العلاقات الباكستانية-الأفغانية: قلق الماضي وغموض المستقبل

سيحدد شكل العلاقة بين إسلام أباد وكابل في المستقبل معيار أساسي متمثل بطبيعة ونوع انسحاب القوات الغربية المزمع من أفغانستان نهاية عام 2014، إضافة إلى عناصر أخرى تتعلق بتطورات الوضع الداخلي الأفغاني وباللعبة الإقليمية التي تنخرط فيها أكثر من دولة.
2012125111751329734_20.jpg
سيحدد شكل العلاقة بين إسلام أباد وكابل في المستقبل معيار أساسي متمثل بطبيعة ونوع انسحاب القوات الغربية المزمع من أفغانستان نهاية عام 2014 (الجزيرة)

بعد 11 عامًا من حرب التحالف الغربي على حركة طالبان وتنظيم القاعدة 2001-2012 تتجه أفغانستان نحو مرحلة أمنية انتقالية غامضة، ومع الانسحاب الغربي منها نهاية عام 2014 ستشهد مرحلة سياسية أشد غموضًا؛ فواشنطن قلقة من عملية إدارة نقل السلطة في أفغانستان سواءً من خلال السلوك الباكستاني في تعاطيه مع تلك المرحلة أو عبر إمكانية تطبيق النموذج العراقي في أفغانستان بأن تقوم طهران ومعها دلهي بدور الوصاية على المرحلة الانتقالية في أفغانستان، سيما وأن كليهما يُعدّان من أكبر المستثمرين الاقتصاديين حيث يبلغ حجم الاستثمار الهندي بليوني دولار وهو ما يجعلها تتبوأ المرتبة الخامسة عالميًا في الاستثمار بأفغانستان، غير أن انشغال إيران بالملف السوري وانكفاءها -ربما في حال رحيل نظام بشار الأسد- قد ينسف المخطط الأميركي بتسليمها مع الهند رعاية مرحلة ما بعد الانسحاب الغربي في أفغانستان.

تعد أفغانستان الجار الأكثر أهمية لباكستان نظرًا للتداخل والتشاطر العميق والواسع بين البلدين عرقيًا ومذهبيًا وجغرافيًا وتاريخيًا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً؛ فقد هيمن مبدأ "العمق الإستراتيجي" على العقلية الباكستانية إزاء أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي حين كان الطموح لدى العسكريين الباكستانيين -المدفوع بمشاركة المجاهدين الأفغان انتصارهم العسكري- يكمن بتأمين أفغانستان الصديقة والموالية لهم لتكون في مواجهة العدوة الهند، وعمقًا لهم للوصول إلى أسواق دول آسيا الوسطى البكر اقتصاديًا.

إلا أن هذا المبدأ وُوجِه بصدمات وعقبات؛ حيث تخلى عنه أصحابه بعد انطلاقة الحرب على ما يوصف بالإرهاب، فحل محله الغموض والخوف والقلق من العلاقة مع قادة أفغان غير موالين لها، ومردّ ذلك إلى مفاعيل الحرب على ما يوصف بالإرهاب وتراجع الدور الباكستاني في أفغانستان: إن كان بحلول النفوذ الهندي محله نتيجة وصول التحالف الشمالي الأفغاني -المنتمي للأقلية- إلى السلطة الأفغانية وهو المقرب أكثر من الهند وإيران، أو بسبب خسارة باكستان لحليفتها السابقة طالبان وبروز حالة من الشك وانعدام الثقة بين الطرفين، هذا في الوقت الذي بقيت فيه القوى الغربية التي تحالفت مع باكستان تظن أن هذه الأخيرة لا تزال موالية لطالبان وتقدم لها الدعم الخفي.

والحال هذه، فإن الواقع الأفغاني في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من المتوقع أن يطلق لعبة تنافسية إقليمية تُذكّر بأجواء القرن التاسع عشر أو بمرحلة ما بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان 1979-1989، وهي ما اختزلها الشاعر البريطاني روديارد كيبلنغ في القرن التاسع عشر بوصفه لها بـ"اللعبة العظمى".

