انتفاضة السكاكين: الديناميات والآفاق (تجربة)

اعتمد الفلسطينيون هذه المرة على طعن المحتلين الإسرائيليين بالسكاكين للدفاع عن أرضهم وكرامتهم، فاختاروا طريقا جديدا يختلف عن الانتفاضتين الأولى والثانية، أربك حسابات حكومة نتنياهو.
15 نوفمبر 2015
525af18a0dff461c892ee9ca4c2fc016_18.jpg
ترويج تجاري لانتفاضة السكاكين (رويترز) [Reuters]

تناقش هذه الورقة المواجهات المستمرة في الضفة الغربية بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي والتي اندلعت بشكل مكثف بعد عملية الطعن التي نفَّذها مهنَّد الحلبي وقتل خلالها إسرائيليين، وأصاب اثنين آخرين، في عملية طعن وإطلاق نار في مدينة القدس في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. تدحرجت الأحداث فيما بعد وتصاعدت عمليات الطعن وتكثَّفت بصورة غير مسبوقة في الصراع العربي-الإسرائيلي مما طرح تساؤلًا جوهريًّا عن قدرة هذه العمليات ذات الطابع الفردي والعشوائي على الانتقال إلى مرحلة متقدمة من العمل الجماعي المنظَّم.

تفترض الورقة أن نجاح الحراك وعمليات الاحتجاج سوف تتوقف على مجموعة من العوامل، أهمها:

  1. تحويل العمل الفردي العشوائي إلى قيادة متماسكة وبرنامج سياسي موحَّد يهدف إلى إدارة الاحتجاجات وتطويرها.
  2. توسيع المواجهات لتشمل مناطق وشرائح اجتماعية جديدة.
  3. تفاعل السلطة والفصائل الفلسطينية إيجابيًّا مع التحركات الشعبية.

فعلى العكس من الانتفاضتين: الأولى (1987-1993) والثانية (2000-2005) والتي لعبت فيهما الفصائل الفلسطينية دورًا مركزيًّا في عمليات الحشد والتعبئة، لا تزال الأحداث الجارية، في معظمها، تتسم بالعمل الفردي العشوائي. وبالرغم من ذلك، فقد استطاعت الطبيعة غير المنظمة للهجمات بالسكاكين أن تعزِّز الشعور بالخوف والفوضى لدى الإسرائيليين وفقدان الأمن الشخصي.

رويج تجاري لانتفاضة السكاكين (رويترز) [Daylife]

شرارة الأحداث

انطلقت المواجهات الأخيرة بعد تزايد المحاولات الإسرائيلية الساعية إلى تقسيم المسجد الأقصى مكانيًّا وزمانيًّا بين المسلمين واليهود وبالتالي تغيير الوضع القائم. وأخذت هذه المحاولات بُعدًا جديدًا في الأشهر القليلة الماضية بتكثيف الاعتداءات على المرابطين في المسجد، وخاصة النساء، وإذلالهم على أبوابه.

تُشكِّل مدينة القدس قلب الأحداث ورمزًا موحدًا للفلسطينيين؛ حيث تتمتع المدينة بمكانة دينية مميزة لدى المسلمين. احتلَّت إسرائيل مدينة القدس، والتي كانت تخضع في تلك الفترة للسيطرة الأردنية، في يونيو/حزيران عام 1967 وقامت على الفور بإخضاعها للسيادة والقوانين والنظم الإدارية الإسرائيلية. وفي عام 1980، أقرَّ الكنيست الإسرائيلي القانون الأساسي معتبرًا المدينة بشطريها الغربي والشرقي عاصمة موحَّدة لإسرائيل ومقرًّا للإدارات الحكومية والسيادية بما فيها الكنيست والمحكمة العليا (1). ومنذ ذلك الحين، تبنَّت إسرائيل استراتيجية مكثَّفة لتهويد المدينة وطمس معالمها الدينية والتاريخية الإسلامية وإعطائها الطابع اليهودي.

