الحركات الإسلامية في ليبيا بعد الثورات العربية: التحولات والمستقبل

ترى الورقة أن أحد الاحتمالات لتطور الأحداث في ليبيا وللتحولات التي تشهدها التيارات الإسلامية هناك، أن تتجه نحو صدام فيما بينها، كما أن جماعة الإخوان المسلمين تشهد نقاشات قد تنتهي بحلها على أن يُترك العمل السياسي لحزب العدالة والبناء.
007244109b304e83b15a2dddc31d295b_18.jpg
احتفالات ميدان الشهداء في طرابلس بذكرى ثورة 17 فبراير/ شباط (الجزيرة)

تسعى هذه الورقة لأن تضع الحركات الإسلامية في ليبيا في سياق التاريخ الليبي والتحولات التي شهدتها هذه الحركات بعد ثورة السابع عشر من فبراير/شباط، ولكى تضع الورقة إطارًا عامًّا يمكن من خلاله الوصول لنموذج تفسيري، يصلح للبحث والبناء عليه، تبدأ الورقة بعرض أهم النظريات المتوفرة لفهم تكوين الدولة الليبية، وتنطلق من مفهوم الاستمرارية لغياب الدولة والتدخلات الخارجية عبر التاريخ الليبي، لذا تبدأ الورقة في هذا العرض لتصل لمفهوم غياب وجود حراك اجتماعي بالمعنى المتعارف عليه في العلوم الاجتماعية، بمعنى: وجود موارد وتنظيم وفرص سياسية وثقافة داخلية تمكِّن هذا الحراك من الاستمرارية في التاريخ، ولعرض مستقبل الحركات الإسلامية في هذا الإطار تتعرض الورقة لأهم الحركات الإسلامية في ليبيا وهي جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية المقاتلة كتيارات سياسية فاعلة في المشهد السياسي الليبي، ثم تذكر الحركات التي مارست العنف. ونظرًا لغياب مؤسسات الدولة انتقلت الحركات الإسلامية لممارسة السياسة دون وجود وحدات أولية للتنظيم المجتمعي الذي ظلت السلطات تقمعه وتحاول تهميشه، واستمر هذا المسار بعد الثورة وتحولت الحركات الإسلامية إما للممارسة السياسية على حساب بناء المجتمع أو عبر ممارسة العنف من "التيارات المتشددة" التي وفدت على المجتمع ولم تكن نبتًا أصيلًا فيه.

سياقات الثورة الليبية 

حاولت عدَّة نماذج وأطر تفسيرية تفسير التاريخ الليبي، ونشأة الدولة الليبية، هذه النماذج قد تساعدنا في فهم ظاهرة غياب الحركات الاجتماعية في ليبيا، فالحركات الاجتماعية هي تلك الحركات التي لها أهداف وموارد وفرص سياسية وثقافة مكونة قادرة على استعمال أدوات (عنيفة أو غير عنيفة) لتوجيه المجتمع لأهداف محددة. هذه الحركات بهذا المعنى لا توجد في ليبيا؛ لذا فإن الحركات الإسلامية في ليبيا لا يمكن النظر إليها كحركات اجتماعية فاعله لها موارد وفرص سياسية تاريخية مكَّنتها من تكوين مؤسسات شكَّلت شبكةً ما قادرة على توجيه المجتمع(1)؛ لذا كيف يمكن فهم هذا البروز للحركات الإسلامية وقدرتها على المشاركة في الثورة بل وتوجيه المجتمع في كثير من المراحل الانتقالية؟ هذا ما تحاول هذه الورقة الإجابة عنه. 

يمكن رصد أربع نظريات أساسية لتفسير الدولة الليبية، كلها توحي بأزمة في تكوين الهوية الوطنية، وتؤكد أن الهوية الدينية والعوامل القبلية هي المكوِّن الحقيقي للهوية والبيئة السياسية، نذكر هذه النظريات بشكل سريع. فتكوين الدولة الذي بدأ بالآباء المؤسسين لليبيا في المهجر تحديدًا في مصر والشام شكَّل مخيِّلة لبناء وطن موحَّد، بين الشرق والغرب والجنوب الليبي، هذا المخيال الجامع الذي تجذَّر عبر الهجرة والنقاشات المستمرة حول مستقبل ليبيا، والمؤتمرات التي جرت في مدينة غريان وسرت والتي أبرزت الشعور بالخطر الذي يشكِّله المستعمر الإيطالي الذي ازداد بطشًا في العقد الثاني من القرن العشرين وأن هذا المستعمر يستهدف ليبيا كوطن واحد، تمكنت الشخصيات الوطنية كالحركة السنوسية وبشير السعداوي وعمر فائق شنيب وغيرهم من الاتفاق على تكوين جمهورية ليبية تخضع لدستور واحد(2). 

