ديناميكيات مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا: الحوافز والكوابح

تتناول هذه الورقة ارتدادات الطفرة التي تعرفها العلاقات السياسية والاقتصادية بين المغرب وإسبانيا على مشروع الربط القاري بين إفريقيا وأوروبا، موازاة مع متغيرات إقليمية ودولية محفزة على بعث جديد لنفق بحري يربط ضفتي المتوسط. لكن في المقابل، ثمة إكراهات قد تكبح هذا المشروع الجيواستراتيجي الواعد.
تصميم لمشروع بناء نفق تحت قاع البحر للربط بين المغرب وإسبانيا (الجزيرة)

مقدمة

يشهد مشروع الربط الثابت بين ضفتي المتوسّط عبر مضيق جبل طارق ديناميكيات استثنائية في ظل الطفرة النوعية التي تطبع العلاقات السياسية والاقتصادية بين المغرب وإسبانيا، وهو ما يعكسه انتظام أشغال الأجهزة المكلّفة بتدبير المشروع والتقدم الملحوظ في إنجاز الدراسات التقنية ودراسات الجدوى. موازاةً مع ذلك، فقد تنامى الاهتمام الأوروبي بالعوائد الاستراتيجية والمالية للربط الثابت بين القارتين الأوروبية والإفريقية في خضم تقلّب خرائط التحالفات الدولية وتزايد جاذبية مضيق جبل طارق ضمن المشاريع الجيوسياسية العابرة للقارات، كبوابة أوروبا العالمية وأنبوب نقل الغاز النيجيري إلى الدول الأوروبية عبر المغرب.

تسعى الورقة إلى تتبّع السياقات والخلفيات الكامنة وراء مشروع بناء نفق تحت قاع البحر للربط بين المغرب وإسبانيا، مع إبراز تقاطع المصالح والرهانات المحلية والقارية، إضافةً إلى استشراف السيناريوهات المتوقعة لتشغيله والمخاطر المحتملة التي قد تؤدي إلى إبطاء وتيرة إنجازه أو حتى إلى وأده في المهد.

الحلم الجيوسياسي المؤجل: منعطفات مشروع الربط الثابت بين المغرب وإسبانيا

تعود الإرهاصات الأولى لتجسير الهوة بين أوروبا وإفريقيا إلى أكثر من قرن ونصف، مع افتتاح قناة السويس عام 1869؛ حيث شرع بعض المهندسين في القيام بأبحاث لاختبار إمكانية بناء الربط القاري بين ضفتي المتوسط(1). ورغم توالي الدراسات العلمية، فإن التملُّك الرسمي للفكرة لم ينطلق فعليًا إلا في يونيو/حزيران 1979، تاريخ توقيع الملكين السابقين الحسن الثاني وخوان كارلوس على اتفاقية للتعاون العلمي والتقني بشأن بناء جسر يربط البلدين(2).

لتفعيل الاتفاقية، عمل البلدان منذ بداية الثمانينيات على تشكيل لجنة عمل مشتركة لدراسة الجوانب الاقتصادية والتقنية للمشروع، مع استحداث شركتين حكوميتين لاستكشاف التحديات واستشراف البدائل: الشركة الوطنية لدراسات مضيق جبل طارق بالمغرب (SNED)، والشركة الإسبانية للدراسات من أجل الربط الثابت عبر مضيق جبل طارق (SECEGSA)، لتنطلق إثر ذلك المسوحات الجيولوجية لاستكشاف ممكنات إقامة جسر فوق مضيق جبل طارق(3).

في ضوء الدراسات الأولية، تم العدول منذ منتصف التسعينيات عن فكرة الجسر المعلق بسبب التأثيرات المحتملة على انسيابية الملاحة البحرية، وخاصة حركة ناقلات النفط العملاقة والسفن العسكرية وما يزيد عن 300 عبّارة في مضيق هو أقرب ما يكون إلى "عنق الزجاجة"، فضلًا عن تكلفته المالية المرتفعة مقارنة بالمكاسب المرتقبة(4). وبدل ذلك، ركزت اللجنة المشتركة المغربية الإسبانية في عام 1996 على تمويل دراسات جديدة لاختبار إمكانية تشييد نفق للسكك الحديدية في قاع البحر(5).

