سحب قوات العمليات الخاصة الأميركية من تشاد: السياقات والدلالات

تحاول هذه الورقة قراءة دوافع التطور الذي شهدته العلاقات التشادية-الأميركية مؤخرًا وذلك في سياق التطورات الداخلية التشادية ودلالاته في ظل المستجدات الجيوسياسية في دول الساحل الإفريقي، حيث يأتي بعيد إنهاء النيجر المجاورة لتشاد اتفاقها الذي سمح للقوات الأميركية بالعمل في أراضيها.
تسيطر إثنية الزغاوة التي ينتمي إليها الرئيس محمد ديبي كاكا على الجيش التشادي وهذا ما مهَّد الطريق أمامه لتحكيم قبضته على السلطة (رويترز)

في أواخر أبريل/نيسان 2024، تناقلت وسائل الإعلام الأميركية خبر طلب الحكومة التشادية من واشنطن سحب قوات من أراضيها(1). وتأكد الخبر في آخر أبريل/نيسان وبداية مايو/أيار عندما أكمل الجيش الأميركي نقل أكثر من نصف قواته من القاعدة العسكرية التابعة لفرنسا في العاصمة التشادية، نجامينا، إلى ألمانيا. وفي حين أن أقل من 100 جندي أميركي متمركزون في تشاد، إلا أن هذا التطور يثير عدة تساؤلات عديدة وخاصة أن الجانبين، التشادي والأميركي، لم يحددا الأسباب الحقيقية لهذا القرار، بينما معظم القوات الأميركة المطلوب سحبها جزء من فرقة العمل الخاصة بالعمليات الأميركية والتي تعد مركزًا مهمًّا لقوات العمليات الخاصة الأميركية في منطقة الساحل(2).

فكيف يمكن قراءة هذا التطور؟ وما دوافعه في سياق التطورات الداخلية في تشاد ودلالاته في ظل المستجدات الأمنية والجيوسياسية في دول الساحل الإفريقي وجيران تشاد، حيث يأتي بعد أكثر من شهر من إنهاء حكومة النيجر العسكرية المجاورة اتفاقها الذي سمح للقوات الأميركية العمل في أراضيها؟

ديناميكيات متغيرة في الساحل

لم تكن دولة تشاد ضمن المحاور التقليدية لاهتمام الولايات المتحدة الأميركية في إفريقيا إلا تحت إدارة الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، عندما كانت تحاول الإطاحة بحكومة الزعيم الليبي، معمر القذافي(3)؛ فاتخذت واشنطن تشاد مركزًا لإستراتيجيتها للوصول إلى ليبيا وبوابة لتنفيذ عملياتها في المناطق الواقعة ضمن نطاق الاهتمام الأميركي في منطقتي الساحل والمغرب العربي. فصارت تشاد عنصرًا مهمًّا في المبادرات العسكرية للولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب في المنطقتين منذ عام 2002، بدءًا من إطلاق "مبادرة عموم الساحل" (Pan-Sahel Initiative) المصممة لتعزيز القدرات ومراقبة حدود الدول الأربع المشاركة (تشاد وموريتانيا ومالي والنيجر). وتوسعت تلك المبادرة في عام 2005 لتصبح "مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء" (Trans-Saharan Counter-Terrorism Initiative) التي تشمل دولًا مثل الجزائر وتونس وبوركينا فاسو والكاميرون وتشاد وليبيا ومالي وموريتانيا والمغرب والنيجر ونيجيريا والسنغال(4).  

ورغم ما ترى الولايات المتحدة من نجاحات لـ"مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء" الهادفة لتكون قناة رئيسية للمساعدات الثنائية بين الولايات المتحدة والدول الأعضاء على مواجهة التهديدات الإرهابية المحلية؛ إلا أنها تعرضت لانتقادات نتيجة الخسائر الإنسانية في نيجيريا ومالي. ومع ذلك، توطدت علاقات واشنطن مع تشاد التي أثبتت أنها قادرة على أن تكون شريكًا مهمًّا في حملات واشنطن العالمية ضد الإرهاب وتوفير المأوى لنحو مئتي ألف لاجئ من أزمة دارفور بالسودان على طول حدود تشاد الشرقية.

