التقارب الإيراني–الأميركي وأمن الخليج: التداعيات المحتملة والخيارات المتاحة

يسود الترقب والحذر الأوساط السياسية الخليجية في الوقت الراهن رصدًا لما تشهده العلاقات الإيرانية-الأميركية من زخم غير مسبوق وتطورات نوعية متسارعة تُنبئ بانفراجة بين واشنطن وطهران في المدى المنظور بعد قطيعة دامت أكثر من ثلاثة عقود.
2013102271139721734_20.jpg

المصد [الجزيرة]

 

ملخص
تشهد العلاقات الإيرانية الأميركية في اللحظة التاريخية الراهنة انفراجًا تاريخيًا غير مسبوق، من شأنه أن يلقي بتداعياته الاستراتيجية على الأمن في منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأوسط برمتها.
ويشير الموقف الرسمي الخليجي إلى أن دول مجلس التعاون تنظر للتقارب بين طهران وواشنطن على أنه خطوة نحو الاستقرار والأمن في المنطقة، أكثر منه تهديداً.
ومع ذلك، لا تخفي أوساط دول الخليج غير الرسمية خشيتها من أن يسفر هذا التقارب بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران عن "صفقة مصالح" تمنح تسهيلات إقليمية للثانية في المنطقة بموافقة الأولى ضمنيًا. وهو الأمر الذي من شأنه أن يقلّص هامش المناورة السياسية لدول الخليج لصالح إيران، التي ستبرز كقوة إقليمية مهيمنة ومسيطرة في المنطقة.
وثمة عدة خيارات متاحة أمام دول مجلس التعاون الخليجي للتعامل مع التداعيات المحتملة للتقارب بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، بما يحفظ أمن واستقرار المنطقة، ويعزز المصالح العليا لدول المجلس، فرادى ومجتمعة، ويتمثل أهمها في تكريس القوة الذاتية من خلال تسريع خطوات إنشاء الاتحاد الخليجي، وتعزيز المظلّة العربية للأمن، والتمهيد لبناء شراكات مع قوى دولية كبرى كروسيا والصين والهند على الصعيدين الأمني والعسكري، بحيث تكون هذه الشراكات أو التحالفات رديفًا، على الأقل في المدى المنظور، لعلاقات التحالف القائمة حاليًا بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية.

مقدمة

 
يسود الترقب والحذر الأوساط السياسية الخليجية في الوقت الراهن رصدًا لما تشهده العلاقات الإيرانية-الأميركية من زخم غير مسبوق وتطورات نوعية متسارعة تُنبئ بانفراجة بين واشنطن وطهران في المدى المنظور بعد قطيعة دامت أكثر من ثلاثة عقود.

ويبدو أن هذا التقارب لن يقف عند حدود الأزمة السورية والبرنامج النووي الإيراني، بل سيشمل مجمل القضايا السياسية والترتيبات الإقليمية الأمنية في الخليج والشرق الأوسط برمته؛ إذ إن الفرصة متاحة والأرضية ممهدة لانطلاق ما يمكن وصفه بـ"التسوية الكبرى" في المنطقة خصوصًا مع استبعاد الضربة العسكرية الأميركية للنظام السوري في الأجل المنظور.

وبناء عليه، يتطلب ذلك قراءة دقيقة من جانب دول مجلس التعاون الخليجي للواقع الجديد الآخذ في التشكل في ظل التوازن الدولي الراهن، والتبدل الواضح لجهة إعادة صياغة أدوار بعض القوى الإقليمية، وذلك تحسبًا لكافة السيناريوهات والاحتمالات التي يمكن أن يرتبها التقارب الإيراني-الأميركي على أمن واستقرار النظام الإقليمي الخليجي بوجه خاص، وعلى بُعديه العربي، والشرق الأوسطي.

يسلط هذا التقرير بعض الضوء على هذا التطور الاستراتيجي الجديد في المنطقة، من زاوية التحولات الاستراتيجية الجذرية التي قد تطرأ على البيئة الأمنية في النظام الإقليمي الخليجي نتيجة هذا التقارب الذي يأتي بعد قطيعة، وتلمس مدى تشكيل هذا التطور تهديدًا حقيقيًا لأمن الخليج، ومحاولة البحث عن احتمالات وإمكانية أن يمثّل -على العكس مما هو متوقع- فرصةً للأمن والاستقرار من المنظور الخليجي، وصولاً إلى استشراف الخيارات المتاحة أمام دول الخليج للتعامل مع التداعيات المحتملة للمسار الجديد الذي تتجه له علاقات واشنطن وطهران.

