السودان و"عاصفة الحزم": ضرورات واستحقاقات التموقع الإقليمي الجديد

يأمل النظام السوداني بانخراطه في عاصفة الحزم مع السعودية في مواجهة حليفه السابق: إيران، في أن يحصل على موارد تخفِّف ضائقته الداخلية وشبكة أمان تكسر عزلته الخارجية.
20156811265510734_20.jpg
سعي الخرطوم للانخراط في عاصفة الحزم مع السعودية لن يكفي لمعالجة أزمات السودان الداخلية والخارجية المزمنة خصوصًا عقب إعادة انتخاب عمر البشير مؤخرًا لفترة رئاسية جديدة (رويترز)
ملخص
تتناول هذه الورقة الدوافع والأسباب التي تقف وراء مشاركة السودان في عملية "عاصفة الحزم" في اليمن والتي تعني في أحد أبعادها مزيدًا من التقارب بين الخرطوم ودول الخليج في مقابل مزيد من التباعد مع إيران -الحليف القديم للنظام السوداني-. وتحاول الورقة الإجابة على سؤال ما إذا كان هذا القرار يقتصر على الموقف من المواجهة الراهنة بين السعودية وإيران في المنطقة، أم أنه يأتي ضمن سياق أوسع من المراجعات التي تجريها القيادة السودانية لمجمل علاقاتها بمحيطها الإقليمي. وتتطرَّق الورقة لجملة من العوامل والمتغيرات الخارجية والداخلية التي تقف وراء هذه المراجعات والمكاسب التي يأمل نظام الرئيس عمر البشير تحقيقها من ذلك. وتخلص الورقة إلى أن البحث عن إنجاز خارجي يُسهم في وقف تآكل شرعية النظام الداخلية هو أحد أهم الأسباب التي تفسِّر محاولات السودان إعادة بناء تحالفاته الإقليمية، وأنه مهما كان حجم الفوائد المالية والاقتصادية التي يمكن أن تجنيها الخرطوم من تقاربها مع السعودية ودول الخليج فإنها لن تكفي لمعالجة أزمات السودان المزمنة والمعقدة لاسيما في ظل انسداد الأفق السياسي خصوصًا عقب إعادة انتخاب عمر البشير مؤخرًا لفترة رئاسية جديدة.

مقدمة

كان السودان من أوائل الدول التي أعلنت دعمها ومشاركتها في عملية "عاصفة الحزم" التي قادتها السعودية ضد الحوثيين في اليمن. وقد شارك السودان في هذه العملية بثلاث طائرات من طراز سوخوي 24 وعدد غير محدد من طائرات النقل فضلًا عن عدد من القطع البحرية، كما أعلنت الخرطوم مع بداية العملية استعدادها لإرسال قوات برية إذا طُلب منها ذلك(1). وبينما أعلن الجيش السوداني أن المشاركة في عاصفة الحزم "تأتي انطلاقًا من المسؤولية الإسلامية لحماية أرض الحرمين الشريفين والدِّين والعقيدة.. ولتبقى السعودية آمنة مستقرَّة بلدًا حرامًا"(2)، سعى البشير للتأكيد على أن هذه المشاركة ليست للعدوان وإنما من أجل "قتال الفئة الباغية" بعد أن رفض الحوثيون الصلح واستغلوا الواقع الراهن لفرض أنفسهم على الشعب اليمني(3).

وقد طرحت مشاركة السودان في "عاصفة الحزم" الكثير من الأسئلة حول الأسباب والعوامل التي دفعت الخرطوم لهذا القرار الذي يعني في أحد أبعاده مزيدًا من التباعد وربما القطيعة مع الحليف الإيراني القديم والمهم للنظام السوداني الحالي منذ جاء للسلطة عام 1989، في مقابل المزيد من التقارب والانفتاح على دول الخليج وعلى رأسها السعودية. فما الدوافع التي تقف وراء هذا القرار؟ وهل هو قرار منفصل أم يأتي ضمن مراجعة أوسع للعلاقات الخارجية السودانية بهدف إعادة رسم موقع السودان في خريطة التحالفات الجديدة بالمنطقة؟ وما المكاسب والفوائد التي قد تعود على الخرطوم سياسيًّا واقتصاديًّا من ذلك؟ وإلى أي حدٍّ يمكن أن تسهم هذه المكاسب في إخراج السودان من أزماته الداخلية المعقدة والمزمنة؟ وهل يساعد ذلك النظام السوداني على مواجهة أزمة تآكل الشرعية التي يعاني منها حاليًا؟

