ميانمار والمحور الآسيوي في سياسة أوباما

تمثل ميانمار إحدى الحلبات الجديدة للتنافس الدولي، فسعيها لإطلاق نفسها من المتكأ الصيني إلى رحابة السوق العالمية، سيمر عبر تكاملها بدول آسيان وتقوية علاقاتها بأخرى، وذلك يأتي في سياق سياسة أوباما الذي يترقب مستقبلاً مشرقًا لمصالح واشنطن في شرق آسيا.
0aa42b3e8da744c29b29fd073b8bb5fe_18.jpg
أكد أوباما - في خطابه الذي ألقاه في يانغون- تصميم الولايات المتحدة على المضي قدمًا في بناء علاقات متينة مع ميانمار، وحملت عباراته في طياتها عزمًا أميركيًا وإعلانًا ببدء واشنطن كتابة فصل جديد من العلاقات الدولية لميانمار (الجزيرة).

  أن يختار الرئيس الأميركي باراك أوباما -إثر فوزه بولاية رئاسية ثانية- منطقة جنوب شرق آسيا وتحديدًا ثلاث دول منها، هي: كمبوديا وتايلاند وميانمار (خلال الفترة 17-20 نوفمبر/تشرين الثاني 2012)، لتكون أول وجهة خارجية في صفحة حياته السياسية الثانية في البيت الأبيض، فلذلك معان كثيرة:

  • فهو ترسيخ لما أطلقه أوباما سابقًا من توجه نحو المحيط الهادي في البوصلة الخارجية الأميركية، فيما سُمي بالمحور الآسيوي، المتمثل في اهتمام الرئيس أوباما بشرق آسيا أكثر من أي رئيس من أسلافه منذ الحرب في فيتنام، ليس هذا لمواجهة التمدد الصيني فحسب بل لأهمية هذا الجزء من العالم بالنسبة للمصالح الأميركية بكل جوانبها، ولهذا كانت قمة شرق آسيا المنتدى الموسع لرابطة آسيان أول قمة دولية يحضرها، فمن خلال آسيان كانت الولايات المتحدة –وما زالت- تجد مجالاً للتأثير على الأوضاع في المنطقة بما فيها بحر الصين الجنوبي الذي تتنازع جزره الغنية بمصادر الطاقة الصين ودول آسيانية.
  • ولتلك السياسة مسوغاتها من الواقع الاقتصادي لأميركا التي يرى صناع قرارها في القارة الآسيوية ثروات طبيعية وسوقًا ومجالاً للاستثمار، وكانت هيلاري كلينتون قد تحدثت في وقت سابق عن أن "قسمًا كبيرًا من تاريخ القرن الحادي والعشرين سيُكتَب في آسيا"(1)، وفي شرق آسيا تحديدًا حيث المنطقة الأسرع نموًا اقتصاديًا في العالم، ومن أجل ذلك تسعى إدارة أوباما -ورغم أنها تستفيد من البرامج التكاملية لرابطة آسيان والمنتدى الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (أبيك)- إلى تفعيل مبادرتها المعروفة بـ "شراكة المحيط الهادي" (TPP) التي تضم تسع دول حتى الآن، هي: الولايات المتحدة ونيوزيلندا وسنغافورة وتشيلي وسلطنة بروناي وماليزيا وأستراليا والبيرو وفيتنام، ولو انضمت اليابان وتايلاند لهذه الشراكة فإننا نتحدث عن 40% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم، ورديف ذلك المجلس التجاري لآسيان والولايات المتحدة الذي يضم أكثر من 150 من كبار الشركات الأميركية والآسيانية.
  • عسكريًا عندما يأتي أوباما هذه المرة فهو يحتفل بعلاقات مع تايلاند تمتد لـ 194 عامًا، وربما هي من أقدم العلاقات الأميركية مع مملكة آسيوية. 
  •  كما نجد أوباما يرسّخ شراكة إستراتيجية مع أكبر بلدان المسلمين وثاني أسرع الدول نموًا بعد الصين في المنطقة، ليعيد بذلك هيكلة العلاقات بين إندونيسيا وأميركا في عهد الرئيس الإندونيسي يوديونو بعد عقد من الفتور، وقد تُرجمت هذه الشراكة برفع الحظر تدريجيًا عن بيع السلاح لإندونيسيا، وتجديد برامج التدريب والتعليم وشراكات كثيرة لا تنقطع برامجها طوال العام في إندونيسيا.
  • ونلاحظ كيف أن أوباما يضخ دماء جديدة في الحضور العسكري الأميركي في الفليبين شمالاً وجنوبًا، وفي أقصى الجنوب بدأ الحضور العسكري الأميركي يأخذ أشكالاً جديدة في أستراليا آخرها الاتفاق على وضع منظومة اتصالات فضائية في أستراليا(2).