تبيِّن ليسا أندرسون أن الطبيعة بين الدِّين والسياسة متداخلة فليبيا هي الدولة الوحيدة التي ظل الدين فيها هو المحرِّك إلى أن نالت استقلالها، فلم يتمرد الليبيون على الدولة العثمانية، بل هي من أُجبرت على ترك ليبيا في معاهدتها مع الإيطاليين، والتي اشترطت بقاء الليبيين تحت الأحكام الشرعية، وكان للحركة السنوسية التي احترمها الليبيون جميعًا حركة إسلامية إصلاحية، وكان أحمد الشريف من الزعماء المبرَّزين في الحركة وفي العالم الإسلامي. لذا، فإن الإشكال في ليبيا كان في تحطيم إدارة الدولة للصراعات التي شهدتها عبر تاريخها وكان آخرها ما حدث في الحرب العالمية الثانية فقد دمرت الحرب كل البنية التحتية والمباني التي أقامها المستعمر الإيطالي(3). 

تبدأ البيئة السياسية في ليبيا من القبيلة وتتجاوز الوطن نحو القومية أو الانتماء للأمة الإسلامية، هذا ما يمكن فهمه من دراسة لِيسا أندرسون وما أثبتته دراسة الدكتور آمال العبيدي عن البيئة السياسية في ليبيا في عهد القذافي(4). هذا النسق المستمر من غياب الدولة والتدخل الخارجي، أبرز دور الزعامات السياسية والعسكرية والقبلية، والمقصود بالزعامات(5) هو أن القبيلة والدُّور والزاوية كلها تعمل على اتخاذ الفعل السياسي عبر أفراد متميزين وهم من يُسمَّوْن بالزعامات حسب دراسة المولدي الأحمر(6). والإجهاض المستمر لتشكُّل كامل للهوية الوطنية مثَّل استمرارية في التاريخ الليبي وحالة من الغياب المستمر للدولة الوطنية، الذي لم تفلح التغيرات الهائلة التي شهدتها ليبيا في إحداث نقلة حقيقية لهذا المجتمع نحو الدولة والحداثة، وهذا ما أثبتته دراسة رونالد بروس عن ليبيا وجدلية الاستمرارية والتغيير(7). 

تشريح الحركات الإسلامية في ليبيا 

استطاع القذافي خلال حكمه أن يقضي على كل الحركات والتيارات الثقافية، وشكَّل حزبًا واحدًا يعبِّر عن فكره وتصوراته، ووجد الآليات الكافية لتطبيق كل ذلك؛ لذا كانت الحركات الإسلامية جزءًا من بحث الشباب الليبي والمثقفين عن الانتماء فإن تعثر البلد في الدخول للحداثة جعل عناصر ما بعد حداثية تتشكل كبحث عن بنية جامعة يمكنها أن تكون بديلًا عن حالة الفوضى والغربة التي يعيشها معنى الوطن، ورغم أن ليبيا عرفت الكثير من الأحزاب السياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر إبَّان بحث الآباء المؤسِّسين عن طريق للاستقلال، إلا أن المرحلة التي عاشتها إبان المَلَكية خاصة في أواخرها كانت صراعًا واضحًا بين المُلك الذي يحاول أن يبني المؤسسات بدون أن يبني المجتمع ومكوناته المدنية وأحزابه السياسية، وحكم القذافي الذي قمع كل محاولة للتجمع والتعاون بين أفراد المجتمع على أساس غير قبلي أو جهوي. 

أمَّا الحديث عن أهم الحركات الإسلامية التي برزت بعد الثورة، فيكفي وضعها في سياقها التاريخي دون تفصيل، ليتضح أن هذه الحركات كانت نوعًا من الفعل السياسي وليس من الحراك المجتمعي. وأهم هذه الحركات هي جماعة الإخوان المسلمين. 

جماعة الإخوان المسلمين 

بدأت حركة الإخوان في الظهور في ليبيا عام 1949 إثر الأحداث التي جرت في مصر حين استقبل الملك إدريس أولئك الذين فرُّوا إليه بعد أن "اتُّهِموا زُورا" بمقتل رئيس وزراء مصر، محمود فهمي النقراشي. وبمجيء من كانوا يقاتلون في حرب 48 من الإخوان من مصر واستمرار الحماية الملكية لهم انتشر الإخوان في ليبيا وبدأ التشكيل التنظيمي لهم في طرابلس عام 1968، وبعد عام تقريبًا كانوا على موعد مع الانقلاب العسكري للقذافي ومجموعة من الضباط. خيَّر القذافي الإخوان عام 1974 بين البقاء في ليبيا والعمل الإسلامي، وقد خرج كثير من أعضاء الحركة من ليبيا. تأسست الجبهة الوطنية للإنقاذ عام 1982 لكن الجبهة لم تكن من الإسلاميين فقط الأمر الذي قسَّم الإخوان في موقفهم حول الجبهة حين ظهرت بعض ممارسات لم يرتضها بعض الإخوان وكان من بين المعارضين الأستاذ عبد الله الشيباني القيادي في جماعة الإخوان (الذي وافاه الأجل فيما بعدُ في سجون القذافي ويقال: إنه قُتل). حاولت الجبهة أن تقود انقلابًا في باب العزيزية عام 1984 ولكن فشل الانقلاب ودخل الكثير من أعضاء الجبهة والإخوان السجن، واستمرت حركة الإخوان في سريتها دون أي وجود لهم كحركة اجتماعية كما هي الحال في مصر أو في الأردن. 