ويؤكد على أهمية تشاد العسكرية لواشنطن أنها استضافت مناورة "فلينتلوك" في عام 2015 التي شارك فيها أكثر من 1200 عسكري من الدول الأعضاء في "مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء"، إلى جانب مشاركة القوات من هولندا وبلجيكا وألمانيا وكندا وجمهورية التشيك والدنمارك وإستونيا وفرنسا وإيطاليا وليتوانيا والنرويج والسنغال وإسبانيا والسويد والمملكة المتحدة(5). كما تلقت نجامينا مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة الأميركية، بما في ذلك طائرتا الاستطلاع الخفيفتان من طراز C-208B التابعتان للقوات الجوية التشادية والتي سلمتهما الولايات المتحدة لنجامينا في عام 2018 وتستخدمها القوات التشادية في مهام استخباراتية ومراقبة واستطلاعية لمواجهة الحركات المتطرفة المسلحة في حوض بحيرة تشاد(6).

على أن طلب السلطات التشادية من واشنطن سحب قواتها من أراضيها يؤشر على الديناميكيات السياسية والأمنية المتغيرة في غرب إفريقيا والساحل، وخاصة أن قرار تشاد استهدف فرقة العمل الخاصة التابعة للعمليات الأميركية الخاصة والتي كانت تعمل سابقًا في ألمانيا قبل نقلها إلى تشاد في عام 2021. وقد جاء القرار التشادي أيضًا بعد حدثين مهمين: الأول وقع في يناير/كانون الثاني 2024 عندما زار جنرال مشاة البحرية الأميركية "مايكل لانغلي" والرقيب "مايكل وودز" من "القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا" (USAFRICOM) تشاد لمناقشة التعاون الأمني مع القادة العسكريين التشاديين(7)؛ حيث أعطت هذه الزيارة انطباعات عامة على تقوية التعاون العسكري بين الجانبين. والحدث الثاني أنه سبق طلب تشاد بأيام إعلان واشنطن أنها ستسحب في الأشهر المقبلة أكثر من ألف جندي أميركي من النيجر(8)، الدولة التي تُعد أحد الحلفاء القلائل الموثوقين لواشنطن في المنطقة، والتي شهدت انقلابًا عسكريًّا في يوليو/تموز 2023 أطاح بالرئيس "محمد بازوم"(9) القريب من الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما من الدول الغربية. 

وعلى ما سبق، يمكن القول: إن القرار التشادي بمنزلة خطة لنظام الجنرال "محمد إدريس ديبي" لاستغلال موقع تشاد كحليف الغرب الوحيد الباقي في الساحل، مستفيدًا من الاضطرابات الإقليمية ومخاوف تقدم منافسي واشنطن مثل روسيا وإيران والصين في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتصاعد نفوذ لاعبين آخرين مثل تركيا والإمارات العربية المتحدة في ليبيا والسودان. ويعزز فرص تشاد حقيقة أنه في حين ترفض دول كبيرة ذات أهمية إستراتيجية في غرب إفريقيا، مثل نيجيريا(10)، فكرة استضافة قاعدة أجنبية على أراضيها؛ إلا أن تشاد تبدو مستعدة لمواصلة استضافة القوات الغربية. ومما يعطي الدول الغربية، وخاصة فرنسا والولايات المتحدة، بصيص أمل في تشاد أن نظام "ديبي" الابن أثبت قدرته على التحكم في المطالبات الشعبية لمغادرة القوات الأجنية من البلاد والتي انتشرت بين السكان والنخبة السياسية في العامين الماضيين.