 
قضايا التقارب الإيراني-الأميركي

تشهد العلاقات الإيرانية-الأميركية في اللحظة التاريخية الراهنة انفراجًا تاريخيًا غير مسبوق، بدأ بتبادل الطرفين إشارات التصالح، ولم ينته باتصالات على أعلى المستويات كان أبرزها الاتصال الهاتفي بين الرئيسين حسن روحاني وباراك أوباما.

 وبلغ مسار التقارب الإيراني-الأميركي ذروته في اللقاء الذي جمع بين وزيري خارجية البلدين، ظريف وكيري، ثم تبعه الاتصال الهاتفي بين روحاني وأوباما. وجاء هذا التقارب انطلاقًا من دوافع معينة لدى كلا الجانبين: الإيراني والأميركي.
على الصعيد الإيراني، طرح الرئيس حسن روحاني، في مقاله بصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، مقاربة "الانخراط البنّاء" في علاقة بلاده مع الغرب وتحديدًا الولايات المتحد الأميركية، وهو ما يتوافق مع مصطلح "المرونة البطولية" الذي أطلقه المرشد الأعلى للثورة الإسلامية على خامنئي، والتي تحقق لطهران مصالح أساسية، هي:

- تأمين حق إيران في امتلاك القدرات النووية بما في ذلك تخصيب اليورانيوم في مفاعلاتها النووية، باعتبار ذلك أمرًا "غير قابل للتفاوض".
- تأمين نفوذها في المناطق المتوترة الحيوية بالنسبة لها مثل العراق وأفغانستان.
- ضمان لعب دور إقليمي لإيران في منطقة الشرق الأوسط خاصة فيما يتعلق بالملف السوري، وعدم تقليم أظافر حزب الله في لبنان؛ ولذا طرح روحاني إمكانية وساطة إيرانية في سورية.

وتصب هذه الأهداف مجتمعةً في المصلحة القومية العليا لإيران ألا وهي الاعتراف بها كقوة إقليمية في المنطقة تمتلك نفوذًا يوازي النفوذ الأميركي فيها، باعتبارها موازنًا ندًا لا يمكن تنحيته عند مناقشة أية ترتيبات خاصة بما تعتبره مجال النفوذ المباشر لسياستها الخارجية وأمنها القومي وخاصة في منطقة الخليج. (1)

وفي المقابل، تشير تصريحات كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية إلى أن واشنطن تريد من هذا التقارب، إيران "غير نووية"، لا تضر بالمصالح الأميركية في المنطقة، ولا تسعى إلى قلب موازين القوى في الخليج والشرق الأوسط على نحو يخرج عن قدرة الولايات المتحدة الأميركية على السيطرة.

ومن ثم، تقوم استراتيجية إدارة الرئيس أوباما على التعايش مع إيران، والاعتراف بها كقوة إقليمية طالما أزالت الغموض عن برنامجها النووي، ولم تتجاوز الخط الأحمر أميركيًا بحيازة السلاح النووي.

واستنادًا لهذه الاستراتيجية، فإن خيار "الصفقة الشاملة" هو المفضل لدى إدارة أوباما خلال التعامل مع إيران، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الاستراتيجية لم تكن وليدة التطورات الأخيرة أو أنها جاءت نتيجة عرضية لانتخاب إيران، رئيسًا جديدًا محسوبًا على معسكر المعتدلين، بل طرح أوباما استراتيجيته في التعامل مع طهران منذ ولايته الأولى عام 2009.(2)

وبناء على ذلك، فإن الصفقة المتوقعة بين الجانبين تشمل ثلاثة ملفات رئيسة، هي: البرنامج النووي الإيراني، وعملية السلام في الشرق الأوسط، والدور الإقليمي لإيران.

 

الموقف الخليجي من التقارب الإيراني-الأميركي

يمكن التمييز في هذا السياق بين الموقف الرسمي لدول مجلس التعاون الخليجي، والموقف غير الرسمي ممثلاً في الرأي العام والنخبة الخليجية.