إعادة رسم خريطة العلاقات الخارجية

بالنسبة للمتابع لمواقف السياسة الخارجية السودانية في الآونة الأخيرة لم يكن قرار الخرطوم بالانخراط في "عاصفة الحزم" مفاجئًا بل كان متوقَّعًا؛ فهذا القرار لم يكن إلا كاشفًا عن مساعي الخرطوم التي بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة لإعادة رسم علاقاتها الخارجية وإعادة بناء تحالفاتها الإقليمية وفقًا للمتغيرات والتطورات المتلاحقة سواء على الصعيد الإقليمي أو على صعيد الوضع الداخلي السوداني الذي يزداد تأزمًا سياسيًّا واقتصاديًّا. هذه المتغيرات مجتمعة دفعت السودان للاقتراب أكثر من السعودية ودول الخليج في مقابل مزيد من التباعد عن حلفائه القدامى وعلى رأسهم إيران التي باتت العلاقة معها وفق كثير من السياسيين السودانيين عبئًا على الخرطوم وأحد أسباب استمرار حصار السودان وعزلته سياسيًّا والضغط عليه اقتصاديًّا. من هنا، يمكن القول: إن الموقف السوداني من الأزمة اليمنية جاء ضمن سياق أوسع من المراجعات التي تجريها القيادة السودانية لعلاقاتها الإقليمية بعد أن أدركت، لاسيما في السنوات الأخيرة ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي وما تلاها من تداعيات، أن بعض علاقاتها ومواقفها الخارجية بحاجة إلى تصحيح بعدما تكبَّدته من خسائر كبيرة سياسيًّا واقتصاديًّا جرَّاء ذلك وهو ما انعكس على الوضع الداخلي الذي بات يهدد بقاء هذا النظام السوداني وشرعيته. وفي هذا الإطار يمكن فهم هذا التحول في الموقف السوداني من الصراع السعودي-الإيراني في المنطقة وفق ما يسميه البعض بـ "التكيُّف المرِن" مع المتغيرات في موازين القوى في المنطقة، وهذا ما يظهر بوضوح في علاقات الخرطوم سواء مع الخليج أو مع مصر(4).

ولم تقتصر الرؤية الجديدة لعلاقة السودان بمحيطه الإقليمي على العلاقات مع الخليج فحسب بل امتدت لتشمل ملفات أخرى؛ حيث سعت الخرطوم لتجاوز الشكوك في علاقاتها مع مصر بعد الإطاحة بنظام الرئيس محمد مرسي وتولي المشير بعد الفتاح السيسي السلطة، وهو ما ظهر في تعدد الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين في البلدين والتنسيق المستمر حيال بعض الملفات الإقليمية وأهمها: ملف مياه النيل وأزمة سدِّ النهضة؛ حيث استضافت الخرطوم التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا بخصوص سدِّ النهضة الإثيوبي في 23 مارس/آذار الماضي. كما سعى السودان للعب دور في الأزمة الليبية فاستضافت الخرطوم في شهر ديسمبر/كانون الأول 2014 اجتماعًا حول الأزمة الليبية والتي بدا أن ثمة تقاربًا في المواقف حيالها بين الخرطوم والقاهرة؛ حيث أبدت الخرطوم انفتاحًا على حكومة طبرق المدعومة من مصر في محاولة لإقامة علاقات أكثر توازنًا بين الفرقاء الليبيين ولتبديد الاتهامات لها بدعم المتشددين في ليبيا.

ويقول المسؤولون السودانيون: إن ما يحدث ليس انقلابًا في العلاقات الخارجية السودانية بقدر ما هو إعادة نظر في هذه العلاقات بما يخدم المصالح السودانية ويخفف من حدَّة الضغوط التي يتعرض لها السودان والتي جعلته موضع اتهام من كثير من الأطراف بانتهاج سياسة خارجية مناوئة للمصالح العربية(5).