التوجه الأميركي نحو ميانمار

ضمن ذلك المحور الآسيوي في بوصلة العلاقات الخارجية لأميركا في عهد أوباما يمكن فهم توجه الولايات المتحدة خصوصًا وأوروبا عمومًا نحو جمهورية اتحاد ميانمار، فأوباما هو أول رئيس أميركي يزور ميانمار التي ظلت في عزلة سياسية عن كثير من دول العالم طوال العقود الماضية، وذلك بعد زيارة وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون لميانمار في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي.

وأكد أوباما -في خطابه الذي ألقاه بجامعة في يانغون- تصميم الولايات المتحدة على المضي قدمًا في بناء علاقات متينة مع ميانمار، وحملت عباراته في طياتها عزمًا أميركيًا وإعلانًا ببدء واشنطن كتابة فصل جديد من العلاقات الدولية لميانمار.

وفي تبرير واضح لهذا الموقف الأميركي الذي قفز فوق الملف الحقوقي والإنساني السيء السمعة لميانمار وعسكرها، تطرق أوباما إلى الحريات التي هي من حق الشعب الميانماري، ودعا إلى التحرر من الخوف والعنف والكراهية والصراعات العرقية، ودعا لحل قضية الروهنغيا ومنحهم المواطنة، وكرر القول بأنه كلما تسارعت وتيرة الإصلاحات ترسخت وتوسعت في المقابل العلاقات بين البلدين، وذلك كما لو أنه يترقب استجابة ما من عسكر ميانمار لبعض هذه المطالب لتكون له زادًا في مواجهة الانتقادات التي قد يتعرض لها.

تتزامن زيارة أوباما مع قرارات أميركية وأوروبية لإخراج ميانمار من عزلتها الدبلوماسية تسهيلاً لتقبلها في المنظومة التجارية العالمية، برفع الحظر عن دخول منتجاتها للأسواق الأميركية والغربية قريبًا، وكان أوباما سريعًا في رفع تدريجي لأكثر من شكل من أشكال العقوبات المفروضة كإلغاء منع الشركات الأميركية من الاستثمار في ميانمار أو من التعامل المالي مع مؤسساتها، وقد تُرجم ذلك بتوجه البنك الدولي إلى ميانمار بعد ربع قرن من الغياب ليسهم في بناء نظامها المالي ويقوم بمشاريع مرافق وخدمات أساسية في الأرياف، وسيسعى البنك الدولي خلال أسابيع إلى جمع الدول المانحة لدراسة إمكانية إعفاء ميانمار من قروض تسبَّب سوء الإدارة المالية في الحكم العسكري السابق في تراكمها وتبلغ 11 مليار دولار، ثم السماح بمنح تأشيرات للمسؤولين الميانماريين، وعسكريًا قد يشارك الجيش الميانماري في تدريبات مشتركة لأول مرة مع الجنود الأميركيين العام المقبل خلال تدريبات كوبرا غولد المشتركة مع التايلانديين.

وترى الشركات الأميركية في ميانمار جزءًا من إستراتيجية تنويع مجالات استثماراتها لتتجاوز في ذلك الصين، وأبرز ما يهم كبرى الشركات العالمية من التغيير الإصلاحات القانونية والاقتصادية التي تسهّل استثماراتها في ميانمار بدءًا بتغيير نظام صرف العملة الذي صار متعددًا الآن بين السعر الرسمي وشبه الرسمي وغير الرسمي منذ مارس/آذار 2012، وقبل ذلك تبنّي الدولة سياسة "التصدير أولاً". وإذا كان المحللون الغربيون قد اعتادوا على اعتبار وصول الكوكاكولا إلى بلد ظل يمنعها مؤشرًا على بدء دخول التأثير الأميركي إلى تلك الدولة فإن شركة المشروب الغازي الأميركي قد أرسلت بأول شحنة لها إلى يانغون العاصمة هذا العام لأول مرة منذ 60 عامًا، كما يتوقع صندوق النقد الدولي أن تبلغ قيمة مجموع الاستثمارات الأجنبية مع نهاية العام الجاري 3,9 مليارات دولار وبنسبة نمو قدرها 40% عن العام السابق، وهي أكثر من الاستثمارات خلال خمس سنوات قبل ذلك، ولهذا يتوقع بنك التنمية الآسيوي أن تشهد ميانمار معدلات نمو مرتفعة في الأعوام القادمة، وهو في ذلك يتحدث عن تكرار لنماذج دول آسيوية أخرى عايشت فترة بدء الانفتاح الاقتصادي قبل عشرات السنين، وذلك بعد تحقيق معدل لنسبة النمو خلال العقد الأخير قدّرها صندوق النقد الدولي بـ 4,6% .

