(الجزيرة) |
ملخص واستشعاراً لخطورة التهديدات الماثلة في الأفق الراهن، والتحديات المتوقعة في المستقبل المنظور، بادرت بعض دول مجلس التعاون إلى سنِّ تشريعات وطنية تجعل الخدمة في صفوف قواتها المسلحة إلزامية، وهي الخطوة التي يُنظر إليها باعتبارها حجر الزاوية في تطوير الجيوش الخليجية وتعظيم قدراتها البشرية خلال العقود المقبلة. ثمة مقتضيات عدة تحفز دول الخليج للأخذ بالتجنيد الإلزامي، في مقدمتها: التهديدات الثابتة والمتغيرة التي تواجه الحفاظ على أمنها كدول صغيرة الحجم في هيكل النظام الدولي، والتي تتعاظم مع كونها دولاً نفطية، مما يجعلها عرضة أكثر للمطامح والمطامع من قبل قوى إقليمية ودولية كثيرة. تفرض هذه المعطيات على دول الخليج الحاجة الماسة لبناء جيوش وطنية قادرة على توفير الحد الأدنى من الدفاع الذاتي عن تلك الدول لاسيما في أوقات الطوارئ والأزمات، حتى وإن كانت جيوش صغيرة لكن لا بدَّ أن تكون ذات تسليح تكنولوجي متطور. غير أن المبادرات الوطنية الخليجية على صعيد الأخذ بنظام التجنيد الإلزامي ربما تواجه تحديات عدة وهي قيد التطبيق؛ لأسباب سياسية، ومجتمعية، وإشكاليات لوجستية وإدارية ومالية. يسعى الباحث في تقريره إلى تسليط الضوء على ظاهرة تحول بعض دول مجلس التعاون الخليجي للأخذ بنظام الخدمة العسكرية الإلزامية، باعتبارها مدخلاً استراتيجيًّا نوعيًّا للاستفادة من إمكانياتها المالية والتسليحية والبشرية على الوجه الأكمل، بما يعزز أمنها الوطني، رغم ما يكتنف هذه الخطوة من صعوبات وتحديات. |
مقدمة
تشهد البيئة الإقليمية والدولية تطورات دراماتيكية تحمل في طياتها نذر تهديدات آنية ومستقبلية على الأمن الوطني والجماعي لدول مجلس التعاون الخليجي.
إذ تُظهر مؤشرات النظام الإقليمي والدولي الراهنة تبدلات واضحة في موازين القوى القائمة، وتغيرًا لافتًا في أنماط التفاعلات بين الأقطاب الإقليمية والدولية، وذلك على نحو يزيد من مساحة المصالح المتقاطعة لهذه الأقطاب، ويجعلها تتجه لإعادة ترتيب أولوياتها واستراتيجيتها المستقرة منذ عقود.
وتقتضي مجابهة التداعيات المحتملة لمثل هذه التطورات والتحولات على أمن دول الخليج، ضرورة تبني هذه الدول سياسات فعَّالة واتخاذ تدابير احترازية طويلة المدى؛ لضمان الحفاظ على أمنها وصون استقلالها وسيادتها الوطنية.
وإدراكًا من صنَّاع القرار في دول الخليج لمدى خطورة دلالات المشهد الإقليمي والدولي، بادرت بعض دول مجلس التعاون مؤخرًا -مثل قطر والإمارات- إلى سنِّ تشريعات وطنية تجعل الخدمة في صفوف قواتها المسلحة إلزامية وخاصة بالنسبة للشباب، وتتجه دول خليجية أخرى للسير في المضمار ذاته، كما هي الحال بالنسبة لدولة الكويت في الوقت الراهن.
غير أن هذه المبادرات الخليجية الفردية على صعيد الأخذ بنظام التجنيد الإلزامي تواجه تحديات عدة وهي قيد التطبيق؛ الأمر الذي يُرجح أن تكون له انعكاسات على مستقبل الأمن الخليجي، سواء على الصعيد الوطني لكل دولة من دول مجلس التعاون الست على حدة، أو على صعيد الأمن الجماعي لهذه الدول مجتمعة.
