اتفاقية السلام في الفلبين: دوافعها ومستقبل شعب مورو

وقّعت جبهة تحرير مورو الإسلامية والحكومة الفلبينية اتفاق سلام شامل يهدف لإعادة تنظيم شؤون مسلمي جنوب الفلبين في حكومة برلمانية وزارية منتخبة بحلول 2016 ولكن في إطار السيادة الفلبينية. وترتبط عملية السلام بمرحلة انتقالية تمتد لسنتين ستقرر مصير الاتفاقية برمتها.
201442891650485580_20.jpg
[الجزيرة]
ملخص

توصلت جبهة تحرير مورو الإسلامية والحكومة الفلبينية إلى اتفاق سلام شامل يسعى لإعادة تنظيم شؤون مسلمي جنوب الفلبين في ظل حكومة برلمانية وزارية منتخبة مع حلول عام 2016، جاء ذلك بعد تغيرات عرفها المورويون في أوضاعهم الداخلية وفي ظل عوامل دفعت الفلبينيين إلى القبول بحل سلمي وعلى خلفية مؤثرات دولية آسيوية وإسلامية وغربية. ويعد الاتفاق الذي تم التوصل إليه الأوسع من حيث مجالات تنفيذه، فهو يشمل مختلف جوانب إدارة الدولة وشؤون حياة المسلمين المورويين. لكن تحقيق السلام لن يُنجز بمجرد التوقيع على الاتفاقية فدون ذلك تحديات ومراحل كثيرة قبل تحقق حلم المورويين بحكم أنفسهم حكمًا حقيقيًا واسع الصلاحيات يتجاوز الحكم الذاتي الحالي. تظل التسوية السلمية خيار غالبية المورويين ممن يرون في إطالة أمد الحرب ابتعادًا عن تحقيق الكثير مما يصبون إليه، رغم أن الدخول في مسار السلام هذا مغامرة بالنسبة لمن حملوا السلاح منهم، لاسيما أنهم مطالبون بوضع أسلحتهم والمشاركة في بناء حكومة جديدة.

وقّعت الحكومة الفلبينية في ميندناو بجنوب البلاد "اتفاقية سلام بنغسامورو الشاملة"(1) مع جبهة تحرير مورو الإسلامية في 27 مارس/آذار 2014 بعد قرابة 45 جولة تفاوضية امتدت سبعة عشر عامًا، وبعد عقود من الصراع الدامي الذي راح ضحيته نحو 150 ألف شخص فضلاً عن الكلفة الاجتماعية والاقتصادية الباهظة التي تكبدها شعب مورو أو بنغسامورو والذي يقدر عدده مع غيرهم من مسلمي الفلبين بنحو عشرة ملايين نسمة من مجموع 98 مليون نسمة(2).

تهدف الاتفاقية الموقعة إلى تحقيق حل جذري للقضية الموروية التي تمتد بجذورها إلى أيام الاستعمار الإسباني منذ بدايات القرن السادس عشر ثم الأميركي منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن المنصرم، حيث واجه شعب مورو الإسبان نحو 377 عامًا ثم الأميركيين نحو 40 عامًا، ثم ألحق الأميركيون مناطق المسلمين بدولة الفلبين رغم رفض المورويين ذلك لوجودهم السياسي المستقل الذي يمتد إلى القرن الرابع عشر. وبعد موجات هجرة واستيطان لسكان الشمال الفلبيني من المسيحيين ووقوع المذابح نهاية الستينات بحق مسلمين تأسست "جبهة تحرير مورو الوطنية" برئاسة نور ميسواري عام 1969، وهذا ما يمكن وصفه بمسار العمل المسلح والمفاوضات الأول. ثم استمرت الحرب وتزامنت مع جولات تفاوض بدأت عام 1975، وانتهت إلى اتفاقية سلام -وُقّعت بين الجبهة الوطنية ومانيلا عام 1996- أضفت الشرعية على "منطقة الحكم الذاتي في ميندناو المسلمة" (الحكم الذاتي كان قائمًا فعليًا منذ العام 1990) الذي ترأّسه نور ميسواري لعدة سنوات قبل تدهور علاقته بمانيلا.

لكن مسارًا ثانيًا للحرب والسلام كان حاضرًا أيضًا؛ فإثر بدء نور ميسواري التفاوض مع مانيلا انشق عنه مئات من خريجي الأزهر والجامعات الإسلامية والقادة الميدانيين وعلى رأسهم الشيخ سلامات هاشم -26 ديسمبر/كانون الأول 1977- الذي كان يتحرك بين ميندناو وعواصم عربية وإسلامية، ثم جاء الإعلان عن تأسيس جبهة تحرير مورو "الإسلامية" رسميًا عام 1984، وتعاظم شأنها وصارت كبرى الحركات الموروية والإسلامية المسلحة في جنوب الفلبين، وبعد نحو عقدين من المعارك المتقطعة انطلق مسار ثان لمفاوضات السلام عام 1997 لكنه لم يوقف المعارك نهائيًا؛ فقد ظلت تتجدد من حين لآخر حتى وُقّعت الاتفاقية الأخيرة.