ويضاف إلى ما سبق أن تصريحات معظم مسؤولي الدفاع الأميركيين(11) حيال القرار التشادي توحي باحتمالية عودة القوات الأميركية إلى تشاد، وأن قرار السلطات التشادية مؤقت لارتباطه بوثائق عمل القوات الأميركية وأوراق عملياتهم، وهو ما يرجح كفة حل الأزمة بعد الانتخابات التشادية.

"ديبي" الابن وإحكام السيطرة السياسية

وصل الجنرال "محمد ديبي" إلى السلطة رئيسًا للمجلس العسكري الانتقالي، في 20 أبريل/نيسان 2021، بعدما قُتِل والده الرئيس، إدريس ديبي إتنو، أثناء قيادته للقوات في هجوم بشمال تشاد. وتشير جميع تحركات "ديبي" الابن منذ توليه السلطة إلى أنه رغم استلهامه من قواعد لعبة والده، إلا أنه يحاول رسم معالمه السياسية المستقبلية الخاصة من خلال الإثبات أنه مختلف. ولذلك ينظر الكثيرون إلى قراره بسحب القوات الأميركية عبر عدسات الخطة الإستراتيجية منه لتحكيم سيطرته السياسية وتأمين فوزه في رئاسيات 6 مايو/أيار 2024.

وعلى الرغم من أنه لم يكن في حسبان بعض معارضي "ديبي" الابن أنه سيبقى في المنصب الرئاسي لفترة طويلة بعد مقتل والده؛ إلا أنه بدا مؤخرًا أنه قد أمَّن الدعم العسكري والتأييد الفرنسيين مع وجود القوات الفرنسية الداعمة له في استمراره على قيادة تشاد. هذا إلى جانب الدعم العسكري وخاصة من بعض ضباط إثنية الزغاوة التي ينتمي إليها "ديبي" المسيطرين على الجيش وأجهزة الأمن. وكل هذا مهَّد الطريق أمامه لتحكيم قبضته للسلطة وسحق منافسي خلافته داخل عائلته والطبقة الحاكمة أو حتى بين الجماعات المعارضة التشادية التي تعتبر الحوار الوطني، الذي جرى بين أغسطس/آب وأكتوبر/تشرين الأول عام 2022، مجرد خطة لإضفاء مظهر الشرعية لنظامه؛ الأمر الذي جعل بعض أحزاب المعارضة الرئيسية تقاطع المشاركة في الحوار. ورغم أن جماعات المعارضة المسلحة الرئيسية المتمركزة في ليبيا رفضت اتفاق "ديبي" الابن مع عشرات من الجماعات المسلحة الأخرى، إلا أن الانشقاقات الداخلية بين تلك الجماعات خدمت مصلحة "ديبي" الذي تعاون أيضًا مع "خليفة حفتر" في تشتيتها وتنفيذ الغارات الجوية الدورية عليها.

ويضاف إلى ما سبق أن سلسلة انتقادات دولية استهدفت نظام "ديبي" الابن عندما قتلت قوات الأمن التشادية ما لا يقل عن 128 شخصًا (هناك اختلاف في أعداد القتلى) أثناء قمع احتجاجات المعارضة، في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022، ضد قرار نظامه بإطالة الفترة الانتقالية بصفته رئيسًا مؤقتًا للبلاد(12)، كما اعتقل مئات الأشخاص بينما هرب زعماء المعارضة الرئيسيون من البلاد مع إيقاف مؤقت لعمل أحزاب المعارضة ومنع التجمعات العامة. ومع ذلك هدَّأت الحادثة الدامية من الضغوطات على "ديبي" حيث لم تقع أي احتجاجات بعد ذلك، وعاد المعارضون البارزون بعد عام في المنفى، بمن فيهم "سوسيس ماسرا" الذي تعهد بالمصالحة مع "ديبي" ودعم العفو عن المسؤولين عن عمليات القتل في الحادثة.

