العلاقات التركية الإيرانية: أخوة إسلامية أم تنافس إقليمي؟

بالرغم من الخلافات بين إيران وتركيا، خصوصًا حول سوريا وآسيا الوسطى، فقد ساهمت قضايا عدة في استمرار العلاقات الودية، تخللها هبّات من التنافس الشديد. يناقش الدكتور أديب مقدم في هذه الورقة الأسباب التي تجعل البلدين يفضلان اللغة الدبلوماسية بدلاً من خطاب مفعم بالتهديدات يعرض علاقاتهما للخطر.
9 مايو 2013
201359115639407734_20.jpg
الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد (ثاني يسار) يرحب برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان (يمين) أثناء زيارة الأخير طهران في مارس 2012 (الأوروبية-أرشيف)

استقرت العلاقات بين إيران وتركيا في العقد الماضي بشأن ثلاثة مواضيع ذات اهتمام مشترك: التعاملات الاقتصادية، ورفض انفصال كردستان، وإلى حد أقل، دعم قيام دولة فلسطينية. وعلى الرغم من المنافسة والخلافات فيما بين الطرفين، وخصوصًا حول سوريا وآسيا الوسطى وعضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، فقد ساهمت هذه المواضيع الثلاثة في استمرار العلاقات الودية، تخللها هبّات من التنافس الشديد بين البلدين.

أُريق الكثير من الحبر في وصف المنافسة الدائمة بين إيران وتركيا، وهي منافسة يفترض أنها ترتبط بإرث لا يمكن تجاوزه من العداء بين الدولتين العثمانية والصفوية، أو بشكل أقل إقناعًا، الانقسام بين السنة والشيعة الذي يجتاح المنطقة. وتقلل التحليلات التي تسقط التاريخ على السياسة العالمية المعاصرة من شأن التغيرات الأساسية التي شهدها القرن الماضي. تعمل تركيا وإيران على أساس ما تراه كل منهما مصالح وطنية يتم معالجتها ضمن واقع النظام العالمي المعاصر، وليس الماضي البعيد. يشير الواقع إلى أن العلاقات الحديثة بين البلدان قد تعاني من هبات عرضية من الخصومة والشك، منها على سبيل المثال ما حدث مباشرة بعد الثورة في إيران عام 1979، عندما حدث صدام شديد بين الأيديولوجية العلمانية المتمثلة في الدولة الكمالية في تركيا والنظام الشيعي الثوري للجمهورية الإسلامية. قبل الثورة، وخاصة في عهد العاهل الأول من سلالة بهلوي، رضا شاه (1878-1941) سعى رضا شاه إلى محاكاة النموذج التركي، وكان بهلوي إيران وأتاتورك تركيا رفيقين أيديولوجيين وثيقي الصلة. وبعد قيام الثورة في إيران وإقامة نظام إسلامي، تبخر التقارب الأيديولوجي، ولكن العلاقات بين البلدين لم تتدهور إلى حد ارتكاب الأعمال العدوانية. وقد تمكنت تركيا من الحفاظ على دور محايد نسبيًا خلال الحرب بين إيران والعراق (1980-1988) وقاومت الانزلاق في القضايا السياسية المعقدة في غرب آسيا وشمال إفريقيا. أما بالنسبة لإيران، فلم تكن تركيا عاملاً رئيسيًا نظرًا إلى أنها كانت تركز عقائديًا واستراتيجيًا على أوروبا و"الغرب".

أوجه التعاون

في عام 2002 ومع اعتلاء حزب التنمية والعدالة سدة الحكم تغيرت الديناميات بشكل كبير. كانت إيران بالفعل قد حددت على شاشة الرادار وبشكل أكثر وضوحًا بروزًا من قبل الجيل الأول من الإسلاميين الذين تولوا السلطة في تركيا والذين قاموا بإعادة توجيه السياسة الخارجية التركية بشكل أكبر نحو غرب آسيا وشمال إفريقيا. اختار نجم الدين أربكان، والذي جاء إلى السلطة في عام 1996 كأول رئيس وزراء للبلاد يحمل قناعات إسلامية، إيران كأول محطة في زياراته الخارجية وهو ما شكّل إهانة كبيرة للنخبة المؤيدة للغرب في بلاده. كانت هذه النخبة ترى أن الجمهورية الإسلامية تمثل كل شيء يجب ألا تكونه تركيا (زار أربكان إيران مرة أخرى في عام 2009 بعد حظر طويل على مشاركته في الحياة السياسة التركية امتد 11 عامًا). وبينما كان في طهران في يوليو/تموز عام 1996، أنجز أربكان صفقة بقيمة 23 مليار دولار لتوصيل الغاز الطبيعي من إيران لمدة تزيد عن 25 عامًا. وقام أيضًا مع إيران بتسهيل إنشاء ما يُسمى مجموعة الثماني النامية (D-8) والتي ضمت أيضًا ماليزيا وإندونيسيا ومصر وبنغلاديش وباكستان ونيجيريا.