الاتفاقية وتحقيق التغيير السياسي

تؤسس الاتفاقية لنظام سياسي خاص بالمسلمين مع حلول عام 2016 من حيث حدوده الجغرافية في أقاليم بجنوب الفلبين ومن حيث السلطات التي تتجاوز الحكم الذاتي الحالي؛ حيث سيكون حكمًا وزاريًا برلمانيًا منتخبًا له من الصلاحيات ما يجعله شبه مستقل في كثير من الشؤون مع بقائه في ظل سيادة الدولة الفلبينية، وتتضمن الاتفاقية الصلاحيات الخاصة بحكومة بنغسامورو التي تشمل معظم مجالات عمل أي حكومة باستثناء صلاحيات الحكومة المركزية(3) والصلاحيات المشتركة بين الحكومتين، كما يفصّل أحد ملاحق الاتفاقية في شأن استفادة شعب مورو من ثروات أرضه ومياهه الإقليمية حسب خرائط اتُفق عليها.

ومن العناصر المهمة في الاتفاقية ما سُمي بتسوية الأوضاع الإنسانية والأمنية، وتشمل تجميد أو تجميع وتخزين سلاح الجبهة الإسلامية، في مخازن تشرف عليها فرق مشتركة من الخبراء والمراقبين، تمهيدًا لنقل مقاتلي الجبهة إلى حياة مدنية ضمن برنامج تنموي، يتم فيه إدماج المقاتلين السابقين في وظائف مختلفة، بإشراف هيئة مستقلة أعضاؤها خبراء دوليون وممثلون عن الطرفين لوضع سجلات لمقاتلي الجبهة الإسلامية، التي ستتحول تدريجيًا إلى حزب سياسي ذي نشاط اجتماعي واقتصادي. وحسب تطورات الجوانب الأخرى من سير عملية اتفاقية السلام، ستتم إعادة انتشار الجيش الفلبيني، ليتم توزيعه على مناطق بنغسامورو وفق خريطة جديدة كمنطقة غير عسكرية، وتنفيذ خطة لتحويل المعسكرات الرئيسة للجبهة إلى مناطق منزوعة السلاح، كما يُفترض أن يعمل على تحقيق مصالحة وطنية وعفو عن أحداث وجنايات ذات علاقة بالصراع وليست جنايات مجردة.

ولأن الاتفاقية تنطلق من فكرة رفض المورويين للأوضاع القائمة في ظل الحكم الذاتي الحالي وتأكيدًا على الحاجة لإيجاد نظام سياسي وإداري وقانوني واقتصادي جديد لشعب مورو، كان الاتفاق على إحداث التغيير على مراحل تبدأ في شهر مايو/أيار المقبل وتستمر لنحو عامين: 

  1. قانون بنغسامورو الأساسي: الخطوة الدستورية الأولى في تطبيق اتفاقية السلام، وقد انتهت هيئة بنسغامورو الانتقالية(4) من إعداد مسودة القانون يوم 20 إبريل/نيسان، وسيكون بمثابة الدستور لحكم مناطق المسلمين، وسيقدم قريبًا إلى الرئيس الفلبيني بينغنو أكينو الذي بدوره سيدفع بإقراره لدى الكونغرس الفلبيني.
  2. الاستفتاء على القانون والحدود الجغرافية لحكومة بنغسامورو: يجرى استفتاء على القانون الأساسي والمناطق التي تريد أو تقبل أن تحكم به في ظل حكومة بنغسامورو مستقبلاً؛ وذلك في خمسة أقاليم إضافة إلى مدن مراوي وكوتاباتو وإشبيلية وعدد من البلديات والقرى المتفرقة الأخرى.
  3. سلطة بنغسامورو الانتقالية: بعد ظهور نتائج الاستفتاء يُسلّم حكام الحكم الذاتي الحالي الصلاحيات والسلطات لسلطة بنغسامورو الانتقالية التي تختار الجبهة 8 منهم بمن فيهم رئيس السلطة ويختار الرئيس الفلبيني 7 آخرين، وستكون بمثابة حكومة تسيير أعمال مؤقتة تنظم انتخابات عام 2016 لاختيار أعضاء مجلس بنغسامورو التشريعي، وهنا لن تقتصر المشاركة السياسية على جبهة تحرير مورو الإسلامية بل يمكن لجميع الشخصيات والأحزاب والقوى الموروية  أن تشارك.
  4. انتخاب حكومة بنغسامورو: تنتخب الحكومة من بين أعضاء المجلس التشريعي وتحت قبة البرلمان، ثم يعين رئيس الوزراء -الذي يمثل الأغلبية- نائبه ووزراءه، ويمكن حجب الثقة عن حكومة بنغسامورو بغالبية ثلثي الأصوات.
  5. مجلس بنغسامورو: يمثل هيئة عليا أوسع من المجلس التشريعي وهو أقرب إلى مجلس شورى وطني يضم كل الأطياف والفئات وكبار موظفي الحكومة الوليدة، يرأسه رئيس الوزراء المنتخب وبعضوية حكام الأقاليم التي تتبع حكومة بنغسامورو وولاة المدن وممثلي القبائل الأصلية من غير المورويين وكذا فئات مختلفة من الشعب كالنساء والمستوطنين غير المسلمين.