في ديسمبر/كانون الأول 2023، صوَّتت المحكمة العليا في تشاد على دستور جديد للبلاد، ووقع آخر التطورات المؤثرة في المشهد السياسي في البلاد في آخر فبراير/شباط 2024؛ حيث غُيِّر موعد الانتخابات بشكل مفاجئ من شهر أكتوبر/تشرين الأول إلى يوم 6 من مايو/أيار، وبعد ذلك بيوم قُتِل زعيم المعارضة، يحيى ديلو، في تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن في العاصمة، نجامينا، وفق السلطات التشادية(13). وكان موقف معظم التشاديين أن "ديلو" استُهدِف عمدًا حيث من المقرر أن يقود "الحزب الاشتراكي بلا حدود" المعارض الرئيسي أمام ابن عمه والرئيس الانتقالي الحالي، ديبي الابن، خلال رئاسيات مايو/أيار 2024.

وبينما تسامحت فرنسا مع التطورات السياسية السابقة وانتهاكات نظام "محمد ديبي" بحق معارضيه، وخاصة أن عددًا من قوى المعارضة والفصائل المنشقة عنها مستاءة من الوجود العسكري الفرنسي؛ مما يعني تلقائيًّا أن دعم فرنسا نابع عن إدراكها أن أي محاولة للإطاحة بـ"ديبي" ستؤدي إلى طردها من تشاد كما فعلت دول مجاورة؛ فقد أصرت الولايات المتحدة بدورها، رغم دعمها لـ "ديبي" بعد رحيل والده، على دعوة المجلس العسكري الانتقالي بقيادة "ديبي" الابن إلى احترام الجدول الزمني للانتقال إلى الحكم الديمقراطي، كما دعمت واشنطن فكرة اعتبار قادة المجلس العسكري الانتقالي غير مؤهلين للترشح في انتخابات مايو/أيار(14). بل نددت السفارة الأميركية في تشاد بالحادثة الدامية التي وقعت في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022 والاستخدام غير المناسب للقوة من قبل قوات الأمن التشادية. كما أن الضغط من منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، التي تدين واشنطن لدعمها توريث الحكم لـ "ديبي" الابن، جعل إدارة بايدن تتردد حيال مواصلة تقديم المساعدات لتشاد والنيجر؛ حيث يعاكس هذا الموقف المبادئ الديمقراطية التي تتغنى بها واشنطن.

وعلى ما سبق، ربطت مصادر كثيرة سبب قرار السلطات التشادية سحب القوات الأميركية برئاسيات يوم 6 من مايو/أيار 2024؛ حيث القرار بمنزلة رسالة من "ديبي" لواشنطن بقدرته على الإضرار بالمصالح الأميركية في الساحل وغرب إفريقيا عبر طرد القوات الأميركية من بلاده في حال رفضت واشنطن فوزه في الانتخابات أو انتقدت العملية الانتخابية وشككت في نزاهتها وأصرَّت على قضايا حقوق الإنسان وقمع المعارضة السياسية. هذا مع الإشارة إلى أن استعداد فرنسا لاستخدام قوتها العسكرية لحماية "ديبي" الابن وقيادته التي تعتبرها باريس "استقرار وسلامة أراضي تشاد" وغياب الفرقة الخاصة الأميركية من نجامينا؛ كلهما يمنحان "ديبي" الابن راحة البال من احتمال تعاون أميركي ضده مع بعض الجنرالات التشاديين المستائين من نظامه أو الغاضبين من طريقة تعامله مع الملفات الإقليمية.

