دولة الجبل الأسود: التحول السياسي والمستقبل

انتقلت دولة الجبل الأسود من تحت مظلة الحكم الشمولي في يوغسلافيا السابقة إلى مظلة حكم آخر سلميًّا لكن العديد من مظاهر الاستبداد لا يزال قائمًا فيها ويتمثل بحكم أوليغارشية فاسدة تختبئ وراء واجهةٍ ديمقراطية؛ ما يجعل مستقبلها مفتوحًا على أكثر من احتمال.
20145562322407734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
تتناول الورقة طبيعة النظام السياسي في جمهورية الجبل الأسود ومستقبله انطلاقًا من نظرية "المركز والأطراف" التي وضع إيمانويل ولرشتاين أُطرها العامة، ليصنِّف الكاتب أزمة النظام السياسي للجبل الأسود ضمن إطار نفس الأزمة التي تعيشها بلدان العالم الرأسمالي التي هي في حالة "تهاوي" وعلى مختلف الأصعدة حتى عام 2050.  ويقول الكاتب: إن السلطة في الجبل الأسود تهيمن على المشهدين السياسي والاقتصادي بتحالفها مع أوليغارشية متنفِّذة ويصفها بالفاسدة والفاقدة للشرعية، وأنها تشبه الأنظمة "الجاثمة" على شعوب العالم العربي، لهذا جاء "ربيع الجبل الأسود" متأثرًا في بعضه بثورات العالم العربي. وتخلص الورقة إلى أن الجبل الأسود أمام مستقبل مفتوح على ثلاثة احتمالات: فإمَّا السقوط في دائرة الاضطرابات والعنف الداخلي، أو بدء تحول ديمقراطي حقيقي، أو الانتهاء إلى فرض ديكتاتورية مطلقة دون مقاومة داخلية. 

المقدمة

يندرج تحت هذه المقدمة عناوين ثلاثة أساسية:

العام، الخاص المشترك، الذاتي
تنطبق جدلية العام والخاص المشترك والذاتي على دولة الجبل الأسود تمامًا كما هي منطبقة على باقي دول عالمنا اليوم. أمَّا العام فيتمثل في انتماء دولة الجبل الأسود إلى عام ما بعد الحرب العالمية الباردة، في حين يكمن خاصُّه المشترك في كونه ينتمي إلى الفضاء الجيوسياسي لمنطقة ما بعد حروب يوغسلافيا التي شهدتها بلدان غرب شبه جزيرة البلقان، وكان للجبل الأسود نصيب من تلك الحروب في الربع الأخير من القرن الماضي، في حين يكون الذاتي لدولة الجبل الأسود متمثلًا في ما يميزها من خصوصيات وتجارب فريدة. وفي ما يأتي من تحليل، سيُبيِّن أن جدلية العام والخاص المشترك والذاتي، هي أحد المرتكزات الثلاثة التي ينبني عليها حاضر ومستقبل دولة الجبل الأسود.

العلوم البديلة
الأزمة الحالية التي يشهدها النظام الرأسمالي القائم على أحادية القرار السياسي منذ العام 2008، لا تُمثِّل سوى جزء من تاريخ الأزمة العالمية التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي. ولا يمكن فهم تلك الأزمة، فضلًا عن السيطرة عليها في إطار العلوم والسياسات القديمة التي أفرزتها الرأسمالية؛ إذ إن فهمها وحلَّ معضلاتها يتطلب بالضرورة علومًا وسياسات جديدة بديلة، وإذا ما تعلَّق الأمر بالعلوم الاجتماعية، فإن هذه الدراسة ستعتمد على نظرية إيمانويل ولرشتاين التحليلية للنظام العالمي، وستوظف بعضًا من منطلقات تلك النظرية بما يخدم الموضوع.