عوامل دفعت لاتفاقية السلام

ساهمت مجموعة من العوامل في الوصول إلى اتفاقية السلام الموقعة بين الجبهة الإسلامية وحكومة مانيلا، ويمكن إيجازها في ثلاثة محاور رئيسية: العوامل الموروية، والدوافع الفلبينية، والمؤثرات الخارجية.

أولاً: عوامل موروية ذاتية

1. تغير الخطاب السياسي لجبهة مورو الإسلامية: اعتمدت الجبهة الإسلامية منذ السبعينات "خطابًا جهاديًا" يقوم على التغيير بالسلاح، ووفر لها دعمًا عالميًا من قبل شعوب ودول إسلامية شتى، واستطاع مؤسسها ورئيسها الأول سلامات هاشم بشخصيته الكاريزمية أن يعزز نفوذ الجبهة بين المورويين حتى بلغت الذروة في نهاية التسعينات(5)، حتى إن مانيلا خشيت من أن يكون استقلال مورو قريب التحقق. ولكن بعد سنوات من المحادثات الأولية مع مانيلا، أخذ خطاب الجبهة الإسلامية يشهد مع حلول الألفية الجديدة تغييرًا اكتملت وجهته بعد وفاة مؤسسها هاشم عام 2003؛ حيث جنحت القيادة الجديدة برئاسة الحاج مراد إبراهيم نحو الخطاب الدبلوماسي السياسي، وذلك إثر مراجعات ومشاورات داخلية انتهت إلى عدم الاكتفاء بخيار الاستقلال والحكم الذاتي، وإنما فتح الباب أمام خيارات أخرى تقترب من النظام الفيدرالي.

2.  فتح قنوات اتصال مع القوى الدولية المؤثرة: انطلق تواصل الجبهة مع أطراف دولية عديدة، ومنها الولايات المتحدة، من خطابها السياسي الرافض للعنف بحق المدنيين، وبالتأكيد على أنها تسعى إلى تقرير مصير شعب، وقد كانت المتابعة الأميركية لهذا الملف عبر دبلوماسييها والمعهد الأميركي للسلام والبنك الدولي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وعندما وقعت اتفاقية السلام جاءت التهنئة على لسان وزير خارجيتها جون كيري ممتدحًا دور الوسيط الماليزي(6).

3أعلن الرئيس الفلبيني الأسبق جوزيف استرادا -عمدة مانيلا حاليًا- يوم 21 مارس/آذار 2000 حربًا شاملة على الجبهة الإسلامية، لم يسبق لها مثيل منذ سنوات طويلة، استهدفت معسكر أبي بكر أبرز قواعدها، و13 معسكرًا كبيرًا و43 معسكرًا صغيرًا آخر، حققت للقوات الحكومية اختراقًا داخل الأراضي العسكرية والزراعية والسكانية التي حكمتها الجبهة لنحو عقدين من الزمن وربما أكثر؛ حيث شقت الطرق وسطها ولم تعد مناطق استراتيجية وآمنة بالنسبة للجبهة بعد ذلك التاريخ. 

4تكاد لا تجد منزلاً في الأقاليم المسلمة دون أن يكون أهله قد فقدوا أحد أفراد عائلتهم في هذه الحرب وما يعنيه ذلك من معاناة معيشية واجتماعية، وتتفاوت نسبة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر في "منطقة الحكم الذاتي ميندناو المسلمة" ما بين ثلاثين إلى سبعين في المائة، بل إن متوسط نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي في هذه الأقاليم لا يتجاوز ثلاثمائة وخمسين دولارًا سنويًا -مقارنة بـ1570 على مستوى الفلبين عامة و4375 دولارًا في العاصمة مانيلا-، أي إنها الأفقر في الفلبين، وبينما تحقق الفلبين نموًا يصل إلى 7% تعاني مناطق المسلمين من تباطؤ اقتصادها الذي وصل لحد الانكماش خلال العامين الماضيين(7).