أسفرت اتفاقية وادي عربة، الموقَّعة بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل في عام 1994، عن منح الأردن دورًا خاصًّا وأفضلية في إدارة الأماكن الإسلامية المقدسة في مدينة القدس. حافظت الأردن على دورها في إدارة الأماكن الدينية بعد إنشاء السلطة الفلسطينية التي بدأت، هي الأخرى، تتمتع ببعض النفوذ في المدينة؛ حيث سمحت لها إسرائيل بوجود بعض المؤسسات الفلسطينية (مثل بيت الشرق) (2) ، ووجود بعض عناصر الأمن بلباس مدني وذلك لضبط الوضع الأمني وخاصة في المسجد الأقصى. ولكن تغير هذا الوضع بعد اندلاع الانتفاضة الثانية وقيام إسرائيل بإغلاق بيت الشرق وإنهاء السيطرة الأمنية المحدودة للسلطة الفلسطينية في المدينة.

وبالرغم من أن إسرائيل استمرت في سياساتها التهويدية في المدينة المقدسة منذ احتلالها إلا أنها بدأت خلال السنوات القليلة الماضية باتباع سياسات مكثفة لترسيخ تقسيم المسجد الأقصى زمانيًّا -أي السماح لليهود بزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه تحت حراسة قوات الشرطة في أوقات محددة-. وبات من الواضح لدى الكثير من الفلسطينيين أن الخطوة التالية التي تنوي إسرائيل تنفيذها ستكون تقسيمه مكانيًّا، أي من خلال بناء هيكل سليمان مكانه. أظهر استطلاع رأي، قام به المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله قبل أسابيع قليلة (17-19 سبتمبر/أيلول) من اندلاع المواجهات، أن غالبية الفلسطينيين (50%) يعتقدون أن إسرائيل تسعى لتدمير المسجدين الأقصى وقبة الصخرة وبناء كنيس يهودي مكانهما. كما تعتقد نسبة 21% من المستطلعة آراؤهم أن إسرائيل تخطِّط لاقتسام المكان مع الفلسطينيين، ونسبة 10% تعتقد أنها تريد تغيير الوضع الراهن بالسماح لليهود بالصلاة في الحرم. فقط نسبة 12% يعتقدون أن إسرائيل تريد الحفاظ على الوضع الراهن. ومما يزيد من قلق الفلسطينيين أن الغالبية منهم (50 في المئة) يعتقدون أن إسرائيل سوف تنجح في ذلك، مقابل 48 في المئة لا يعتقدون أن المخططات الإسرائيلية سوف تنجح (3).

الأسباب الهيكلية المفجِّرة للنزاع

لا يمكن إنكار أن محاولات إسرائيل تغيير الأمر الواقع في المسجد الأقصى تُعتبر سببًا رئيسيًّا في تفجر الأحداث الحالية ولكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار الأسباب الهيكلية العميقة التي أسهمت أيضًا بصورة كبيرة في تأجيج الأزمة. لقد بات واضحًا لدى الغالبية العظمى من الفلسطينيين سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي أن مسار عملية السلام قد انتهى ولم يعد هناك أمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967، وهو ما عبَّر عنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشكل واضح في شهر سبتمبر/أيلول الماضي خلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما أعلن أن الاتفاقيات الفلسطينية-الإسرائيلية أصبحت من الماضي بعد تخلِّي إسرائيل عن التزاماتها.

تراكم لدى الفلسطينيين خلال السنوات الماضية مخزون واسع من المظالم نتيجة سياسات الإذلال والاستيطان التي تمارسها إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة. فخلال تلك الفترة، تضاعف الاستيطان في الضفة الغربية بشكل مطَّرد وتصاعدت اعتداءات المستوطنين وأخذت منحنى عنيفًا، تَمَثَّل في إحراق عائلة دوابشة في قرية دومة بنابلس وهو ما أسهم في زيادة شعور الفلسطينيين بفقدان الأمن الداخلي وخاصة أن السلطة الفلسطينية وقفت عاجزة عن حمايتهم؛ حيث يعتقد ثلثا الفلسطينيين أن السلطة الفلسطينية مقصِّرة في توفير الحماية لهم (4). ولا تقف السلطة فقط موقف المتفرج على الاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين بل أدَّى فشل مشروعها السياسي في إقامة دولة فلسطينية وانتشار الفساد والوساطة والمحسوبية والمحاباة ضمن أجهزتها المختلفة إلى زيادة الإحباط واليأس لدى قطاع كبير من الفلسطينيين وخاصة الشباب (5). وتزامنت هذه الظروف جميعها، مع تراجع مكانة القضية الفلسطينية ضمن الأجندات الإقليمية الرسمية والشعبية؛ حيث تعاني غالبية الدول العربية من نزاعات داخلية وحروب أهلية، وهو ما بدا واضحًا أيضًا في تعبير الفلسطينيين الذين يعتقد 80% منهم أن فلسطين لم تعد قضية العرب الأولى (6).