ولكن قاعدة نفوذ أربكان لم تكن صلبة بما يكفي لمقاومة المعارضة من النخبة المعادية للإسلاميين، ولاسيما العلمانيين من الرتب العليا في الجيش التركي الذين يتمتعون بالولاية الدستورية للحفاظ على النظام الكمالي في البلاد. وفي عام 1998، وتحت ضغط من الجيش، أعلنت المحاكم التركية عدم مشروعية حزب الرفاه الذي يتزعمه أربكان وأرغموه على ترك منصبه. قامت المجموعة الأساسية في الحزب بإعادة تنظيم نفسها تحت راية حزب العدالة والتنمية، والذي فاز في الانتخابات البرلمانية في عام 2002 وشكّل بناء على ذلك الحكومة التركية. ومنذ ذلك الحين، استقرت العلاقات التركية-الإيرانية، لكنها لا تخلو من بعض المزالق أحيانًا.

تعرض أربكان لانتقادات شديدة بسبب سياسة التقارب مع إيران. وكما قال أحد المعلقين في صحيفة تودايز زمان: "أريد أن أفهم، على سبيل المثال، لماذا كان لدى أربكان ضعف أمام الجارة إيران التي لا فائدة منها، وقد فوجئت لرؤيته يقوم برحلة صعبة في كرسي متحرك لحضور حفل استقبال أقيم بمناسبة اليوم الوطني لإيران في فندق سويس أوتيل أنقرة في عام 2010 بينما كان يرفض حضور حفلات استقبال الدول الأخرى"(1). ليس هناك شك في أن الجيل الثاني من الإسلاميين في تركيا قد تعلموا دروسهم من رد الفعل العنيف ضد نجم الدين أربكان. وقد ظلوا حتى الآن أكثر حذرًا ويقظة في تعاملهم مع إيران، واستمر أردوغان حتى هذه اللحظة في تعزيز العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، ليلبي على الأقل حاجة اقتصاد تركيا المزدهر للطاقة؛ حيث تعد إيران اليوم ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي إلى تركيا (بعد روسيا). وكما أشرنا مسبقًا، أنجز أربكان بعد وقت قصير من توليه منصبه صفقة قيمتها 23 مليار دولار لتوصيل الغاز الطبيعي من إيران لمدة تتجاوز 25 عامًا. وفي فبراير/شباط من عام 2007، اتفقت تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية، مع إيران على صفقتي طاقة إضافيتين: الأولى: تتيح لمؤسسة البترول التركية التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في إيران، وأخرى لنقل الغاز من تركمانستان إلى تركيا (ومن ثم إلى أوروبا) من خلال خط أنابيب يمر في إيران. جاءت هذه الصفقة على خلاف رغبة واشنطن في تجاهل إيران ونقل الغاز عبر بحر قزوين، وأضافت عنصرًا جديدًا من الخلاف في العلاقات الأميركية-التركية. وبالفعل بلغ حجم التجارة الثنائية بين إيران وتركيا عام 2011 أكثر من 16 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل إلى 30 مليار دولار عام 2015(2).

ومما يدل على العمق الجديد في العلاقات التركية-الإيرانية أن البلدين يتعاونان أيضًا في مجال الأمن الوطني. ولو بقيت العلاقات براغماتية وقائمة على تحقيق مكاسب اقتصادية على المدى القصير وعلى المناورات التكتيكية، سيكون من غير المرجح أن تثق أنقرة وطهران ببعضهما البعض بما يكفي للتعاون بشأن المسائل الداخلية ذات الآثار الأمنية العابرة للحدود مثل قضية انفصال الأكراد. وجاء التقدم على هذه الجبهة خلال زيارة رئيس الوزراء أردوغان إلى طهران في يوليو/تموز 2004، حين وقّعت تركيا وإيران اتفاقًا للتعاون الأمني ووصفتا حزب العمال الكردستاني بأنه منظمة إرهابية، ومنذ ذلك الحين، كثفت الدولتان التعاون بينهما لحماية حدودهما. فعلى شاكلة تركيا، تواجه إيران مشاكل أمنية في المناطق التي يقطن فيها الأكراد؛ فعلى مدى السنوات الماضية، قام حزب "الحياة الحرة" وهو جماعة إيرانية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني وينشط في كردستان الإيرانية، بشن هجمات على مسؤولين أمنيين إيرانيين، وردّت طهران بقصف قواعد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل بتنسيق وثيق مع الجيش التركي.