تحولات الإقليم وضغوطات الداخل

وتبرز في هذا الإطار جملة من المتغيرات والعوامل الخارجية والداخلية التي يمكن أن تساعد في تفسير وفهم الأسباب التي دفعت الخرطوم لإجراء هذه المراجعة لعلاقاتها في محيطها العربي والإقليمي:

أولًا: متغيرات ودوافع إقليمية
ويمكن هنا التوقف عند عدد من هذه المتغيرات كان لها تأثيرها على توجهات السياسة الخارجية للسودان وعلاقاته الإقليمية:
  1. انفصال الجنوب: فقد أدى هذا الانفصال وما ترتب عليه من آثار اقتصادية قاسية وخسارة الخرطوم لمعظم عائداتها النفطية، إلى مفاقمة الضائقة الاقتصادية التي يعيشها السودان أصلًا وكذلك الحصار والعقوبات الأميركية المفروضة عليه منذ نحو عقدين، فضلًا عن فشل السياسات الاقتصادية للنظام السوداني على مدى سنوات في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين رغم كل ما تملكه البلاد من إمكانيات هائلة. ولم تقتصر تداعيات انفصال الجنوب على الخسائر الاقتصادية فحسب، بل كانت له تأثيراته السياسية والأمنية إذ خلَّف الانفصال حدودًا غير مستقرة ومناطق متنازَعًا عليها بشكل يجعلها قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة، ولم يؤدِّ الانفصال إلى إنهاء متاعب السودان الأمنية والعسكرية كما كانت الخرطوم تأمل بل تمددت مناطق الصراع مع المعارضة المسلحة فلم تعد قاصرة على دارفور بل امتدت إلى النيل الأزرق وكردفان. ولم يسهم انفصال الجنوب في رفع العقوبات الأميركية كما كان متوقَّعًا، بل استمرت كما هي. وهكذا شكَّلت التداعيات الاقتصادية والأمنية التي أعقبت الانفصال مهدِّدًا رئيسيًّا لشرعية وبقاء النظام السوداني ذاته نتيجة عجزه عن تقديم إجابات عن تساؤلات الشارع السوداني عن الفوائد التي عادت على السودان نتيجة قبول الانفصال خصوصًا على الصعيد الاقتصادي. وفي مواجهة هذه الاستحقاقات كان على النظام البحث عن إجابة لهذه الأسئلة في الخارج من خلال إعادة النظر في تحالفاته الخارجية بمحاولة إذابة الجليد مع دول الخليج والتقارب معها على حساب الحليف الإيراني لاسيما أن العلاقات مع إيران لم يكن لها مردود اقتصادي واضح بالنسبة للسودان مقارنة بما تمثله دول الخليج في هذا الصدد.
  2. الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر: رأت القيادة السودانية أن الإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي وما تلاها من تداعيات، تفرض عليها إعادة رسم موقعها على ضوء هذه المعطيات الجديدة لاسيما مع تأييد الدول الخليجية النافذة وعلى رأسها السعودية والإمارات للحكم الجديد بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي، وما أعقب ذلك من هزيمة انتخابية للإسلاميين في تونس وانكفاء لهم في ليبيا، وكذلك الضغوط التي مورست على الخرطوم لتعديل مواقفها تجاه الأزمة الليبية.
  3. تصاعد المواجهة الإقليمية بين السعودية وإيران: وصلت هذه المواجهة لذروتها مع استيلاء الحوثيين على السلطة في اليمن؛ حيث بدا واضحًا منذ أواخر عهد الملك عبد الله أن الرياض تُولِي أهمية قصوى لمواجهة تمدد النفوذ الإيراني، وتَعزَّز ذلك بوضوح مع تولي العاهل السعودي الملك سلمان السلطة والذي جعل من هذه المواجهة أولوية بالنسبة للرياض. وقد شكَّل هذا المتغير تحديًا كبيرًا أمام الخرطوم التي ارتبطت تاريخيًّا بعلاقات تعاون عسكري واستراتيجي قوية مع طهران، وجعل السودان أمام خيارين: إمَّا الابقاء على علاقات التعاون العسكري والأمني مع إيران أو الانحياز لمصالحه الاقتصادية والسياسية مع دول الخليج وخصوصًا السعودية التي لم تُخفِ انزعاجها الواضح من التقارب بين الخرطوم وطهران.