ثانيًا: دوافع فلبينية

تبنى الرئيس الفلبيني الحالي بينغنو أكينو خطاب السلام منذ ترؤّسه البلاد في 30 يونيو/حزيران 2010، وهو يعلم أن على بلاده أن تختار بين أمرين: الإبقاء على سياسة احتواء المسلمين الحالية من خلال حكم ذاتي محدود الصلاحيات؛ وهو ما يعني غموض المستقبل واحتمال انفجار الأوضاع من حين لآخر، أو تحقيق السلام مع مسلمي مورو من أجل تحقيق استقرار دائم ومستقبل أفضل للفلبين، لاسيما أن شركات فلبينية وعالمية كثيرة تتطلع للاستثمار في ميندناو الغنية بالثروات الطبيعية والمعدنية والزراعية.

وتحتاج الفلبين للاستقرار الداخلي كي تتفرغ للتعامل مع التحديات الإقليمية والخارجية كخلافها الآخذ بالتصاعد مع الصين على السيادة في بحر الصين الجنوبي، ولهذا تسعى لطي ملف القتال المسلح في جنوب بلادها سواء كان ذلك في قتالها مع الموروريين أو مع الشيوعيين من جيش الشعب الجديد -الذي انطلق في عمله المسلح منذ أواخر الستينيات، وتلقى مؤخرًا ضربات قوية- ويتطلع الساسة الفلبينيون في هذا الإطار إلى دعم استراتيجي أميركي يقويهم على مواجهة التوسع الصيني(8).

ثالثًا: مؤثرات خارجية

1تراجع أو توقف الدعم للخيار العسكري: لم يكن الخطاب الجهادي للجبهة خلال عقود السبعينات والثمانينات وحتى أواخر التسعينات يلقى ضغوطًا دولية تجبره على القبول بخيار السلام، وربما لاقت الجبهة آنذاك دعمًا عربيًا أو إسلاميًا، ولكن مع تغير الموقف الإقليمي والدولي وتراجع أو توقف الدعم للخيار العسكري، بل وتوقف الكثير من المشاريع الداعمة اجتماعيًا لقرى المسلمين في ميندناو منذ مطلع الألفية، ساهم ذلك في تغير الخطاب السياسي للجبهة، من رفع شعار الجهاد من أجل الاستقلال وتأسيس دولة إسلامية في جنوب الفلبين إلى "التفكير بواقعية" والمطالبة بتحقيق الحقوق الأساسية لشعب مورو في ظل السيادة الفلبينية.

2الاهتمام الأميركي والحرب على الإرهاب: إن تحقيق السلام في نظر الأميركيين سيُنهي صراعًا يوفر بيئة خصبة لجماعات مسلحة تصنفها "إرهابية"، لاسيما أن واشنطن التفتت مجددًا إلى الفلبين بعد تدخلها في أفغانستان في إطار الحرب التي أعلنتها على ما يُسمى "الإرهاب" في أعقاب تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001؛ إذ شارك الجيش الأميركي في تدريبات مع الجيش الفلبيني منذ ذلك الوقت في أقاليم المسلمين. ومع أن الأميركيين لم يستهدفوا محاربة الجبهة الإسلامية، فهي ليست مدرجة في قوائم واشنطن للمنظمات الإرهابية، لكن ظروف "الحرب على الإرهاب" شكّلت ضغوطًا سياسية على الجبهة لتكون أكثر تقبلاً للحل السياسي. ومن المهم الإشارة إلى أن اهتمام واشنطن بالسلام في ميندناو يرتبط أيضًا بما سيعود عليها من مصالح استراتيجية واقتصادية أخرى في منطقة مهمة استراتيجيًا وجغرافيًا وغنية بالثروات(9).