لماذا الاهتمام الدولي بميانمار؟

تمثل ميانمار نموذجًا لدولة خرجت لتوها من ظلمة العزلة والعقوبات الاقتصادية والتقوقع على الذات، فما سر الاهتمام الدولي المتزايد الذي قد يجد في أزمة الروهنغيا مجالاً لتوسيع النفوذ أكثر من مجرد نجدة لأقليات مظلومة، بل إننا لو أمعنّا النظر في التغيير السياسي الجزئي الذي حدث في ميانمار عقب انتخابات عام 2010 سنجد أنه ما زال في بداياته ورغم ذلك يلاقي العسكر على ما قاموا به إطراء ومدحًا واسعيْن، مع أنهم ما زالوا نافذين في السلطة والحياة العامة، والنخبة نفسها تحكم من خلال حزب الاتحاد للتضامن والتنمية الحاكم، فما الذي يجعلها ساحة لتدافع عسكري واقتصادي وإستراتيجي بين الهند والصين والولايات المتحدة وغيرها من القوى الآسيوية والأوروبية؟

أولاً: الموقع الإستراتيجي الفريد بين دول آسيان وعملاقي آسيا
يكفي أن نلقي نظرة على موقع ميانمار في الخارطة -وهي ثاني أكبر دولة مساحة بين دول رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) بعد إندونيسيا- لندرك أهمية كونها تقع بين عملاقي آسيا وأكثر دول العالم سكانًا؛ فالصين تقع في الشمال الشرقي لميانمار والهند تقع في الشمال الغربي منها، وفي كلتا الحالتين لميانمار أكثر من معنى من النواحي الاقتصادية، فبالإضافة إلى كونهما سوقًا يحتضن ملياري ونصف المليار نسمة، وأن ما يُستخرج من ثروات ميانمارية وما يُنتج في مصانعها برؤوس أموال أجنبية يمكن تسويقه في كلا البلدين، فإن ميانمار سوق لمنتجاتهما أيضًا، كما أننا نتحدث عن دولة تتوسط ثلاث مناطق آسيوية كبرى تتنافس على جذب المزيد من الاستثمارات العالمية، وهي: الشمال الشرقي لآسيا من نافذة الصين، والجنوب الشرقي لآسيا حيث دول آسيان المجاورة، والجنوب الآسيوي عبر حدودها مع الهند وبنغلاديش وإطلالها الحيوي على خليج البنغال.

ثانيًا: عمالة رخيصة وشعب شاب وغير أمّي
إن نسبة الأمية منخفضة بين سكان ميانمار البالغ عددهم ستين مليون نسمة، إلى أقل من 5% حسب الأرقام الرسمية لعام 2010 بين الفئة العمرية (15-24 عامًا)، كما أن نسبة الشباب مرتفعة حيث يشكّل من هم ضمن الفئة العمرية (15-28 عامًا) نحو 40% من السكان، ويشكّل من هم دون سن العمل 25%، وهي أعلى من نسب نفس الفئة العمرية في الصين وتايلاند، وارتفاع مستوى أجور العمالة في الدول المجاورة لميانمار يعطي ميانمار، حيث ما زال الدخل منخفضًا، مجالاً لجذب استثمارات على حساب غيرها خلال العقدين القادمين.

ثالثًا: مخزون هائل ومتنوع من الثروات الطبيعية
تعد الثروات الطبيعية من أهم نقاط جذب ميانمار للاستثمارات الأجنبية والاهتمام العالمي، وتشكّل 68% من صادرات ميانمار، ويمكن أن تكون هذه الثروات محركًا لنمو الاقتصاد إن أُديرت بشكل مناسب لعقود قادمة، ومن بين هذه الثروات(3):