انتفاضة السكاكين

في هذا السياق، انطلقت هجمات منظَّمة ومكثَّفة ضد الإسرائيليين بالسكاكين وخاصة في مدينة القدس. وبخلاف الانتفاضة الأولى والتي اعتمدت فيها الحجارة كسلاح رئيسي في المواجهات أو الانتفاضة الثانية التي ركزت على العمليات العسكرية المسلحة، تميزت هذه الأحداث بتكثيف عمليات الطعن وهو ما أدَّى إلى نشر حالة من الرعب وزعزعة للأمن الداخلي بين الإسرائيليين. فخلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الهبَّة الجماهيرية، نجح الفلسطينيون في تنفيذ 46 عملية طعن (وصل منها 29 إلى مرحلة متقدمة أو نجحت)؛ وذلك خلال فترة زمنية قصيرة. وبالاطِّلاع على الخارطة الجغرافية التي خرجت منها العمليات، يُلاحَظ أن مدينتي القدس (13 عملية) والخليل (11 عملية) شكَّلتا بؤرة الارتكاز الأساسية لعمليات الطعن تلَتْهُما مدينة رام الله (عملية)، ومدينة جنين (عملية) والمناطق المحتلة عام 1948 (3 عمليات) (7) ، أي إن العمليات تركَّزت بشكل أساسي في المدن المختلطة ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين والتي تشهد بشكل مستمر عمليات إذلال مستمرة ومتفاقمة للفلسطينيين.

وبعكس العمليات العسكرية خلال الانتفاضة الثانية أو إطلاق الصواريخ من قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة (2014) يعتبر الهجوم بالسكاكين ذا مفعول نفسي عميق على الإسرائيليين، وخاصة أنها تُظهِر المهاجم في موقع قوة مقابل حالة الضعف التي يعيشها الجنود الإسرائيليون وهم يفرُّون من المواجهة لتجنُّب الإصابة أو القتل. وإذا كان يمكن للقيادة الإسرائيلية تبرير ارتفاع عدد قتلاها في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، على سبيل المثال، فإن هروب الجنود من أمام المهاجمين، كما حصل في عملية بئر السبع التي قُتل فيها أحد الجنود وهروب مجموعة أخرى، وهو ما حدا بالجيش الإسرائيلي إلى فتح تحقيق في الحادثة، عزَّز من شعور فقدان الأمن لدى الإسرائيليين، كما أن نجاح المهاجمين في الأسبوعيْن الأوليْن في الوصول إلى أهدافهم وإيقاع قتلى إسرائيليين أغرى المزيد بمحاولة تنفيذ عمليات، خاصة أن السكاكين تعتبر سلاحًا بسيطًا وفي متناول أيدي الجميع وهو ما يعني أن كل إسرائيلي يمشي على الأرض أو يتسوق قد يصبح هدفًا محتملًا للهجوم في أية لحظة.

ونتيجة لذلك، سجَّلت العيادات النفسية في إسرائيل ارتفاعًا بنسبة 100% من زوارها الإسرائيليين الذين بدأوا يفقدون الأمن الشخصي (8). وانعكس ذلك أيضًا على الارتفاع القياسي في شراء الأسلحة الشخصية من قبل المدنيين الإسرائيليين (9). كما أثَّرت الأحداث وبصورة مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي وأدَّت إلى تباطؤ حركة الشراء وتراجع البورصة الإسرائيلية (10). بالإضافة إلى ذلك، أدَّى انتشار الرعب والتوتر بين الإسرائيليين إلى مقتل إسرائيلي وطالب لجوء إريتري بيد الجيش والشرطة التي ظنَّت أنهم فلسطينيون.