عرف التصميم الأولي لمشروع النفق تعديلات متتالية تماشيًا مع الاكتشافات الجيولوجية والتطورات المتسارعة التي جادت بها تكنولوجيا بناء الأنفاق(6)، حيث أفضت الأعمال التقنية خلال العشرية الأولى للألفية الثالثة إلى ترجيح الخيار "ب" (Option B) في مسار النفق المسمى "عتبة المضيق" (Camarinal Threshold)، للربط بين بلدة "بونتا بالوما" غرب مدينة طريفة ورأس "مالاباطا" بطنجة في الجانب المغربي(7)، وذلك على امتداد 42 كلم، منها حوالي 28 كلم في قاع البحر. في هذه المرحلة، برزت بعض التقديرات المتفائلة، حيث قدّرت دراسة جدوى في عام 2006 أن النفق سيكون حلًا قابلًا للتطبيق بحلول العام 2020، غير أن تبعات الأزمة المالية لعام 2008 أفضت إلى تجميد ميزانية المشروع.

عرفت فترة 2010 - 2020 تصاعد التوترات بين المغرب وإسبانيا حول تدبير ملفات الهجرة والصيد البحري وتصدير المواد الزراعية، وصولًا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية في أبريل/نيسان 2021 إثر استقبال إسبانيا زعيم جبهة البوليساريو، الأمر الذي أورث حالة من التراخي في التنسيق السياسي والتقني بين الطرفين، سرعان ما أرخت بظلالها على مشروع النفق، حيث اتسمت هذه الفترة بتوقّف لقاءات اللجنة المشتركة وتعثّر المرحلة الرابعة من الاختبارات الجيوتقنية(8).

غير أن اعتراف إسبانيا بخطة الحكم الذاتي للمناطق الصحراوية تحت السيادة المغربية في مارس/آذار 2022 سيُعطي دفعة قوية لاستحقاقات الشراكة مع المغرب، ومن بينها حلم الربط الثابت، حيث أكد البلدان في اجتماع القمة الثنائية في فبراير/شباط 2023 التزامهما بتسريع أجندة المشروع، كما اتفقا في الاجتماع 43 للجنة المشتركة في أبريل/نيسان 2023 على مأسسة التعاون بين المؤسسات السياسية والإدارية ومكاتب الدراسات والجامعات والمراكز العلمية. إضافة إلى ذلك، فقد منح قبول الملف المشترك للمغرب وإسبانيا والبرتغال لتنظيم كأس العالم 2030 زخمًا مهمًا للمشروع، لما له من دور في تشييد بنية متقدمة لتسهيل حركة الأشخاص والبضائع بين ضفتي المتوسّط.

في خضم هذه السياقات المحفزة، أعربت إسبانيا مع بداية عام 2024 عن إيلاء الأولوية القصوى لإنجاز دراسات تقنية متقدمة تحت قيادة خبراء ومهندسين متخصصين، بتوفير أكثر من 1.6 مليون دولار لتمويل الأبحاث المتعلقة بالمشروع(9)، مع تكليف شركة إينيكو للاستشارات الهندسية المملوكة للدولة (Ineco) في مايو/أيار من نفس العام بتطوير النموذج التقني للمشروع، وهو الزخم الذي تواصل خلال عام 2025 بتخصيص الحكومتين المغربية والإسبانية ما يزيد عن 100 مليون يورو لتمويل دراسات الجدوى الاقتصادية(10)، وبرصد إسبانيا لما يقارب نصف مليار دولار لتوظيف أجهزة متطورة في رصد احتمالات أنشطة زلزالية غير عادية في قاع البحر، وبتوقيع اتفاقية شراكة بين مركز الدراسات والتجارب الإسباني (CEDEX)، والمختبر العمومي للتجارب والدراسات بالمغرب (LPEE) في أبريل/نيسان 2025 حول إجراء دراسات تقنية معمقة في ميادين الهندسة الطرقية والنقل السككي وحماية البيئة(11).

السياقات الجديدة المحفزة على تسريع المشروع بين البعدين الثنائي والقاري

ساهمت الديناميكية الجديدة للعلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا في تسريع التدابير التحضيرية للمشروع بما يساعد على رفع التحديات التقنية والاقتصادية، وعلى تحقيق الرهانات المشتركة، كتقوية المسالك القانونية للهجرة، وتيسير منافذ تدفق السلع والأشخاص بين البلدين. فوفقًا للتوقعات، من المنتظر أن تتقلص مدة الرحلة بين ميناءي الجزيرة الخضراء وطنجة، بما يشمل الإجراءات اللوجستية، من حوالي ساعتين إلى أقل من 30 دقيقة، في حين يُرتقب إنشاء خط فائق السرعة يجعل الرحلة بين الرباط ومدريد ست ساعات، وخط آخر بين الرباط وباريس يجعل الرحلة حوالي 10 ساعات(12)، وما لذلك من تأثيرات إيجابية على كلفة النقل بمراعاة وصول التدفق السنوي عبر النفق إلى 12.8 مليون شخص و13 مليون طن من البضائع (13).