  4. تفاقم العزلة الخارجية: أسهمت المتغيرات السابقة مجتمعةً بصورة أو بأخرى في زيادة وطأة الحصار والعزلة الخارجية التي يعيشها السودان بالفعل منذ أوائل التسعينات نتيجة موقف الخرطوم في حرب الخليج الثانية عام 1990، ثم العقوبات الأميركية التي فُرضت على السودان منذ 1997، وهي عقوبات تُجدَّد سنويًّا فترتَّب عليها خسائر اقتصادية فادحة تقدرها الحكومة السودانية بأكثر من 40 مليار دولار. وقد تفاقمت هذه العزلة عقب صدور مذكرة اعتقال بحق الرئيس عمر البشير من قِبل محكمة الجنايات الدولية على خلفية اتهامه بالتورط في جرائم في إقليم دارفور. من هنا، يمكن القول: إن أحد أهم دوافع السودان لمراجعة علاقاته الخارجية هو محاولة كسر العزلة الخارجية التي اشتد خناقها خليجيًّا من قِبل السعودية والإمارات اللتين صعَّدتا ضغوطهما على الخرطوم لدفعها بعيدًا عن إيران(6). وعلى ضوء التداعيات التي خلَّفتها هذه الضغوط ولاسيما الاقتصادية بدا المسؤولون السودانيون أكثر اقتناعًا بأن العلاقات القوية مع إيران لن تعوضهم الخسارة الكبيرة التي مُنِي بها السودان سياسيًّا واقتصاديًّا جرَّاء العزلة والقطيعة مع محيطه العربي. ومن ثم كانت عاصفة الحزم فرصة بالنسبة للخرطوم لتصحيح هذا المسار ليس فقط لتحقيق فوائد اقتصادية نتيجة التقارب مع السعودية ودول الخليج، وإنما على أن يسهم ذلك في تحسين علاقاتها المتأزمة مع الولايات المتحدة بما يؤدي لرفع العقوبات الاقتصادية الأميركية.
ثانيًا: دوافع داخلية
في مقابل العوامل الخارجية، ثمة أسباب داخلية ربما تبدو أكثر أهمية في تفسير وفهم التحول الراهن في سياسة السودان الخارجية والذي جاء كانعكاس لأوضاع سياسية واقتصادية متأزمة أسهمت مجتمعة في تآكل واضح في شرعية النظام السوداني لدرجة دفعته للبحث عن إنجاز خارجي يسهم في وقف هذا التآكل. وفي هذا الصدد يمكننا التوقف عند عدد من هذه الأسباب:
  1. الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها السودان حاليًا في ظلِّ الحصار والعقوبات الأميركية وتراجع الاستثمارات الخارجية وخصوصًا الخليجية منها، والإجراءات العقابية التي فرضتها السعودية ودول خليجية أخرى ردًّا على التقارب السوداني-الإيراني: وقد جاء انفصال الجنوب، كما أشرنا سابقًا، ليضاعف من وطأة هذه الأزمة؛ حيث أدَّى ذلك لفقدان السودان نحو 75 في المائة من عائداته النفطية؛ ما أسهم في تفاقم أزمة الدَّيْن الداخلي وتراجع حاد في سعر صرف الجنيه السوداني. ويشكِّل التحدي الاقتصادي العامل الأكثر ضغطًا على نظام البشير؛ إذ إنه يمثِّل أحد مهدِّدات وجوده ذاته، فاستمرار هذا الوضع وتفاقمه يفتح الباب لمزيد من الاحتجاجات الاجتماعية جرَّاء تردي الأوضاع المعيشية كما حدث في عام 2013 من مظاهرات طلابية وشبابية عارمة في الخرطوم احتجاجًا على رفع أسعار المحروقات. بل إن المعارضة الرئيسية السودانية باتت تراهن على هذا العامل لإسقاط النظام من بوابة التردي الاقتصادي والمعيشي. وعلى ضوء ذلك تبدو الأهمية الكبيرة التي تمثلها العلاقات الاقتصادية مع السعودية ودول الخليج بالنسبة للسودان والذي تراهن الخرطوم على تعزيزها مع الانفتاح السياسي بين البلدين؛ إذ تعتبر السعودية ثاني أكبر شريك تجاري للسودان بعد الصين، كما أنها تمثِّل الرئة الاقتصادية التي مكَّنت السودان من مواجهة وتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية؛ حيث يتم معظم الاعتمادات المالية المصرفية الخارجية للسودان عبر بنوك سعودية. وقد استخدمت الرياض هذه الورقة للضغط على السودان لِلَجْم علاقاته مع إيران، عندما قررت في فبراير/شباط عام 2014 وقف التعامل مع البنوك والمصارف السودانية، وقد أدى هذا القرار إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية السودانية نتيجة ما ترتب عليه من زيادة في الكُلفة على المعاملات المالية بين السودان والعالم الخارجي ولاسيما في مجال الواردات؛ الأمر الذي أدَّى إلى ارتفاع معدلات التضخم وتردي الأوضاع المعيشية المتردية أصلًا. 