إعادة التفاوض على مبادئ الشراكة العسكرية مع واشنطن

هناك دلالات على أن السلطة التشادية تتطلع إلى الحصول على المزيد من الصفقات العسكرية وسياسة مستقلة من واشنطن تجاه البلاد بعيدًا عن الظل الفرنسي؛ إذ سياسة الولايات المتحدة في تشاد تدخل في إطار سياستها في غرب إفريقيا والساحل بشكل عام، كما أن تنفيذ شراكتها العسكرية مع تشاد غالبًا ما يعكس السياسة الفرنسية. وهذه الترتيبات العسكرية بين واشنطن وباريس تعود إلى فترة حكم الرئيس "إدريس ديبي"؛ حيث كانت فرنسا في البداية تعارض "القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا" ولم يكن أمام واشنطن من أجل الوجود العسكري الأميركي في دول نفوذ فرنسا سوى التعايش مع باريس. ولذلك يُلاحَظ في تشاد وجود نوع من الصفقة بين باريس وواشنطن بحيث تدعم فرنسا "ديبي" الابن وتعترف به واشنطن عنصرًا أساسيًّا في بنيات الأمن الإقليمي الساحلي وغرب إفريقيا.

وبالرغم من الأنباء عن منافسات غير مرئية بين واشنطن وباريس في الساحل؛ فقد أكدت التصريحات من البنتاغون أن سحب القوات الأميركية من تشاد يصب في إطار مطالب الحكومات الإفريقية بإعادة التفاوض على قواعد أنشطتها العسكرية على أراضيها مع ضبط شروط عمل القوات الأميركية وفق أجندات هذه الدول الإفريقية ومصالحها الوطنية. وبالفعل، أبدى المسؤولين الأميركيون استعدادهم للتفاوض والمناقشة مع تشاد بعد الانتخابات الرئاسية. إضافة إلى أن حكومة تشاد لم تلغِ اتفاقية "وضع القوات" التي تحكم علاقتها العسكرية مع واشنطن(15)؛ حيث يواصل عدد صغير من أفراد القوات الأميركية عملهم مع قوة عمل إقليمية مشتركة تركز على منطقة بحيرة تشاد التي تنشط فيها جماعة "بوكو حرام" وفروعها، بينما هناك قوات أميركية أخرى تعمل خارج السفارة الأميركية مع مشاة البحرية الذين يواصلون توفير الأمن للسفارة الأميركية في تشاد.

ويضاف إلى ما سبق أن هناك شعورًا متصاعدًا بأن الشركاء الغربيين يستغلون أراضيها لتحقيق أجنداتهم دون تقديم فوائد حقيقية للبلاد، بينما الصحف والمراكز الأميركية غالبًا ما تذكر أن تشاد ضمن الدول التي تقدم لها واشنطن مساعدات لتخفيف حالة الطوارئ الإنسانية في منطقة حوض بحيرة تشاد، والتي قُدِّرت لجميع دول المنطقة في عامي 2019 و2020 بحوالي 574 مليون دولار من المساعدات(16). وبالإضافة إلى تلقيها مساعدات عسكرية بملايين الدولارات كجزء من مبادرات إقليمية مثل الشراكة عبر الصحراء لمكافحة الإرهاب والقوة المشتركة لمجموعة الخمس في الساحل، تعد تشاد واحدة من أكبر ست دول إفريقية تحصل على "مساعدة التدريب والمعدات" من وزارة الدفاع الأميركية.

توازنات القوى المتنافسة والشركاء الأمنيين

لقد جاء سحب القوات الأمنية الأميركية من تشاد في الوقت الذي تزداد فيه المخاوف الأميركية من توسع النفوذ الروسي عبر إفريقيا؛ حيث ترى واشنطن أن ذلك يهدد مصالحها في القارة. ورغم وصف الغرب دولة تشاد بأنها "حليف رئيسي للغرب في إفريقيا"؛ إلا أن الخطوة الأخيرة تدل على أن السلطات التشادية تحاول ترك منافذ خياراتها مفتوحة لتحقيق التوازن بين شركائها العسكريين والقوى الدولية المتنافسة والموجودة على أراضيها وفي محيطها.