ضمن مدى أوسع، أصبح الربط الثابت يتجاوز الحسابات المغربية الإسبانية ليندرج ضمن استراتيجيات دولية لإقامة بنية تحتية مبتكرة ومؤمّنة أمام اشتداد حدّة الاختناقات التي تجابه المضيق بسبب كثافة النقل الدولي(14). في ضوء ذلك، اشتدّ الرهان على النفق لتعزيز تمفصل أوروبا بإفريقيا، من خلال ربطه بخط بري للسكك الحديدية فائق السرعة (LGV) يمتد في الجانب الإسباني من الجزيرة الخضراء إلى مدريد وبرشلونة، ومن ثمّ بالشبكة الحديدية الأوروبية عن طريق فرنسا، ويتصل في الجانب المغربي بخط القطار السريع الرابط بين طنجة والبيضاء، والذي يُرتقب أن يمتد إلى مدينة أكادير في الجنوب المغربي كنافذة للربط مع إفريقيا بما يُكرّس بالفعل الطابع القاري للمشروع.

الأمر ذاته بالنسبة للربط البحري، من خلال مساهمة المغرب في تهيئة الأرضيات المناسبة لتعزيز الاندماج مع إفريقيا جنوب الصحراء عبر المحيط الأطلسي، كميناء "الداخلة" الأطلسي المرتقب تدشينه في عام 2028، والمبادرة الأطلسية للمغرب التي أُطلقت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لتمكين الدول الحبيسة لمنطقة الساحل والصحراء من الولوج إلى المحيط الأطلسي (15).

من شأن تعاظم الوعي القاري بالعوائد الاستراتيجية لمشروع النفق أن يُحفّز أكثر على جرّ المزيد من التمويلات الأوروبية. ومن إرهاصات ذلك، مبادرة الاتحاد الأوروبي في عام 2025 إلى تخصيص 1.6 مليون دولار كمساهمة في تمويل دراسات الجدوى في إطار برنامج الجيل الأوروبي المقبل (NextGenerationEU) (16)، الذي يندرج ضمن الاستراتيجية الأورومتوسطية لتعزيز الربط بين شبكات النقل الأوروإفريقية (RTE-T). وبما أن الاتحاد الأوروبي قد أصبح ينظر للنفق الموعود كجزء من شبكة النقل الأوروبية (TEN-T)، فقد تنامى انخراط عدة صناديق أوروبية في تمويل الأبحاث المتعلقة بتحليل سيناريوهات العائد الاقتصادي للمشروع.

إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، ما فتئت بريطانيا تُعرب عن اهتمامها بتمويل المشروع بعد تخليها عن فكرة الربط القاري لجبل طارق بمدينة طنجة لأسباب جيوتقنية وسياسية(17)، حيث غدت أكثر حماسًا لدعم المسار المغربي/الإسباني بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بما يخدم سعيها نحو تعزيز شراكتها مع الدول الإفريقية، وإعادة التموضع بالممرات التجارية الكبرى في إطار مشروع بريطانيا العالمية (Global Britain) (18).

في خضم هذه التحولات الإقليمية، من شأن التحسن الذي تعرفه العلاقات الاقتصادية بين المغرب والدول الأوروبية المؤثرة في القرار الأوروبي كألمانيا وفرنسا والنرويج، أن يُعطي دفعة قوية للمشروع (19). كما أن تنامي علاقات المغرب الاقتصادية بدول الخليج من شأنه أن يساعده على الوفاء بالتزاماته المالية تجاه المشروع، وخاصة تلك التي تمتلك استثمارات كبيرة في المغرب كالسعودية والإمارات.