وعلى الأقل حتى انطلاق الانتفاضة في سوريا في عام 2011، قامت إيران أيضًا بالمساهمة في تحسين العلاقات السورية-التركية، والتي كانت قد توترت في الثمانينيات وأوائل التسعينيات. وقد وصلت حد الأزمة في أكتوبر/تشرين الأول عام 1998 عندما هددت تركيا بغزو سوريا إذا لم تتوقف دمشق عن دعم حزب العمال الكردستاني. وفي مواجهة التفوق العسكري الساحق لتركيا، خضعت دمشق وقامت بطرد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بعد أن كانت قد منحته ملاذًا آمنًا، وأغلقت معسكرات تدريب الحزب. هذا التحول في السياسة السورية فتح الطريق أمام تحسن تدريجي في العلاقات بين البلدين. وقد برز هذا التقارب من خلال زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى أنقرة في يناير/كانون الثاني 2005 وكانت أول رحلة يقوم بها رئيس سوري إلى تركيا منذ استقلال سورية في عام 1946. وعلى الرغم من دعم تركيا للمعارضة المناهضة لحكم الأسد، مما يضعها في مواجهة مباشرة مع سياسات إيران، فإن من المستغرب أن هذا التنافس على سوريا لم يقوض المعالم الأساسية في العلاقات الإيرانية-التركية.

ومما لا شك فيه، أن تركيا قامت بدور فعال في تيسير حركة المعارضة لحكم بشار الأسد، وتضامنت مع المملكة العربية السعودية وقطر في هذا الصدد.

لا تنظر إيران إلى المعركة في سوريا بوصفها صراعًا بين السنة والشيعة، بل إن قادة البلاد يرون في سوريا حليفًا قيمًا في العالم العربي، وممرًا مريحا لحزب الله في لبنان، وهذه العلاقة ممتدة منذ الحرب العراقية-الإيرانية عندما كان حافظ الأسد الزعيم الإقليمي الوحيد الذي دعم إيران. إن الدولة البعثية العلمانية في دمشق ليست حليفًا "طبيعيًا" للجمهورية الإسلامية، لكن سوريا وإيران تقاسمتا رؤية مشتركة حول الشؤون الإقليمية واتبعتا نهج المقاومة ضد إسرائيل ودعمًا لفلسطين. وقد وجّه قطع جناح خالد مشعل في حماس العلاقات مع الأسد ونقل مقر الحركة بعيدًا عن دمشق ضربة كبيرة لـ"محور المقاومة" هذا، ولكن لا يمكن القول بأن علاقة إيران بحماس قد انقطعت على المدى الطويل. أما تركيا، على الجانب الآخر، فيبدو أنها تدرك أنها لا يمكن أن تخرج العامل الإيراني من المعادلة الإقليمية لذلك فقد كان حزب العدالة والتنمية حذرًا في تعاطيه مع الأزمة السورية، وعازمًا على طمأنة إيران بأن تركيا لا تتصرف بالنيابة عن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في معارضة النظام السوري.

قد يكون تضارب السياسات حول سوريا قد وضع نهاية لعقد من التواصل العميق بين تركيا وإيران ووضع القيود على تنمية علاقات أوثق في المستقبل. ومع ذلك تم لغاية الآن احتواء آثار هذا التضارب، فلم يحصل أي تبادل للاتهامات حول دوافع كل منهما في سوريا، وهذا في حد ذاته مؤشر على أن كلا البلدين ليس على استعداد لتعريض العلاقات الثنائية للخطر، حتى على خلفية قضية مثيرة للعواطف مثل الحرب الأهلية التي عصفت بسوريا في العامين الماضيين. وينصب اهتمام إيران على وجود حكومة سورية مستقلة غير واقعة في المجال الاستراتيجي للولايات المتحدة ومستمرة، عبر حزب الله، في دعم القضية الفلسطينية وسعي الفلسطينيين لإقامة دولتهم. ولا ينظر إلى دوافع تركيا بأنها متعارضة بالضرورة مع تلك الأهداف. ومن وجهة نظر النخب السياسية في إيران، فإن تحرك تركيا المبدئي بعيدًا عن التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل باتجاه مزيد من سياسات التأييد للفلسطينيين أمر مرحب به باعتباره مؤشرًا قويًا على التحول في أولويات تركيا الاستراتيجية في غرب آسيا.