ومن ذلك أن النظام العالمي الرأسمالي ينهض على هيكلية تضع، من حيث التقسيم المكاني، المركز في المقدمة ثم تليه الأطراف فأنصاف/أو شبه  الأطراف، أمَّا من حيث الزمن فتقوم على تتالي الإيقاعات الدورية من صعود وهبوط للأنظمة وللاتجاهات السياسية العلمانية؛ يبدو هذا النظام اليوم في حالة تهاوٍ على مختلف الأصعدة، تمامًا كما هو الأمر بالنسبة للهيمنة الأميركية المطلقة التي هي جزء من ذلك النظام؛ وستتواصل عملية التهاوي هذه إلى حدود العام 2050، عندما سننتظر ولادة نظام تاريخي جديد، قد يكون أفضل أو أسوأ، ليحل محل النظام الرأسمالي الذي قاربت مرحلة هيمنته على نصف الألفية(1).

هذا وقد أمكن، منذ العشريتين اللتين تليتا فترة الحرب العالمية الباردة، التمييز بين مرحلتين؛ امتدت الأولى ما بين 1989-2001 وكانت تلك مرحلة صحوة بطيئة وصعبة تميزت بانكسار الحلم الأميركي أحادي الجانب، وكانت أبرز مظاهره تجليًا هو ما حدث في مرحلة ما بعد حروب يوغسلافيا، في حين كانت المرحلة الثانية التي امتدت على طول الفترة من 2001 إلى 2013 تتميز بتعددية قطبية غير منظَّمة، متوحشة وخطيرة، فبعد إطلاق ما يُسمَّى بالحرب على الإرهاب في كل من أفغانستان والعراق مع بداية الألفية الثانية، فإن هذه الحرب تشهد اليوم تصعيدًا أكبر خاصة في سوريا وأوكرانيا. 

فك ارتباط سلمي
يمكن أن نربط بين بعض العناصر العامة والخاصة السابقة وبين ما عاشته دولة الجبل الأسود، باعتبارها حالة فريدة وخاصة، في خمس وعشرين سنة الماضية، ومن بين عناصر الربط تلك يبرز عنصران يفرضان نفسيهما بقوة ويجب أن يسترعيا اهتمامنا على الدوام:

  • أولًا: من بين الجمهوريات الست المؤلِّفة ليوغسلافيا السابقة، فإن جمهورية الجبل الأسود التي حافظت على الاعتراف بها كجمهورية منذ مؤتمر برلين 1878، كانت هي الوحيدة التي تمكَّنت من إعادة بناء الجمهورية والاستقلال عن صربيا عن طريق إجراء استفتاء في العام 2006 دون أن تشهد مرحلة انتقال مثقل بالعنف فوق أراضيها.
  • ثانيًا: الجبل الأسود هي الدولة الوحيدة، من بين جمهوريات يوغسلافيا السابقة الست، والدولة الوحيدة في أوروبا، وإحدى الدول القليلة في العالم، التي يُواصل فيها حزب -حزب رئيس الوزراء ميلو دجوكانوفيتش وأوليغارشيته، حزب الاشتراكيين الديمقراطي- منذ 25 عامًا السيطرة على الحكم في البلاد دون تغيير يُذكر، وذلك رغم إدخال تعديلات دستورية تسمح بالتعددية الحزبية منذ 1990.

 في نقد الطبقة الحاكمة

يُهيمن خطاب الطبقة الحاكمة على واقع الحياة اليومية المتأثر بالأيديولوجيات المسيطرة، وانتقاد تلك الأيديولوجيات أمر مفهوم عادة، غير أنه في هذا التحليل يتخذ بُعدًا خاصًّا، لأنه في زمن التهاوي الشامل هذا، فإننا قد بلغنا أيضًا مرحلة تهاوي الأزمات والامتناع عن نقد العلوم، وهذه ملاحظة محورية يجب اعتبارها على الدوام.  