تشكَّل عام 1994 ما يُعرف بـ"التجمع الإسلامي" إثر خلاف داخل حركة الإخوان، لكن قام الأمن بحملات واسعة ضد الحركات الإسلامية أدَّت لسجن كثير من أعضاء التجمع في سجن أبي سليم ثم القضاء على كثير منهم في مذبحة أبي سليم. استمر عمل جماعة الإخوان رغم هروب الكثير من أعضائها في أحداث 1994، لكنها استمرت تعمل وتنتشر عبر الدعوة الفردية إلى أن كُشف التنظيم عام 1998 وسُجن من سجن وهرب من هرب إلى الخارج حيث تشكَّل الكثير من الأفكار حول الجماعة وعمل مؤسساتها، لكن كل ذلك لا يجعلنا نطلق على الحركة أنها شكَّلت حراكًا مجتمعيًّا بالمقارنة بالمؤسسات التي تشكلت في التجربة المصرية أيام السادات أو المؤسسات التي تشكلت في الثمانينات في الأردن أو المشاركة السياسية للأحزاب الإسلامية في الجزائر؛ لذا يصعب تحديد المسار الفكري في ليبيا اللهم إلا من خلال تتبع الخطاب الذي يحتفي بالديمقراطية بعد الثورة الليبية مما يدل على أن الحركة كانت تتماهى مع المسار الفكري للإسلام السياسي وهو ما يشير إلى أنه تطور ومسار فوق قُطري. 

دعم الإخوان المسلمون من منفاهم الثورة، وشارك الذين كانوا في السجن منهم -قام النظام بإطلاق سراحهم عام 2006- فيها كمواطنين كغيرهم من الليبيين، وكان أول لقاء جامع للإخوان في ليبيا ضمَّ كثيرًا من إخوان الداخل والخارج في المؤتمر الذي عُقد في بنغازي، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011، وفيه قرَّر الإخوان إنشاء حزب وطني مستقل عن جماعة الإخوان المسلمين(8). 

في هذا المؤتمر طُرحت عدَّة تصورات للعلاقة بين الدعوي والسياسي، وعرضت تجارب الحركات الإسلامية في المنطقة وكانت الخيارات المطروحة بين الاستمرار كجماعة دعوية أو أن تتحول الجماعة لحزب سياسي أو أن تنشئ الجماعة حزبًا مفتوحًا لكل الليبيين للمشاركة السياسية في المرحلة التي بدت واعدة عقب الثورة. هذا المسار الذي اختارته الجماعة كان بمثابة إنشاء مؤسستين جديدتين في حين أن موارد الجماعة محدودة ولا توجد لها مؤسسات داخل المجتمع يمكن أن تُدرَّ عليها أرباحًا كما أن عدد أفرادها محدود بالنسبة لهاتين المهمتين اللتين قررهما المؤتمر؛ لذا لا يمكن اعتبار خطوة إنشاء حزب خطوة طبيعية في مسار العلاقة بين الجماعة والمجتمع الليبي، وأبرزت الأحداث بعد ذلك كيف اضمحلَّ دور الجماعة وصار الحزب هو العنصر الفاعل في المشهد السياسي الاجتماعي(9). 

لم تكن هناك أي فرصة سياسية لهذه الحركات فليس هناك دولة مستقرة كما أن القضية الأساسية للحركات الإسلامية تقريبًا محسومة في ليبيا كمسألة تطبيق الشريعة فقد كانت محل إجماع تقريبًا بين كافة التيارات، بما فيها التيارات غير الإسلامية؛ لذا لا يمكن البحث عن فرصة سياسية تشكلت بعد الثورة للحركات الإسلامية، فليست هناك تناقضات فكرية أو خلافات أيديولوجية حادَّة، حتى تلك الخلافات التي نشبت بين الدكتور الصادق الغرياني، مفتي الديار الليبية، والدكتور محمود جبريل، زعيم تحالف القوى الوطنية، حول مفهوم العلمانية لم تكن خلافات كامنة داخل المجتمع فلم تعرف ليبيا أي خلاف حول القضايا التي هي محل جدل في المنطقة العربية كعلاقة السياسة بالدين فليس هناك معرفة مسبقة بهذه القضايا حيث مارس القذافي السلطة عبر نشر مفاهيم بعينها هي التي شكَّلت العقل الجمعي في ليبيا؛ لذا كان هذا الجدل بمثابة حدث جديد على السياق السياسي الذي عرف شيئًا من الهدوء قبل انتخابات المؤتمر الوطني. 