وعلى الرغم من الحديث الغربي عن الانسحاب من أفغانستان نهاية 2014 إلا أنه لا نهاية مرئية للوجود الأميركي هناك لاسيما بعد ما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال 25-11-2012 عن مسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الأميركية من أنهم يعتزمون إبقاء عشرة آلاف من قواتهم في أفغانستان بعد الانسحاب، وهو ما يعكس اعتقادهم بهشاشة الحكومة التي خلّفوها وراءهم، يُضاف إليه تعهدهم بدعمها أمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا لعشر سنوات مقبلة أي حتى نهاية 2024.

 نقاط الاشتباك والاحتكاك

الخلفية التاريخية مهمة جدًا لفهم سياق تطور العلاقات بين باكستان وأفغانستان ووصول نقاط الاشتباك إلى حالتها الحالية؛ فأفغانستان على مدى التاريخ كانت ترى نفسها ضامنة للوجود الإسلامي في جنوب ووسط آسيا لكونها ساعدت في نشره منذ سلطنات المغول والغزنويين والغوريين والأبداليين الذين وصلوا حتى الهند وحكموا المنطقة، وبقيام دولة باكستان عام 1947 لم يعترف الأفغان بالدولة الوليدة في بادئ الأمر، لأنهم رأوا فيها منافسًا لهم على دورهم الإسلامي الصاعد في المنطقة.

من خلال هذا السياق التاريخي يمكن بشكل أعمق وأدق فهم العلاقات الأفغانية-الباكستانية واستيعابها مع تطوراتها اللاحقة حيث الرواسب الجغرافية والتاريخية والتحامل على الآخر هو ما طبع ويطبع مشهد العلاقة بينهما، وهنا لابد من التمييز بين نقاط اشتباك وتماس تاريخية ربما ستظل باقية طويلاً، ونقاط اشتباك وتماس أقرب إلى اللحظية الآنية وأشبه ما تكون بأوراق الضغط بيد كلا الطرفين، وهو ما يتطلب حلاً عاجلاً وسريعًا لإزالة القلق لدى كليهما، ولنبدأ أولاً بنقاط التماس التاريخية:

البعد الحدودي
هناك شريحة بشتونية مهمة تعيش في باكستان تنظر إلى الشأن الأفغاني على أنه شأن داخلي يهمها بشكل متساوٍ كما يهم أشقاءها الأفغان، وهو ما عكسه دعم بشتون باكستان للمجاهدين الأفغان أيام الغزو السوفيتي لأفغانستان 1979-1990، وكذلك حرب التحالف الغربي على طالبان بين 2001–2012. وباكستان لا تخفي قلقها من بقاء مناطق البشتون هذه غير محسومة السيادة الباكستانية عليها من قبل الأفغان، فلم تسلّم أية حكومة أفغانية حتى الآن بملكية هذه المناطق وتبعيتها لباكستان، خصوصًا وأن الاتفاقية البريطانية مع أفغانستان بشأن الحدود الحالية التي ورثت باكستان بموجبها مناطق البشتون انتهى العمل بها قانونيًا عام 1993، ومنذ ذلك التاريخ وباكستان تفتقر إلى شرعية قانونية للسيطرة على هذه المناطق، وإن كانت تجادل أنها بحكم الواقع غدت أراضيها وأنها ورثتها من البريطانيين.

ويبدو أن حكومة كارزاي التي تُوصف بأنها حكومة تطغى عليها الأقليات غير راغبة بطرح هذه المسألة خوفًا من أن تنعكس سلبًا على بعض مكونات الشعب الأفغاني على المدى الإستراتيجي والبعيد، فضَمّ هذه المناطق لأفغانستان سيُخِلّ بالعامل الديمغرافي لصالح الأغلبية البشتونية وضد الأقليات، ولكن على المدى القريب والتكتيكي ربما تطمح باستخدامها كورقة ضغط لتنتزع بعض التنازلات من باكستان.