1- إطالة أمد الصدمة بين الإثنيات وجملة العلاقات البينية وبين مفهوم الهوية تحت ما يُسمى بـ"الدولة المدنية متعددة الثقافات"

بدأت إطالة أمد الصدمة بين الإثنيَّات وجملة العلاقات البينية وبين مفهوم الهوية منذ فترة ما بعد حروب يوغسلافيا في تسعينات القرن الماضي، هذا بالإضافة إلى كل التضييقات، بل وحتى زيف الخطاب الرسمي حول "الدولة المدنية متعددة الثقافات"، ويمكن رصد هذا من خلال مؤشرين اثنين: أولهما: طغيان التمثيل الإثني للأغلبية مقابل ضعفه لدى مختلف الجماعات الإثنية الأقلية داخل إدارات مؤسسات دولة الجبل الأسود، أمَّا المؤشر الثاني فهو عملية مكافحة التطهير. 

التفاوت في التمثيل داخل إدارات المؤسسات الرسمية بين الإثنيات ليس بسيطًا، وذلك واضح حتى في الإحصاءات الرسمية للحكومة وتحديدًا في إحصائيات مختلف وزارات الدولة في الجبل الأسود، وهي إحصاءات منحازة على الأرجح وتخدم الخطاب الرسمي للحكومة، ومع ذلك فإنها تُظهر تفاوتًا كبيرًا، فوفقًا لتلك الإحصاءات المنشورة في العام 2012، نقرأ النِّسب التالية: تبلغ نسبة مواطني الجبل الأسود 44,9% من مجموع السكان ويُمثِّلون بما نسبته 79% في الإدارة العمومية، في حين لا يشغل الصرب، الذين يبلغ تعدادهم 28,7% من مجموع السكان سوى 8,6% من المناصب الإدارية الرسمية، أمَّا البوشناق المسلمون فيشكِّلون 12% من مجموع سكان الجبل الأسود ويعمل منهم 4,9% فقط في الدوائر الحكومية الرسمية، ثم يليهم الألبان الذين تبلغ نسبتهم في المجتمع 4,9% ويُمثَّلون في الإدارة العمومية بما نسبته 2,8%(2).

هذا التفاوت الكبير في تمثيل الأقليات الإثنية العاملة داخل مؤسسات الإدارة العامة في الجبل الأسود هو أحد تمظهرات الإرث الذي خلَّفته حروب يوغسلافيا التي عرفتها المنطقة في فترة التسعينات من القرن الماضي، لكن مشاكل الجبل الأسود مع ذلك الإرث لم تنتهِ عند هذا الحدِّ فحسب؛ إذ بدلًا من استيعاب ثقل ذلك الإرث التاريخي ومواجهته بحلول ديمقراطية، فإننا نجد أن الأوليغارشية الحاكمة تعمل على الدوام من أجل توظيفه واستغلاله بكل الطرق للتلاعب بقضية الإثنيات ولشيطنة المعارضة. ويبدو واضحًا أن الطبقة الحاكمة، المتسلِّطة والماسكة بالسلطة منذ أمد بعيد، لا يمكنها التعامل مع هذه القضية بغير هذا النهج.

تلك الطبقة الحاكمة نفسها كانت في سنوات التسعينات جزءًا من سياسة سلوبودان ميلوشيفيتش العدوانية والمنادية بفكرة صربيا الكبرى؛ حيث كان أعداؤها في تلك المرحلة "الأوستاشا جبل الأسوديين" (أي جبل الأسوديين الذين ساندوا ودعموا استقلال الجبل الأسود)، و"المجاهدين" (أي المسلمين/البوشناق)، فضلًا عن باقي المعارضين لآلة الحرب العدوانية. غير أنه وبعد مغادرة ميلوشيفيتش الحكم في العام 1998-1999، تحول زعماء الطبقة الحاكمة إلى "مناضلين جبل أسوديين" و"دعاة إلحاق بلدهم بأوروبا"، وبالتالي تحول أعداؤهم ليصبحوا "التشتنيك" (أي الصرب وغيرهم من المعارضين لهم).