وكان أردوغان قد انتقد السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة علنًا، واصفًا الحملات العسكرية الإسرائيلية مرارًا بأنها إرهاب دولة. وفي الوقت نفسه، سعى أردوغان إلى إقامة علاقات أوثق مع القيادة الفلسطينية ووجد ذلك أيضًا ترحيبًا كبيرًا في طهران. فبعد أسابيع قليلة من الانتخابات في الأراضي الفلسطينية في يناير/كانون الثاني 2006، استضاف أردوغان في أنقرة وفدًا رفيع المستوى من حماس بقيادة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي. كان أردوغان يأمل بأن تسلط الزيارة الضوء على قدرة تركيا على لعب دور دبلوماسي أكبر في المنطقة. ولكن تم ترتيب الاجتماع دون التشاور مع الولايات المتحدة وإسرائيل وغضبت كلتا الحكومتين الساعيتين إلى عزل حماس. وعلى نحو مماثل، اعتمدت تركيا موقفًا مستقلاً مناهضًا للسياسة الإسرائيلية خلال الأزمة في لبنان في عام 2006 الذي كان مدعومًا من قبل إيران. أدان أردوغان بشدة الاعتداءات الإسرائيلية، وخرجت مظاهرات احتجاجية واسعة النطاق في العديد من المدن التركية الكبرى وأُحرق العلم الإسرائيلي، وقامت وسائل الإعلام الإيرانية المملوكة للدولة ببث صور تلك الأحداث بحماس. كما أدانت المنظمات غير الحكومية التركية سياسات إسرائيل في لبنان والأراضي الفلسطينية والتي بلغت ذروتها في "أزمة أسطول الحرية" التي تم نزع فتيلها مؤخرًا من خلال عرض إسرائيلي لتعويض عائلات المواطنين الأتراك الذين قُتلوا خلال الغارات على السفن في مايو/أيار 2010. وبينما لم تُبدِ أنقرة وطهران أي استعداد لتنسيق سياساتهما في فلسطين، فإن وجهة النظر الإيرانية ترى في موقف تركيا المؤيد للفلسطينيين دلالة على تغييرات داخل البلاد. كانت قضية فلسطين في قلب الخطاب الثوري للجمهورية الإسلامية منذ عام 1979، وبينما تظل إيران غير مستعدة للتنازل عن سعيها للقيادة الإقليمية في هذا الصدد، فإنها تعبّر بشكل روتيني عن ميلها التلقائي نحو البلدان التي تحتضن قضية إقامة الدولة الفلسطينية.

مجالات الاختلاف

إن كان موقف تركيا حيال سوريا يعبّر عن الثقة بالنفس التي تبديها أنقرة مؤخرًا باعتبارها قوة إقليمية في غرب آسيا وشمال إفريقيا، فإن دعمها الحماسي لقوى المعارضة المناهضة لحكم بشار الأسد في سوريا قد فتح الباب أمام التنافس مع إيران والتي لها ادعاءات مماثلة ودعمت بقوة نظام الأسد الغِرّ. وقد تفاقمت التوترات بين البلدين إلى أبعد من ذلك عندما وافقت تركيا على استضافة محطة لدرع الدفاع الصاروخي لمنظمة حلف شمال الأطلسي في شرق الأناضول الذي تم "تسويقه" من قبل الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة كرادع للقدرات الصاروخية المتنامية لإيران(3)، وقد ردت المؤسسة العسكرية الإيرانية بعصبية لدرجة أن أحد جنرالات حرس الثورة الإسلامية، حذّر من أنه "إذا ما تعرضنا للتهديد، فإننا سنستهدف الدرع الصاروخية للناتو في تركيا ومن ثم سنضرب الأهداف التالية"(4). وفي الوقت نفسه، وكالمعتاد، أسرع كلا البلدين لاحتواء العواقب، فقام وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بطمأنة نظيره الإيراني علي أكبر صالحي خلال مؤتمر صحفي مشترك في طهران في يناير/كانون الثاني 2012 بأن تركيا "لن تتخذ أي خطوة من شأنها أن تؤثر سلبًا على علاقاتنا مع جيراننا..... لا شك أننا لن نقبل بأي هجوم على أي من جيراننا من أرضنا...... ولا نريد لفكرة وجود تهديد، وخاصة ضد إيران، أن تتشكل أصلاً". وفي المقابل، وضع صالحي تصريحات الجنرال في الحرس الثوري في سياقها، مؤكدًا على أن "بعض الناس، عن علم أو غير علم، يعبّرون صراحة عن وجهات نظرهم بدون معرفة كافية ويتجاوزون مسؤولياتهم، وهو أمر يؤدي إلى سوء الفهم"(5).