وعندما بدأت الجماعة في الإعداد لإنشاء الحزب نشأت عدة قضايا:

  • كان هناك مقترح مقدَّم من الشيخ على الصلابي، الكاتب في التاريخ والداعية الإسلامي، بتشكيل حزب عريض يضم التيار الإسلامي، وبعد مشاورات بين الإخوان وشخصيات من الجماعة الإسلامية المقاتِلة لم يُكتب لهذا المقترح النجاح، واتجه الإخوان لتشكيل حزب وطني بمشاركة بقية أبناء الشعب الليبي ممن يؤمنون بالمرجعية الإسلامية حسب المقترح الذي قُدِّم من الشيخ. هذا القرار برفض المشاركة مع التيار الإسلامي وتحديدًا مع الجماعة الإسلامية المقاتِلة كان إيذانًا بأن هناك اختلافًا في الرؤى والتصورات حتى الفكرية منها، وإن كان البعض اعتبر ذلك محاولة من الإخوان للاستئثار بالمشهد، لكن الأحداث بيَّنت بعد ذلك أن توافقًا كبيرًا في الآراء بين أبناء التيار الإسلامي حدث عبر الممارسة العملية في عمل المؤتمر الوطني في 7 يوليو/تموز 2012.
  • في المؤتمر الأول لحزب العدالة والبناء كانت رغبة الانفتاح واضحة؛ حيث أظهر الحزب التزامًا بمبدأ المشاركة مع الآخرين، وقد ترشح بعض الشخصيات لرئاسة الحزب ولم تكن من الإخوان، كما شاركت خمس نساء في الهيئة العليا للحزب، كما أن اختيار اسم الحزب جاء على غرار التجارب المغربية والتركية، ولم تكن الديمقراطية وحقوق الإنسان محل نقاش بين المجتمعين في الثاني والثالث من مارس/آذار عام 2012 (10).
  • يمكن تفسير هذا التناقض بين عدم تشكيل حزب مشترك مع الجماعة الإسلامية المقاتلة والتوجه نحو المواطنين الذي يتفقون مع جماعة الإخوان المسلمين في المشروع الوطني على أنه رغبة في إيجاد تيار وطني واسع دون الانغلاق في فَلَك التيار الإسلامي.
  • من القضايا المهمة التي اتخذتها جماعة الإخوان المسلمين الليبية: فكُّ الارتباط بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين؛ ففي اللائحة التي أعلنتها الجماعة بعد الثورة قررت بوضوح قُطرية الجماعة وأنها جماعة ليبية دون الإشارة للتنظيم الدولي.
  • الخطاب العام للحزب لم يختلف عن خطاب الإخوان المسلمين؛ فالحزب ذو مرجعية إسلامية وأخذت مسألة الشريعة جانبًا من البحث وكانت مقاصد الشريعة هي المنطلق لفهم هذه الشريعة ولم تكن هذه المسألة بعد ذلك ظاهرة في خطاب الحزب، ليس بمعنى إنكارها أو التخلي عنها، ولكن كان الحديث عن التنمية والمشاركة السياسية في برنامج الحزب الذي قدم للانتخابات(11).
  • هذا الخطاب تغيَّر بعد الدخول للمؤتمر الوطني، في الثامن من أغسطس/آب 2012، وكانت الممارسة السياسية خاصة في حساب الأصوات واختيار رئيس المؤتمر الوطني تقتضي البُعد الأيديولوجي في اتخاذ القرارات، كما أن كتلة الوفاء التي كانت قريبة من الجماعة الإسلامية المقاتلة كما كانت تُسمَّى إبَّان حكم القذافي شكَّلت ما يُعرف بالكتلة المحورية فليس لها الأغلبية (الأغلبية في القوائم كانت لتحالف القوى الوطنية) وليست هي الأقلية فهي كتلة محورية يصعب تمرير الأصوات إلا بها، وهذا نتاج للنظام الخاطئ الذي صُمِّمت به الانتخابات حيث أُعطيَت القوائم الحزبية ثمانين مقعدًا والنظام الفردي مئة وعشرين مقعدًا(12). 