بشكل عام، يُحفّز تلاقي الرهانات الوطنية والإقليمية على الارتقاء بمستويات التنسيق والتعاون بين الدول المعنية، وهو ما قد يُسهم في تذليل الصعوبات السياسية والفنية والمالية التي طالما حالت دون تحقق حلم الربط الثابت بين أوروبا وإفريقيا(20). كما نُشير إلى تزايد تقاطعاته مع مشاريع جيواقتصادية كبرى يُراهن عليها في تقوية جاهزية البنيات التحتية الضخمة للربط بإفريقيا عبر المغرب، على غرار البوابة العالمية الأوروبية (Global Gateway) كمشروع ضخم يسعى من خلاله الاتحاد الأوروبي إلى مزاحمة مبادرة الحزام والطريق في القارة الإفريقية، ومشروع أنبوب نقل الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر التراب المغربي الذي تنظر إليه بعض الدول الأوروبية كحل مستدام لتعزيز استقلاليتها في مجال الطاقة (21).

الكوابح المعيقة لديناميكيات الربط القاري بين السياسي والتقني

رغم الحوافز التي تُبشّر بتسريع أجندة مشروع الربط القاري، فإن ثمة العديد من العراقيل المالية والسياسية والتقنية التي قد تكبح تقدمه؛ فمن الناحية المالية ورغم التنويع المرتقب لمصادر وآليات التمويل، لا يزال الغموض يكتنف التكلفة التقديرية للمشروع، فإذا كان المستوى الحكومي يتوقع ألا تتجاوز ميزانيته 15 مليار دولار، فإن المتخصصين في الهندسة المدنية يتوقعون كلفة باهظة، فوفقًا للفرع الإيبيري للشركة الألمانية المكلّفة بتحليل الجدوى الفنية للمسار "Herrenknecht" -التي من المتوقع أن ترى النور في سبتمبر/أيلول 2025- قد يتجاوز الغلاف المالي لإنجاز النفق 30 مليار دولار(22). وما يُفاقم الكلفة المالية للمشروع وجود تحديات بيئية وجيولوجية وهيدروليكية مرتبطة بصلابة الصخور، وبتواجد الممر في حزام زلزالي نشط، وعمق مائي كبير يصل إلى 900 متر(23)، وبوجود تيارات بحرية قوية جرّاء اختلاف درجات الحرارة وتركيز الملح بين مياه المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، على نحو يفرض تدعيم أساساته لتكون قادرة على الصمود، وهو تحدٍ هندسي ضخم قد يجعل التكلفة تتجاوز المكاسب المنتظرة (24).

من الناحية السياسية، ثمة حالة من عدم اليقين حول جدوى النفق في ظل وجود عدة "مقاومات" إسبانية وأوروبية، فعلى الصعيد الأوروبي، لا يزال الاتحاد الأوروبي حذرًا في التبنّي النهائي للمشروع(25)، لأسباب متعددة، من بينها ممانعة المغرب في الاستجابة لسياسات "تصدير الحدود"، خاصة فيما يتعلق بترسيمه كبلد ثالث لتوطين المهاجرين غير النظاميين المستبعدين من الدول الأوروبية. وهي ضغوط يُرتقب أن تشتدّ أمام الزحف المتواصل لتيارات اليمين المتطرف على منصات القرار الأوروبي، والتي تنزع أكثر فأكثر نحو الاستثمار السياسي في تعميق الهوة بين ضفتي المتوسط بدل تجسيرها.

سياسيًّا كذلك، تتميز العلاقات المغربية الإسبانية بكونها -على حد تعبير أحد الباحثين الإسبان- علاقات على شكل أسنان المنشار، لما تتسم به من تقلبات دورية(26). وحتى في حال التزام المستوى السياسي بإسبانيا واستمرار قيادة الحزب الاشتراكي العمالي (PSOE) للحكومات المقبلة، فإنه سيكون مقيّدًا بتقديرات المستوى البيروقراطي، الذي قد يندفع بخلفياته الخبراتية للتقليل من شأن المشروع. وهكذا، فوكالة السكك الحديدية الإسبانية ما فتئت تُعارض المشروع بدعوى أن الشبكة السككية بإسبانيا تعاني من قصور لوجستي كبير في مجالات الكهرباء والإشارات والصيانة، على نحو سيجعلها عاجزة عن مسايرة ديناميكيات الربط بالنفق البحري بالسرعة والكفاءة المطلوبتين (27).