إن مواصلة بقاء الطبقة الحاكمة المتشبثة بالسلطة في سُدَّة الحكم لفترة طويلة وعدم إمكانية تغييرها هو المعطى الذي بدونه لا يمكن فهم المؤشرين المُشار إليهما أعلاه، واللذين ملخصهما في التالي:

  • طغيان التمثيل الإثني للأغلبية مقابل ضعفه لدى مختلف الجماعات الإثنية الأقلية داخل إدارات مؤسسات دولة الجبل الأسود.
  • عملية مكافحة التطهير؛ حيث حاولت الفئة المعارِضة للحرب من المواطنين، وفي أكثر من مناسبة، إطلاق حملة تطهير، أي منع رئيس الطبقة الأوليغارشية ميلو دجوكانوفيتش وغيره من القيادات العليا للحكومة من ممارسة وظائف عمومية، وذلك بسبب مسؤوليتهم السياسية المُثبَتة في عدد من جرائم الحروب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة خلال فترة التسعينات. 

وبطبيعة الحال فإن الطبقة الحاكمة، الممسكة والمتشبثة بالسلطة بكل ثمن، لم تقبل بهذه المبادرة، كما لم يكن هناك أي تأثير يُذكر أو ضغط مُمارَس من قبل المفوضية الأوروبية أو الجهات الدولية الأخرى. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الحكومة اضطهدت بقسوة، ولاحقت بكل الطرق، كل أولئك الذين كانت لهم الشجاعة في الإدلاء بشهاداتهم حول فساد الحكومة السياسي ومسؤوليتها الجنائية أيضًا في كل تلك الجرائم(3).

2- النظام الاقتصادي والسياسي: الالتفاف الكبير من الأطراف إلى الأطراف، ومن أحادية الحزب الحاكم إلى الأوليغارشية الرأسمالية 1989-2014.

حتى عندما يتعلق الأمر بالحديث عن نظامها السياسي والاقتصادي، فإن الأوليغارشية الحاكمة تقدِّم وصفات مغلوطة ومبالغًا فيها من قبيل أنها مع سياسة "اقتصاد السوق" و"الديمقراطية الليبيرالية"، وأن معدلات اقتصادها هي "الأعلى نموًّا" وأنها "الأفضل في المنطقة"، وهكذا دواليك... أمَّا الحقيقة فعلى النقيض من ذلك تمامًا.

فبحسب تقديرات خبراء اقتصاديين محايدين، فإن جمهورية الجبل الأسود، وبعد ربع قرن كامل منذ انهيار الاتحاد اليوغسلافي، بالكاد وصلت إلى نقطة النمو الاقتصادي الأولى وتجاوزت حالة الركود الذي كانت تعيشه منذ 1990، وهي في ذلك لا تختلف في شيء عن باقي جمهوريات ما بعد الاتحاد اليوغسلافي(4).

أمَّا فيما يتعلق بمكافحة الفقر، فقد بلغت نسبة الفقراء فقرًا مدقعًا ما يعادل 10%، في حين يعيش 30% فقرًا نسبيًّا، وبذلك فإن الجبل الأسود هو الدولة الأولى على هذا الصعيد، حتى بالمقارنة مع باقي الدول الأخرى في المنطقة التي تعرضت لحرب مدمرة(5).

نفس الشيء نلاحظه بالنسبة لـما يمكن وصفه بـ"نمو" مستويات الفساد المالي والجريمة المنظمة، وقد باتت جمهورية الجبل الأسود، برئاسة ميلو دجوكانوفيتش، من بين بعض الأمثلة النموذجية حيث تلتقي "مافيا الدولة" مع ما يوصفون بـ"اللاعبين المندمجين"، وأصبحت واحدة من تلك البلدان التي لم تتعرض فقط للتأثير الأجنبي، وإنما عرفت كذلك انصهارًا كاملًا لأعلى هرم السلطة مع أعلى هرم زعامات الجريمة المنظمة(6)، وهذا وفق ما نشرته واحدة من أشهر المجلات وأكثرها تخصصًا في مثل هذا النوع من القضايا(7).