  • النفط والغاز والمعادن: يُقدّر ما هو مكتَشف حتى الآن من احتياطي الغاز في ميانمار بـ 7,8 تريليون قدم مكعب، ما يجعلها أحد أهم مصدّري الطاقة في منطقة آسيان، ومعظم تصديرها حتى الآن يتجه نحو تايلاند وقريبًا ستكون الصين مستهلكًا مهمًا آخر، وقد ارتفعت قيمة الغاز الميانماري المصدَّر العام الماضي لتبلغ 3 مليارات دولار العالم الماضي، ليدخل الغاز والنفط كعنصرين غيّرا معادلة تصدير ميانمار حيث شكّلا 43% من صادراتها عام 2009 بينما كانا يمثلان 6,3% فقط عام 2000. أما ما اكتُشف من نفط فإنه يُقدّر بـ 2,1 مليار برميل وهو أكثر من احتياطي تايلاند وبروناي لكنه أقل من احتياطي ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام، وتتطلع الشركات الأميركية مثل كونوكو فيليبس وشيفرون للاستفادة من هذه الثروات التي جذبت 77% من الاستثمارات الأجنبية البالغة 3,8 مليار دولار بين عامي 2005 و2010، وهي استثمارات من دول لم تكن تفرض عقوبات أو حظرًا على ميانمار.
  • مصادر المياه والثروة السمكية: تعد ميانمار أغنى دول شرق آسيا من حيث كمية المياه المتوفرة لكل فرد سنويًا، وثلاثة أرباع الطاقة الكهربائية مولدة من مياه أربعة أحواض نهرية، ولم تستغل ميانمار حتى الآن سوى 5% من هذه المياه، وهنا يرد ذكر الثروة السمكية الهائلة في أنهارها وعلى امتداد ساحلها الممتد لـثلاثة آلاف كم، بل إن الأنهار والسواحل البحرية تمثل وسيلة نقل متميزة بطول 5000 كم يعتمد عليها الملايين وتُنقل من خلالها عشرات آلاف الأطنان من السلع التجارية.
  • الغابات: وبعد أن نفد جزء كبير من غابات جنوب شرق آسيا ما زالت غابات ميانمار بكرًا؛ فالغابات تغطي نحو نصف مساحة ميانمار؛ ما يجعلها تحتضن أحد أهم الغابات الباقية في العالم.
  • القطاع الزراعي: يشكّل القطاع الزراعي 36% من الإنتاج الميانماري، ويمثل نحو ربع صادراتها، رغم أنه لم يُستغل إلا 18% فقط من مساحة ميانمار في إنتاج الحبوب وهي التي عُرفت تاريخيًا بسلة الغذاء في المنطقة.
     

رابعًا: ميانمار في آخر ركب منطقة آسيان الصاعدة
حافظت منطقة جنوب شرق آسيا عمومًا على معدلات نمو مرتفعة خلال العقدين الماضيين رغم مرورها بأكثر من أزمة وعثرة اقتصادية وسياسية، لكنها تجاوزت معدلات نمو دول صناعية في أجزاء أخرى من العالم، بل إن بعض دولها بدأ يشهد مثل معدلات النمو المرتفعة هذه منذ السبعينيات، واليوم يبرز جنوب شرق وجزء من شمال شرق آسيا كقوة محركة للاقتصاد العالمي، بإنتاجها وبالأعداد الكبيرة للطبقة المتوسطة المستهلكة فيها، فمع حلول عام 2030 يُتوقع أن يبلغ الاستهلاك أو الإنفاق الاستهلاكي في هذه الدول 32 تريليون دولار ونحن نتحدث هنا عن الدول النامية الآسيوية وهو ما يمثل 43% من الإنفاق الاستهلاكي العالمي.

وكون ميانمار جزءًا من رابطة آسيان فإن هذا سيكون في صالحها اقتصاديًا، ومن مصلحة الولايات المتحدة ودول أخرى أن تندمج فعلاً ضمن منظومة مجتمع آسيان الاقتصادي والسياسي الذي يسعى إلى أن  يصبح سوقًا موحدة ومنطقة إنتاج ذات تنافسية وتنمية اقتصادية متقاربة، ومتكاملة بقوة ضمن الاقتصاد العالمي مع حلول عام 2015، لنتصور كيف أن 26% من التبادل التجاري لدول آسيان هو من التجارة البينية لأعضائها العشرة في عام 2011.

خامسًا: ميانمار جزء من منطقة حوض نهر ميكونغ
الذي يمتد من إقليم يونان في الصين ثم يمر بالحدود بين ميانمار ولاوس ويشكّل أكثر من نصف طول الحدود بين لاوس وتايلاند، ثم يخترق وسط كمبوديا متجهًا نحو جنوب فيتنام حتى يصل إلى بحر الصين الجنوبي، ويعيش على ضفاف هذا النهر 326 مليون نسمة، والذي يشكل شريان حياة زراعية ويقدم ثروة سمكية بل ووسيلة نقل.

