالحكومة في موقف لا تُحسَد عليه خاصة مع تصاعد هجمات حزب العمال الكردستاني على الجيش التركي.
  3. جزء يدخل في إطار الفقر المعلوماتي والثقافي والسياسي التركي عمومًا حول دول الجوار ومن بينها سوريا؛ فعلى الرغم من التطور الذي حصل إزاء الانفتاح التركي على الدول العربية خلال العقد الماضي، إلا أن شريحة واسعة من الرأي العام التركي -كما من النخب- لا تزال تفتقر إلى الفهم الكافي للتركيبة الداخلية للدول العربية والتي تختلف بطبيعة الحال من بلد إلى آخر؛ فالأتراك ينظرون إلى سوريا الآن من خلال العدسة العراقية، علمًا بأن الاختلاف بينهما شاسع وكبير.

 الرؤية التركية "للورقة" الكردية في المعادلة الإقليمية

إن بعض المبالغات التركية في توصيف الواقع الكردي في سوريا لا تلغي أو تنفي وجود أسباب حقيقة لتخوّف أنقرة من استخدام الملف الكردي كورقة ضغط، فالأتراك بدأوا ينظرون إلى "الورقة الكردية" السورية على أنها جزء من لعبة جيوبوليتيكية تستخدم ضدّهم بشكل مكشوف مؤخرًا بعدما كان يتم توظيفها بشكل مبطّن، ومن هذه المعطيات:

أولاً: دعم النظام السوري
إذ قام النظام السوري عمليًّا بتفريغ اتفاق أضنة عام 1998 من مضمونه، وأعاد تأمين الدعم لحزب العمال الكردستاني من حيث حرية الحركة في المناطق المتاخمة لتركيا، وتقديم كل التسهيلات اللازمة له لتنفيذ عمليات عسكرية ضد تركيا. ويعمل النظام السوري -وفق الرؤية التركية- على تقوية "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" الذي يقوده "صالح مسلم" الذي تعتبره أنقرة النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني، وذلك عبر تسليمه إدارة مناطق يقطنها أكراد على الحدود مع تركيا؛ الأمر الذي تراه أنقرة من أكبر التهديدات لأمنها القومي حاليًا.

ثانيًا: دعم النظام الإيراني
لم يعد هناك من شك لدى المسؤولين الأتراك في دعم النظام الإيراني أيضًا للهجمات التي يشنها حزب العمال الكردستاني منذ ما يقارب العام على الجانب التركي نظرًا لحجم هذه العمليات غير المسبوق من حيث التنظيم والأسلحة المستخدمة لاسيما في منطقة هاكاري على الحدود مع العراق وإيران، وهي التي شهدت بداية الشهر هجومًا جاء مصاحبًا لتهديدات مسؤولين إيرانيين بأن تركيا ستكون المحطة القادمة بعد سوريا، ناهيك عن معلومات حول اقتراح حزب العمال الكردستاني إنشاء تحالف بين أكراد سوريا وبين إيران في حال سقوط نظام الأسد ونشوء نظام سوري جديد ليس على وفاق مع السياسة الإيرانية، بحيث يتيح مثل هذا التحالف لإيران موطئ قدم في سوريا الجديدة على أن يتم مقابل دعم طهران للمطالب الكردية بالاستقلال.

ثالثًا: مبادرات البارزاني الأخيرة
جاءت المبادرة الأخيرة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني -لجمع وتوحيد أكراد سوريا إلى جانب التوسط بين المجلس الوطني الكردي من جهة وحزب الاتحاد الوطني الكردي من جهة أخرى- لتعزز المخاوف التركية من أن هناك محاولات تجري لإعداد شيء ما في سوريا يتعدى حصول الأكراد على حقوقهم المشروعة فيما يتعلق بالمساواة في المواطنة، إلى شيء مشابه على الأقل لما هو في العراق من حيث الحكم الذاتي أو الفيدرالية، ما سيؤدي إلى إضعاف سوريا كدولة ويفتح الباب أمام تقسيمها، وهو الأمر الذي إن تم فستكون له تداعيات خطيرة على الداخل التركي أمنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا.

رابعًا: موقف الأحزاب الكردية السورية
باستثناء عدد من المستقلين الوطنيين وقوى شبابية وحزب "المستقبل" الكردي الوطني الذين تنطلق توجهاتهم من حسابات وطنية سورية على قياس الوطن، فإن الموقف الكردي العام في سوريا غير مطمئن؛ فعلى الرغم من إدانة معظم الأحزاب الكردية أعمال حزب الاتحاد الديمقراطي، إلا أنها تلعب لعبة مزدوجة إزاء ما يحدث في سوريا في محاولة للحصول على مكاسب قومية غير مبررة (كالفيدرالية أو الاستقلال) في واقع سوري ينشد سوريا واحدة للجميع بلا تفرقة، وهو أمر يعزز رؤية أنقرة بالنسبة إلى النقطة السابقة ناهيك عن الاتفاق الذي جمع حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي والذي ترى أنقرة أنه قبول بالعمل الكردي المسلح المعادي لأنقرة.