وسائل التواصل الاجتماعي

وبخلاف الانتفاضتين الأولى والثانية، تميَّزت الأحداث الجارية بالاستخدام المكثَّف لوسائل التواصل الاجتماعي، مثل: الفيسبوك والتويتر واليوتيوب. وقد استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق الأهداف التالية:
  • تعبئة الجماهير والتجنيد، والحشد، والتحريض ضد الاحتلال.
  • زيادة الوعي بالأحداث الجارية ومحاولة توسيع الحراك ليضم شرائح ومناطق جغرافية جديدة.
  • خلق روابط قوية مع الجمهور الفلسطيني العريض، وبالتالي فتحت الإمكانية للتفاعل مع الأحداث بشكل مباشر وسريع.
  • تقليل تكاليف عملية تعبئة الاحتجاجات ونشر المعلومات وزيادة سرعة تداولها وانتشار نطاقها (11).
  • الالتفاف على التعتيم الإعلامي المفروض سواء من قبل إسرائيل أو السلطة الفلسطينية وكسر القبضة الأمنية على احتكار ونشر المعلومات.
  • نقل الاحتجاجات والمظالم الفلسطينية من المستوى المحلي إلى المستوى الدولي، وهو ما سمح بإعادة إنتاج وتأكيد المظلومية الفلسطينية أمام الرأي العام الدولي.

بالإضافة إلى ذلك، فقد سهَّلت وسائل التواصل الاجتماعي تجاوز البنى الفصائلية والعمل خارج أطرها التقليدية؛ فبمجرد انتشار الأحداث في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2015، بدأ الكثير من الناشطين الفلسطينيين في إنتاج المعلومات والأخبار وتداولها بأنفسهم وبصورة شبه مجانية، وذلك في محاولة لإعادة إنتاج والتأكيد على المشاعر السلبية تجاه الاحتلال وتوجيهها إلى عمل مقاوم ومنظَّم.

ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على قائمة الشهداء وأعمارهم المنشورة على موقع وزارة الصحة الفلسطينية يُلاحَظ أن غالبيتهم الكاسحة تتراوح أعمارهم ما بين 18 و22 عامًا (12)، أي إنهم ليسوا فقط من الجيل الذي وُلِد في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو بل أيضًا من الجيل المتفاعل والمرتبط بشكل متين مع وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما سمح لهم بسهولة الانتشار والحشد. كما يؤكد بعض المقابلات أن غالبية من نفَّذوا العمليات لا ينتمون لأيٍّ من الفصائل الفلسطينية (13). وإذا دقَّقنا النظر في بعض الرسائل التي نشرها بعض الشهداء قبل تنفيذهم لعمليات الطعن يظهر أن النقمة والاحتجاج على الوضع الفلسطيني الداخلي لعبت دورًا محوريًّا في توجهات الشباب إلى العمل الفردي غير المنظم. فالشهيد بهاء عليان، والذي استُشهد بعدما قام بعملية طعن وإطلاق نار أسفر عنها مقتل ثلاثة إسرائيليين في مدينة القدس برفقة صديقه المحرر بلال أبي غانم، على سبيل المثال، كتب قبل استشهاده: "أخبروا السُّلطة أن التهدئة بيد الشعب وليست بيد أيِّ أحد من قيادتها". وكان عليان قد كتب قبل عام من استشهاده وصيته التي بدأها: "أُوصي الفصائل بعدم تبنِّي استشهادي، فموتي كان للوطن وليس لكم" (14)؛ وذلك في إشارة واضحة للتحلُّل من أي التزامات فصائلية.

وبسبب الدور الكبير الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في عملية التعبئة والحشد، تبذل إسرائيل جهودًا مضاعفة لتحييد هذا الفضاء وتقييده. تعمل إسرائيل بشكل لصيق على مراقبة شبكات التواصل الاجتماعي من خلال وحدات متخصصة تقوم بمتابعة الناشطين الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية أو داخل أراضي عام 1948 ورصد منشوراتهم من أجل محاولة إحباط الحراك الشعبي من جهة، أو تنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية من جهة أخرى؛ فقد أغلقت عشرات الصفحات والمواقع الفلسطينية الداعمة للحراك الشعبي والتعبئة في الشوارع بعد ضغوط كبيرة تعرَّضت لهما إدارة كلٍّ من فيسبوك ويوتيوب من قبل وزارتي الخارجية والاتصالات الإسرائيلية. فقد أغلقت إدارة موقع يوتيوب، على سبيل المثال، القناة الرسمية التابعة لحركة حماس بحجة مشاركتها في الحراك الداعم والمسانِد للتعبئة الجماهيرية في الضفة الغربية (15). وهو ما تكرَّر أيضًا مع إدارة فيسبوك التي قامت بإغلاق عشرات الصفحات بحُجَّة تحريضها على التعبئة الجماهيرية والتحريض على الاحتلال سواء التابعة للتنظيمات الفلسطينية أو لناشطين. لم تشُنَّ إسرائيل فقط حملة واسعة لإغلاق المنابر الداعمة للحراك على الأرض، بل قامت أيضًا باعتقال العشرات من الناشطين إداريًّا بحجة التحريض.