    ويبلغ حجم الاستثمارات السعودية في السودان نحو 13 مليار دولار في نحو 590 مشروعًا تعمل في القطاعات الصناعية والزراعية والتعدينية.
    وفي المقابل، فإن إيران لم تقدم الدعم الاقتصادي الذي كانت تنتظره الخرطوم، بل إن البشير وجَّه انتقادات لطهران في هذا الصدد عاقدًا مقارنة بين ما قدمته السعودية وما قدمته طهران التي أدركت الخرطوم أنها لا يمكن أن تكون الظهير الاقتصادي الذي يحتاجه السودان لمواجهة أزماته الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة.
    ويراهن النظام السوداني أن يحصل على مقابلٍ لهذا التحول في علاقاته مع دول الخليج عبر ضخِّ مزيد من الاستثمارات والمساعدات الخليجية في شرايين الاقتصاد السوداني المنهك، فخلال زيارة البشير قبل الأخيرة للرياض وجَّه العاهل السعودي حكومته وصناديق التمويل والمستثمرين السعوديين لزيادة الدعم للسودان خلال المرحلة المقبلة فضلًا عن إنشاء صندوق لتحفيز الشركات السعودية على الاستثمار في السودان(7). وقد سعى البشير لاستثمار هذه المكاسب المرتقبة سياسيًّا خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي جرت في شهر إبريل/نيسان الماضي (2015) وسط مقاطعة لافتة من قوى المعارضة الرئيسية وفاز فيها بأغلبية ساحقة(8).
    وفضلًا عن ذلك، فإن الخرطوم تأمل في أن يسهم الانفتاح على الدول الخليجية في تذليل العقبات أمام تنفيذ مشروع الأمن الغذائي العربي الذي دعا إليه البشير مؤخرًا من خلال تعاون سوداني-خليجي-مصري بهدف استصلاح وزراعة ملايين الأفدنة في السودان.
  2. الأزمة السياسية المستحكمة وتآكل الشرعية: جاءت مشاركة الخرطوم في عاصفة الحزم في وقتٍ يواجه فيه النظام أزمة سياسية داخلية مستحكِمة ومتعددة الأبعاد وهو ما جعل من هذه المشاركة وكأنها طوق نجاة للنظام السوداني، فمن خلالها يمكن الهروب من الأزمات الداخلية المعقدة، وكذلك العمل على تحقيق إنجاز خارجي يُوقِف تآكل شرعيته الداخلية على ضوء تفاقم المشكلات المزمنة سواء على صعيد انسداد العلاقة بين النظام والمعارضة الرئيسية، أو تمدد دائرة النزاع المسلح أو على صعيد الانقسامات والتشققات داخل الحزب الحاكم نفسه(9).
    وقد ظهر هذا البعد جليًّا خلال الحملة الانتخابية حيث سعى البشير لاستغلال مشاركة بلاده في عاصفة الحزم داخليًّا خلال مؤتمراته وجولاته الانتخابية والتي أعلن خلالها عن الكثير من المكاسب الاقتصادية التي تحققت نتيجة هذه المشاركة سواء فيما يتعلق باستئناف التحويلات المصرفية من السعودية أو حلِّ مشكلة الإقامات والتأشيرات للسودانيين في دولة الإمارات العربية. وبينما اتهمت قوى المعارضة البشير بالانتهازية السياسية والسعي لمقايضة الدم السوداني بالبقاء في السلطة، يرى البعض أن البشير بقراره الانضمام لعاصفة الحزم أربك حسابات خصومه السياسيين والذين كانوا يراهنون على محور دول الخليج في تغيير النظام من خلال الضغط عليه سياسيًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا أو توفير المكان لأنشطة المعارضة خصوصًا في السعودية والإمارات، ومن ثم فإن استعادة الخرطوم لعلاقاتها مع هذه الدول، في رأي البعض، يقطع الطريق أمام المعارضة للاحتفاظ بعلاقات قوية مع دول الخليج ومصر(10).