هذا العرض لمسار الجماعة يعطينا صورة عن هذا الفصل فيها ما بين الحزب السياسي والجماعة الدعوية في السياق الليبي دون أن تكون هذه الحركة جزءًا حقيقيًّا من المجتمع الليبي، فغلب الخطاب السياسي وكان التعامل مع المجتمع من خلال قضايا الرأي العام التي تُطرح كقضية العزل السياسي وقضايا تتعلق بالمرتبات ولا ننسى المشاركة الوزارية لحزب العدالة والبناء في وزارات مهمة كالإسكان والرياضة والأهم من ذلك النفط والاقتصاد؛ مما شكَّل حالة واضحة من قدرة الجماعة والحزب على تجاوز المجتمع بمعنى أن صانع القرار في الجماعة افترض أن الجماعة هي حراك له رأس مال مجتمعي (موارد وقدرة على تحريك المجتمع)، وهذا غير صحيح كما سبق ذكره؛ لذا يمكن اعتبار تشكيل حزب سياسي في هذا السياق الليبي ما هو إلا استمرارية للخطأ التاريخي المتمثل في غياب التنمية المجتمعية، والمحرك لهذه الجماعات والعاملين بها في العادة هم أفراد يتحركون بزعامتهم أكثر من تنظيمهم ومؤسستهم. 

الحركة الإسلامية الليبية للتغيير (الجماعة الإسلامية المقاتلة) 

بدأت الجماعة الإسلامية منذ الثمانينات تحت أسماء مختلفة مع الشيخ علي العشبي، 1982، والشيخ عوض الزواوي، عام 1989، وقد كان المؤسِّسون من جامعة طرابلس حين بدأت أحداث أفغانستان وبدأت موجة من الالتزام الديني والبحث عن مؤسسات دينية حاضنة، وبسبب المعاملة الأمنية التي قابل بها النظام هؤلاء الشباب، انتقل كثير منهم إلى أفغانستان وشاركوا في القتال والتحقوا بتنظيم الاتحاد الإسلامي(13). وفي العام 1990 قرروا العودة إلى ليبيا وتشكيل الجماعة الإسلامية المقاتلة وحاولوا الانقلاب واغتيال القذافي أكثر من مرة. 

عرفت هذه الجماعة كغيرها من الجماعات الجهادية في مصر مراجعات تمَّت وهم في السجن برعاية الشيخ علي الصلابي ومجموعة من العلماء وبموافقة النظام، وخرجت هذه المراجعات في كتاب تحت اسم: مراجعات، وفيه بدأت الجماعة تتجه للعمل مع المجتمع والتأثير فيه، لاسيما أنها خرجت من سجون القذافي على دفعات كان آخرها إبَّان ثورة فبراير/شباط. هذه المراجعات أعطت الجماعة مساحة للحركة بعد الثورة، فليس هناك إشكال في التعامل مع الأدوات الديمقراطية والعمل المدني والانتخابات والتشريع عبر البرلمان، فيما لا يخالف الشريعة حسب ما يتكرر كثيرًا في مقالات والمراجعات التي كتبتها الجماعة(14). 

شاركت الجماعة في الثورة، وشكَّلت كتيبة مسلحة وأسهمت في تحرير طرابلس وكان لبعض أفرادها خبرة قتالية عالية؛ إذن كان للحركة ذراع عسكرية وأخرى سياسية منذ البداية. كما شكَّلت الحركة الإسلامية الليبية للتغيير وشاركت في الانتخابات عبر حزب الوطن وحزب الأمة الوسط(15). 

لم تتحصل هذه الأحزاب على أصوات في القائمة الحزبية لكنها تمكنت من الوصول إلى المؤتمر الوطني عبر القوائم الفردية وتوافقت الحركة وحزب العدالة والبناء في كثير من القرارات التي أصدرها المؤتمر الوطني العام، وكذلك في تأييدهما لعملية فجر ليبيا بعد الانقسام السياسي الذي بدأ يظهر خلال المرحلة الانتقالية بعد أن أعلن خليفة حفتر انقلابه على الإعلان الدستوري في فبراير/شباط 2014. 

لا يمكن أن نلحظ أي ارتباط للجماعة الإسلامية مع القاعدة أو أي تنظيم فوق قُطري بعد الثورة، خاصة مع وجود كتائب وقوات مسلحة، وقد برزت الجماعة في عملها الحزبي والبرلماني كفصيل سياسي يعمل على التواجد في مؤسسات الدولة من خلال بعض الوزارات كوزارة الدفاع والداخلية، وقد شارك حزب الوطن بنشاط في حوارات الصخيرات أي إن الجماعة انغمست في الشأن السياسي(16). 