تجد تركيا نفسها، وعلى نحو متزايد، محصورة بين مطالب الولايات المتحدة من جهة وتأمين مصالحها في المنطقة، من جهة أخرى. وهي تناقش، من نواح كثيرة، "عبء" كونها شريكًا في منظمة حلف شمال الأطلسي من ناحية، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي في العالم الإسلامي الذي لا يخضع بسهولة لادعاءات الولايات المتحدة بالهيمنة، من ناحية أخرى. وخير مثال على ذلك القضية النووية الإيرانية ونظام العقوبات على طهران. تجد تركيا نفسها محصورة بين مطالب الولايات المتحدة لتشديد العقوبات ضد إيران، وبين حماية مصالحها الاقتصادية. فقد خفضت أنقرة واردات النفط من إيران بنسبة 20 بالمئة(6). واكتملت هذه الإجراءات عندما وافقت تركيا على التوقف عن العمل كوسيط مالي –من خلال بنك هالك المملوك للدولة– لتيسير الصفقات التجارية الخاصة بالنفط الإيراني، والتي تقدر قيمتها بالمليارات، مع دول مثل الهند، مما يعني في واقع الحال أنها ساهمت في الحرب الاقتصادية على إيران بقيادة الولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد كان حزب العدالة والتنمية مترددًا في فرض عقوبات من جانب واحد من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خارج نطاق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929، على الرغم من المطالب المتكررة في هذا الشأن وخاصة من واشنطن. وعلاوة على ذلك، فقد أشار مسؤولو حزب العدالة والتنمية مرارًا وتكرارًا إلى أن تركيا لن تدعم أي عمل عسكري ضد إيران وأنها تدعم برنامج إيران للطاقة النووية. وهذا يفسر لماذا حاول أردوغان أن يعمل كوسيط في القضية النووية، وهي جهود بلغت ذروتها في اتفاق طهران الذي تم التفاوض بشأنه بنجاح مع الرئيس البرازيلي السابق لولا ومحمود أحمدي نجاد في مايو/أيار عام 2010(7).

تم إسقاط المبادرة في نهاية المطاف من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ولكن حقيقة أن أردوغان (ولولا) كانا على استعداد لقيادة حملة دبلوماسية كبيرة تؤثر قصدًا على مطالب الولايات المتحدة لتقرر اعتماد الدبلوماسية بشأن الملف النووي الإيراني تشير إلى تأكيد الذات الذي اكتسبته تركيا حديثًا في مجال الشؤون الدولية.

وفي الآونة الأخيرة، كرر أردوغان موقف حكومته في بيان مشترك صدر في طهران خلال زيارته لإيران في مارس/آذار 2012؛ حيث قال: "إن الحكومة والأمة التركية قد أيدتا دائمًا وبوضوح موقف جمهورية إيران الإسلامية بشأن القضية النووية، وسوف تستمر بحزم في اتباع نفس السياسة في المستقبل"(8).