السودان ما بين الخليج وإيران

بغَضِّ النظر عن الحسابات السودانية فيما يخص المشاركة في "عاصفة الحزم" فإن المؤكد أن هذا القرار في أحد أبعاده كان تتويجًا لجهود وضغوط عديدة مارستها دول الخليج والسعودية بشكل خاص على الخرطوم لجذبها بعيدًا عن الحليف الإيراني؛ إذ طالما شكَّلت العلاقات السودانية-الإيرانية، خصوصًا في السنوات الأخيرة، عامل قلق وتوجس لدى الدول الخليجية. فعلى مدى سنوات سعت طهران لإقامة علاقات استراتيجية مع السودان مستغلة حاجته للدعم المادي والعسكري والتباعد بينه وبين محيطه العربي، بهدف الاستفادة من الأهمية الجيوسياسية للسودان لتمرير شحنات السلاح الإيراني سواء لحزب الله اللبناني أو إلى حركة المقاومة الإسلامية حماس، لكن هذه العلاقة بقدر ما كانت مفيدة لطهران فإنها صارت قيدًا على حركة السودان الإقليمية ومع الوقت صارت عبئًا عليه حيث تعرضت الأراضي السودانية لأكثر من غارة جوية من قبل إسرائيل منذ عام 2009 والتي كان آخرها قصف مصنع "اليرموك" للأسلحة جنوب الخرطوم عام 2012 والذي تردَّد أنه كان يحوي سلاحًا إيرانيًّا(11). كما جاء التحول في العلاقات بين السودان وإيران أيضًا على خلفية إدراك متزايد لدى المسؤولين السودانيين بأن الخطاب الرسمي الذي اعتمدته الخرطوم دائمًا، والذي يؤكد أن علاقاتها مع إيران ليست على حساب علاقاتها العربية، لم يعد مقنعًا لكثير من الأطراف الخليجية خصوصًا السعودية لاسيما بعد تسريب وثيقة نشرها الباحث الأميركي المتخصص في الشؤون السودانية، إريك ريفز، في سبتمبر/أيلول من العام الماضي (2014) حول اجتماع لقادة أمنيين وسياسيين سودانيين كبار في 31 أغسطس/آب عام 2013 أكَّدوا خلاله أن على الخرطوم الحفاظ سرًّا على علاقات استراتيجية وأمنية وعسكرية مع طهران وأن تسعى علنًا للحفاظ على علاقاتها مع دول الخليج للحصول على دعمها اقتصاديًّا(12).

وكان أحد أهم أسباب هذا التحول هو الضغوط القوية التي مارستها دول الخليج على الخرطوم للجم تقاربها مع إيران، والتي برزت بوضوح، كما سبقت الإشارة، في اتخاذ السعودية جملة من الإجراءات الاقتصادية وُصِفت بالعقابية للسودان ردًّا على تنامي علاقاته مع إيران ولاسيما في المجال العسكري، خصوصًا عقب رسو سفن إيرانية حربية في الموانئ السودانية على البحر الأحمر في أكتوبر/تشرين الأول 2012. ورغم سعي الخرطوم لموازنة علاقتها بين طهران والرياض باستضافتها لسفن حربية سعودية في فبراير/شباط 2013، إلا أن العلاقات لم تتحسن بعد أن استقبلت البحرية السودانية مجددًا سفنًا إيرانية في سبتمبر/أيلول 2013، وذلك بعد أيام قليلة من منع السلطات السعودية طائرة الرئيس السوداني من عبور الأجواء السعودية في أغسطس/آب عام 2013 لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب آنذاك، حسن روحاني، وهو ما اعتُبِر رسالة عدم رضى سعودي عن العلاقة بين الخرطوم وطهران.

وفي 2 سبتمبر/أيلول من عام 2014 اتخذت الحكومة السودانية قرارًا لافتًا بإغلاق المركز الثقافي الإيراني في الخرطوم وكافة فروعه في الولايات السودانية وإمهال الموظفين الإيرانيين العاملين فيه مدة 72 ساعة لمغادرة البلاد. وذكر بيان لوزارة الخارجية السودانية أن هذا القرار جاء لأن المركز "تجاوز التفويض الممنوح له والاختصاصات التي تحدد الأنشطة التي يُخوَّل القيام بها وبذلك أصبح يشكِّل تهديدًا للأمن الفكري والاجتماعي"(13). وعقب هذا القرار قام البشير بأداء مناسك الحج حيث أجرى على هامش هذه المناسبة مباحثات مع ولي العهد السعودي، آنذاك، الأمير سلمان بن عبدالعزيز. وخلال هذه الزيارة أكَّد البشير في حديث لصحيفة الشرق الأوسط السعودية انتهاء حالة الفتور التي اعترت علاقة بلاده مع السعودية وأن إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية كان خطوة في هذا الاتجاه "شرحنا رؤيتنا وحقيقة علاقتنا مع طهران، بأن كل المعلومات التي كانت تَرِد للقيادة السعودية في هذا الإطار كانت مغلوطة ومصطنعة، وانهارت بإصدار القرار الأخير بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية والذي اتخذناه كخطوة استراتيجية وليس تمويهًا على الخليجيين". وخلال هذا الحوار تطرَّق للمرة الأولى لخطر الحوثيين في اليمن والذي اعتبره أخطر من تنظيم الدولة الإسلامية حيث قال: "لا يجب أن ندع الحرب على «داعش» يحجب دخانها أبصارنا عن الذي يفعله الحوثيون في اليمن"(14).