الموقف التركي من الأزمة السورية في ظل المعطيات الكردية

وقد انعكست هذه المعطيات المرتبطة بالملف الكردي السوري على موقف تركيا من الأزمة السورية حيث يتراوح الرد التركي على هذه التطورات بين الاستعداد للمواجهة وبين القيام بعملية احتواء له.

أولاً: المسار العسكري
ويقضي باستكمال التعزيزات العسكرية على الحدود مع سوريا والتي كانت تركيا قد شرعت في إرسالها خاصة بعد إسقاط طائرتها قبالة الساحل السوري، وذلك تحسبًا لكل السيناريوهات المحتملة ومن بينها تدخل عسكري لملاحقة المسلحين الأكراد أو لمنعهم من اتخاذ المنطقة الشمالية من سوريا ملاذًا آمنًا لعملياتهم ضد تركيا، أو استعدادًا للسيناريو الأسوأ.

علما بأن نوعية التعزيزات المرسلة وحجمها وطبيعة انتشارها لا تشي بأنها موجّهة لمجابهة حزب العمّال الكردستاني أو مرتبطة بالملف الكردي بقدر ما هي مرتبطة بالملف السوري والإطاحة بنظام بشار الأسد. ويُعزّز هذا التوجه أن التعامل مع التدخل العسكري في سوريا من بوابة الملف الكردي يُعتبر مكسبًا على اعتبار أن الحالة الكردية في سوريا قد تستوفي كل الشروط التي طرحتها أنقرة سابقًا، حول المسوّغات الموضوعية والقانونية التي من الممكن أن تتدخل فيها عسكريًّا في سوريا. فكون الموضوع يرتبط بحزب العمال الكردستاني، فهذا سيسهل عمليًّا الحصول على موافقة البرلمان التركي للدخول إلى سوريا في حال كان هناك مثل هذا السيناريو. كما أن العسكر في تركيا سيكونون سعداء باستعادة دور ريادي للقيام بهذه المهمة والبرهان على أنهم مستعدون لمواجهة كل الاحتمالات عندما يتعلق الأمر بتهديد الأمن القومي لتركيا.

ثانيًا: المسار الدبلوماسي
وبالتوازي مع المسار الأول، يتم بذل جهود دبلوماسية لاحتواء الملف الكردي في سوريا وذلك على ثلاثة مستويات:

  1. المجلس الوطني السوري: تتواصل أنقرة معه بشكل قوي مؤخرًا للمساعدة في هذا الشأن على اعتبار أن هناك مصلحة تركية في أن يقوم السوريون أنفسهم باحتواء الملف الكردي السوري بدلاً من أن تتدخل أنقرة بشكل مباشر في هذه المرحلة لما قد يثيره هذا التدخل من حساسيات كردية قد تأتي بنتائج معاكسة لما هو مطلوب، خاصة وأن نظرة المجلس الوطني الذي يرأسه عبد الباسط سيدا -وهو كردي سوري- تتطابق مع النظرة التركية من حيث ضرورة إنشاء سورية ديمقراطية حرة يتساوى فيها الجميع مع الحفاظ على وحدة واستقلال البلد.
  2. البارزاني: ليس هناك ثقة تامّة بالرجل (مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان العراق) لدى الأوساط التركية ولكن هناك مراهنة على حاجته المستمرة إلى أنقرة كمتنفس للإقليم الكردي سياسيًّا واقتصاديًّا وكشريان حيوي، لاسيما أن العلاقات بينه وبين السلطة المركزية في بغداد ليست جيدة. وفي المقابل وفي ظل تردي العلاقات التركية مع كل من النظام السوري والإيراني والعراقي، فإن التواصل مع البارزاني حول أكراد سوريا يُعد الخيار الأفضل لأنقرة في ظل هذه الظروف، وعلى هذا الأساس تم إرسال وزير الخارجية مؤخرًا للقائه والتباحث حول هذه المسألة.
  3. الفاعلون الإقليميون والدوليون: هناك توجه تركي للتنسيق مع عدد من الدول العربية الفاعلة على اعتبار أن لا مصلحة عربية أيضًا بالسماح بتقسيم سوريا أو أن تكون سوريا الجديدة دولة ضعيفة أو فاشلة، بالإضافة إلى التنسيق مع الفاعلين الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة على اعتبار أن توجهًا لإقامة منطقة حكم ذاتي للأكراد في سوريا أو دولة فيدرالية أو دولة مستقلة لا يمكن أن يتم إذا لم يكن هناك غطاء دولي لمثل هذا الأمر؛ وهو الشيء الذي تحرص أنقرة على ألا يتوفر في ظل معطيات عن توجه عدد من أكراد سوريا إلى واشنطن للحصول على دعمها فيما يتعلق بالمطالب الكردية في سوريا المستقبل.