ومما فاجأ من قرار تشاد أنه وقع بعد مزاعم من جهات أميركية عن وجود مؤامرات محتملة لمجموعة "فاغنر" الروسية في جمهورية إفريقيا الوسطى للإطاحة بالرئيس "محمد ديبي" ونظامه في تشاد. بل رغم التحذيرات والمخاوف الغربية تزداد العلاقة بين تشاد وروسيا قوة ويواصل الجيش التشادي شراء الأسلحة من روسيا، كما حضر العديد من المسؤولين التشاديين القمة الروسية-الإفريقية، في يوليو/تموز 2023، حيث وقَّع الجانبان اتفاقيات تعاون. إضافة إلى أن أحد الإخوة غير الأشقاء للرئيس "ديبي" زار موسكو مرارًا في عام 2022 مع مزاعم لقائه بـ"يفغيني بريغوجين"، زعيم "فاغنر" آنذاك(17)، بينما سافر "ديبي" الابن إلى روسيا في وقت سابق من هذا العام للقاء الرئيس "فلاديمير بوتين" الذي قال: إن هناك فرصًا عظيمة لتطوير العلاقات الثنائية بين بلاده، روسيا، وتشاد(18). 

وفي حالة الوجود الفرنسي في تشاد، فإن مطالبة القوات الخاصة الأميركية بالمغادرة تشكل رسالة غير مباشرة إلى فرنسا بقبول شروط "ديبي" الابن مع وفاء الجانبين بالتزاماتهما التي تشمل ردع محاولات الإطاحة به بالقوة مقابل البقاء الفرنسي في تشاد. وهذه النقطة واضحة في عام 2022 عندما قاوم "ديبي" الابن الجهود الفرنسية لإبعاده من الترشح للرئاسة. ويؤشر الترحيب الضمني بروسيا على أن نظام "ديبي" يحاول الاستفادة اقتصاديًّا من مكانته الإقليمية أو يسعى نحو تقليل الضغوط الداخلية المطالبة بالابتعاد عن فرنسا والغرب. وقد يدل ذلك أيضًا على أنه يقيم بدائله بناءً على التغيرات الإقليمية والتطورات في الدول المجاورة: إذ كان لـ"فاغنر" وجود عسكري في كل من ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى لسنوات عديدة، إلى جانب السودان الذي لديه مع تشاد علاقات معقدة، ويُشتبه في أن المرتزقة الروس يقدمون الدعم الأمني ويهتمون بمناجم الذهب، كما يدعمون بعض الجهات السودانية الذين هم جزء من الصراع السوداني المستمر(19).

وهناك من ينظر إلى طرد القوات الأميركية والتقارب التشادي مع روسيا عبر عدسات علاقات تشاد مع الإمارات العربية المتحدة؛ حيث تُتهم تشاد بالتورط في الأزمة السودانية الجارية من خلال تسهيلها جهود الإمارات التي توفر الأسلحة والذخيرة والشاحنات وغيرها من الإمدادات العسكرية لقوات الدعم السريع. بالنظر إلى أن تشاد والإمارات وقَّعتا اتفاقية تعاون عسكري في يونيو/حزيران 2023(20)، فقد عزز دور تشاد في السودان الادعاءات بتأثر السلطات التشادية بالقروض المالية والمساعدات العسكرية والإنسانية التي تصلها من الإمارات، وهذا الدور أيضًا أثار المعارضة ضد "محمد ديبي" بين القبائل التشادية التي تعيش بالقرب من الحدود وتمتد إلى داخل السودان.

خاتمة

تؤكد جميع المؤشرات أن سحب القوات الخاصة الأميركية قد يكون قرارًا مؤقتًا حيث لا تزال تشاد تعتمد على الدعم الغربي، حتى وإن كانت واشنطن قد تخرج بسياسة مستقلة للتوصل إلى التسوية لكون تشاد آخر حلفائها في الساحل. ورغم أن استمرار حكم "ديبي" الابن قد يضمن الوجود الفرنسي وبقاء نحو ألف جندي فرنسي على أراضي تشاد، إلا أن باريس قد تنقلب عليه في حالة وجود خيارات أخرى داخل البلاد أو في المنطقة. وهذا يجعل اعتماد نظام "ديبي" الابن على فرنسا سلاحًا ذا حدين. ولعل هذا أيضًا مع تصاعد النفوذ الروسي في جيران تشاد أجبر السلطات التشادية على التقارب مع روسيا والتعاون مع حلفائها.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- Rachel Chason, Dan Lamothe and John Hudson. “U.S. troops to leave Chad, as another African state reassesses ties.” The Washington Post, April 25, 2024, https://shorturl.at/tCLT7 (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)