التفاعلات الداخلية والدولية

بالرغم من الطبيعة العشوائية للأحداث إلا أنها مسَّت سلوك السلطة الفلسطينية، والفصائل الأخرى، وأحدثت تفاعلات خارجية مسَّت القوى الإقليمية والدولية.

باستثناء حركتي فتح وحماس، لا تتمتع الفصائل الفلسطينية بثقل جماهيري وازن يمكن أن يقلب المعادلات على الأرض. ولكن يبدو أيضًا أن حركتي فتح وحماس تتحركان في هذه المرحلة وفق ضوابط حذرة لا يبدو أنهما تستطيعان تجاوزهما.

ترتبط حركة فتح عضويًّا بالسلطة الفلسطينية، وتتماهى مواقفهما بشكل مطبق من الأحداث الجارية. وبالرغم من أن الحركة تشارك في الاحتجاجات على مستوى الأفراد والقيادات المحلية إلا أنها لا تزال تعارض وبشدة عسكرة الانتفاضة وتؤيد طابعها الشعبي السلمي، وهو أيضًا ما يتطابق مع مواقف حركة حماس وإن اختلفت الأبعاد الاستراتيجية لكلٍّ منهما. فبينما ترغب حركة فتح في إبقاء المواجهات ضمن نطاق شعبي سلمي يمكن السيطرة عليه في المستقبل، وذلك بهدف الضغط تجاه إعادة تفعيل عملية السلام المجمدة، تصبو حركة حماس إلى تغيير معادلات القوة في الضفة الغربية وإعادة ترميم بِنيتها التنظيمية التي تم إنهاكها وتفكيكها بشكل ممنهج نتيجة الضربات المتتالية سواء من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية أو الإسرائيلية.

لذلك، تُفضِّل حركة حماس العمل الجماهيري المتدحرج الهادف إلى إعطاء الحراك صبغة شعبية تراكمية. تأمل الحركة أن يؤدي العمل الشعبي المتنامي إلى تآكل تدريجي في قدرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على السيطرة على الوضع الأمني، وبالتالي تخفيف الضغط على عناصرها وقيادتها المحلية. كما أن الحركة تتخوَّف من أن يُشكِّل تصدرُها للمواجهات القائمة سببًا كافيًا ربما يدفع السلطة الفلسطينية إلى التفكير في خياراتها القاضية بإنهاء المواجهات، حتى لو تطلَّب الأمر استخدام القوة بالاستناد إلى مجموعة كبيرة من الأجهزة الأمنية التي أثبتت خلال السنوات الماضية أنها لا تزال قادرة على وقف أي تصعيد، أو تدهور خطير للأوضاع الأمنية في الضفة الغربية. فخلال الأحداث الجارية قامت أجهزة السلطة بملاحقة العشرات من أعضاء حركة حماس ومؤيديها سواء بالاعتقال أو الاستدعاءات للمثول أمام الأجهزة الأمنية، وذلك حتى لا تصل المواجهات إلى مرحلة يصعب السيطرة عليها (16).

تدرك السلطة الفلسطينية وقيادتها هذه المعادلة جيدًا؛ لذلك فهي تسعى إلى الاستفادة من الأحداث قدر الإمكان مع إبقائها تحت السيطرة وبعيدًا عن نفوذ حركة حماس. وبالرغم من التصريحات العلنية المؤيدة للحراك الشعبي التي تطلقها السلطة، فإنها في الحقيقة تتعامل مع المواجهات الحالية كخطر محتمل على مواقعها في الضفة الغربية؛ فلا يبدو أن الرئيس الفلسطيني متسرِّع في كسر قواعد اللعبة مع الإسرائيليين ويحاول قدر الإمكان منع أية عمليات مسلحة ضد الإسرائيليين والتي ربما تكون كفيلة بتغيير معادلات الصراع ودفع الحكومة الإسرائيلية إلى القيام بردة فعل غير محسوبة النتائج.