بدأ الصراع المسلح، وكان التيار الإسلامي باستثناء بعض التيارات السلفية في معسكر واحد ضد الجنرال خليفة حفتر وعملية الكرامة التي أعلنها في 16 مايو/أيار 2014. ويظهر الخطاب السياسي في تمامه بعد بدء حوارات الصخيرات، 5 مارس/آذار 2015، فرغم أن جماعة الإخوان المسلمين لها تحفظات على الاتفاق وإن بدرجة أقل والتيار الذي صار محافظًا وسُمِّي بالثوري والذي يمثِّله المفتي الشيخ الصادق الغرياني وبعض المشايخ وطلبة العلم في طرابلس له تحفظات فقهية على هذا الاتفاق، إلا أن الرموز السياسية كعبد الحكيم بلحاج من حزب الوطن ومحمد صوان من حزب العدالة والبناء كانت ممن شارك في الحوار ودعمه كما أظهر اجتماع الأحزاب في الجزائر في مارس/آذار 2015. 

لقد أخذت هذه التيارات عبر الفعل الزعاماتي، الذي يتعزز بغياب المؤسسات الداعمة لبسط المشاركة لأبناء المجتمع، دور الزعامات التاريخية التي عرفتها ليبيا ولم يكن المجتمع إلا مراقِبًا أو نتيجةً لهذا الحراك؛ لذا فإن المسافة بين هذه التيارات والمجتمع الليبي كبيرة خاصة في تصور المرحلة الانتقالية وفهم الأسس الفكرية والثقافية لما يجري وهذا يفسر قدرة القبيلة على إعادة المشهد إلى نقطة الصفر كلما رأت الزعامات القبلية والعسكرية مصلحتها في ذلك. 

الجماعات السلفية 

السلفية في ليبيا ليست جديدة، فمع بروز التيارات الإسلامية في ليبيا في الثمانينات كان التيار السلفي، خاصة في المنطقة الغربية، وهو تيار محافظ يحاول أن ينسخ ما يرد من منشورات وكتيبات من المملكة السعودية، وهذا التيار لم يكن معارضًا لنظام القذافي، وكانت أجهزة الأمن في بداية الثمانينات والتسعينات لا تفرق بين هذه الجماعات، وبعد نضج هذه الأجهزة في التعامل مع الحركات الإسلامية حاولت استغلالها في النَّيْل من الجماعات التي تناوئ النظام وتشكِّل خطرًا عليه كالجماعة الإسلامية المقاتلة وبعض "التيارات التكفيرية". 

لم يبرز التيار السلفي في الثورة كثيرًا وربما كان رافضًا لها، على الأقل في بدايتها، وفي الثورة شارك في بعض الأعمال الخيرية واستمر في السيطرة على بعض المساجد في طرابلس والبيضاء. وكعادة هذا التيار في ليبيا لم يكن بارزًا في المشهد السياسي، وكان يحاول دائمًا النيْل من جماعة الإخوان المسلمين في خطب الجمعة ومن على المنابر، وكانت الفتاوى تأتي من السعودية لتجيب على تساؤلات السلفيين، متجاوزين في ذلك دار الإفتاء والمشايخ الليبيين. 

الدور السياسي للتيار السلفي ظهر مع ما يُعرف بـ"التيار المدخلي" حيث شارك في القتال الدائر في بنغازي تحت اسم كتيبة التوحيد، وتوفرت لها إمكانيات وعنده راديو الإيمان الذي يغطي المنطقة الشرقية بالكامل، واتُّهم من أبناء المدن الشرقية باغتيال وتعذيب بعض النشطاء السياسيين ولاسيما من جماعة الإخوان المسلمين(17). 

هذا النسق الذي جعل التيار السلفي يمارس السياسة ويحمل السلاح، يُظهِر أن تغييب المجتمع وفشل الدولة وعدم تجذر مفهوم الحراك المجتمعي والمؤسسات المجتمعية قد يدفع الجميع للعنف والتطرف. 

الجماعات المتشددة 

يمكننا إجمال العوامل التي ساعدت في نشر "التطرف" بعد الثورة، والتي تجلَّى فيها غياب المؤسسات كسبب رئيسي في انتشار العنف، وفق الآتي:

  • انتشار السلاح: وتختلف التقديرات لحجم الأسلحة التي توعد النظام بفتح مخازنها بعد الثورة، ويُقدَّر حجم الأموال التي أنفقها القذافي على السلاح في الفترة ما بين السبعينات والثمانينات بحوالي ثمانية وعشرين مليار دولار، وقدَّرت مجموعة الأزمات الدولية أن هناك حوالي مئة وخمسين ألف حامل للسلاح بكافة أنواعه في ليبيا(18).
  • فشل المؤسسة العسكرية وعدم تواجدها في المشهد الليبي بعد الثورة: وقد ظهرت أهمية هذه المؤسسة في المشهد التونسي والمشهد المصري، هذا الاختلاف في تعامل المؤسسات العسكرية بين العمل على الاستقرار في تونس إلى الاستحواذ في مصر على المشهد السياسي وإلى الفشل الكامل لها في ليبيا عبر عقود من التغييب لهذه المؤسسة والمغامرات العسكرية للقذافي، هذا الغياب جعل البلد في تشظٍّ وسمح ببروز الكثير من الكتائب حتى وصلت في بعض الأحيان لأكثر من مئتي كتيبة في مصراتة وحدها.
  • الإشكالية التاريخية وهي غياب مؤسسات الدولة: والتي أدَّت إلى بروز زعامات مختلفة هي التي أخَّرت الحراك المجتمعي بعضها توجه للسياسة، كما رأينا في الحركات السابقة، والبعض الآخر استمر في مزاوجة السلاح بالسياسة.
  • التطرف الوافد: حيث كثير من "الجماعات المتشددة" جاء من الجزائر خاصة تلك التي شكَّلت جماعة أنصار الشريعة، والتي تطورت فيما بعد إلى تنظيم الدولة الإسلامية(19). 

هذه العوامل تؤكد السياق المجتمعي السابق وهو أن تطور الدولة ومؤسساتها هو الذي يخفِّف من حدَّة العنف السياسي، كما بيَّن تشارلز تيلر في دراسته عن الثورة الفرنسية، وهذا الفراغ هو الذي يجعل ممارسة الديمقراطية بدون ظهير مؤسسي ما هي إلا زيادة في الفوضى داخل المجتمع. وهكذا نجد أن استمرار الفوضى هو المسار الذي جعل من الزعامات هي المحرك الأساسي للمشهد الليبي. وبعد حوار الصخيرات اتفق المجتمِعون على تحديد الجماعات الإرهابية، وهما: تنظيم أنصار الشريعة (القاعدة) وتنظيم الدولة(20). 

جماعة أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة 

في بداية العام 2012 تشكَّلت جماعة أنصار الشريعة وكان ذلك في بنغازي في اجتماع ضمَّ الكثير من أبناء الحركات الإسلامية، وحاولت تنظيم مظاهرة إبَّان الثورة للدعوة لتحكيم الشريعة، هذه المظاهرة كانت مسلحة، حاولت بعدها الجماعة أن تتجه للمجتمع وتنشئ بعض المؤسسات، ولأن الكثير من أعضاء الجماعة من التيار السلفي الجهادي، والكثير من المسلحين الذين تلقوا فترة من التدريب في الجزائر عادوا للبلد بعد الثورة؛ فإن إرباكًا كبيرًا حول العلاقة مع القاعدة قد حصل؛ ففي حين تعلن الجماعة أن ليس لها علاقة بالتنظيم إلا أن هذا السياق التاريخي يجعل الكثير من التقارير تذكر الترابط بين القاعدة وأنصار الشريعة. 

والظاهر أن هناك موجتين من الجماعات التي لها ارتباط بالقاعدة، الأولى: كانت الجماعة الإسلامية المقاتلة، وهذه فكَّت ارتباطها بالقاعدة بعد أن طرد أسامة بن لادن المقاتلين الليبيين العاملين معه من شركته الاستثمارية التي شكَّلها في السودان، كما ذكر ناصر العكر(21). لذا، فإن الجيل الأول قد فكَّ ارتباطه بالقاعدة بل كان هناك حاجز كبير مع التنظيم لتخليه عن بعض الليبيين حسب العكر. 

الموجة الثانية تلك التي قدمت البلد بعد حرب العراق الثانية والذين قدموا من سوريا والجزائر، هؤلاء عندهم علاقات وانتماءات واضحة مع القاعدة، وهذا ما جعل الولايات المتحدة الأميركية تصنِّف التنظيم كمنظمة إرهابية بعد اغتيال السفير الأميركي في بنغازي، في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2012، وتشير المعلومات التي رشحت عن التحقيقات إلى أن اغتيال السفير كان عملًا مدبرًا برعاية تنظيم القاعدة. 

هذا قد يُظهر أن العلاقة مع تنظيم القاعدة تطورت، لكن لا يمكن الجزم بوجود استراتيجية موحَّدة أو علاقة تنظيمية مع جماعة أنصار الشريعة، ويشير بعض معلومات الاستخبارات CIA عن وجود هذه العلاقة خاصة بعد مقتل السفير الأميركي في ليبيا. من الناحية الفكرية أعلن التنظيم أنه ضد الديمقراطية وضد المسار الذي تحركت به الثورة عبر الإعلان الدستوري. امتلكت هذه الجماعة السلاح أثناء الثورة وشكلت كتائبها وهي جزء من الصراع الدائر في بنغازي وفي هذه الكتائب عدد قليل في درنة؛ لذا رأينا أن الكثير من التصريحات والمقالات الصحفية تصف مجلس شورى درنة أو بنغازي بتنظيم القاعدة، والواقع أن تنظيم الأنصار مختلف عن مجموعة من المقاتلين الذين تشكَّلوا بعد الاحتراب الداخلي الذي نشأ في بنغازي مع عملية الكرامة في مايو/أيار 2014. 