وبناء على ما تقدم، يسلِّط هذا التقرير بعض الضوء على قضية التجنيد الإلزامي في دول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث يستعرض الواقع الحالي للتجنيد، والأسباب التي دعت بعض الدول الخليجية للأخذ بالتجنيد الإلزامي، والتحديات التي قد تواجه تطبيق هذا النظام، وصولاً إلى استشراف مستقبل الخدمة الوطنية الإلزامية في الجيوش الخليجية خلال الفترة المقبلة.
الوضع الراهن للتجنيد في دول مجلس التعاون الخليجي
رغم امتلاك دول مجلس التعاون الخليجي ثروات كبيرة مكَّنتها من حيازة قدرات تسليحية حديثة، فإنها لا تزال تعاني من ثغرات مهمة في مؤشرات القوة العسكرية، تتلخص في ضعف الكفاءة التنظيمية لقواتها المسلحة.
ونظرًا لعدم امتلاك دول الخليج، نُظمًا إلزامية للتجنيد الإلزامي، فإنها لا تمتلك قوات احتياط احترافية، ومن ثم فهي لا تمتلك نظامًا للتعبئة العامة لقوات الاحتياط؛ وهو الأمر الذي يخل بتوازن القوى التقليدي بينها وبين دول الجوار، لاسيما الدول الكبرى التي لديها طموحات توسعية، لاسيما إيران، التي تمتلك جيشًا يقترب في تعداده البشري من ضعف حجم القوات المسلحة في دول الخليج الست مجتمعة(1). وبوجه عام، تعد الخدمة العسكرية في صفوف غالبية الجيوش الخليجية، تطوعية، حتى الآن. وباستثناء قطر والإمارات، لا تعتمد دول الخليج في الوقت الراهن نظام التجنيد الإلزامي.
فقد أقدمت دولة قطر، للمرة الأولى في تاريخها، على تطبيق نظام التجنيد الإلزامي منذ عام 2013، والذي يلزم كل مواطن قطري أتمّ 18 عامًا بأداء الخدمة العسكرية، وذلك بموجب قانون أصدره أمير الدولة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بشأن الخدمة الوطنية في 11 مارس/آذار 2013؛ إذ هدفت هذه الخطوة إلى "توفير قوة دفاع ذاتية"، وبحيث "تكون احتياطًا للقوات المسلحة". ومن ثم، شرعت الدوحة في إبريل/نيسان 2014 في تدريب أول دفعة من برنامج الخدمة العسكرية الإلزامية، والتي ضمّت 500 مجنّد(2).
وتبع التجربة القطرية، إصدار دولة الإمارات العربية المتحدة قانونًا اتحاديًّا في يونيو/حزيران 2014 بشأن تطبيق الخدمة الوطنية والاحتياطية يلزم الذكور من فئة الشباب من المواطنين بالتجنيد العسكري لمدة عامين للحاصلين على مؤهل أقل من الثانوية العامة وتسعة أشهر للحاصلين على مؤهلات أعلى، بينما منح القانون الإناث حرية الاختيار في دخول الخدمة العسكرية من عدمه(3).
ومن المرتقب أيضًا أن تلحق دولة الكويت بركب التجنيد الإلزامي الخليجي؛ حيث تعتزم الحكومة طرح مشروع قانون بهذا الخصوص على مجلس الأمة في دور الانعقاد المقبل الذي سيبدأ في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2014.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي ستأخذ فيها الكويت بالتجنيد الإلزامي؛ حيث سبق وأن طبقت هذا النظام لعدة سنوات من قبل لكنها علَّقت العمل به منذ عام 2001.
وسبق وأن طرحت الحكومة الكويتية هذا القانون على مجلس الأمة بعد أن أدخلت تعديلات جوهرية على القانون القديم، لكن محاولاتها في تمرير هذه التعديلات باءت بالفشل منذ عام 2008.
أمَّا فيما يخص كل من سلطنة عُمان ومملكة البحرين فلا توجد مؤشرات آنية ملموسة تشير إلى قرب أخذ أي من الدولتين بنظام التجنيد الإلزامي. أما المملكة العربية السعودية، فقد قطعت الشك باليقين، وأعلنت عدم حاجتها إلى تطبيق هذا النظام في الوقت الحالي، ولكنها لم تغلق المجال تمامًا إزاء إمكانية تطبيقه في المستقبل اذا استدعت الضرورة ذلك.