3ماليزيا والرغبة في تحقيق السلام: تعد ماليزيا من الدول القريبة من القضية الموروية ومن رجالات منظمات مورو نظرًا للقرب الجغرافي والروابط الثقافية والدينية بين الشعبين الملايوي والموروي، وقد كان العسكريون الماليزيون على رأس فريق المراقبين الدوليين الذي بدأ عمله منذ عشر سنوات وقام بدور محوري في تأمين سريان الهدنة بين الجيش الفلبيني والجبهة الإسلامية طوال فترة المفاوضات(10). كما أن كوالالمبور تتطلع إلى تمكين نخبة موروية في الحكم بميندناو لا تؤيد مطالب أحفاد سلاطين سولو بملكية ولاية صباح الماليزية القريبة من أرخبيل سولو جنوبي جزيرة ميندناو -وهو خلاف قديم يعود إلى ما قبل تشكل اتحاد ماليزيا، ولا يزال بعض مؤيدي هذه الأسرة يشكّل خطرًا على أمن السواحل الشرقية لماليزيا- لتطوي بالتعاون مع الحكم الجديد صفحة تلك المزاعم التاريخية إلى الأبد. ومن مصلحة ماليزيا أيضًا أن تستقر المنطقة التي ظلت منطلقًا لجماعات مسلحة أخرى تهدد السياح الأجانب في صباح الماليزية، وتهدد استقرار أرض مورو فضلاً عن منافع اقتصادية عديدة تتمثل في حركة السكان والتبادل التجاري بين شرقي ماليزيا وجنوبي جزر سولو وميندناو.

4الداعمون للسلام ومساعي إنجاحه: من منطلق مصالح جيوسياسية واقتصادية عديدة يُلاحَظ أن أطرافًا إقليمية ودولية كثيرة دعمت مفاوضات السلام ولم يقتصر الأمر على الوسيط الماليزي؛ فقد كانت دول  كإندونيسيا وبروناي واليابان حاضرة، وكذا الاتحاد الأوروبي والنرويج وكندا وأستراليا وبريطانيا، إضافة إلى عدة دول عربية وإسلامية كتركيا والسعودية وليبيا وذلك في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي إلى جانب منظمات إنسانية غربية وإسلامية.

سلام ميندناو وتحديات المستقبل

إن تحقيق السلام في ميندناو وتأسيس حكومة لشعب مورو لن يكون سهل المنال، فتوقيع الاتفاقية خطوة أولى في طريق طويل محفوف بالتحديات، التي من أبرزها:

1الجبهة الإسلامية وتحدي الأداء السياسي: أعلنت الجبهة الإسلامية يوم 8 إبريل/نيسان 2014 عن تأسيس حزب سياسي "حزب العدالة الموروي المتحد"، والمشاورات داخل صفوفها مستمرة لتحديد الهيكل التنظيمي له استعدادًا لدور سياسي جديد في المرحلة الانتقالية تمهيدًا للاحتكام إلى صناديق الاقتراع بعد نحو عامين. وهناك مخاوف وتساؤلات شعبية حول قدرة الجبهة الإسلامية على ترجمة الكفاح المسلح إلى حكم رشيد يخدم ملايين المورويين، وفي أذهانهم أخطاء أسلافهم ممن تقلدوا مناصب في الحكم الذاتي الحالي وواجهوا انتقادات واسعة من قبل المواطنين بسبب ضعف أدائهم. ولاشك أن أداء الجبهة الإسلامية السياسي سينعكس على مسيرة التحول السياسي للمورويين، وفي حال إخفاقها قد تظهر بينهم قوى جديدة، سياسية أو مسلحة.

2تساؤلات حول الرئيس المقبل: عانت القضية الموروية من تقلبات سياسية مع تغير الرؤساء الفلبينيين على مدى عقود، وهذا ما يجعل تحقق المراحل الأخيرة من اتفاقية السلام رهن توجهات الرئيس القادم، حيث تشير الاتفاقية إلى التزام الطرفين بولادة حكومة بنغسامورو الجديدة يوم 30 يونيو/حزيران من عام 2016، وهو اليوم الذي تنتهي فيه الفترة الرئاسية للرئيس الفلبيني بينغنو أكينو؛ ما يجعل الانتخابات الرئاسية في ذلك العام ذات أهمية خاصة بالنسبة لشعب مورو.

3العلاقة بين حكومة مانيلا وحكومة بنغسامورو: تصف اتفاقية السلام العلاقة بين الحكومتين بأنها علاقة غير متماثلة؛ فهي تشبه العلاقة بين الحكومة الاتحادية وولاياتها في النظام الفيدرالي لكنها لا تحددها بذلك التوصيف، لأن الفلبين ليست اتحادًا فيدراليًا؛ فالعلاقة بينهما غير متكافئة لأن الحكومة المركزية أعلى منزلة من الحكومة الموروية؛ ما يعني أن العلاقة بين الحكومتين قد تكون مثار خلاف من حين لآخر بعد تشكل النظام الموروي الجديد تبعًا لمستوى التواصل بين الساسة في الحكومتين(11).