إشكالات ميانمار وجراحها، ونقاط ضعفها

تلك هي الصورة التي تجذب التنافس الدولي، لكن الوجه الآخر لميانمار لا يمكن إلغاؤه ولا نسيانه، فهناك تحديات وإشكالات كثيرة تعاني منها ميانمار:
• توترات عرقية تشهدها مناطق الأقلية المسلمة من الروهنغيا، ومئات الآلاف منهم يعيشون مشردين داخل وطنهم وفي الشتات، ثم المواجهات المسلحة التي تشهدها مناطق القوميات الأخرى من الشان والكارين والكاتشين في ولاياتهم؛ حيث حركات تمرد على الحكومة تقاتل منذ عشرات السنين، ورغم بدء التفاوض وتوقيع بعض الاتفاقيات مؤخرًا، لكن الطريق نحو سلام شامل ما زال طويلاً، وجروح تلك الصراعات والحملات الأمنية عميقة وما زالت أعداد كبيرة من هذه القوميات تعيش مهجّرة في دول مجاورة كتايلاند، وسيؤثر على مستقبل ميانمار سلبًا عدم خروج البلاد من نفق حروبها الداخلية، وعدم تسوية أوضاع الأقليات فيها بحلول جذرية وعادلة تضمن استقرار البلاد استقرارًا حقيقيًا، وتُهيَّأ الظروف لتنمية اقتصادية.

  • ضعف النظام المالي والخدمي والمرافق الأساسية أو البِنى التحتية وغياب الشفافية في إدارة الدولة؛ فميانمار تحتل الرقم 180 في قائمة الشفافية العالمية من بين 183 دولة، وهذا يعكس وضع مؤسسات الدولة.
  • يعاني مواطن ميانماري -حسب أرقام بنك التنمية الآسيوي- من كل أربعة مواطنين من الفقر، وهناك فوارق شاسعة بين مستوى دخل مواطنيها، فتصدير منتجاتها لا يعني بالضرورة تنمية لمواطنيها. حتى الآن، 84% من الفقراء في الأرياف، لاسيما في المناطق الحدودية مع الهند والصين وبنغلاديش حيث الفقر فيها هو الصفة الغالبة بين القوميات من الأقليات غير قومية البامار التي تشكّل غالبية السكان، فمثلاً في ولاية تشين يعيش 73% من السكان تحت خط الفقر، ومثل هذه النسبة بين الروهنغيا المسلمين في ولاية أراكان، هذا مقارنة بنسب فقر أقل من 20% في المناطق الجنوبية الأقرب للعاصمة.
  • ويمكن أن ندرك مستوى معيشة الناس بمؤشرات عدة، منها حصولهم على التيار الكهربائي؛ فـ 34% فقط من سكان الريف يحصلون على التيار الكهربائي مقارنة بـ 89% في المدن، وبعبارة أخرى يحصل ربع السكان في المجموع على الكهرباء ولطالما عانوا من انقطاعها، ومن بين كل مائة مواطن ميانماري تحصل نسبة 1,26 على خط هاتفي ثابت، وهذا يتماشى مع حقيقة اعتماد 90% من الميانماريين على الفلاحة، ومثل ذلك يقال بشأن الطرق البرية والسكك الحديدية، ذلك كله يعود إلى وضع بلد حكم على نفسه وحُكم عليه بالعزلة، وسادت فيه سلطوية الدولة ومركزيتها، فانعكس ذلك على أسلوب إدارة الخدمات للمواطنين بل وعلى تصور الحكومة لحقوق السكان الأساسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية ناهيك عن حقوقهم السياسية.

هل ستخسر الصين مصالحها؟

حضور الولايات المتحدة وأوروبا والحلفاء الآسيويين في ميانمار لابد وأنه يزعج التنين الصيني المجاور، الذي ظل لنحو ربع قرن المستفيد الأكبر من ثروات ميانمار وأسواقها، وخلافًا لكل الدوافع المذكورة آنفًا وراء سعي ميانمار والغرب المتبادل لتطبيع العلاقات، فإن البعد الصيني له أهميته الخاصة، فالصين التي ترى في ميانمار المنفذ أو الساحل الثاني لبلادها استفادت من العقوبات الغربية، وقد تكون الخاسر من الانفتاح الغربي على ميانمار.