 تقييمات مستقبلية مع دخول العامل الكردي على المعادلة السورية

على الرغم من المبادرات الدبلوماسية المبذولة مؤخرًا، إلا أنه من الملاحظ أن هذه الإجراءات لم تُلْغِ الخيار العسكري التركي الذي تتواصل الاستعدادات المتعلقة به على الأرض تحسبًا لأي سيناريو محتمل لاحقًا وبما يضع تركيا في موقع الجاهز لمواجهة هذه الاحتمالات.

وفي هذا السياق يجب الأخذ بالاعتبار مسألة القيود المفروضة على الخيار العسكري التركي في سوريا وهي كثيرة، ولكن في هذه المرة من زاوية تتعلق بمخاطر اعتماد سياسة تقوم على توظيف الخطر الكردي لحزب العمال أو السيناريوهات المرتبطة بالخطر الكردي السوري الصاعد لتبرير تدخل عسكري في سوريا على اعتبار أن هذا الموضوع سيكون له تداعيات خطيرة ليس على تركيا فقط وإنما على الثورة السورية أيضًا، ومنها:

  1. رغم الأطر العديدة التي تجمعهم هناك خلاف بين الأحزاب الكردية التي تنتهج العمل السياسي السلمي وبين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي يعتمد على العمل المسلح، وأية سياسات خاطئة من قِبل تركيا ستؤدي إلى توحيد القوى الكردية  تحت راية حزب الاتحاد الديمقراطي وانتشار حالة العداء الراديكالي لتركيا على طرفي الحدود.
  2. ازدياد النزعة القومية الكردية كرد فعل وبالتالي تقوية النزعة الانفصالية للأكراد ليس في داخل سوريا فقط وإنما في أماكن أخرى خاصة أن حزب العمال الكردستاني لن يفوِّت الفرصة حتى يثبت أن وجهة نظره صحيحة إزاء السياسة التركية وضرورة المطالبة بانفصال الأكراد.
  3. الإضرار بالثورة السورية والمعارضة السورية؛ حيث سيؤدي أي تدخل عسكري تركي مرتبط بالملف الكردي في سوريا إلى انقسام فيما يخص الموقف من تركيا بين مؤيدي الثورة السورية الذين ينسقون مع تركيا كصديقة للشعب السوري وبين مؤيدي الثورة الأكراد الذين سينظرون إلى تركيا كعدوة.
  4. إمكانية تطور الخلاف بين مؤيدي الثورة والأكراد السوريين إلى نزاع مسلح على خلفية الموقف من تركيا، وهو ما لن يساعد إلا المتربصين بسوريا المستقبل وبتركيا أيضًا.

لذلك، يبدو أن هذه القيود بالإضافة إلى عدم استعداد الولايات المتحدة وأوروبا والناتو للمشاركة في أي نوع من أنواع العمل العسكري بعدُ (بغضِّ النظر عن شكله أو حجمه) تجعل من تركيا مرة أخرى رهينة السياسة الواحدة القائمة على العمل السياسي والدبلوماسي. وفي هذا الإطار، فإن الاتجاه الجاري حاليًا في تركيا يقوم على:

  1. حشد كافة الجهود اللازمة لتسريع عملية الإطاحة بالنظام السوري على اعتبار أن التأخير المتعمَّد الذي يجري من قِبل بعض الدول لن تنحصر أضراره بسوريا نفسها بل قد تمتد لتطول دولاً أخرى من بينها تركيا.
  2. الحيلولة دون نشوء أي فراغ سياسي أو أمني في سوريا في المرحلة القادمة، حتى تستعصي على بعض الجماعات والفئات إمكانية استغلال هذا الفراغ لتحقيق مآرب ذاتية بعيدة عن الإجماع السوري، وبالتالي تلافي سيناريو سوريا دولة فاشلة أو سوريا مجزأة، وذلك من خلال دعم عملية تسريع تشكيل حكومة يليها إجراء انتخابات داخل سوريا.
  3. دعم وتأكيد وحدة واستقرار سوريا خلال المرحلة المقبلة بكافة السبل الممكنة، ومواكبة جميع هذه الاتجاهات الثلاثة أعلاه باستعداد عملي على الأرض على اعتبار أن فشل هذه الخيارات يعني أن المسألة السورية خرجت من إطار التفسير البسيط للملف الكردي السوري.

_________________________________
علي حسين باكير - باحث في منظمة البحوث الإستراتيجية الدولية (USAK)–أنقرة

نبذة عن الكاتب