3- المقاومة والبدائل 2011-2014: من انطلاق أُولى الاحتجاجات الضعيفة إلى تشكُّل الكتلة الضاغطة والفاعلة
لقيت محاولات الطبقة الرأسمالية الحاكمة تحميل كامل تبعات الأزمة العالمية للنظام الرأسمالي في عام 2008 إلى الطبقات الوسطى والضعيفة، ردًّا عالميًّا مُقاوِمًا اختلفت تمظهراته وحالف بعضه نجاحًا نسبيًّا.

وفي هذه المرة، انطلقت المقاومة وتم تقديم البديل من دائرة -نصف أو شبه- الأطراف متمثلة في "بلدان الربيع العربي" عام 2011، ثم تواصلت مقاومة تلك الحركات المقاومة داخل مراكز النظام العالمي مع حركة "احتلُّوا وول ستريت" في نيويورك، وحركة "إينديغنادوس Indignados" في مدريد، وغيرهما خلال عام 2010 وما بعده.

هذه الموجة الطويلة والمتمددة من المظاهرات لم تتخطَّ دولة الجبل الأسود الصغيرة، ففي العام 2011 بدأت أولى المظاهرات الرمزية على المستوى الافتراضي عبر فيس بوك والتي عُني بها بضع مئات من المواطنين. بعد ذلك، وفي منتصف العام 2010، تشكَّلت مظاهرات سلمية خرج فيها بضع عشرات آلاف المحتجين، تقودهم منظمة غير حكومية واحدة تُسمَّى "شبكة تعزيز دور القطاع غير الحكومي(MANS) "، وبزعامة القيادية فانيا تشالوفيتش، الملقبة بجان دارك الجبل الأسود. وأُطلق على تلك المظاهرات وصف "ربيع الجبل الأسود" وهو توصيف تأتَّى من كون تلك المظاهرات تأثَّرت بـ"الربيع العربي"؛ وذلك على مستويين: أولًا: لقد أثارت الاحتجاجات في العالم العربي الإعجاب بها داخل الجبل الأسود، وثانيًا: تشابه طبيعة الأنظمة الأوليغارشية الجاثمة على السلطة، والتي تتشابه كثيرًا هنا وهناك.

وأخيرًا، ومنذ النصف الثاني من العام 2012 وصولًا إلى العام 2014، بدأ ارتفاع منسوب الغضب الشعبي مع الاحتجاجات التي شهدتها شوارع البلاد يؤثِّر شيئًا فشيئًا على الانتخابات ونتائج الصناديق، وبالمقابل تجاهل كل من الحزب الحاكم والأوليغارشية تلك النتائج بشكل كبير، وذلك بأشكال مختلفة تنوَّعت ما بين وضْعِ عددٍ لا متناهٍ من العراقيل أمامها وصولًا إلى تدميرها بأعتى درجات القسوة. وهكذا استطاع الحزب الحاكم مدعومًا بالأوليغارشية الاحتفاظ بالسلطة بعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2012، وذلك بفضل التحالفات التي عقدها بعد الانتخابات، والتي كانت نتيجة لحملة من هندسة الفساد. أمَّا الأدهى من ذلك، فهو وجود عدد هائل من الأدلة على أن السلطة سرقت -وبشكل مباشر- انتخابات الرئاسة التي جرت في إبريل/نيسان 2013. وبشكل مغاير بعض الشيء، وبطريقة غير مباشرة، تم تجاهل بل وسحق المادة الثانية من دستور جمهورية الجبل الأسود، التي تقول: "إن السلطة في الجبل الأسود لا يمكن أن تُبنى إلا على الرغبة الحرة للشعب". وتم تجاوز الدستور بنفس الطريقة أيضًا خلال الانتخابات المحلية في مدن نيكشيتش عام 2103 ثم في بودغوريتسا منتصف العام 2014.