كانت بداية القصة عندما قمع العسكر صعود المعارضة البورمية بقيادة أونغ سان سوكي عام 1988 فقوبلت ميانمار بحصار وعقوبات غربية ومُنعت من الحصول على منافع المؤسسات المالية الدولية. وجدت الصين فرصتها في ذلك للاستفراد بثروات ميانمار، وكانت قد عبّرت عن ذلك مجلة بيجين ريفيو الرسمية عام 1985 في مقال كتبه نائب وزير الإعلام الصيني آنذاك عن "فتح الجنوب الغربي"، تحدث فيه عن إيجاد طريق بري يوصّل الأقاليم الداخلية للصين -البعيدة عن مدن التصدير الساحلية الصينية- بالمحيط الهندي عبر ميانمار، التي هي بحد ذاتها سوق للسلع الصينية من تلك الأقاليم الصينية، فحتى ذلك التاريخ كان التواصل التجاري محدودًا عبر ما يُعرف بطريق بورما الذي عُبّد عام 1938 بمشاركة مائتي ألف عامل صيني وبورمي.

كانت تلك المقالة واضحة في تحديد الأهمية الاقتصادية والإستراتيجية لميانمار بالنسبة للصين، كيف لا وحدود البلدين تمتد لـ 1300 ميل؟! وقد دفع ذلك الصين إلى تغيير سياستها من تأييد للحزب الشيوعي البورمي وحركات ثورية معارضة إلى التواصل مع الحكومة الميانمارية بتوقيع أول اتفاقية للتجارة بينهما في أغسطس/آب من عام 1988، وكانت البداية لتصبح الصين أكبر شريك تجاري وأهم مورِّد للأسلحة التي بلغت قيمتها خلال عشر سنوات 1,4 مليار دولار، بل إن الصين وفرت للسفن النفطية الميانمارية أجهزة تنصت مخابراتي حصل الصينيون من خلالها على معلومات من السفن الميانمارية التي تبحر في خليج البنغال والمحيط الهندي(4).

وتوالت الصفقات خلال العقد الأخير من خلال عدد من أنابيب النفط والأهم من ذلك أنابيب الغاز التي أُنفق عليها مليارات الدولارات، ويمتد أحدها من سواحل ولاية أراكان على خليج البنغال إلى ولاية كاتشين حيث مواجهات مسلحة بين الكاتشين والحكومة الميانمارية قبل أن يصل إقليم يونان الصيني، وهو خط في غاية الأهمية، فلا يقتصر أمره على الاستفادة من مصادر الطاقة في ميانمار، بل الأهم من ذلك أن 20-30% من السفن التي تأتي بالنفط أو الغاز من العالم العربي سيمكنها أن ترسو في هذا الميناء الميانماري بدءًا من العام المقبل ومنه يضخ الغاز أو النفط عبر أراضي ميانمار نحو الصين متفادية الإبحار جنوبًا وشرقًا عبر مضيق ملاكا والمياه الماليزية والإندونيسية والفلبينية التي تبحر من خلالها سفن تنقل 80% من احتياجات الصين من النفط والغاز.

مقابل ذلك وافقت الصين على منح ميانمار قروضًا بدون فوائد بقيمة 4,2 مليار دولار لتشييد محطات لتوليد الطاقة المائية وتعبيد طرق ومد سكك حديد؛ ما دفع بعض المسؤولين الأميركيين قبل سنوات إلى الدعوة لإعادة النظر في السياسة تجاه ميانمار، لأن مقاطعتها بدعوى انتهاكاتها للحريات وحقوق الإنسان لم ينعكس سلبًا على النخبة العسكرية الحاكمة التي وجدت في الصين مُعينًا لها، بل إن هذه القطيعة الغربية والتقارب مع الصين قد أوصل ميانمار إلى أبعد من ذلك؛ حيث إن وثائق نشرتها جامعة ييل في يونيو/حزيران 2009 أشارت إلى أن كوريا الشمالية أمدّتْ ميانمار بتقنيات تسلحية وتخزينية عالية وغير تقليدية، وقد ذكر أحد المستشارين الذين يرافقون أوباما إلى ميانمار أن واشنطن قد ناقشت مع المسؤولين الميانماريين علاقتهم العسكرية بكوريا الشمالية مشيرًا إلى مطالبتهم بإنهاء تلك العلاقة.