إضافةً إلى ذلك، يتميز مضيق جبل طارق بموقع استراتيجي في شبكات توريد السلع كمعبر دولي يمر من خلاله قرابة 20% من التجارة العالمية(28). كما يحظى بمكانة أثيرة لدى عدد كبير من الدول كمسار آمن وسريع لنقل إمدادات الطاقة والسلاح. ولذلك، فالحسم في مصير المشروع لن يكون فقط بيد المغرب وإسبانيا، بل سيرتهن بموافقة القوى الدولية المؤثرة في حركة المضايق، وهو ما يعني أن دائرة التنسيق بخصوص الاختيارات الهندسية لن تقتصر على الجانبين الأوروبي والمغربي، بل قد تشمل كافة الدول التي قد تتضرر مصالحها من إنشاء النفق.

ارتباطًا بذلك، سيكون المحدد الحضاري حاسمًا في مصير الربط الثابت بحسب السرديات المهيمنة، فقد يُنظر إليه كجسر للتعاون الحضاري والثقافي، يتعيّن توفير شروط نجاحه وتوجيهه لتعزيز التفاهمات القمينة برفع بعض التحديات المشتركة، كالتدفقات الهجروية، والإرهاب العابر للقارات، والأمن الغذائي(29). أو قد يتم التعامل معه كمنفذ جديد يهدد بمزيد من "تسرّب" الأفارقة نحو التراب الأوروبي، وهي السردية التي يتغذى عليها اليمين المتطرف الذي يرغب في تسييج الحدود بدل تقريب الجسور.

السيناريوهات المرتقبة لتشغيل النفق البحري بين ضفتي المتوسط

رغم الديناميكيات الجديدة لمشروع الربط القاري، فإن أفقه الزمني لا يزال ملتبسًا في ظل عدم جاهزية الدراسات التقنية، وحالة اللايقين التي تطبع محدداته السياسية والمالية، ولذلك يمكن التمييز بين سيناريوهين، لكلٍّ منهما مرجحات ومثبطات:

الأول- السيناريو التفاؤلي: ‏بحسب التقديرات السياسية، يُحتمل الشروع في تشغيل النفق بحلول عام 2030، تزامنًا مع التنظيم الثلاثي للمونديال من قبل المغرب وإسبانيا والبرتغال، حيث يُراهن عليه في تقوية الضمانات اللوجستية لإنجاح التظاهرة الكروية العالمية، ولتسويق صورة براقة عن دول صنعت واقعًا جغرافيًّا جديدًا تجاوزت به ثقل التاريخ بما يخدم الرهانات الاستراتيجية والاقتصادية. يفترض هذا الاحتمال انطلاق الأشغال الفعلية في عام 2026 لضمان جاهزية البنيات التحتية للنفق بحلول التاريخ المنشود(30)، ففي حال توافر التمويلات الكافية والإرادة السياسية من قبل الشركاء، فمن شأن ذلك أن يسهم في تسريع الآجال الزمنية التي تستغرقها أشغال الهندسة المدنية وإدارة المخاطر، خاصة إذا كانت مخرجات الدراسات التي تقوم بها شركتا إينيكو وهيرنكنشت مبشّرة بشأن التكاليف والعوائد المرتقبة للمشروع على الدول الشريكة والداعمة (31).

الثاني- السيناريو الاستراتيجي: يعتقد بعض الخبراء أن تعقيدات الوضع التقني للنفق تفترض على الأقل 15 عاما ليصبح جاهزًا بكامل كفاءته التشغيلية، حيث تتوقّع الشركة الإسبانية لدراسة الاتصالات الثابتة عبر مضيق جبل طارق (SECEGSA) أن موعد 2030 سيكون تاريخ انطلاق أشغال المشروع، وليس تاريخ جاهزيته، شريطة توافق إرادات البلدين، وانتهاء الدراسات التقنية ودراسات الجدوى(32)، التي لن تكون جاهزة بشكل رسمي إلا بحلول عام 2028، حيث ستتضح الصورة بخصوص الإطار الجيولوجي والتقني للنفق، والتركيبة المالية، وفعلية التزام الشركاء. وفقًا لهذا السيناريو، إذا انطلقت الأعمال الهندسية في عام 2030، فلن يكتمل بناء النفق إلا بعد عام 2040 (33).