أما الطرف الطالباني الذي تغلب عليه العرقية البشتونية ففي حال وصوله إلى السلطة فإن باكستان تتخوف من أن يكون متشددًا في المسألة لاسيما وهو المحتقن ضدها لوقوفها بجانب أعدائه من التحالف الغربي الذي أسقط حكومتها عام 2001 وسلّم سفيرها عبد السلام ضعيف إلى أميركا، واعتقل عشرات من قياداتها وسلم بعضهم إلى الحكومة الأفغانية، وغيرها من الممارسات والسلوكيات المعادية التي قد لا ينساها قادة طالبان.

تجارة الترانزيت
إن أفغانستان دولة حبيسة لا منفذ بحريًا لها، وتعتمد على باكستان من أجل نقل بضائعها من بحر العرب عبر الأراضي الباكستانية إلى أراضيها، وعلى الرغم من الاتفاقيات البينية والدولية التي نظمت وتنظم مثل هذه الوضعية إلا أن نقل البضائع الأفغانية من البحر عبر باكستان عادة ما يواجه بيروقراطية ومصاعب تصل إلى حد الأزمة بين البلدين؛ فباكستان تتهم أفغانستان وتجارها وحكومتها باستيراد البضائع إلى أراضيهم ثم إعادتها إلى مناطق حرة في بيشاور فتُباع داخل باكستان وليس في أفغانستان، وهو ما يسبب خسائر ضخمة للاقتصاد الباكستاني كونها بضائع أفغانية معفاة جمركيًا، وقد قدرت تقارير اقتصادية أن ثلث اقتصاد باكستان المخفي والخارج عن سلطة الدولة إنما يأتي عبر تجارة الترانزيت هذه.

التجارة مع الهند
تشكّل أفغانستان بوابة الهند إلى آسيا الوسطى وكانت باكستان تأمل من خلال حكومة صديقة موالية لها أن تلعب دور البواب على البضائع المتجهة إلى أفغانستان وآسيا الوسطى وبالعكس، ولكن تدهور الحالة المستمر في أفغانستان حرمها هذه الميزة، وهو ما فسّر دعم باكستان لحركة طالبان الأفغانية على الرغم أن هذا الدعم بدأته حكومة بينظير بوتو المختلفة تمامًا معها في الأيديولوجيات، ولكن الطموح الاقتصادي الباكستاني في الوصول إلى آسيا الوسطى والتحكم بكل ما يخرج من آسيا الوسطى ويلج إليها غلب على الأيديولوجيا.

تحاول أفغانستان أن تصدّر منتجاتها الزراعية وغيرها إلى الهند عبر الأراضي الباكستانية وتحديدًا معبر "واغا" قرب لاهور، والحصول بالمقابل على بضائع هندية، غير أن باكستان تعترض على الشق الثاني كونه سيمنح تسهيلات للبضائع الهندية دون تقديم الأخيرة تنازلات اقتصادية وسياسية وغيرها لباكستان.

ويتطور القلق والخوف الباكستانيان من تنامي العلاقات الأفغانية-الهندية من الجانب الاقتصادي إلى الخوف من أن يتطور لحلف بين البلدين ليطوق باكستان، لاسيما مع وجود خمس قنصليات هندية في أفغانستان ومعظمها على الحدود مع باكستان وهو ما ترى فيه الأخيرة تجسسًا عليها وتدريبًا لعناصر بلوشية وبشتونية متمردة على الحكومة المركزية لباكستان من أجل إقلاق الأمن الباكستاني، وزرع خلايا تجسسية بمراكز التدريب التي أُنشئت أخيرًا في ولاية نورستان وغيرها؛ وهو ما قد يفضي إلى حلف هندي-أفغاني لمحاصرة باكستان.

لذا حرصت إسلام أباد تاريخيًا على تأمين الجبهة الغربية المواجهة لأفغانستان وذلك من أجل التفرغ لعدوها وخصمها الهندي، وإلا فسيكون من المستحيل عليها المرابطة في منطقتين حدوديتين طويلتين في مواجهة عدوين أو خصمين يربطهما حلف قوي.