ورغم أن الاستثمارات الصينية في ميانمار كانت في بعض السنوات أكثر من استثمارها في أي بلد آسيوي آخر وقد صارت تشكّل 40% من واردات ميانمار و20% من صادراتها، ورغم أنها تستثمر في 65 مشروعًا لتوليد الطاقة المائية، إلا أن العلاقة بين البلدين بدأت تشهد تعثرات منذ عام 2004 عندما أُقيل رئيس وزراء كان يُعتبر مواليًا للصين، ثم بدأ القوميون الميانماريون يعبّرون عن سخطهم من تزايد عدد المهاجرين الصينيين إلى أراضيهم للتجارة، وبدا ذلك السخط فيما نشره باحث عسكري من أكاديمية الخدمة العسكرية الميانمارية في وثيقة سرية عن العلاقات الميانمارية-الأميركية جاءت في 346 صفحة، أكد فيها أن السياسة التي ستُتبع خلال السنوات القادمة ستتجه نحو تحسين العلاقات مع واشنطن وتقليل الاعتماد على الصين، وأن كون الصين حليفًا دبلوماسيًا -من خلال عضويتها الدائمة في مجلس الأمن- وداعمًا اقتصاديًا قد خلق حالة "طوارئ" تهدد استقلال البلاد، وأن الغرب المهتم بقضايا حقوق الإنسان قادر على تعديل سياسته تجاه ميانمار بما يتوافق و"مصالحه الإستراتيجية"(5).

ثم كانت الصدمة لبيجين في سبتمبر/أيلول من العام الماضي عندما ألغى الرئيس الميانماري ثين سين مشروع بناء سد مايتسون بقيمة 3,6 مليارات دولار لتوليد الطاقة لأقاليم صينية مجاورة، وهو الأكبر من نوعه بالنسبة للصين، وهو قرار اعتبره محلل صيني "إهانة" لواحدة من كبرى الشركات الصينية المستثمرة في ميانمار، ثم بدأت الاحتجاجات الشعبية من السكان والكهنة البوذيين منذ أسابيع ضد مشروع صيني آخر لاستخراج النحاس في شمال ميانمار حيث تختزن الأراضي هناك -كما تقول الشركة الصينية- كميات هائلة من المعدن المهم في الصناعات الصينية، بينما يقول السكان: إن هذه الاستثمارات أضرت بالبيئة الرزاعية والمائية وتسببت في تلوث واسع انعكس على حياة السكان.

لا يعني ذلك انتهاء الحضور الصيني في ميانمار لكنه قد يتراجع لصالح الشركات الأخرى، فهناك مشاريع أخرى في جعبة الصين كسعيها لبناء مصفاة نفط، بقيمة مليارين ونصف المليار دولار مع حلول عام 2015 لإنتاج مائة ألف برميل من النفط يوميًا ستفي بنصف حاجة ميانمار من النفط، المهم في الأمر أنه قد يكون ضمن مشروع مدينة داوي الصناعية قبالة بحر أندامان، التي تطمح الحكومة الميانمارية إلى أن تبلغ الاستثمارات فيها نحو خمسين مليار دولار لتكون إحدى أكبر المناطق الصناعية المطلة على المحيط الهندي، إلى جانب منطقة صناعية وتجارية تسعى لبنائها الصين في سواحل ولاية أراكان.

االهند... المستفيد من انفتاح ميانمار على العالم 

سعيُ قادة ميانمار إلى تقليل النفوذ الصيني خبر يُفرح الساسة الهنود(6)؛ فخلافًا لتوسع العلاقات بين الصين وميانمار إثر قمع الحركة الديمقراطية عام 1988، فإن الهند احتضنت اللاجئين البورميين، ووفرت فضاء رحبًا للمعارضين البورميين في المنفى، وظلّت كالدول الغربية تنتقد السجل الدامي لحكم العسكر، لكن تلك السياسة بدأت تتغير تدريجيًا مع نهاية عقد التسعينيات، لتعيد نيودلهي بناء جسور التعاون مع يانغون تحقيقًا لأكثر من هدف، أبرزها:
• الاستعانة بميانمار في التعامل مع حركات التمرد ضد نيودلهي: التي يطالب بعضها بالاستقلال أو الحكم الذاتي في شرقي الهند فيما يُعرف بالولايات أو الأخوات السبع، التي تعد شبه منفصلة عن بقية أجزاء الهند إلا من ممر سيليغوري الضيق -وتعني عنق الدجاجة بالبنغالية- الذي يقع شمال بنغلاديش، ولذا فإن حدود هذه الولايات مع ميانمار التي تمتد لـ 1634كم ذات أهمية أمنية بالنسبة لنيودلهي؛ حيث يُهرّب عبرها -كما تقول مصادر هندية- السلاح من خلال مناطق لا تخضع لسيطرة كاملة من قبل الجيش الميانماري.