في ضوء المؤشرات الحالية والمحتملة، يبدو أن السيناريو الأول مستبعد جدا، لأن خمس سنوات فارقة غير كافية لتشييد المنشآت الضخمة التي يتطلبها الربط القاري، خاصة أمام عدم اكتمال الدراسات الهندسية التي تؤشر معطياتها الأولية على صعوبات جيولوجية تفرض حلولا مكلفة من النواحي المالية والتقنية والزمنية. يُضاف إلى ذلك التعقيدات التي أصبحت تكتنف القرار السياسي في إسبانيا؛ ففي الأفق المنظور، يبدو أن الخريطة الانتخابية الإسبانية لن تخرج عن حكومة يمينية تضم في صفوفها الحزب الشعبي وحزب فوكس الشعبوي، وهي تيارات تدفع باستمرار نحو الانكفاء وإعاقة كل مشاريع الربط والشراكة مع إفريقيا، أو حكومة يسارية هجينة تضم ممثلي الأحزاب الجهوية وتيارات أقصى اليسار المتوجّسة دومًا من التعاون مع المغرب. ورغم تحمس الحكومة الحالية لإنجاز المشروع، فإنها تواجه صعوبات جمّة في تمرير الموازنة، بحكم أنها حكومة أقلية، فضلًا عن احتمالات سقوطها في ظل تزايد الدعوات إلى إجراء انتخابات مبكرة في أعقاب ادعاءات فساد جديدة اندلعت في يونيو/حزيران 2025. في ضوء ذلك، يظل هذا السيناريو التفاؤلي متوقفًا على حسابات سياسية قد تُسرّع من وتيرة إنجازه، أو قد تعيده إلى نقطة الصفر (34).

أما السيناريو الثاني، فيبدو الأقربَ إلى التحقيق، لأن أشغال البناء والتجهيز تتطلب على الأقل 10 سنوات، قياسًا بتجارب دولية سابقة. ويمكن أن تلعب وفرة التمويلات وحكامة التدبير دورًا في إطلاق المشروع قبل هذا الأفق الزمني، حيث يعتقد بعض الخبراء الإسبان أن حلم الربط بين قارتي أوروبا وإفريقيا يمكن أن يتحول إلى حقيقة قبيل عام 2040، إذا صبّت بعض المتغيرات في صالح المشروع، خاصة الدعم السياسي، وانتظام أعمال اللجنة المشتركة، وتسريع آجال الانتهاء من مرحلة الدراسات التي ستحسم مصير المشروع، إن كانت نتائجها مشجّعة بشأن التأثيرات الاقتصادية والاستراتيجية والبيئية (35).

وفي كل الأحوال، فإن إخراج مشروع النفق من عنق الزجاجة يظل منوطًا بتوافر ظروف مواتية تكفل التمفصل بين ثلاثة عوامل أساسية؛ تتمثل في تناسب التحولات الجيولوجية والهيدرولوجية لمضيق جبل طارق، وخاصة مستوى التحكم في مخاطر الهزات الزلزالية، وتطور التقنيات الهندسية وحصيلة دراسات الجدوى، وكذا الإرادة السياسية ومستوى التزام الدول المبادرة والشريكة في تمويل المشاريع الضخمة للبنيات التحتية للربط القاري.

خاتمة

يعرف مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا بعثًا جديدًا في ظل سياقات سياسية واقتصادية محفّزة تدفع باتجاه الرهان على المشروع، ليس فقط في الارتقاء بمستوى التعاون المغربي-الإسباني، بل أيضًا في تعزيز أواصر الشراكة الأوروإفريقية أمام تنامي الحاجة إلى تجسير الفجوة الجغرافية لربح التحديات الطاقية والأمنية والهجروية، وهو ما يعكسه تزايد انتظام وتيرة انعقاد لجان التنسيق وتسارع الدراسات التقنية.

غير أن مصير المشروع سيظل متوقفًا على مرجّحات مالية تخص تعبئة التمويلات الكافية، وتقنية التحكم في المخاطر الجيولوجية، إضافة إلى الظرفية السياسية من حيث تشبّع النخب التي ستدير دفة القرار الإسباني والأوروبي في المرحلة القادمة بفضائل الربط بين ضفتي المتوسط، ناهيك عن المتغير الزمني الحاسم، ففي حال تجاوز لحظة مونديال 2030 بدون تحقيق أي تقدم في بناء النفق، فيُحتمل أن تحصل انتكاسة قد تجعل حلم النفق في مهبّ الريح.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)- Mario Ruiz Morales, El Túnel del Estrecho de Gibraltar, proyectado por Carlos Ibáñez de Ibero Grandchamp. Real Sociedad Geográfica, 2019, p.9.