أمَّا ذروة الأعمال المنافية للقانون والعنف الممارَس من قبل الحزب الحاكم والأوليغارشية فقد تم الكشف عنها عبر ما يسمى بفضيحة التسجيل الصوتي 2012-2014(8). وأظهرت هذه الفضيحة ما لا يقل عن ثلاث حقائق:

  • أولًا: أظهر تسجيل صوتي لجوء زعامات الحزب الحاكم وقيادات الأوليغارشية، وهم يتصرفون كأخطر العصابات الإجرامية ويخططون وينفذون بشكل منهجي سلسلة من أخطر الجرائم ضد الثوابت التي بُني عليها الدستور، أي ضد الرغبة الحرة للشعب.
  • ثانيًا: عدم خضوع تلك التجاوزات للتحقيق إلى يومنا هذا، حتى رغم المطالبات المتكررة التي تقدمت بها المفوضية الأوروبية، وهو ما أظهر حقيقة أخطر تتمثل في أن النظام القضائي، وبشكل أخص مؤسسة الادعاء العام في الدولة والتي من واجباتها حماية الدستور والقانون- قد تم اختطافها من طرف الأوليغارشية.
  • ثالثًا: أن مجمل النظام الأوليغارشي بواجهته الديمقراطية في الجبل الأسود مشكوك فيه، أو بالأحرى نزع الشرعية عن نفسه بشكل كامل ونهائي.

 المستقبل القريب والبعيد

فيما يتعلق بالمستقبل القريب، أي خلال الفترة الممتدة من العام إلى الأعوام الخمسة القادمة، وانطلاقًا من هذه الوضعية فإن هناك خيارين مُمكني التحقق، بالإضافة إلى قيام احتمالين آخرين مع إمكانية تحقق أقل:

فإمَّا السقوط في دائرة الاضطرابات والعنف الداخلي بأشكال ومستويات متفاوتة، و (أو) بدء تحول ديمقراطي حقيقي، وهذان هما الخياران القابلان للتحقق.

أمَّا الاحتمالان ضعيفا إمكانية التحقق فيتمثلان إمَّا في تواصل الوضع على ما هو عليه، أو تحوله إلى فرض ديكتاتورية مطلقة دون مقاومة داخلية.  

وبالنسبة لإمكانية تحقق الاحتمال الإيجابي أم السلبي في الفترة الحالية، فهذا يعتمد على ثلاثة فاعلين على الأقل: الفاعل الأول: هو الطبقة الحاكمة الأوليغارشية، والثاني: هو المعارضة والحركات البديلة، في حين سيكون الفاعل الثالث هو اللاعب الدولي، وبالأخص الاتحاد الأوروبي.

من السهل التنبؤ بسلوك الأوليغارشية الحاكمة، فمن هؤلاء يمكننا في المستقبل انتظار استمرارهم في سياسة العنف بل وحتى في لجوئهم إلى أقصى درجات العنف، فسلوكهم الحالي قبل وبعد الانتخابات لا يعدو أن يكون سوى استمرارهم في السياسة القومية العدوانية بل وسياسة الإبادة الجماعية التي انتهجها الحزب الحاكم وأوليغارشيته خلال التسعينات من القرن الماضي، لكن بوسائل مختلفة.

أمَّا التنبؤ بسلوك المعارضة والبدائل فهو أمر أصعب، ففي السنوات الأخيرة أظهرت المعارضة تطورًا ووعيًا أكثر لكن ليس بما يكفي، كما أن حجمها ووزنها على الساحة لا يزالان غير واضحيْن تمامًا، ويبقى الاختبار الأساسي بالنسبة لها، هو مدى عملها على توحيد صفوفها إيجابيًّا للتعامل خاصة مع الإرث السلبي في العلاقات الإثنية البينية وغيرها من الصدمات التي خلَّفتها حروب عقد التسعينات من القرن الماضي.