الخلاصة

لقد حاولت تركيا وإيران التخفيف من أثر التغيرات في البيئة الدولية المتقلبة جذريًا. وحتى الآن، وعلى الرغم من الاضطرابات التي اجتاحت المنطقة، لاسيما بعد الثورات العربية، احتفظ كلا البلدين بعلاقات ودية يتخللها هبّات عرضية من التأزم الذي يتم احتواؤه والتخفيف من حدته بسرعة من خلال القنوات الدبلوماسية. من الناحية التحليلية، فإن هذا الميل نحو اللغة الدبلوماسية بدلاً من خطاب مفعم بالتهديدات يشير إلى أن هناك توافقًا استراتيجيًا بين النخبة السياسية الحاكمة حاليًا في كلا البلدين على أن عليهما التصرف كجيران وعدم تعريض علاقاتهما للخطر، حتى عندما يتعلق الأمر بالقضايا الأكثر جدلاً مثل سوريا والعراق. ومن نواح كثيرة، فإن تركيا وإيران متداخلتان مترابطتان بشكل يصعب معه الفصل بينهما أو اتخاذ أي منهما مواقف عدائية ضد الآخر. وهذا التداخل لا يتضح فقط عندما يتعلق الأمر بالمخاوف الأمنية المتبادلة والناجمة حتميًا عن الحدود المشتركة، بل يكمن أيضًا في النسيج الثقافي الذي يمسك بجدلية العلاقة الإيرانية-التركية ويمنعها من أن تتفكك.
________________________________________
د. آرشين أديب مقدم - أرشين أديب مُقَدِّم حاصل على الدكتوراه من كامبريدج ويعمل مدرسًا في معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن SOAS.
هذا النص مترجم عن اللغة الإنجليزية، و يمكن قراءة النص الأصلي للورقة هنا.

الهوامش المراجع
1. عبدالله بزكرت، "شرعية أربكان وصفقة الغاز مع إيران"، صحيفة تودايز زمان، 18/5/2012. متوفرة على الرابط التالي: http://www.todayszaman.com/columnist-280751-erbakans-legacy-and-gas-deal-with-iran.html  . (تاريخ الوصول 12/4/2013).
2. شاهد "حجم التجارة الثنائية بين إيران وتركيا يرتفع 40% ليصل إلى 20.8 مليون دولار"، صحيفة طهران تايمز، 1/1/2013. متوفرة على الرابط التالي:  http://www.tehrantimes.com/economy-and-business/104575-iran-turkey-trade-rises-40-tops-208b . (تاريخ الوصول 11/4/2013). و"العلاقات التجارية والاقتصادية بين إيران وتركيا"، الجمهورية التركية: وزارة الخارجية. متوفرة على الرابط التالي: http://www.mfa.gov.tr/turkey_s-commercial-and-economic-relations-with-iran.en.mfa . (تاريخ الوصول 12/4/2013).
3. شاهد "جزء من نظام الدفاع الصاروخي لمنظمة حلف شمال الأطلسي يتم تشغيله في تركيا"، سي إن إن، 16/1/2012. متوفرة على الرابط التالي: 
http://edition.cnn.com/2012/01/16/world/europe/turkey-radar-station/index.html
(تاريخ الوصول 11/4/2013).
4. علي أكبر صالحي، "إيران تهدد بضرب تركيا في حيال قيام الولايات المتحدة وإسرائيل بالهجوم"، أسوشيتد برس، 26/11/2011. متوفرة على الرابط التالي: http://news.yahoo.com/iran-threatens-hit-turkey-us-israel-attack-153655802.html . (تاريخ الوصول 18/4/2013).
5. "تركيا تعطي إيران ضمانات حول درع الدفاع الصاروخي لمنظمة حلف شمال الأطلسي"، صحيفة تودايز زمان، 5/1/2012. متوفرة على الرابط التالي:
http://www.todayszaman.com/news-267694-turkey-gives-assurances-to-iran-on-nato-missile-shield.html  (تاريخ الوصول 22/4/2013).
6. شاهد المزيد "تركيا تقول: لا مطالب جديدة للولايات المتحدة لوقف النفط الإيراني"، صحيفة تودايز زمان، 5/12/2012. متوفرة على الرابط التالي:
http://www.todayszaman.com/news-300224-turkey-says-no-new-us-request-to-cut-iranian-crude.html  (تاريخ الوصول 21/4/2013).
7. لمشاهدة النص الكامل "نص الصفقة بين إيران، البرازيل، وتركيا"، صحيفة الجارديان، 17/5/2010. متوفرة على الرابط التالي:
http://www.guardian.co.uk/world/julian-borger-global-security-blog/2010/may/17/iran-brazil-turkey-nuclear  (تاريخ الوصول 22/4/2013).
8. تركيا تبدي دعمها لبرنامج إيران النووي"، وكالة فرانس برس، 29/5/2012. متوفرة على الرابط التالي: إضغط هنا. (تاريخ الوصول 19/4/2013).

نبذة عن الكاتب