(2)- Moreno-Navarro, J. G. Túnel y ferry en el estrecho de Gibraltar, Cambios en la futura concepción estratégica basados en el modelo del canal de la mancha. In Andalucía en el umbral del Siglo XXI, 1998, p.914.

(3)- Antonio Marquina & Carlos Echeverria, La Politique de l’Espagne au Maghreb, Monde Arabe, Maghreb, Machrek , No. 137, Juillet–Septembre 1992, 49-50.

(4)- Brainov Milcho. Gibraltar strait crossing - an alternative: a submerged bridge- tunnel. Structural Engineering International, 2(2), 1992, p.142.

(5)- Martínez Aurea Perucho, & al. Caracterización geotécnica mediante ensayos in situ y de laboratorio de algunas formaciones geológicas presentes en la traza de la Futura Conexión Fija entre España y Marruecos a través del estrecho de Gibraltar. Revista Digital del Cedex 179 (2015), p 1-2.

(6)- Lombardi, G., Neuenschwander, M., & Panciera, A. Gibraltar Tunnel Project update – the geomechanical challenges. Geomechanik And Tunnelbau, 2(5), 2009, pp.578–590.

(7)- Menéndez, M. Muñiz & al. Caracterización estadística de la Unidad de Almarchal en el contexto del Túnel del estrecho de Gibraltar. Geotemas, N16, 2016, P.953.

(8)- Isabel Jiménez. ¿Por qué un túnel y no un puente entre España y Marruecos a través del Estrecho? El Faro de Ceuta. 25/03/2024, (Accessed: 28/6/2025), https://tinyurl.com/2ax2buvr

(9)- Jesus Mesa, Europe and Africa to be Connected by Underwater Rail Tunnel, Newsweek, 27/05/2024, (Accessed: 27/5/2025),  https://tinyurl.com/2acvhwoh

(10)- عبد المالك أهلال، نفق جبل طارق.. حلم قديم يعود للحياة بميزانية ضخمة بعد قرابة نصف قرن من التوقف، العمق المغربي، 12 يناير/كانون الثاني 2025، تاريخ الدخول: 27 يونيو 2025، https://al3omk.com/1035751.html

(11)- خولة اجعيفري، المغرب وإسبانيا يوقعان اتفاقًا جديدًا لإحياء مشروع نفق جبل طارق: رهان مشترك على الربط القاري والتحول الجيواقتصادي بين الضفتين، الصحيفة، 12 أبريل/نيسان 2025، تاريخ الدخول: 25 يونيو 2025، https://tinyurl.com/2c94oorb

(12)- Nachoui Mostafa. Infrastructure de transport au Maroc et en Espagne: vers une stratégie globale de développement des transports en Méditerranée Occidentale. Espace Géographique et Société Marocaine, no 31, 2020, p.104.

(13)- Handley Lucas. Un megaproyecto sin precedentes: El túnel submarino que unirá Europa y África. Gizmodo, 5/10/2024, (Accessed: 27/6/2025), https://tinyurl.com/2ap6muhy

(14)- Lisa Sutto, Olivier Klein. Grands projets d’infrastructure, construction géopolitique et enjeux environnementaux : analyse comparée du projet Lyon-Turin et du projet de franchissement du Détroit de Gibraltar, in ; Actes du Colloque International : Environnement et Transports dans des contextes différents, Ecole Nationale Polytechnique, Alger, 2009. P.59-60.

(15)- عبد الرفيع زعنون، المبادرة الأطلسية: رهانات تموقع المغرب بمنطقة الساحل والصحراء، معهد كارنيجي للسلام الدولي، 10 أكتوبر/تشرين الأول 2024، تاريخ الدخول: 28 مايو 2025، https://tinyurl.com/2bnb45tc

(16)- Joaquín Hernández Rader. El Gobierno destina 350.000 euros a estudiar la viabilidad financiera del túnel con Marruecos. Vozpópuli, 09/05/2025, (Accessed: 20/6/2025), https://tinyurl.com/2a387yvj

(17)- حسين مجدوبي، بريطانيا والمغرب لا يدرسان أي نفق مع صخرة جبل طارق ومعطيات سياسية ومادية تجعله مستحيلا، القدس العربي، 6 يناير/كانون الثاني 2021، تاريخ الدخول: 19 يونيو 2025،  https://tinyurl.com/2bchafqk

(18)- Seydi Yankhouba. gibraltar, a piece of british land at the heart of major geopolitical and geostrategic relations in the mediterranean, les cahiers de L’ACAREF, Numéro spécial octobre 2023, P.114.