لهذه الأسباب مجتمعة، تتفاعل السلطة الفلسطينية مع التحركات الدولية التي يقوم بها وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، والهادفة إلى تهدئة الأوضاع وتقريب وجهتي النظر الفلسطينية والإسرائيلية تجاه إعادة استئناف المفاوضات ما بين الطرفين، وهو الخيار الذي قد تفضِّله السلطة الفلسطينية وخاصة إذا تزامن مع تحقيق بعض مطالبها مثل وقف الاستيطان وإطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين وهو ما تأمل أن يؤدي تدريجيًّا إلى تخفيف حالة الاحتقان بين الفلسطينيين.

السيناريوهات المحتملة

تطوُّر الحراك تدريجيًّا: سيبقى احتمال تدحرج الأحداث الحالية (مع بقائها سلمية) قائمًا، وخاصة إذا انضمت مناطق جغرافية وفئات اجتماعية جديدة إلى المواجهات وبالتالي إكساب المواجهات زخمًا أكبر ودعمًا وحماية مجتمعية والتي يمكن أن تعمل على بلورة هياكل قيادية جديدة. وفي هذه الحالة، من المحتمل أن تتطور المواجهات، وخاصة إذا اشتركت الفصائل بصورة أكبر، إلى عمل مقاوِم سلمي مكثَّف مشابه للانتفاضة الأولى مع الحرص على عدم الانجرار إلى العمل العسكري المسلح.

زيادة القمع وانفجار الأوضاع: احتمالية انفجار الأوضاع واتساع نطاق المواجهات الحالية وبصورة عنيفة لا تزال قائمة، خاصة في ظلِّ سياسات القمع واستمرار الإعدامات الإسرائيلية الميدانية للفلسطينيين واعتداءات المستوطنين والتي قد تدفع بعض الفصائل الفلسطينية إلى ردَّة فعل عكسية من خلال تنفيذ عمليات عسكرية أو تفجيرية كبيرة ضد أهداف إسرائيل، وهو ما سيضع الحكومة الإسرائيلية أمام خيار واحد وهو اتخاذ إجراءات مؤلمة تجاه السلطة، ولكن مع الحرص على عدم دفع الأوضاع إلى معادلة صفرية. يبقى هذا الاحتمال قائمًا وبقوة في ظلِّ صعوبة التنبؤ بتصرفات الفاعلين على طرفي الصراع وغياب أية مبادرات سياسية حقيقية لنزع الاحتقان. فديناميكية القمع يمكن أن تتحول في بعض الأحيان وتولِّد غضبًا شعبيًّا متزايدًا ربما يكون مقدمة لانفجار الأوضاع بشكل شامل.

احتواء الحراك والدفع بالعملية السلمية مجددًا: في ظل الطابع العشوائي الفردي للأحداث وعدم تبلور قيادات محلية يمكن أن تفقد الهبَّة الجماهيرية تدريجيًّا زخمها، وهو ما سيسهِّل احتواءها من قبل السلطة في حال قبلت بأية مبادرة سياسية لتهدئة الأوضاع؛ فربما سيجد المتظاهرون أنفسهم عاجزين عن الاستمرار في الحراك في ظلِّ غياب الحاضنة الرسمية والفصائلية، وعدم انتشار الأحداث إلى مناطق وفئات جديدة حيث لا تزال محصورة في مدينتي الخليل والقدس بصورة أساسية وفي مدينتي رام الله وبيت لحم بصورة أقل. ويمكن القول بأن رحلة انحصار الهبَّة الجماهيرية يمكن أن تكون بسبب ارتفاع وتيرة القمع، و/أو ظهور الصراعات والتنافس الداخلي، خاصة إذا قررت السلطة وقف الاحتجاجات، و/أو تراجع الروح المعنوية.