يبدو أن الأكثر صعوبة هو توقع سلوك المجتمع الدولي؛ ففي ضوء امتداد فترات الجمود الداخلي التي لا تزال تعيشها جمهورية الجبل الأسود، فإن دور المجتمع الدولي يمكن أن يكون حاسمًا ومحدِّدًا. يبقى من الصعوبة بمكان إذن توقع سلوك المجتمع الدولي، ذلك لأن سلوكه في الوقت الراهن، وبالنظر إلى المعطيات الجديدة التي يمر بها العالم غير المنتظم ومتعدد الأقطاب بشكل متوحش، أصبح يتسم بالغموض والتناقض. في السنوات الأخيرة، بات المعطى الدولي، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وعلى الأخص المفوضية الأوروبية، تقوده زعامات غير مستقرة وبرؤى قصيرة، ويبدو جليًّا أنها تعمل على مساندة الأوليغارشية الحاكمة وزعاماتها أكثر من عملها على دعم مؤسسات المجتمع المدني والحركات البديلة. وبالنسبة للمستقبل البعيد، أي خلال العقود الثلاثة إلى الأربعة القادمة، فإن نسبة عدم الوضوح تبدو أكبر بكثير، وبالتالي فإن توقع ما ستؤول إليه الأوضاع يبدو أكثر تعقيدًا وصعوبة.

والجدير بالقول في ختام الورقة: إنه في القرن التاسع عشر، عندما كان النظام الاشتراكي العالمي في طور الصعود، كان في وسع كارل ماركس أن يكتب (في تقديمه للطبعة الثالثة من كتابه "رأس المال") كيف أن الدول الأقل نموًّا وتطورًا، أي بلدان الهامش والأطراف في ذلك الزمان، كان يمكنها رؤية صورة تطورها في المستقبل، من خلال صورة أكثر البلدان تطورًا ونموًّا مثل إنكلترا وغيرها من مراكز النظام الرأسمالي في تلك الحقبة، إلا أننا اليوم، في القرن الحادي والعشرين، أي قرنًا ونصفًا بعد ذلك، في زمن التهاوي المستمر والطويل لهذا النظام، فإن الأمر لم يعد كذلك، بل إن صورته انعكست رأسًا على عقب. فالمجتمعات والشعوب التي تعيش في مراكز النظام العالمي المعاصرة يمكنها أن ترى صورتها المستقبلية في صورة بعض تمظهرات ذلك المزيج المركَّب بين الإقطاعية الجديدة والفاشية الجديدة كما هو واقع بعض الدول، وهي صيغة تختلف شيئًا ما عن الصيغة القائمة في الجبل الأسود وغيره من دول غرب البلقان؛ حيث نجد تحالفات بين الرأسمالية والفئة السياسية مع واجهة ديمقراطية.

ومهما يكن من أمر، وفي أدنى التوقعات، فقد يكون إلمام الفاعلين الدوليين بالمعطيات المشار إليها أعلاه بمثابة ناقوس تحذير للمجتمع الدولي حتى يكون في المستقبل أكثر حرصًا ومسؤولية، وأن يتمتع بنظرة أكثر شمولية واستراتيجية عندما يقرر: هل سيدعم، في الجبل الأسود وغيره من الأنظمة الشبيهة، المواطنين أم الأوليغارشية؟
________________________________________
ميلان بوبوفيتش - أستاذ القانون الدولي في جامعة بودغوريتسا، الجبل الأسود.
 
ملاحظة: النص أُعِدَّ في الأصل باللغة الصربية وترجمه إلى العربية كريم الماجري.