وبررت السعودية عدم الأخذ بالتجنيد الإلزامي في الوقت الراهن، بالإقبال الكبير من قبل المتطوعين من الشباب السعودي على الالتحاق بالقطاع العسكري وبما يفوق الاحتياج الفعلي للقوات المسلحة السعودية(4).
مقتضيات التجنيد الإلزامي والأمن الوطني للدول الصغيرة
تتعدد وتتنوع نظم التجنيد وآليات التعبئة في صفوف القوات المسلحة في العالم، وتختلف من دولة لأخرى، وفقًا لخصوصية كل منها، من النواحي الجغرافية، والسكانية، والمجتمعية، والثقافية، والاقتصادية وبحسب نوعية وطبيعة المخاطر والتحديات -الداخلية والخارجية- التي تهدد أمنها واستقرارها في الحاضر والمستقبل.
ويقصد بـ "التجنيد الإلزامي" وفق المفهوم المستقر في الأدبيات العسكرية "التحاق القوى الشبابية ومتوسطة العمر في المجتمع بعد إكمال سنوات الدراسة بالخدمة في المؤسسة العسكرية، لمدة زمنية معينة تختلف من دولة إلى أخرى"(5).
وتشير الدراسات والإحصاءات المسحية المتخصصة إلى أنه في الوقت الحالي فإن نحو 38 دولة فقط، غالبيتها من الدول الصغيرة، تأخذ بنظام التجنيد الإلزامي، وذلك من بين أكثر من 198 دولة عضوًا في منظمة الأمم المتحدة(6).
عربيًا، تأخذ بهذا النظام حاليًا دول عدة، أبرزها: مصر، والجزائر، والسودان، والأردن وسوريا.
وتشير الخبرة التاريخية والمعطيات المعاصرة إلى أن الدول الصغيرة أكثر دول العالم حاجة للأخذ بنظام التجنيد الإلزامي في صفوف قواتها المسلحة. وتتزايد هذه الحاجة في حالة الدول الصغيرة الغنية كما هي حال دول مجلس التعاون الخليجي، وتستند هذه الحاجة المتعاظمة إلى عدد من الخصائص والسمات الثابتة والمتغيرة، والتي تتمثل في مكونات وعناصر القوة الشاملة التي تتمتع بها هذه الفئة من الدول وفق موقعها داخل النظام الدولي(7).
ومن ثم، فإن عدة اعتبارات تفرض على الدول صغيرة الحجم ضرورة بناء جيش وطني قوي، حتى وإن كان صغير الحجم، وذلك للأسباب التالية:
-
الحساسية المفرطة للموقع الجغرافي للدول الصغيرة والذي يمثل مصدرًا لإشكالياتٍ سياسية واقتصادية وأمنية، على المستويين الداخلي والخارجي، تهدد أمنها الوطني.
-
كون بعض الدول صغيرة الحجم عرضة لاختراق نسيجها الاجتماعي والسياسي من قبل دول الجوار التي تفوقها من حيث الحجم، نظرًا للتداخل بين المكونات الاجتماعية والمفاهيم والتوجهات السياسية والمعتقدات الدينية والإثنية وكذلك التداخل السكاني، مما ينعكس سلبًا على أداء مكونات الدولة السياسية.
-
عادة ما تكون هناك خلافات حدودية ومصالح اقتصادية وسياسية متعارضة ومتضاربة، وكذلك توجد اختلافات أيديولوجية بين الدول المتجاورة، وهو ما يمثل مصدر تهديد لأمن الدولة الصغيرة، وهاجسًا مستمرًّا لعدم استقرارها.
-
كون الدول الغنية صغيرة الحجم، أكثر عرضة وجذبًا لمصادر التهديد الإقليمية والدولية، كما هي حال دول مجلس التعاون الخليجي(8).
وفي ضوء هذه المحددات الاستراتيجية والمعطيات الثابتة، يصبح الأخذ بنظام التجنيد الإلزامي ضرورةً بالنسبة للدول صغيرة الحجم، خاصة إذا امتلكت القدرات الاقتصادية، والعلمية، والتكنولوجية، والموارد البشرية؛ حيث يمكِّنها ذلك من تأمين قوة ردع عسكرية ذاتية، وذلك على نحو يكون بمقدروها امتلاك قدرة التأثير في الشؤون الإقليمية والدولية، وإطلاق آفاق حركتها الدبلوماسية وعلاقاتها الخارجية، بما يعزز استقلالها، ويصون أمنها القومي، ويحفظ استقرارها، وسيادتها الوطنية.