  • مواجهة نفوذ الصين وسعيها للإطلال من خلال ميانمار على المحيط الهندي: فالصين تتوسع بحرًا وآخر ما امتلكته في سبيل تحقيق ذلك حاملة طائرات عملاقة، وهذا مما يدفع الهند إلى تأسيس علاقات مع جنرالات ميانمار على حساب علاقتها مع المعارضة البورمية رغم أن الهند تعلن أنها أكبر ديمقراطية في العالم، ومن تمثلات ذلك تعاون عسكري كان منه تحديث أجهزة الاتصالات لمرفأ للقوات البحرية الميانمارية في أكياب عاصمة ولاية أراكان التي يفصلها خليج البنغال عن سواحل كلكتا في أقصى شرق الهند، يأتي ذلك ضمن سياسة هندية عُرفت بـ "التوجه نحو الشرق"، التي وجدت ترحيبًا من الرئيس الأميركي أوباما.
  • إيجاد أسواق للمنتجات الهندية وللاستثمار الهندي في ميانمار ومنها جنوبًا إلى الدول الآسيوية المجاورة: فعِوضًا عن الحدود البرية فإن السواحل الميانمارية هي أقرب سواحل دول آسيان إلى الهندـ، وبفعل هذا الاهتمام ارتفعت قيمة التبادل التجاري من 12,4 مليون دولار فقط عام 1980 إلى 1,2 مليار دولار عام 2010، وهناك توجه نحو زيادته إلى 3 مليارات دولار خلال ثلاث سنوات.

وختامًا، يمكن القول بأنه إذا كان التدافع بين القوى الكبرى خلال العقود المقبلة سيكون في المحيطين الهادي والهندي فإن ميانمار ستمثل إحدى الحلبات الجديدة للتنافس الدولي بين الكبار، فسعيها لإطلاق نفسها من المتكأ الصيني إلى رحابة السوق العالمية، سيمر عبر تكاملها بدول آسيان، وتقوية علاقاتها بأوروبا والولايات المتحدة وأستراليا والهند، وذلك يأتي في سياق سياسة أوباما الذي يترقب مستقبلاً مشرقًا لمصالح الولايات المتحدة في شرق آسيا -باقتصاداتها المنفتحة النامية وأنظمتها المتجهة بقوة نحو الديمقراطية- بعد عقود من وقوع أميركا في مستنقعات حروب متتالية.
_______________
متخصص في الشأن الأسيوي
الهوامش:
1- في كلمة لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في قمة رؤساء كبرى شركات دول منتدى أبيك في سبتمبر/أيلول 2012 بروسيا، موقع وزارة الخارجية الأميركية:
http://www.state.gov/secretary/rm/2012/09/197519.htm

2- الخدمة الإخبارية للقوات الأميركية، موقع وزارة الدفاع الأميركية:
http://www.defense.gov/news/newsarticle.aspx?id=118537

3- بناء على أرقام بنك التنمية الآسيوي الصادرة في كتاب نُشر حديثًا وأعده ثلاثة من خبرائه، التغيير في ميانمار:
, Myanmar In transition, August 2012,Manila, p 16-18.

4- بيرتل لينتنير، سوكي ولعبة سياسة الشرق الكبير، مجلة تهيلكا الهندية، الجزء التاسع، العدد 47، نوفمبر/تشرين الثاني 2012:   http://www.tehelka.com/story_main54.asp?filename=Ne241112Coverstory.asp
5- بيرتل لينتنير، بورما وتنامي متاعب الصين، موقع مركز جامعة ييل لدراسات العولمة، نوفمبر/تشرين الثاني 2012 :

http://yaleglobal.yale.edu/content/burma-trouble-brewing-china
(6)  في خطوة لافتة زارت أونغ سان سوكي زعيمة المعارضة الميانمارية الهند (13-18 نوفمبر/تشرين الثاني 2012) زيارة رسمية التقت خلالها برئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، قبيل وصول الرئيس أوباما إلى يانغون، وذلك بعدغياب دام 40 عامًا؛ حيث عاشت في الستينيات في الهند برفقة والدتها التي عملت كسفيرة بورمية لدى الهند ونيبال، ودرست في إحدى المدارس المسيحية، وأكملت دراستها العليا في العلوم السياسية في جامعة بنيودلهي عام 1964.

نبذة عن الكاتب