فعلى الصعيد الرسمي، رحبت دول الخليج بالانفراجة المرتقبة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وأعربت عن أملها في أن تقرن طهران أقوالها بالأفعال لما يقود ذلك لتدعيم الاستقرار في المنطقة، فيما لم نرصد إشارات سلبية أو انتقادات خليجية رسمية في هذا الصدد، اللهم إلا التشديد على ضرورة ألا تكون هذه الانفراجة على حساب دول المنطقة.

فقد أعرب وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل عن الترحيب بالرغبة الإيرانية في تحسين العلاقات مع دول الجوار، مؤكدًا أن العبرة في الأثر العملي لهذا التوجه فإذا تُرجم القول إلى عمل فستتطور الأمور إلى الأفضل."(3)

وفي السياق ذاته، قال وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة: إن الولايات المتحدة الأميركية أبلغت دول مجلس التعاون الخليجي، في إشارة إلى العلاقة مع إيران، بأنها "لن تخطو خطوة" تتناول منطقة الخليج "قبل التشاور مع أصدقائها في المنطقة."

وأضاف: إن "وزير الخارجية الأميركي جون كيري أبلغ نظراءه الخليجيين، خلال اجتماعه
على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأن التركيز الأميركي مع إيران سيكون على الملف النووي"، وأن الأميركيين يريدون التوصل إلى انفراجة، ويسعون إلى أن تغير إيران سياستها تجاه مختلف القضايا." واعتبر وزير خارجية البحرين أن التقدم في العلاقة الإيرانية-الأميركية إذا أدى إلى الاستقرار "فهذا شيء يفرحنا."(4)

كما أكد وكيل وزارة الخارجية الكويتية خالد الجار الله أن "التحركات التي يشهدها الملف الإيراني مع المجتمع الدولي يمكن أن تحقق نتائج إيجابية للطرفين"، نافيًا أي قلق كويتي أو خليجي من تنازل أميركي لإيران على حساب المنطقة.(5)

يتبين من ذلك، أن دول مجلس التعاون الخليجي تنظر للتقارب بين طهران وواشنطن على أنه خطوة -أكثر منه تهديدًا- نحو الاستقرار والأمن في المنطقة، خاصة وأن روحاني شدّد في تصريحاته منذ انتخابه في يونيو/حزيران الماضي 2013 على أهمية تطوير العلاقات مع دول مجلس التعاومن الخليجي لا سيما السعودية التي اعتبرها دولة فاعلة ومؤثرة في العالم الإسلامي بأسره، وبدورها رحبت دول الخليج بتلك التصريحات.

إذن، فليس لدى دول مجلس التعاون الخليجي رسميًا أي اعتراض على أي جهد يرمي إلى تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران؛ فالسلام والاستقرار في منطقة الخليج هو مطلب عربي ويصب في استقرار المنطقة، لكنها تعترض على احتمال تقديم الولايات المتحدة تنازلات كبيرة وخطيرة لإيران في إطار صفقة من أجل الوصول لاتفاق ثنائي ما يؤثر بشكل جذري على أمن دول الخليج العربية وحقوقها، خصوصًا أن لبعض دول مجلس التعاون الخليجي ملفات إشاكلية مع إيران تعود أسبابها إلى عوامل الجوار الجغرافي، أو التنافس الاستراتيجي، أو الاختلاف المذهبي، أو غيرها، لذلك فإن أي قرار أميركي للتوصل إلى إبرام أي اتفاق مع طهران يجب ألاَّ يكون على حساب الحقوق والمصالح الخليجية.
ومع ذلك، لا تخفي دول الخليج -على الأقل على الصعيد غير الرسمي- خشيتها من أن يسفر التقارب بين واشنطن وطهران عن "صفقة مصالح" تمنح تسهيلات إقليمية للثانية في المنطقة بموافقة أميركية ضمنية؛ وهو الأمر الذي من شأنه أن يقلص هامش المناورة السياسية لدول الخليج العربية لصالح إيران، التي ستبرز كقوة إقليمية مهيمنة ومسيطرة في المنطقة.
ووفقًا لهذه الرؤية، فإن هذا التقارب سيطرح تحديات استراتيجية فيما يخص أمن الخليج تحديدًا بما سيترتب عليه من انفراد إيراني بالمنطقة، في ظل غياب موازن إقليمي آخر؛ حيث إن الولايات المتحدة تقوم بهذا الدور منذ الحرب على العراق عام 2003.