4تداخل السلطات والصلاحيات: هناك صلاحيات مشتركة بين حكومتي مانيلا وبنغسامورو في مجالات كثيرة كما هي الحال في إدارة الثروات والتجارة الدولية وتسجيل الأراضي وإدارة الموانئ، والجوانب الأمنية والمصرفية، وقضايا حقوق الإنسان، وهي محاور كثيرة قد تكون محل خلاف قانوني وتشريعي وإداري(12).

5الكونغرس والقضاء والجيش: سيبقى للكونغرس الفلبيني اليد الطولى في التأثير على عملية التحول إلى الاستقرار السياسي في ميندناو، وأول خطوة في ذلك الطريق موافقة الكونغرس على قانون بنغسامورو الأساسي وتعديل مواد في الدستور لتتوافق وتأسيس حكومة برلمانية لبنغسامورو في ظل نظام رئاسي. فهناك مواد قد تلقى معارضة من قبل أعضاء في الكونغرس كالمادة التي تتحدث عن قوة شرطية خاصة ببنغسامورو، أو تقنين منح المسلمين حكمًا ذا صلاحيات واسعة، وربما تشهد مسيرة السلام عثرات كما حدث في حالات سابقة. كما يظل القضاء الفلبيني قادرًا على إيقاف أية خطوة من خطوات تنفيذ اتفاقية السلام كما حصل في عام 2008 عندما أوقفت المحكمة العليا توقيع اتفاقية بين الحكومة والجبهة بشأن ملكية المورويين للأراضي الموروثة(13). وسيكون دور الجيش محوريًا في تعزيز توجه السلام، ولاسيما أن احتمال وقوع تجاوزات عسكرية على الأرض لاتفاقية السلام وارد من حين لآخر.

6الاستفتاء: لم تقرر الاتفاقية بصورة نهائية الحدود الجغرافية لحكومة بنسغامورو المرتقبة، فالقرار يعتمد على نتيجة استفتاء سيجرى في الأقاليم الجنوبية، وعلى قرار من سيقبل من شعب مورو بأن تنضم منطقته إلى سيادة بنغسامورو. لهذا قد تصبح الحدود الجديدة أوسع من حدود الحكم الذاتي الحالي، أو تبقى على حالها، لاسيما في ظل إمكانية معارضة بعض المناطق ذات الحضور المسيحي(14).

7جماعات مسلحة ترفض السلام: ترفض مجموعة "الثوار الإسلاميون لتحرير مورو" التي انشقت عن الجبهة الإسلامية عام 2008 الحل السلمي، وأعلنت أن غايتها الاستقلال، وهو خطاب يجذب الآلاف من الشبان المقاتلين الذين يدخلون في مواجهات مع الجيش من حين لآخر. أضف إلى ذلك أن هناك جدلاً في أوساط الجبهة الوطنية بين من يتقبل اتفاقية بنغسامورو ومن يرفضها ملوحًا بالقتال، وقد يسهم أيضًا وجود بعض المجموعات المسلحة -رغم عدم قدرتها على تحقيق تفوق عسكري- في إبقاء الوضع ضبابيًا، فلا هو سلام حقيقي ولا حرب حاسمة، وهو أمر مثير لقلق كل من يفكر في السلام والبناء والتنمية.

8التحدي الاقتصادي: من حق حكومة بنغسامورو تسلم منح تنموية وقروض واستثمارات أجنبية؛ وهذا ما يفتح المجال لتعامل مباشر بين الدول العربية والإسلامية والآسيوية والأوروبية وحكومة بنغسامورو، كما أن تجميع سلاح الجبهة لابد وأن يُقابَل ببرامج تدريب وتأهيل اقتصادي للمقاتلين ضمن خطة تنموية لبنغسامورو يكون لها صندوق تنموي متخصص، مع تعهد الحكومة الفلبينية والبنك الدولي وأطراف أخرى بضخ مزيد من الأموال لتحقيق السلام، لكن مخاوف المورويين تظل قائمة من عراقيل اقتصادية، مستذكرين تجربة الحكم الذاتي الحالي الذي لم تغير برامجه التنموية أوضاع كثير من فقراء ميندناو، كما أن هناك حاجة ماسة لرفع ميزانية الحكم الذاتي والسلطة الانتقالية العام المقبل تمهيدًا لتحولات عام 2016 المنتظرة.
_______________________________
* صهيب جاسم، إعلامي وباحث متخصص في شؤون جنوب شرق آسيا.

الهوامش والمصادر

(1) سُميت الاتفاقية بالشاملة وحوت 83 صفحة لأنها جاءت لتتوج ست اتفاقيات تمهيدية تأسيسية وضعت الخطوط العامة لعملية التفاوض وقضايا ومجالات الحل المنشود، ووُقّعت خلال 17 عامًا من التفاوض، لتكتمل كلها في وثيقتين ختاميتين و4 ملاحق تُعنى بتسوية الأوضاع والترتيبات الأمنية والإدارية والشراكة في السلطة والثروة والمياه الإقليمية.