دواعي التجنيد الإلزامي في دول الخليج
ثمة مجموعة من الاعتبارات التي تستوجب من دول مجلس التعاون الخليجي الأخذ بنظام الخدمة العسكرية الإلزامية، ويتمثل أبرزها في التالي:
-
التهديدات الخارجية المستمرة: حيث تشير الوقائع التاريخية والمعاصرة لدول الخليج إلى أن وضعها الجيوستراتيجي قد جعلها عرضة لمصادر تهديد مستمرة من قبل القوى الإقليمية الكبرى التي غالبًا ما تتنازع النفوذ في المنطقة.
وتقتضي المواجهة الفعالة لهذه التهديدات الدائمة أن تمتلك دول مجلس التعاون جيشًا وطنيًا من مواطنيها -حتى وإن كان صغير العدد- لضمان الولاء والتضحية من أجل صون أمن الوطن والذود عن استقلاله وسيادته وسلامة أراضيه وقت الضرورة.
-
البيئة الاستراتيجية المتغيرة إقليميًا ودوليًا: حيث تشهد البيئة الاستراتيجية المحيطة بمنطقة الخليج تغيرات مستمرة ومتسارعة، وتفرز تحديات متجددة على مستوى الأمن الوطني لدول المنطقة وبالأخص الدول الصغيرة.
فقد عرف السياق الاستراتيجي العام للمنطقة خلال السنوات الأربع الأخيرة -وبخاصة منذ اندلاع ما يُعرف بـ"ثورات الربيع العربي"- تحولات وتغيرات جوهرية، من المتوقع أن تظل تأثيراتها المحتملة، آخذة في إفراز تداعياتها على مدى العقد المقبل على أقل تقدير(9).
وغني عن القول: إن البيئة الاستراتيجية لمنطقة الخليج ستظل محلاً للتغير ومجالاً للتبدل المستمر، وذلك بفعل التطورات التي تشهدها بنية وهيكلية النظام الدولي من جهة، والزخم الذي يتمخض عن تفاعلات وتوازنات القوى الكبرى والمؤثرة في النظام الإقليمي العربي وشرق الأوسطي من جهة أخرى.
ويتطلب التعامل الفعال والحاسم مع تداعيات هذه البيئة المضطربة، ضرورة توافر قوات مسلحة في كل دولة خليجية ترتكز إلى طاقات متجددة ومؤهلة من شبابها، بما يلبي الاحتياجات العملية لحماية أمنها؛ وهذا ما يوفره التجنيد الإلزامي.
-
الوفرة المالية النفطية: فمن جهة أولى، تحتاج الوفرة النفطية الهائلة التي تتمتع بها دول الخليج إلى جيش وطني يحميها ضد أية مخاطر محتملة و/أو أطماع مرجحة. ومن جهة أخرى، من المهم استثمار هذه الوفرة في تطوير جيش وطني مؤهل، مع تجهيزه بأحدث التقنيات والتكنولوجيا العسكرية، بحيث تكون بديلاً عن صغر حجم الجيش كما هي حال عدد من بلدان العالم التي تشبه دول الخليج من حيث قلة عدد السكان وأهمية عمقها الاستراتيجي.
إنَّ الاعتماد على التكنولوجيا التسليحية المتطورة وحدها من دون توفر العنصر البشري الماهر والمدرب والمحترف، يعد نقطة سلبية في سياق التوازن الاستراتيجي السائد حاليًا في المنطقة، والذي هو بلا شك ليس في صالح دول مجلس التعاون الخليجي.
وبوجه عام، هناك مجموعة من الإيجابيات التي يُتوقع أن تحققها دول الخليج في حال طبقت نظام التجنيد الإلزامي لمواطنيها، يمكن أن يكون من أهمها:
-
توفير قوة دفاعية ذاتية، ترتكز إلى عناصر وطنية مدربة ومؤهلة يمكن توظيفها تعبويًّا وتكتيكيًّا لمواجهة إفرازات وتداعيات التحديات الراهنة في المنطقة؛ إذ سيساهم هذا النظام في ضم شريحة من الشباب من الفئات العمرية المتوسطة إلى المنظومة العسكرية، بما يدعم كفاءة المؤسسات العسكرية والدفاعية الخليجية في صد أي عدوان والتصدي لأية تهديدات خارجية محتملة.