(19)- عبد المومن حاج علي، أربع دول أوروبية تدخل على خط إنشاء نفق بحري يربط بين المغرب والقارة العجوز، موقع أخبارنا، 23 مارس/آذار 2025، تاريخ الدخول: 27 يونيو 2025، https://tinyurl.com/25xv5qcx

(20)- Khalid Laraki, Le Projet de Tunnel Sous-Marin entre le Maroc et l’Espagne : Une Réalité à Venir," L'Opinion, 1/5/2025, (Accessed: 18/6/2025), https://tinyurl.com/254cw79a

(21)- Jamal Machrouh, Europe's strategic interest in completing the Nigeria-Morocco Gas Pipeline, Policy Center for the New South, Policy Brief - N° 56/22 - October 2022, p.3.

(22)- Fanja Rakotonirina, Le tunnel entre le Maroc et l’Espagne refait surface avec une étude de faisabilité sur un projet pharaonique à 30 milliards d’euros," Afriquenligne.fr, 1/5/2025, (Accessed: 22/6/2025), https://tinyurl.com/22a527rq

(23)- Warren, C. & Varley, P. What a Bore! Tunnels under the Channel and Gibraltar Straits. Teaching Earth Sciences, vol. 21, 1996, p. 99.

(24)- Francisco Carrión,Transportes dice ahora que está por ver la viabilidad del túnel con Marruecos, el independiente, 20/03/2025, (Accessed: 26/6/2025), https://tinyurl.com/2488otmg

 (25)- Mareï Nora. 2009. Le détroit de Gibraltar fenêtre sur le monde pour l’Espagne. Historiens et Géographes n°408, p 129.

(26)- Carrión Francisco & Carmen Vivas. España revive el proyecto del túnel del Estrecho, una obra faraónica para conectarse con Marruecos. El Independiente2024/03/17, (Accessed: 30/05/2025),  https://tinyurl.com/2aejtjd7

(27)- Scrapy Bot. Túnel España-Marruecos: La red ferroviaria española frena el ambicioso proyecto. Noticias Puerto Santa Cruz, 2025/04/13, (Accessed: 11/06/2025),  https://tinyurl.com/2colapro

(28)- يونس مسكين، جسر طارق بن زياد.. مشروع سيربط المشرق بالمغرب، الجزيرة الوثائقية، 31 مارس/آذار 2024، تاريخ الدخول: 11 يونيو 2025، https://tinyurl.com/2bqmprma

(29)- Ulbaran Jeickson. Conexión subterránea revolucionaria entre España y Marruecos. BilbaoHiria, 2024/05/13, (Accessed: 18/06/2025),  https://tinyurl.com/293ngvhc

(30)- Marco Raimondi. España inicia un estudio de viabilidad para la conexión ferroviaria con Marruecos. RailFreight.es, 2025/05/12. (Accessed: 28/05/2025),  https://tinyurl.com/2cb9cwpa

(31)- Emile Faucher, Un projet pharaonique refait surface : le tunnel Maroc-Espagne à 30 milliards d’euros pourrait redessiner la géopolitique méditerranéenne avec une étude de faisabilité décoiffante, afriquenligne, 7/6/2025, (Accessed: 26/06/2025),  https://tinyurl.com/22r3y2jp

(32)- فاتحة المودن، مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا يعود للواجهة، الأيام 24، 5 يوليو/تموز 2022، تاريخ الدخول: 13 مايو 2025،  https://m.alayam24.com/articles-380139.html

(33)- Hicham Oukerzaz, Le tunnel de Gibraltar ne devrait pas voir le jour avant 2040, hespress, 27/1/2025 , (Accessed: 27/6/2025), https://tinyurl.com/29ghxcj6

(34)- أحمد الحمصي، ما الذي نعرفه حتى الآن عن مشروع النفق بين إسبانيا والمغرب؟، إسبانيا بالعربي، 1 أبريل/نيسان 2025، تاريخ الدخول: 21 يونيو 2025:  https://tinyurl.com/2cknhnc4

(35)- سناء القويطي، مشروع النفق بين المغرب وإسبانيا.. هل يرى النور قبل مونديال 2030؟ الجزيرة نت، 1 يونيو/حزيران 2024، تاريخ الدخول: 11 يونيو 2025، https://tinyurl.com/2ccw3yzy