العلاقات في إطارها الإقليمي
انعكست حالة الغموض والخوف من المستقبل على علاقات الحلف التاريخي بين باكستان والصين؛ إذ إن الأخيرة ترغب خفية بإبقاء بعض الوجود الأميركي في أفغانستان من أجل مواجهة طالبان والقاعدة المتحالفين مع الحركة الإسلامية في تركستان الشرقية (إقليم شينجيانغ) بالصين، وهو ما تراه بكين خطرًا جديًا على أمنها القومي. وعلى هذا فإن طالبان أفغانستان حليف باكستان المقبل، قد يُلحق ضررًا  بالعلاقات الصينية-الباكستانية؛ الأمر الذي سيحد من الخيارات المتاحة أمام إسلام أباد فتضيق أكثر فأكثر على المستوى الإقليمي.

تُفضّل الصين أن ترى تحالفًا بين كارزاي ومعتدلين طالبانيين يمهد لانسحاب أميركي من أفغانستان ويسهم في تحجيم دور طالبان في المستقبل، وتبعًا لهذه الرؤية فتحت بكين حوارًا جادًا مع كارزاي وتعهدت له بدعم اقتصادي وسياسي. لكن مثل هذا التحالف لن يقبل به التيار العام الطالباني ممثَّلاً بقيادة الملا محمد عمر زعيم الحركة، والذي لا يزال -رغم كل الصدمات التي تعرضت لها الحركة- الزعيم القوي فيها، وستؤدي خلطة صينية كهذه إلى هيمنة التحالف الشمالي وكارزاي على المشهد الأفغاني المقبل المدعوم هنديًا، على حساب باكستان.

حوار طرشان وأوراق ضاغطة

اعتماد حوار الطرشان هو الوسيلة الأفضل ليحفظ كل طرف أوراقه الرابحة بيديه، وهذا ما تميزت به العلاقات الباكستانية-الأفغانية، وفد اعتادت أفغانستان أن تتهم باكستان بمعظم أمراضها ومصائبها منذ أيام الملك الأفغاني السابق ظاهر شاه، مرورًا بالنظام الشيوعي المدعوم سوفيتيًا، وكذلك أيام حكم المجاهدين بزعامة رباني ومسعود حين اتهموا إسلام أباد بدعم قلب الدين حكمتيار ثم بدعم طالبان. أما اليوم، فلم تجد حكومة كرزاي في انضمام باكستان للتحالف الغربي ومشاركتها إياه بإزاحة طالبان عن السلطة وقتل وتسليم واعتقال قادة طالبانيين وقاعديين، ما يشفع لباكستان، فاتهمتها بدعم طالبان.

وبالنسبة للأوراق الضاغطة والمسائل الملحة التي تقلق الطرفين فيمكن إجمالها بالآتي:

تبادل التهم بالمسؤولية عن "الإرهاب"
تلجأ إدارات الدولة الأفغانية إلى تحميل باكستان مسؤولية استمرار العمليات العسكرية الطالبانية والقاعدية ضدها؛ فشبكات مثل شبكة سراج الدين حقاني العاملة في منطقة شمال وزيرستان لا تزال الحكومة الباكستانية توفر لها الدعم والمساندة، كما تقول الحكومة الأفغانية، وترى في رفض باكستان القيام بأية عمليات عسكرية في المنطقة المذكورة ما يعزز هذا الاتهام، بالإضافة إلى استهداف حقاني لمصالح هندية في أفغانستان وهو ما يُفهم منه حرص باكستان على احتضانه، وترفض باكستان بطبيعة الحال هذه الاتهامات.

وكان الرئيس الأفغاني حامد كارزاي قد قدّم لائحة بأسماء قيادات طالبانية مقيمة في كويتا (باكستان) وُصفت بأنها مركز لمجلس شورى قيادة حركة طالبان الأفغانية، بينما تتهم باكستان أفغانستان بإيواء بعض القيادات الطالبانية الباكستانية مثل الملا فضل الله الذي كان قائدًا في وادي سوات وكذلك بإيواء متمردين بلوش وتدريبهم على تنفيذ عمليات إرهابية في إقليم بلوشستان، ومع نفي كلا الجانبين ذلك يظل الحوار أشبه بحوار الطرشان.