ومن هنا، فإن مبعث القلق الخليجي يتمثل فيما يمكن اعتباره اندفاعًا أميركيًا نحو إيران من منطلق المصالح الأميركية الخاصة، دون مراعاة هواجس دول الخليج المشروعة، وإغفال إدخالها في صلب عملية إعادة صياغة الخريطة المستقبلية للمنطقة.

كما يخشى الخليجيون -وفق هذا المنظور- أن تكرر واشنطن مع طهران ما فعلته مع موسكو عندما اتفقتا على تسوية الملف الكيماوي في سورية وأهملتا كافة عناصر ومكونات الأزمة السورية الأخرى، ومن هنا  تبدو الخشية الخليجية من أن تختصر واشنطن الأزمة مع طهران في الملف النووي والانسحاب من أفغانستان، وإهمال قضايا تعاظم نفوذ إيران في الخليج والتسليم لها بذلك دون ضمانات لأمن دول مجلس التعاون الخليجي.

وقد ادعى البعض أنَّ دول الخليج أصيبت بـ"هلع" من وقع التقارب الإيراني الأميركي أو المصالحة المحتملة بينهما.(6)

وبوجه عام، ثمة وجهتا نظر في هذا الصدد:
 فهناك فريق من النخبة الخليجية يرى أن التقارب الإيراني-الأميركي من شأنه أن يعزز الأمن والاستقرار في المنطقة بعد عقود من التوترات والحروب التي شهدتها خلال العقود الماضية. وحسب هذا الفريق، فإن استجابة إيران للمطالبات الدولية بإخضاع برنامجها النووي للمراقبة والتفتيش يزيل أحد أكبر بواعث القلق المتأتية من إيران التي تمتلك واحدة من أكبر الترسانات العسكرية في المنطقة، كما أن رفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن إيران سيعزز من التعاون الاقتصادي مع دول الخليج في كافة المجالات؛ مما سيعود بالنفع على الجميع.

ويرى المتفائلون من التقارب الإيراني-الأميركي أن الولايات المتحدة لن تتخلى في إطار تفاهماتها الجديدة مع إيران عن حلفائها الخليجيين الاستراتيجيين.

وفي المقابل، يبدي فريق آخر قلقه وانزعاجه من التقارب الإيراني-الأميركي الذي لابد وأن يتم من خلال صفقة تحصل فيها إيران على نفوذ واسع في منطقة الخليج مقابل إخضاع برنامجها النووي للمراقبة الدولية.

ويشير هؤلاء إلى أن التفاهمات الإيرانية-الأميركية تركزت -حتى الآن فقط- على الملف النووي وأمن إسرائيل، دون الالتفات إلى ملف أمن الدول الخليجية واحتمالات التدخلات الإيرانية مستقبلًا حيث من الممكن أن تخلو لها الساحة بعد انحسار النفوذ الأميركي في المنطقة.

ومبعث القلق عند هذا الفريق يتأتى من أن إيران استطاعت أن تبسط نفوذها المباشر وبقوة في المنطقة امتدادًا من أفغانستان شرقًا إلى سورية غربًا خلال السنوات العشر الماضية في أوج أزمتها مع عدوها الولايات المتحدة الأميركية، فكيف سيكون عليه الأمر بالنسبة لطموحات إيران في الهيمنة والتوسع إذا ما فرضت التفاهمات الجديدة بين فرقاء الأمس قواعد جديدة من العلاقات تنتزع منها إيران مكاسب كبرى وبرعاية أميركية هذه المرَّة؟

وواقع الحال، أن ثمة عوامل موضوعية تعزز -وتفسر في الوقت ذاته- القلق الخليجي من هذا التقارب، أهمها:
- عدم قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على الاعتماد -لأجل غير مسمى- على الدور الأميركي الموازن لإيران في أمن الخليج، لاسيما في ضوء عدّة حسابات، منها تراجع أولوية الخليج والشرق الأوسط عمومًا في الاستراتيجية الأميركية لصالح المحيط الباسيفيكي كما كشفت عن ذلك وثيقة الأمن القومي الأميركي للعام 2012.(7)

كما تعزز ذلك بالنهج الحالي لإدارة الرئيس الأميركي أوباما بشأن السلاح الكيماوي في الأزمة السورية، ومن قبله موقف واشنطن من النظم الحليفة لها إبان ثورات الربيع العربي.