-
غرس قيم حميدة وخصال وطنية ومجتمعية رفيعة في نفوس الشباب المجند، من قبيل: الانتماء للوطن والتضحية في سبيله، والانضباط، وتحمل المسؤولية، ودعم الوحدة الوطنية، والاعتماد على الذات، واحترام القانون، وحسن استثمار وإدارة الوقت؛ بما يسهم في الحد من بعض الظواهر السلبية التي أخذت تستشري بين أوساط الشباب الخليجي(10).
تحديات التجنيد الإلزامي في الخليج
على الرغم من تأييد قطاع كبير من الرأي العام الخليجي للأخذ بنظام التجنيد الإلزامي لما له من فوائد متوقعة، إلا أن هناك العديد من التحديات التي يرجح أن تواجه التطبيق الفعَّال لهذا النظام، حيث يرتبط بعض هذه التحديات بطبيعة الثقافة المجتمعية السائدة، ويتصل البعض الآخر منها بأبعاد اقتصادية وإدارية وفنية.
فمن جهة أولى، يبرز التحدي المتعلق بمدى قدرة الأجهزة الحكومية، ممثلة في وزارات الدفاع ومؤسساتها، على استيعاب المتقدمين للتجنيد، وتوفير التدريب والتأهيل اللازم لهم؛ حيث تشير خبرة بعض الدول الخليجية -وتحديدًا في الكويت- إلى أن التجنيد الإلزامي حين طُبِّق في السابق عانى من سلبيات عدَّة كان من أهمها ضعف التدريب والتأهيل للمجندين مقابل الكلفة المالية الباهظة.
ومن جهة ثانية، هناك التحدي المتمثل في العزوف المتوقع من قبل قطاع ليس بالقليل من الشباب الخليجي عن تحمل طبيعة الحياة العسكرية الشاقة. يضاف إلى ذلك التحديات الإدارية والمالية والفنية، وفي مقدمتها الحاجة لمخصصات مالية كبيرة، خاصة في المراحل الأولى لتطبيق التجنيد الإلزامي، حيث تكون الحاجة ملحة لتوفير البنية الأساسية ووسائل الدعم اللوجستي لهذا النظام.
ولاشك في أن تخصيص ميزانيات ضخمة للتجنيد يعد تحديًا كبيرًا، في ظل التوقعات بتراجع الإنفاق الحكومي في الميزانيات العامة لدول الخليج خلال السنوات المقبلة؛ نتيجة للتراجع في أسعار النفط. كما ينبغي عدم إغفال الحاجة لتوفير كوادر بشرية كفؤة تتولى تدريب المجندين الجدد.
مستقبل التجنيد الإلزامي والأمن الوطني والجماعي الخليجي
يمكن النظر، بقدر كبير من الاطمئنان وحسن اليقين، إلى الخطوة الجرئية بشأن تحول بعض دول مجلس التعاون الخليجي للأخذ بنظام الخدمة العسكرية الإلزامية، باعتبارها مدخلاً استراتيجيًّا نوعيًّا للاستفادة من إمكانياتها المالية والتسليحية والبشرية على الوجه الأكمل، بما يصب في رفع مؤشرات القوة العسكرية لدول الخليج، فرادى ومجتمعة وتعزيز أمنها الوطني.
وتتعاظم أهمية ودلالة هذه الخطوة بالنظر إلى حجم ونوعية التحديات الأمنية التي أصبح من المتعين على دول الخليج مجابهتها خلال الفترة المقبلة، وسط بيئة إقليمية ودولية تتسم بدرجة عالية ومتزايدة من عدم اليقين الاستراتيجي.
ومن المأمول أن يكون الأخذ بهذا النظام باكورة استراتيجية نحو توطين الاحترافية القتالية للجيوش الخليجية؛ إذ إن الاعتماد على التكنولوجيا التسليحية المتطورة وحدها من دون توفر العنصر البشري الوطني الماهر والمدرب والمحترف، سيظل نقطة سلبية في سياق التوازن الاستراتيجي في المنطقة.