وفي النهاية، يمكن القول بأن الهبَّة الجماهيرية الحالية سوف تأخذ بعضًا من الوقت ما بين مدٍّ وجزر. وبغضِّ النظر عن نتائج المواجهات الحالية إلا أنه من الواضح أن مرحلة جديدة بدأت تلوح في الأفق ومن الصعب التكهن حاليًا بتفاصيلها؛ فقد تنحسر الاضطرابات الحالية ولكنها قد تُخفي خلفها موجات أكبر وأكثر كثافة من الاحتجاجات وهي بالتأكيد لا تبدو بعيدة. 
_______________________________________
* د. محمود جرابعة، باحث وأستاذ جامعي في "مركز إيرلانغن للإسلام والقانون في أوروبا"، جامعة إيرلانغن-نورمبرغ في ألمانيا.

نبذة عن الكاتب

مراجع
1 هشام ساق الله، الكيان الصهيوني يحتل كامل القدس الشرقية في 7 يونيو/حزيران 1967، انظر: https://hskalla.wordpress.com/2014/06/05/%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A%D8%A7…-2/ (تاريخ الدخول: 31 أكتوبر/تشرين الأول). 
2 استخدمت السلطة الفلسطينية بيت الشرق كمقر ورمز فلسطيني في مدينة القدس بعد تأسيسها وذلك لتقديم الخدمات لسكان المدينة ولكن قامت إسرائيل بإغلاقه بعد الانتفاضة الثانية. 
3 انظر: المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، رام الله، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2015. ويمكن الاطِّلاع على الاستطلاع من خلال الرابط التالي: http://www.pcpsr.org/ar/node/622 
4 انظر: المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، رام الله، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2015. ويمكن الاطِّلاع على الاستطلاع من خلال الرابط التالي: http://www.pcpsr.org/ar/node/622 
5 تعتقد الغالبية العظمى من الفلسطينيين (79%) بوجود فساد في السلطة الفلسطينية، كما يُظهر أحدث استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، مصدر سبق ذكره. 
6 انظر: المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، رام الله، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2015. ويمكن الاطِّلاع على الاستطلاع من خلال الرابط التالي: http://www.pcpsr.org/ar/node/622 
7 شبكة فلسطين الإخبارية، عمليات الطعن: ظاهرة أقلقت إسرائيل في سابقة عددية لم تتكرر في التاريخ الفلسطيني، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2015. http://pnn.ps/2015/10/21/%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9… (تاريخ الدخول، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2015).
8 موقع الجزيرة نت، العيادات النفسية تتصدر المشهد في إسرائيل، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2015، انظر: http://www.aljazeera.net/news/presstour/2015/10/20/%D8%AA%D8%B6%D8%A7%D… (تاريخ الدخول 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015).
9 موقع القدس، الإسرائيليون يتزاحمون لشراء الأسلحة، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2015، انظر: (http://www.alquds.com/articles/1444837851879244300/ (تاريخ الدخول 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015).
10 موقع الجزيرة نت، الانتفاضة تضرب الاقتصاد الإسرائيلي في مقتل، 23 أكتوبر/تشرين الأول 2015، انظر: http://www.aljazeera.net/news/presstour/2015/10/23/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D… (تاريخ الدخول، 31.10.2015). 
11 تتميز وسائل الاتصال الاجتماعي بسهولة الانتشار والتكلفة القليلة من حيث الوقت والمال والجهد وسرعة الوصول مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية والتي تتطلب استثمارات مالية ضخمة وتخضع في كثير من الأحيان إلى الرقابة الأمنية.
12 دليل وزارة الصحة الفلسطينية، انظر على الموقع التالي: http://www.moh.ps/?lang=0&page=3&id=2922 (تاريخ الدخول 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015).
13 أربع مقابلات من خلال الهاتف مع ناشطين من حركتي فتح وحماس فضَّلوا عدم الكشف عن هوياتهم، أكتوبر/تشرين الأول 2015. 
14 للمزيد انظر، موقع قناة الجزيرة، "بهاء عليان".. مسار مقدسي من النضال للشهادة، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2015، http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2015/10/14/-%D8%A8%D…;
15 موقع قناة الجزيرة، يوتيوب يغلق قناة لحماس بضغط إسرائيلي، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2015. http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/10/12/%D9%8A%D9%88%D8%AA%D9%8… (تاريخ الدخول 31 أكتوبر/تشرين الأول 2015).
16 مقابلة مع أحد ناشطي حركة حماس، أكتوبر/تشرين الأول 2015.