بالإضافة إلى احتمالات تراجع مكانة النفط الخليجي -وإن على المدى الطويل- بالنظر لثورة النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة الأميركية.(8)

غياب الموازن الإقليمي التقليدي لإيران، ونعني بذلك العراق، سواء على صعيد القدرات التقليدية أو فوق التقليدية أو النووية؛ حيث صادقت بغداد مؤخرًا على معاهدة الحظر الكامل للتجارب النووية؛ ما يعني انفراد نووي إيراني في الخليج، واستقطاب ثنائي في الشرق الأوسط مع إسرائيل. (9)

وهو ما يعني أيضًا عدم وجود أي موازن نووي عربي في المنطقة بما يمثل انكشافًا بالغ الخطورة للأمن القومي العربي، وبالضرورة للأمن الفردي والجماعي لدول مجلس التعاون الخليجي.

وهذا مؤشر على احتمالات تقديم تنازلات أميركية على حساب المنطقة، لاسيما وأن التسوية التي تنعقد بين متعاديين متصارعين لا تتم أو تستقر إلا حين يتوفر لها قدر معقول من التنازلات المتبادلة القائمة على توازن مماثل من القوى؛ ما يدل على أن هذه التسوية حال تمت ستكون في صالح إيران وانفرادها بالنفوذ في المنطقة.

خيارات دول الخليج الأمنية في ضوء التقارب الإيراني-الأميركي
ثمة خيارات عدّة متاحة أمام دول مجلس التعاون الخليجي للتعامل مع التداعيات المحتملة للتقارب بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، بما يحفظ أمن واستقرار المنطقة، ويعزز المصالح العليا لدول المجلس، فرادى ومجتمعة، وتتمثل هذه الخيارات في الآتي:

- تكريس القوة الذاتية من خلال تسريع خطوات إنشاء الاتحاد الخليجي بكافة مستوياته السياسية والعسكرية والأمنية.

- تعزيز المظلة العربية للأمن الخليجي؛ وذلك نظرًا للارتباط العضوي بين أمن الخليج والأمن العربي من جهة، وأمن الشرق الأوسط من جهة أخرى، حيث سيكون من المتوقع أن تتشاور الولايات المتحدة الأميركية مع القوى الإقليمية المؤثرة في المنطقة قبل أية ترتيبات أمنية مستقبلية في منطقة الخليج، وذلك لاستشفاف رؤى هذه القوى عند صياغة نظام أمني جديد مع إشراكها لهذه القوى بدرجات متفاوتة في هذا النظام الوليد، ويأتي في مقدمة هذه القوى: مصر، بالإضافة إلى تركيا، وإسرائيل.
وفي تقديرنا أن مصر لم تُصدر أية ردود أفعال -حتى الآن- بشأن التقارب الأميركي-الإيراني، ليس انشغالاً بأوضاعها الداخلية فحسب -رغم أهمية هذا الأمر- بل تريثًا لتلمس ملامح هذا التقارب الذي ما زال في مرحلة المحادثات وبناء الثقة والذي لم ينتقل بعد إلى مرحلة المفاوضات ووضع الملفات الخلافية العالقة على طاولة النقاش، وفي مقدمة هذه الملفات مسألة مستقبل الأمن في الخليج.

- كما يجدر بدول الخليج التمهيد لبناء شراكات -إن لم تكن تحالفات- مع قوى دولية كبرى كروسيا والصين وربما الهند لاسيما على الصعيدين الأمني والعسكري، بحيث تكون هذه الشراكات أو التحالفات رديفًا، على الأقل في المدى المنظور، لعلاقات التحالف القائمة حاليًا بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية؛ إذ يمكن استثمار هذه الشراكات الرديفة كأداة ضغط -عند الضرورة- على الحليف الاستراتيجي الرئيس لضمان المصالح الحيوية والدفاع عنها.

وتقدم تركيا أنموذجًا ذا دلالة في هذا الإطار؛ حيث أعلنت مؤخرًا عن تدشين صفقة عسكرية لوجستية مع الصين لتصنيع الطائرات بدون طيار؛ وذلك على الرغم من علاقاتها الاستراتيجية والأمنية القوية مع واشنطن، وكونها عضوًا رئيسًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.(10)

وفي كل الأحوال، يتعين أن يكون التعامل الخليجي مع إيران وفق منظور "السياسة الواقعية" الذي يميز بين قضايا الخلاف وتقاطع المصالح؛ ومن ثم ينظر لطهران على أنها "حليف استراتيجي ضمن شروط موضوعية."