2-  Natasha Bertrand. “US withdraws troops from base in Chad following government demand”.  CNN, May 1, 2024, https://shorturl.at/mtKTZ, (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)

3- Brody, Reed. “Enabling a Dictator: The United States and Chad's Hissène Habré 1982-1990.” Human Rights Watch, 2016, https://shorturl.at/iMNP5  (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)

4- Toby Archer & Tihomir Popovic. “The Trans-Saharan Counter-Terrorism Initiative the US War on Terrorism in North Africa.” The Finnish Institute of International Affairs, 2007, p.9

5- BARDHA AZARI. “Flintlock 15 wraps up in N’Djamena, Chad.” United States Africa Command (ARICOM), March 9, 2015, https://shorturl.at/klwxJ (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)

6- Fergus Kelly. “US hands 2 C-208 reconnaissance aircraft to Chad.” The Defense Post, May 3, 2018, https://shorturl.at/buFY7 (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)

7- “AFRICOM Commander visits Chad.” United States Africa Command (ARICOM), January 10, 2024, https://shorturl.at/ayAS9 (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)

8- “US to withdraw its troops from Niger, source says.” VOA, April 19, 2024, https://shorturl.at/ansW8 (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)

9- سيدي أحمد ولد الأمير، "الانقلاب العسكري في النيجر: الأسباب والتوجهات"، مركز الجزيرة للدراسات، 28 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 5 مايو/أيار 2024)، https://shorturl.at/govEL 

10- Kabir Yusuf. “Nigeria has no plans to host American, French military bases – Official. “The Premium Times, May 6, 2024, https://rb.gy/vfrrqc (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

11- مصدر سابق:

Natasha Bertrand. “US withdraws troops from base in Chad following government demand”.  CNN.

12- “Chad: A Year On, Victims Await Justice.” Human Rights Watch, October 20, 2023, https://rb.gy/kveaqf (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

13- “Chadian Opposition Leader Killed in Shootout.” VOA, February 29, 2024, https://rb.gy/5nnl3g (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

14- Yamingué Bétinbaye; Remadji Hoinathy; Allah-Kauis Neneck; Babouh Tih-Kwada Elisabeth. “The U.S. Role in Furthering Chad’s Democratic Transition.” The United States Institute of Peace, January 10, 2023, https://rb.gy/944dmv (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

15- مصدر سابق:

Rachel Chason, Dan Lamothe and John Hudson. “U.S. troops to leave Chad, as another African state reassesses ties.” The Washington Post.

16- Alex Thurston. “An alternative US policy on Chad.” Responsible Statecraft, May 04, 2021, https://rb.gy/s0v0m0 (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

17- Declan Walsh. “A ‘New Cold War’ Looms in Africa as U.S. Pushes Against Russian Gains.” The New York Times, March 19, 2023, https://shorter.me/7uvfp (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

18- “Chad's president meets with Putin in Moscow.” Africa News, January 24, 2024, https://shorter.me/4VBO0 (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

19- “Russian mercenaries in Sudan: What is the Wagner Group’s role?” Aljazeera, April 17, 2023, https://shorter.me/ovlWy (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)

20- “UAE Increases Military Support, Aid to Chad Amid Sahel Strife.” Africa Defense Forum, February 13, 2024, https://shorter.me/bN0k2 (تاريخ الدخول: 6 مايو/أيار 2024)