ويشير استقراء التوجهات العامة لقضية التجنيد الإلزامي في دول الخليج إلى أن مستقبل نجاحها من عدمه سوف يظل رهنًا بقدرة الحكومات الخليجية على تهيئة ثقافة ووعي مجتمعي بقدسية الأمن، من قبل مختلف شرائح الرأي العام، ونخبه، ومثقفيه، على مستوى المواطن العادي وبخاصة الشباب والنشء، بحيث يتوافر مناخ مواتٍ للتعامل مع قضايا وأمور وأولويات الأمن الوطني وفي مقدمتها ترسيخ نظام التجنيد الإلزامي، وبما يؤسس إجماعًا وطنيًا بخصوصه؛ مما يسهم في حشد الطاقات والكفاءات والموارد والإمكانات الوطنية اللازمة للتنفيذ الكفء والفعال لهذا النظام.
وتشير خبرة الدول صغيرة الحجم في هذا المجال، إلى أن هناك مجموعة من الآليات التي تسهم في بناء وتأصيل وتقوية الشعور الوجداني والوعي المجتمعي بقدسية الأمن، وذلك من خلال وضع وتبني خطة استراتيجية طويلة المدى، لبناء وتعزيز الجبهة الداخلية، تتضمن أبعادًا سياسية وإعلامية وثقافية وتعليمية وتوعوية، تصب في التحفيز المستمر على أهمية وقيمة مفهوم قدسية الأمن.
خاتمة
من الأهمية بمكان أن تعتمد دول مجلس التعاون الخليجي منهج التخطيط الاستراتيجي في إقرار وتطبيق التجنيد الإلزامي في صفوف قواتها المسلحة، وذلك بالنظر إليه باعتباره "حجر الزاوية" في تطوير الجيوش الخليجية وتعظيم قدراتها البشرية خلال العقود المقبلة؛ بما يمكِّنها من مواجهة التحديات المحدقة بها، داخليًا وخارجيًا، والتخلي عن النظرة الشائعة لهذا النظام على أنه مجرد رد فعل آني مؤقت على تطورات ومخاطر طارئة.
__________________________________
محمد بدري عيد - باحث متخصص بالشأن الخليجي
الهوامش
1. انظر في تفاصيل المقارنة بين الجيوش الخليجية وجيوش دول الجوار ومنها إيران والعراق من حيث العدد والتسليح: عبد الجليل مرهون، سباق التسلّح في الخليج والجوار، ( الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2011).
2. وكالة الأنباء القطرية الرسمية "قنا"، 6 إبريل/نيسان 2014، تصريح لوزير الدولة لشؤون الدفاع اللواء حمد بن علي العطية خلال حفل إطلاق مشروع التجنيد الإلزامي.
3. وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية "وام"، 19 يناير/كانون الثاني 2014.
4. وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واس"، 14 أغسطس/آب 2014، تصريح وزير الحرس الوطني السعودي الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز.
5. موسوعة "مقاتل من الصحراء"، الإصدار الرابع عشر، مفاهيم عسكرية وأمنية، الموقع الإلكتروني للموسوعة على شبكة الإنترنت،
http://www.moqatel.com/openshare/book/Index.HTM
6. بدون مؤلف، نظم التجنيد المعاصرة في العالم، ( القاهرة: أكاديمية ناصر العسكرية، ط1، 2012)، ص18.
7. محمد بدري عيد: الأمن الوطني لدولة الكويت بين النظرية والتطبيق، ورقة بحثية غير منشورة قُدِّمت إلى ندوة "الأمن الخليجي والتطورات الراهنة"، الكويت، 27 ديسمبر/كانون الأول 2013، ص4.
8.المرجع السابق، ص12-16.
9. انظر في تفاصيل التحولات البيئية الإقليمية والدولية بعد "الربيع العربي": محمد بدري عيد ود.جمال عبد الله (محرران)، الخليج في سياق استراتيجي متغير، مركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2014، ص12-15.
10. استطلع الباحث في رصده للإيجابيات المتوقعة من التجنيد الإلزامي آراء عدد من الخبراء الكويتيين من ذوي الخلفية العسكرية من العسكريين المتقاعدين.