 

خاتمة

في ضوء ما سبق يمكن أن نخلص إلى الآتي:
إن الآثار السلبية للتقارب الإيراني-الأميركي ليست مطلقة، وذلك بالنظر إلى عدة اعتبارات:

كون العلاقات الخليجية- الأميركية تظل استراتيجية وعميقة، ولعدم استعداد الولايات المتحدة الأميركية السماح لإيران بالانفراد بأمن المنطقة بسبب وجود مصالح حيوية ثابتة لواشنطن في المنطقة.

ومن ثم، ربما يكون الأوفق استنتاج سعي الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران إلى الانتقال من الصدام إلى التقارب المتوازن، والوصول إلى مواقف متقاربة معها بشأن الملفات الإقليمية التي لا تزال عالقة ومتداخلة حتى الآن، مع عدم التفريط في أمن الحلفاء الاستراتيجيين لواشنطن في المنطقة، وبخاصة صون الأمن الإقليمي للخليج وضمان عدم زعزعة استقراره.

- يبدو في ضوء المعطيات والمؤشرات الراهنة أن المصالحة الإيرانية-الأميركية المتوقعة لن تكون آنية ولن تتم  بين عشية وضحاها؛ فالعجلة تحركت فقط وتحتاج لوقت ليس بالقصير لكي تدور.
كما أن هذه المصالحة المتوقعة في الأجل الطويل ستكون رهنًا بعدة محددات، أبرزها: الضغوط الإسرائيلية، وضغوط الداخل الإيراني والأميركي على حد سواء.

- يتعين النظر لهذا التقارب مليًا من منظور حساب الفوائد والخسائر الاستراتيجية، بل يمكن استثماره في تعزيز العلاقات الإيجابية مع طهران.
وبالتالي، تقتضي مقاربة السياسة الواقعية من دول الخليج النظر إلى أن المصالحة مع إيران هي مصلحة للجميع، وأن التقارب مع الغرب يأتي في إطار نهج جديد وليس صفقات.
فإذا أسفر التقارب عن توفير ظروف مواتية لسياسة إيرانية لا تصطدم مع دول مجلس التعاون، سيقود ذلك إلى خطوات إيجابية لسلوك إيراني جديد في الخليج والشرق الأوسط يرضي دول الخليج وقد يؤدي إلى حل الصراع في الشرق الأوسط.
وهنا لابد من رسم "خارطة طريق لسلام إقليمي بمشاركة ثلاثية تشمل: دول الخليج وإيران والولايات المتحدة."
___________________________________
* محمد بدري عيد، باحث مختص بالشأن الخليجي.

الهوامش

1. إيمان رجب: "هل يُنهي الانخراط البنّاء القطيعة بين طهران وواشنطن؟"، المركز الإقليمي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، القاهرة، 25 سبتمبر/أيلول 2013.
2. انظر في ذلك خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام البرلمان التركي في 6 إبريل/نيسان 2009، صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، 7 إبريل/نيسان 2009.
3. انظر تصريحات الوزير السعودي خلال مؤتمر صحفي مع وزيرة الخارجية الإيطالية إيما بونينو عقب ندوة العلاقات السعودية-الإيطالية في الرياض، صحيفة "عكاظ" السعودية، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2013.
4. صحيفة "الحياة" اللندنية، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2013.
5. صحيفة "الرأي" الكويتية، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2013.
6. جمال خاشقجي: "الشقيقة إيران والرئيس اللطيف روحاني"، صحيفة "الحياة" اللندنية، 29 سبتمبر/أيلول 2013.
7. Muath Al Wari, “The GCC and Iran: What kind of a deal?”, Gulf News, August 17, 2013.
http://gulfnews.com/opinions/columnists/the-gcc-and-iran-what-kind-of-a-deal-1.1221374
8. انظر في ذلك: د.جمال عبد الله: "ثورة الغاز الصخري وآثارها على اقتصادات دول الخليج"، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2013)، http://studies.aljazeera.net/reports/2013/10/2013104121342439871.htm
9. وكالة الأنباء الفرنسية "أ.ف.ب"، 27 سبتمبر/أيلول 2013.
10. لتفاصيل هذه الصفقة وبيان حيثيات الموقف التركي منها، انظر: وكالة الأنباء الفرنسية "أ.ف.ب"، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2013، ووكالة الأنباء الألمانية "د.ب.أ"، 3 و4 أكتوبر/تشرين الأول 2013.