الهوامش
1- Wallerstein, 1998; Wallerstein, 2003
2-   Medijski monitoring, 2013; Popis 2011, 2011: str. 8
3- أبرز الأمثلة على ذلك: ملاحقة سلوبودان بيوفيتش، الشاهد على جرائم الحرب والتهجير المرتكبة في حق المسلمين/البوشناق عام 1992؛ وإبراهيم تشيكيتش، الذي كان ضحية للتعذيب الممارَس من طرف رجال الشرطة، والشاهد على الفساد القضائي وعمليات تزوير واسعة لوثائق تتعلق بحرب الإبادة الجماعية المرتكبة ضد المسلمين/البوشناق في الجبل الأسود 1994-2014. راجع:
 (Popovi? i Kova?evi?, 2010: 235-245)
4- ?izmovi? i Popovi?, 2014
5- ISSP i UNDP, 2009
6- إن هذا النوع السلبي من ديناميات نظام الاستبداد والفقر، شُخِّص في تحليلين واضحين، الأول: هو "تنمية التخلف" للكاتب الهولندي العالمي أندري غوندر فرانكا، الصادر عام 1976، أمَّا التحليل الثاني فقد ورد تحت عنوان "الالتفاف الكبير من الأطراف إلى الأطراف"، لمؤلِّفه الاقتصادي المجري، إيفان بيريند، والذي صدر بعد بضع سنوات من بدء تنفيذ خطط التنمية لما بعد العهد الاشتراكي 1996. وقد بنى كاتب الورقة –بوبوفيتش- تحليله هنا على التحليلين المذكورين.
7- Naim, 2012
8- نشرت الصحيفة اليومية المستقلة "دان" في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 مضمون الجلسة التي عقدها المكتب التنفيذي لحزب الاشتراكيين الديمقراطي بزعامة ميلو دجوكانوفيتش، وجاء التسجيل على لسان زعامات الحزب، ومن بينهم موظفون سامون في أجهزة الدولة, كيف أنهم قاموا بمنح وظائف لمناصريهم من منتسبي الحزب، واستغلوا مناصبهم لإساءة استخدام موارد الدولة بهدف ضمان نجاحهم ونجاح حزبهم في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في أكتوبر/تشرين الأول عام 2012. وقد أربك محتوى التسجيل الساحة السياسية والاجتماعية في جمهورية الجبل الأسود وأكَّد بالدليل وجود علاقات وثيقة مشبوهة بين الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة. يمكن الاطلاع على الرابط الخاص بالتسجيل الصوتي:
https://www.youtube.com/watch?v=obD1LuHl6E0

قائمة المراجع
• Berend, Ivan T. (1996). Central and Eastern Europe, 1944-1993. Detour From The Periphery To The Periphery. Cambridge, UK: Cambridge University Press (CUP).
• ?izmovi?, Mirjana i Popovi?, Milenko (2014). „Causes of Growth in Transitional Economies 1990-2012: Comparative Analysis,“ http://hdl.handle.net/10419/104005
• Frank, Andre Gunder (1976). „Razvoj nerazvoja,“ u Marksizam misao savremene epohe. Beograd: Slu?beni list SFRJ.
• ISSP i UNDP (2009). Nacionalni izvještaj po mjeri ?ovjeka: [Siromaštvo u Crnoj Gori i] Društvena isklju?enost: Radna verzija. Podgorica: ISSP i UNDP. [Upore?enje: ISSP i UNDP (2005). Izvještaj o humanom razvoju u Crnoj Gori. Podgorica: ISSP i UNDP.]
• Medijski monitoring (2013). Do društva jednakih šansi. Medijski monitoring reforme javne uprave u Crnoj Gori. Podgorica: Monitor.
• Naim, Moises (2012). „Mafia States: Organized Crime Takes Office,“ Foreign Affairs, May-June 2012.
• Popis 2011 (2011). Popis stanovništva u Crnoj Gori 2011. Saopštenje. Podgorica: Zavod za statistiku Crne Gore, 12. jul 2011. http://www.monstat.org
• Popovi?, Milan (2015). Genezis. Altervizija 2012-2015. Podgorica: Vijesti. U pripremi.
• Popovi?, Milan (1995). Ritam sveta. Škola svetskog sistema Immanuela Wallersteina. Podgorica: Centar za izdava?ku djelatnost (CID); http://www.milanmpopovic.info
• Popovi?, Milan i Kova?evi?, Filip (2010). „Montenegrin Counter-Lustration, 1991-2009,“ in W. Petrisch and V. D?ihi?, Eds., Conflict and Memory: Bridging Past and Future in [South-East] Europe. Baden-Baden, Germany: Nomos; http://www.milanmpopovic.info
• Wallerstein, Immanuel (2003). The Decline of American Power. The U. S. in a Chaotic World. New York and London: The New Press.
• Wallerstein, Immanuel (1998). Utopistics. Or Historical Choices of the Twenty-First Century. New York: The New Press.

نبذة عن الكاتب