(2) تتفاوت التقديرات بشأن مسلمي الفلبين المتوزعين على 13 مجموعة إثنية ليس كلهم من المورويين، وتصف الاتفاقيات الموقعة وغيرها من الوثائق الفلبينية شعب مورو أو بنغسامورو -وبنغسا كلمة يعود أصلها إلى الملايوية السومطرية وتعني: الشعب- بأنهم من كانوا في جزيرة ميندناو وأرخبيل سولو وما حولها، مثل: جزر بالاوان عند مجيء الغزو الاستعماري، وذرية أولئك أو من اختلطت دماؤهم مع قوميات أخرى سكنت المنطقة لاحقًا، وهؤلاء رغم أنهم من قوميات وقبائل مختلفة فإنه يحق لهم أن يسموا أنفسهم بالمورويين، وهي تسمية رضي بها المسلمون لتوحدهم بها، رغم أن أصلها يعود إلى الإسبان الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم على خلفية تسميتهم لمسلمي الأندلس، إبان سقوط الحكم الإسلامي فيها أواخر القرن الخامس عشر، حيث فوجيء الإسبان بوجود مسلمين وسلطنات مسلمة في الفلبين عند وصولهم إليها عام 1521، أي بعد 29 عامًا فقط من سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس، لتبدأ حربهم مع المسلمين وحملات التنصير في جزر الفلبين.

(3) الصلاحيات التسعة الخاصة بحكومة مانيلا المركزية، وهي: الدفاع والأمن الخارجي، والسياسات الخارجية، وصك العملات، والسياسة المالية، والجنسية والمواطنة، ودوائر الهجرة والبريد والجمارك وشؤون السوق المشتركة، والحقوق الفكرية.

(4) الهيئة الانتقالية: هي أول جهة تشريعية أسست للتمهيد للتغيير السياسي، عينها الرئيس بينغنو أكينو عام 2012 وتنحصر مهمتها المرحلية بإعداد مسودة قانون بنغسامورو الأساسي، كما يحق لهذه الهيئة أن تقدم أية مقترحات لتعديل أية مادة في الدستور الفلبيني أو أي قانون يخص الحكم الذاتي الحالي والمرتبط باتفاق سلام عام 1996. أعضاء الهيئة 15 ويرأسها مهاجر إقبال كبير مفاوضي الجبهة الإسلامية، وينتهي عملها بعد إقرار القانون والتعديلات.

(5) تأثر مؤسسو الجبهة الإسلامية وأشهرهم رئيسها الأول سلامات هاشم منذ الستينات بأديبات الحركة الإسلامية في مصر، وبفكر السلف وتجارب الجهاديين في أفغانستان وفلسطين وأخرى لحركات إسلامية في باكستان وماليزيا. بحلول عام 2000 صار للجبهة 46 معسكرًا، ووصل عدد أعضائها بحسب مصادرها إلى 120 ألف متدرب، 60% منهم مسلحون إضافة إلى أكثر من مائتي ألف مؤيد آخر.

(6) تناولت عدة صحف تسريبات من ويكيليكس زعمت أن الجبهة الإسلامية خاطبت الأميركيين عبر سفارتهم تطالبهم بأداء دور للوصول إلى اتفاق بخصوص ملكية الأراضي الموروثة عام 2008، ويقصد بها الأراضي التي يقول المورويون إنها ملك لأجدادهم ويزعمون ملكيتها لأنها أُخذت منهم عنوة أو بالحرب، وقد سبق ولحق ذلك لقاءات بين دبلوماسيين أميركيين، منهم السفيرة الأميركية السابقة لدى مانيلا كريستي كيني التي زارت معسكر دارابانان في مندناو يوم 19 فبراير/شباط 2008 والتقت رئيس الجبهة الحاج مراد إبراهيم. انظر:
http://www.allvoices.com/contributed-news/10273002-wikileaks-us-backed-milf
ونشرت ذلك صحيفة فلبين إنكوايرير المعروفة، 8 سبتمبر/أيلول 2011، كما أشار كتاب صادر عن مكتب الدراسات الاستراتيجية والخاصة التابع للجيش الفلبيني إلى دور الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق سلام لأهداف عسكرية وجيوستراتيجية في المنطقة.
Cesar Pobre and Raymond Jose Quilop, “In Assertion of Sovereignty: The Peace Process.”Armed Forces of the Philippines (AFP).The Office of Strategic and Special Studies (OSS)
لكن هذا ليس رأي كل مؤسسات الدولة الفلبينية ولم يتسنّ للكاتب الحصول على رد من الجبهة بهذا الشأن.