وفي فبراير/شباط الماضي قام البشير بزيارة لافتة لدولة الإمارات العربية المتحدة التي شهدت علاقاتها مع الخرطوم توترًا وصل لحد وقف المعاملات الاقتصادية حيث رفض الجانب الإماراتي شراء شحنة من الذهب السوداني في مارس/آذار 2014، كما تعرَّض السودانيون العاملون في الإمارات لقيود فيما يخص تأشيرات الدخول والإقامة فيما بدا إجراء عقابيًّا على التقارب السوداني-الإيراني. وخلال هذه الزيارة هاجم البشير حلفاءه السابقين من الإخوان المسلمين واعتبر أن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يشكِّل تهديدًا لأمن المنطقة نافيًا وجود أية علاقة تنظيمية بين الخرطوم وجماعة الإخوان المسلمين.

ومع تولي الملك سلمان السلطة في السعودية بدا واضحًا أن ثمة تغييرات في ترتيب الأولويات بالنسبة للقيادة السعودية الجديدة خصوصًا فيما يتعلق بالوضع في اليمن، وهو ما استغلته الخرطوم لتعزيز موقعها في محيطها الإقليمي. وقبل يوم واحد من شنِّ غارات "عاصفة الحزم" كان البشير في الرياض في أول زيارة للسعودية عقب تولي الملك سلمان السلطة، والتي أكَّد خلالها أن السعودية خط أحمر بالنسبة للسودان(15).

استنتاجات

وعلى ضوء كل ما سبق نخلص إلى ما يلي:

  1. أن مشاركة السودان في "عاصفة الحزم " لم تكن سوى تتويج لعملية مراجعة واسعة من قِبل النظام السوداني لعلاقاته الخارجية وخريطة تحالفاته الإقليمية بما يجعلها، كما يؤكد المسؤولون السودانيون، أكثر ارتباطًا بتحقيق المصالح الوطنية للسودان وتتيح له كسر العزلة الخارجية من ناحية، ومواجهة المتغيرات في الإقليم من ناحية أخرى. كما أن هذا التحول في الموقف السوداني كان أيضًا نتاج ضغوط قوية مارستها السعودية ودول الخليج لجذب الخرطوم بعيدًا عن طهران، وهنا يمكن اعتبار ما جرى نجاحًا سياسيًّا لافتًا للدبلوماسية السعودية.
  2. أن شروع النظام السوداني الحالي في القيام بمراجعة شاملة لخريطة تحالفاته الخارجية بما يجعلها أكثر ثباتًا واستمرارية، سيُحدِث تحولات داخلية في تركيبة النظام السياسي السوادني قد تؤدي إلى إقصاء الجناح المرتبط بمصالح مع إيران وإبعاده عن مراكز صناعة القرار، ويرجِّح هذا التحول في علاقات السودان الإقليمية، إمساك البشير بمقاليد السلطة وبالتالي فإنه لن يكون هناك أي معارضين لتوجهات السودان الجديدة حتى من قبل جماعات النفوذ الإيراني داخل النظام الحاكم(16).
  3. ستسهم المكاسب التي سيجنيها السودان من تقاربه مع الخليج في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية الداخلية بما يُبقي النظامَ على قيد الحياة لكنها لن تكون كافية لمواجهة التآكل الواضح في شرعية هذه النظام الداخلية وقدرته على مواجهة استحقاقات سياسية وأمنية باتت أعمق من أن تعالجها بعض المساعدات والاستثمارات؛ فالأزمة السياسية في السودان أزمة هيكلية وأكثر تعقيدًا مما يحاول النظام تصويره وقد ازدادت تعقيدًا عقب الانتخابات الأخيرة التي خاضها البشير وحزبه بدون منافسين. ورغم أن الدعم الاقتصادي مسألة بالغة الأهمية لنظام البشير لكنه لا يكفي لضمان بقائه في السلطة.
  4. يأمل السودان في أن يكون تقاربه مع دول الخليج والسعودية البوابة التي يمكنه من خلالها تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة بما قد يمهِّد لرفع العقوبات الأميركية المفروضة عليه، لكن من المستبعد، حتى لو نجحت السعودية في تليين موقف واشنطن من الخرطوم، حدوث تغير جوهري في هذا الموقف على المدى القريب لاسيما في ظل استمرار البشير في السلطة وعلى ضوء ما جرى في الانتخابات الأخيرة التي كانت محل تشكيك في نزاهتها وجديتها. كما أن الموقف الأميركي من الوضع في السودان لا يرتبط بمواقف الخرطوم الخارجية بقدر ارتباطه بقضايا داخلية لاسيما الأزمة في دارفور والنزاع المسلح في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.
لا شك في أن التطورات والمتغيرات الإقليمية عمومًا وفي اليمن خصوصًا واحتمالات التدخل العسكري البري والمشاركة المتوقعة للخرطوم في هذا التدخل، ستسهم إلى حدٍّ كبير في تحديد موقع ودور السودان المستقبلي في محيطه الإقليمي عمومًا والخليجي بشكل خاص بغضِّ النظر عن قدرة نظام البشير على استثمار هذه التطورات لدعم وضعه الداخلي من عدمه.
____________________________
هوامش
(1) الرئيس السوداني عمر البشير لـ«المصري اليوم»: سنتدخل بريًّا في اليمن بـ«لواء مشاة» لو طُلب منَّا ذلك، 30 مارس/آذار 2015،
(2) لماذا شاركت السودان في عاصفة الحزم -موقع نون بوست- 27 مارس/آذار 2015،
(3) البشير: مشاركة السودان في عاصفة الحزم لقتال "الفئة الباغية"- موقع شبكة الإعلام العربية، 5 إبريل/نيسان 2015، 
(4) د. خالد حنفي علي، هندسة التحالفات: المحدِّدات الحاكمة لمشاركة السودان في عاصفة الحزم، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، 29 مارس/آذار 2015،
(5) مقابلة أجراها الكاتب مع قيادي كبير في حزب المؤتمر الوطني الحاكم وأحد المسؤولين عن ملف العلاقات الخارجية.
(6) منى البشير، السودان يكسر طوق العزلة بعاصفة الحزم، موقع سودانايل، 29 مارس/آذار 2015،
(7) صحيفة العربي الجديد، دور السودان في عاصفة الحزم: فتح منافذ البحر الأحمر، 26 مارس/آذار 2015،
 (8) البشير: صدور أوامر لكل البنوك السعودية باستئناف عملها في التحويلات المالية من وإلى السودان، موقع صحيفة الركوبة السودانية، 7 إبريل/نيسان 2015،
(9) العزلة الخارجية وأزمة الداخل تدفعان الخرطوم نحو عاصفة الحزم، صحيفة العرب، 8 إبريل/نيسان 2015،
(10) وليد النور، تحالفات عاصفة الحزم: مرحلة جديدة في العلاقات الإقليمية، صحيفة المجهر السودانية، 1 إبريل/نيسان 2015،
(11) د. خالد محمد حنفي، مرجع سابق.
(12) مجلة بريطانية رصينة ترجِّح مصداقية الوثيقة الأمنية المسرَّبة، صحيفة حريات السودانية، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2014،
(13) ما أبعاد قرار السودان بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية؟ موقع بي بي سي عربي، 3 سبتمبر/أيلول 2014،
(14) البشير لـ«الشرق الأوسط»: إغلاق المراكز الإيرانية ليس تمويهًا للخليجيين. الرئيس السوداني: نجحنا في إزالة الفتور مع السعودية، الحوثيون أخطر من «داعش»، صحيفة الشرق الأوسط، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2014،
(15) صحيفة العرب اللندنية، خطوات سودانية وئيدة تُبعد الخرطوم عن طهران وتقرِّبها من الرياض، 26 مارس/آذار 2015،
(16) ما وراء التحول في علاقات الخرطوم وطهران، صحيفة التغيير الإلكترونية، 5 إبريل/نيسان 2015،