وفي نفس السياق تنتظر باكستان تغيرًا في الأجواء والمعطيات الدولية برحيل القوات الغربية من أفغانستان الذي سيؤدي بحسب تقديرها إلى إضعاف نفوذ كارزاي؛ فالأخير يراهن على ضغوط أميركية وغربية على باكستان وربما على حلف هندي-أفغاني-إيراني تدفع باكستان ثمنه لاحقًا.

غير أن باكستان التي قاومت ضغوطًا أميركية وغربية هائلة خلال السنوات الماضية في الحرب على ما يوصف بالإرهاب لن تخضع لمثل هذه الضغوط الأميركية التي يأملها كارزاي؛ فهي ترى أن الوضع الأفغاني مؤقت؛ وبالتالي فوجود كارزاي مرهون بالوجود الغربي ورحيل الأخير سيفضي إلى رحيل كارزاي؛ وهو ما يعني أنه ليس من الحكمة السياسية التعامل مع حكومة آيلة للسقوط ولا تحظى بدعم شعبي ومهددة بقوة طالبان وقراراتها ليست في كابول إنما في الخارج.

يتهم الأميركيون وحلفاؤهم، ومن بينهم الأفغان، باكستان بممارسة سياسة قاسية وعنيفة وواضحة مع الإرهاب الضارب في أراضيها، بمعنى ضرب الجماعات الطالبانية الباكستانية وشقيقاتها العاملة في باكستان، لكنها تمارس سياسة لينة وطرية مع ما يصفونه بالإرهاب الضارب في أفغانستان ضد القوات الغربية وأفغانستان عبر إيواء ودعم مقاتلي طالبان والقاعدة في مناطق القبائل وغيرها، ويرد المسؤولون الباكستانيون على ذلك الاتهام بأن جذر الإرهاب والمشاكل في أفغانستان وليس في بلادهم، ومردّه بالدرجة الأولى إلى التدخل العسكري الغربي بأفغانستان، وهو ما انعكس على باكستان حيث فقدت الأخيرة بحسب المصادر الرسمية أكثر من أربعين ألف قتيل في صفوف قوات الأمن وخسائر اقتصادية بلغت رسميًا خمسين مليار دولار، يزيد على ذلك أن باكستان نشرت أكثر من 800 نقطة تفتيش على حدودها الممتدة لأكثر من 2500 كم لمراقبة تسلل عناصر القاعدة وطالبان، بينما لم تنشر أفغانستان سوى 80 نقطة تفتيش.

الحوار مع طالبان
تطالب أفغانستان وأميركا باكستانَ بممارسة الضغط على حركة طالبان أفغانستان للدخول في عملية تفاوض من أجل إدماجها في الحكومة الحالية، وهو ما سيضمن منع سقوط حكومة كارزاي حال انسحاب الغرب من أفغانستان، كما أن الثمن الأفغاني المدفوع لباكستان وطالبان اليوم سيكون بالتأكيد أقل من الثمن الذي قد يُدفع لاحقًا، لكن باكستان على ما يبدو ملتزمة بسياسة: "راقِبْ وانتظرْ"، وليست في عجلة من أمرها كون الأجواء ليست في صالحها، وعلى الرغم من الضغوط الممارَسة عليها فإنها قاومتها ولا تزال، وتثير باكستان مع هذا مسألة طلب أفغانستان منها اتخاذ سياسة عنيفة مع المجموعات المسلحة، بينما هي نفسها تدعو للحوار مع طالبان أفغانستان.