(7) حسب الأرقام الصادرة عن المجلس الفلبيني للإحصاء وجهات دولية أخرى.

(8) من المفارقات أن زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لمانيلا في أواخر شهر إبريل/نيسان 2014 ستأتي بعد شهر من توقيع اتفاقية سلام بنغسامورو، وتتطلع مانيلا إلى التوقيع على "اتفاقية تعزيز التعاون الدفاعي" بين البلدين، ستسمح للأميركيين باستخدام واسع ولفترات طويلة للقواعد الفلبينية والبحرية منها على وجه الخصوص.

(9) كثيرون كتبوا في هذا المضمار، ومنهم:

The Moro Reader, History and Contemporary Struggles of the Bangsamoro People, edited by Bobby M. Tuazon (Cenpeg, 2008) – published by the Center for People Empowerement in Governance

(10)  تأسس فريق المراقبين الدوليين في أكتوبر/تشرين الأول 2004 إثر توقيع عدد من اتفاقيات الهدنة بين الجبهة الإسلامية وحكومة مانيلا، وتترأسه ماليزيا وبمشاركة كل من إندونيسيا وبروناي والنرويج في المجال الأمني وحماية المدنيين، كما تشارك اليابان في العون الاقتصادي والاجتماعي، وأسهم الاتحاد الأوروبي في مجال التأهيل الإنساني والتنمية.

(11)  فمثلاً في مسألة ملكية الأراضي يقول المسلمون إن أراضي أجدادهم أُخذت منهم وأُعطيت للمستوطنين، وهي المعرّفة في خطاب الجبهة سابقًا بـ"الأراضي والثروات الموروثة" عن الأجداد ولم تسجل كلها بسبب الحقبة الاستعمارية، مثل هذا الترابط التشريعي والتنفيذي بين الحكومتين المركزية والموروية سيشكّل تحديًا تنفيذيًا آخر يرتبط به تنفيذ الكثير من المشاريع والبرامج الموعودة.

(12)  الصلاحيات المشتركة للحكومتين المركزية وبنغسامورو في 14 مجالاً، هي: الضمان الاجتماعي والتقاعد، وربما يكون لبنغسامورو ضمان اجتماعي محلي خاص بها، وتسجيل الأراض وملكيتها، وإشكالات التلوث البيئي، وحقوق الإنسان والعفو، ومصالح السجون، وحراسة الحدود الدولية للفلبين، وتنظيم التجارة مع دول آسيان المجاورة، وإدارة النظام القضائي فيما يخص سلطة المحكمة العليا مع منح حق إدارة المحاكم الشرعية المحلية لحكومة بنغسامورو، وتمويل الطرق والجسور التي تربط بين الأقاليم، والتعامل مع الكوارث، والضرائب التي قد يكون فيها ما هو مشترك وما هو خاص بحكومة بنغسامورو.

(13)  وكانت تلك محاولة سابقة أوشكت على الوصول إلى اتفاقية نهائية في حينه، عندما حكمت المحكمة العليا في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2008 بعدم شرعية الاتفاقية المزمع توقيعها، وكانت الاتفاقية تتمحور حول المنطلق الجغرافي الاقتصادي للقضية الموروية، وتتركز على مطالبتهم باستعادة ما يعتبرونه أراضي ورثوها عن أجدادهم ويطالبون بالاستفادة منها وحكمها سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا، لكن الاتفاقية لم تتم وعادت المفاوضات لتتجدد في صياغة جديدة انتهت بالاتفاقية الشاملة الأخيرة التي لم ترتكز على مصطلح "الأراضي الموروثة" تفاديًا للخلاف القضائي ومعارضة بعض من النخب السياسية لذلك.

(14)  لم تنته جميع تجارب المسلمين مع الاستفتاءات السابقة إلى نتائج مرضية لهم بسبب التغير الديمغرافي للسكان، وهي حصيلة هجرة على مدى مائة عام مضت من الشمال إلى ميندناو بدأها الاحتلال الأميركي في العقد الثالث من القرن الماضي ووصلت إلى أوجها في عقدي الخمسينات والستينات قبل انطلاق شرارة جبهة مورو الوطنية والإسلامية؛ ما يجعل مطلبهم بتوسعة الرقعة الجغرافية التي يريدون حكمها صعب المنال حيث لم يعد المسلمون أغلبية في كثير من المناطق التي حكمها أجدادهم قبل قرون.

نبذة عن الكاتب