خطوط إمداد القوات الغربية
تشكّل باكستان معبرًا لأكثر من ثمانين بالمئة من الدعم اللوجستي للقوات الغربية في أفغانستان؛ وبالتالي لطالما استخدمت إسلام أباد ذلك كورقة ضغط على التحالف الغربي؛ وهو ما ينعكس سلبًا وبشكل مباشر على الحكومة الأفغانية كونه سيعزز قوة حركة طالبان الأفغانية، وتُطالب باكستان أحيانًا بالإبقاء على فتحه مقابل وقف غارات الطائرات دون طيار على مناطق القبائل الباكستانية، لكن تلك مشكلة ربما يكون أساسها مع التحالف الغربي إلا أن لها تداعياتها الأفغانية.

مشكلة اللاجئين الأفغان
مشكلة اللاجئين مزمنة ومستمرة منذ الغزو السوفيتي لأفغانستان، وتؤثر على باكستان اقتصاديًا وتنمويًا وسياسيًا وعِرقيًا ومن كل الجوانب؛ إذ تتكبد خسائر جمة بسبب وجود اللاجئين على أراضيها، ورغم وضع الأمم المتحدة وأفغانستان جداول لإعادة توطينهم إلا أنهم سرعان ما يعودون إلى باكستان بعد توطينهم في أفغانستان وذلك للافتقار إلى البِنى الحياتية الأساسية والضرورية التي اعتادوا عليها في باكستان والمفتقرة إليها أفغانستان.

سيناريوهات ما بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان

العلاقات بين أفغانستان وباكستان ستعتمد بشكل كبير على طبيعة الانسحاب الغربي منها؛ فإن كان انسحابًا جزئيًا وتم الإبقاء على عشرة آلاف جندي أميركي في قواعد بعيدة المدى، كما أشارت إلى ذلك (وول ستريت جورنال)، فهذا يعني أن الاستقرار لن يكون حليفًا لأفغانستان كون حركة طالبان ستواصل قتالها، ولديها المبرر لذلك وهو المبرر نفسه الذي قاتلت على أساسه طوال الأحد عشر عامًا الماضية؛ ولذا فإن باكستان تدعو لانسحاب شامل على أساس أن أفغانستان لم تتمكن قوة احتلال أجنبية من المكث فيها. ويظهر أن باكستان ترى أنه مع الانسحاب الغربي الكامل فإن انهيارًا شاملاً سيحصل لحكومة كارزاي، حينها سيصل إلى الحكم حلفاء طبيعيون لها وإن كان لديهم حساسيات ومرارات عميقة تجاهها ولكن خياراتهم بالمقابل قليلة ولابد من أن يعتمدوا على باكستان لافتقارهم إلى أي بديل جواري آخر، أما على المستوى الدولي والإقليمي فسنشهد عودة إلى باكستان بعد أن فضّل التحالف الغربي أن تظل وتبقى حليفًا عسكريًا للقتل فقط وليس حليفًا وشريكًا سياسيًا في بناء أفغانستان وهو ما أزعج باكستان وأقلقها.

وعلى هذا فإن شكل العلاقة بين أفغانستان وباكستان المستقبلي سيحدده معيار أساسي متمثل بانسحاب شامل للقوات الغربية، وحينها فإن البديل حكومة طالبان أو شبيهة بها موالية لباكستان ويستتبع ذلك تفوق باكستاني على الهند والدول المجاورة المؤثرة، وإلا فإن بقاء قواعد غربية في أفغانستان  وعدم تحقيق الانسحاب الشامل يستتبع بقاء علاقة الشك والريبة وعدم الثقة بين البلدين، وقد تواصل باكستان حينها دعمها لطالبان من أجل إزعاج القوات الأجنبية والحكومة الحالية الموالية لها التي لا تجد فيها حاضرًا ولا مستقبلاً كحكومة مقربة منها، بل على العكس ستراها أقرب إلى خصمها الهند.

باكستان والمعادلة الإقليمية
لا شك أن محددات مدى بقاء واشنطن وغيرها من القوى الغربية منخرطة في اللعبة الأفغانية بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان يؤشّر إلى طبيعة التناحر أو التنافس الإقليمي ومداه في أفغانستان، وهو ما يعيد إلى الأذهان أنموذج ما بعد سقوط النظام الشيوعي في إبريل/نيسان 1992 ووصول المجاهدين إلى السلطة وتخلي واشنطن عن أفغانستان، وهو ما أطلق العنان للتنافس الإقليمي على أفغانستان ممثَّلاً بباكستان التي كانت مسكونة بنظريتها "العمق الإستراتيجي"، وبالهند التي كانت تتطلع إلى الافتيات على النفوذ الباكستاني، وإيران التي كانت تراهن على الأقليات في أفغانستان، بينما ظلت الصين منسجمة مع حليفتها التقليدية باكستان.

على ضوء ذلك يمكن القول: إنه إذا بقيت واشنطن ملتزمة بدعم أفغانستان عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، كما هي عليه اليوم، فإن ذلك سيُلجم اللعبة الإقليمية ويُبقي الحاكم الوحيد في اللعبة واشنطن والقوى الغربية، وإن كان ذلك لم يعد ممكنًا على ضوء الانسحاب الأميركي والانكماش الاقتصادي العالمي، وإمكانية تفجر تناقضات أميركية بسبب الانسحاب على غرار ما حصل للسوفييت، ومن ثم فإن الفراغ أو بعض الفراغ الذي سيخلّفه رحيل القوات الأميركية ستملؤه القوى الإقليمية.

الموقف الباكستاني سيكون محكومًا بقواعد اشتباك داخلية أفغانية ربما حادة وحاسمة وهو ما قد يفرض عليه الدعم سرًا أو علنًا للقوى المقاتلة لحكومة كارزاي وعلى رأسها حركة طالبان والحزب الإسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار، بالإضافة إلى قواعد خارجية ممثلة باصطفاف هندي-إيراني-روسي إلى جانب الحكومة الحالية التي يرى فيها هذا الحلف الخفي خادمة لطموحاته؛ وهو ما قد يعيد إلى الأذهان النموذج العراقي فيما بعد الانسحاب الأميركي من العراق وتنامي النفوذ الإيراني هناك القابل للتكرار في أفغانستان. مثل هذا الواقع قد يُلقي بتداعياته على العلاقات الباكستانية مع إيران وروسيا وربما مع الصين أيضًا التي ستفضّل حكومة معتدلة بقيادة كارزاي على حكومة "متشددة" معادية لها بقيادة طالبان وحكمتيار نظرًا لعلاقتها الوطيدة مع الحركة الإسلامية في تركستان الشرقية.

الخاتمة

لا شك أن الخيارات الباكستانية صعبة وحاسمة في أفغانستان ما بعد الانسحاب الغربي، فإن كان انسحابًا غربيًا شاملاً فهذا يعني أن فرصة وصول حلفائها من طالبان والحزب الإسلامي أقوى، ومن ثم سيكون تحركها إقليميًا أفضل. أما إن كان انسحابًا غير شامل كما يبدو حتى الآن فإنها أمام خيارين: إما أن تتمكن القوى المتحالفة معها من طالبان وحكمتيار من تحقيق انتصارات ضخمة وسريعة تعزز حضور باكستان أفغانيًا وإقليميًا ودوليًا، أو أن القتال سيستعر وسيتواصل  على أساس لا غالب ولا مغلوب،  وهو ما يعني تآكل دور باكستان الإقليمي وتضرر علاقتها بمحيطها، ويحدده بشكل أساسي مدى التورط الإيراني في أفغانستان وانحيازه إلى محور كارزاي-الهند-روسيا، كون إيران تمتلك غطاءً للعمل في أفغانستان بسبب الجماعات الشيعية والتحالف الشمالي الموالي لها بينما هذا غير متوفر للهند. ولكن ربما يدفع سقوط النظام السوري إيرانَ إلى الانكماش على نفسها والتركيز ربما أكثر على العراق بدلاً من أفغانستان، وإن كان ينبغي عدم التقليل من القدرة الإيرانية على العمل على أكثر من جبهة نظرًا لاعتمادها على جماعاتها الشيعية الموالية لها والتي تتسق مصالحها معها تمامًا وأولها المصالح العقدية.
_________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في إسلام أباد

نبذة عن الكاتب