رغم التشابك مع تنظيم الدولة إلا أن فكر هذه الجماعة هو فكر رافض للدولة المدنية والديمقراطية، وقد هيَّأ الجنرال حفتر لهذا التنظيم السردية التي ينتظرها عبر شخص حفتر الذي يشكِّل الطاغية التي يمكن حشد الأنصار وقتاله، أي إن وجود حفتر جذَّر فكرة (الطاغوت) التي يحتاجها التنظيم الإرهابي لرصد عدد من الحقائق تثبت صحة العمليات التي يقوم بها التنظيم. 

ما يجب ملاحظته أن التنظيم نشأ بعد الثورة، ولم يكن تيارًا مجتمعيًّا من قبل كما هي حال التنظيم في مصر مثلًا وجذوره "التكفيرية"، وهذا يبرز المعنى الذي كررته هذه الورقة وهو الارتباط السياسي لهذه الجماعات عبر تطورات المرحلة الانتقالية أكثر من النشأة كحركات اجتماعية لها مؤسسات وموارد ونسق فكري (فرصة سياسية) وثقافة داخلية. 

تنظيم الدولة 

في إبريل/نيسان عام 2014، قام ما يُعرَف بـ"مجلس الشورى" بإصدار بيان أعلن فيه براءته من المؤسسات القائمة وأنه سيقيم محاكم شرعية في مدينة درنة، وقدَّم عرضًا عسكريًّا لأهل المدينة يستعرض فيه قوته. وحاول المجلس أن يتقرب من الناس وأن يقيم بعض المؤسسات الخاصة به، على شكل جمعيات ومحاكم ليحكم بين المتخاصمين في المدينة التي أُحرق فيها مبنى المحكمة إبَّان الثورة. 

كان من الواضح منذ البداية الاختلاف بين تنظيم الدولة، وتنظيم أنصار الشريعة، فإن تنظيم الدولة يسعى وبقوة لتأسيس بعض المؤسسات المنافسة للدولة (الغائبة)، ورغم المناشدات التي قُدِّمت لرئيس الوزراء، علي زيدان، في الأعوام التي سبقت ظهور التنظيم، بشأن البدء في تفعيل مؤسسات الدولة الشرطية والقضائية بعد تزايد الاغتيالات في المدينة والتي طالت النائب العام السابق عبد العزيز الحصادي، إلا أن عدم الاستجابة لهذه المناشد وغياب الدولة في مدينة درنة، واندلاع الصراع في بنغازي وفَّر حالة من غياب القانون و(التوحش) جعلت التنظيم يبني وجوده في هذه البيئة المثالية لما يُعرف بإدارة التوحش(22). 

في سرت كذلك، كان تنظيم أنصار الشريعة، أو كما كان كثيرون يعتقدون في البداية حيث تبيَّن لاحقًا أنهم يتبعون تنظيم الدولة، يقترب من الأعيان في المدينة ويحاول أن يُظهر مساعدته للمدينة خاصة وأنها حسب السردية السائدة بين الأهالي واقعة تحت ظلم الكتائب الموجودة في سرت، وحسب شهود عيان أسفر اجتماع التنظيم بأعيان المدينة، في منتصف عام 2015(23)، عن تولي التنظيم حماية المدينة والدفاع عنها، وما أن اقتنع الأعيان بذلك حتى بدأ التنظيم ببناء مؤسساته وهكذا صار يأمر وينهى، وبرز التنظيم بعد ذلك كجزء من تنظيم الدولة في حادثة إعدام المصريين على شواطئ سرت في 18 فبراير/شباط 2015. 

شكَّل التنظيم تهديدًا خطيرًا لليبيا ومحيطها، خاصة بموقعه الجغرافي واختياره للهلال النفطي في سرت. وقد نشر العديد من المواقع رسالة أبي عبد الرحيم الليبي، أحد قيادات التنظيم، الذي نشر التنظيم ورقته في عدَّة مواقع ونقلها بعض مراكز الدراسات(24)، تلك الورقة المكتوبة بأسلوب منظم يشرح فيها استراتيجية التنظيم في ليبيا تلك التي تهدف "لنشر الفوضى" في شمال إفريقيا والسيطرة على السلاح الليبي الذي انتشر بعد الثورة، وذكر في تلك الرسالة حقيقة التنافس بين ليبيا وفرنسا، خاصة في السيطرة على مشروع الغاز الذي يمتد من النيجر إلى نيجيريا ليمر عبر الجزائر (وقد كان القذافي يحاول أن يمنع ذلك بنشر السلاح بين الطوارق في الجنوب)؛ مما يجعل تواجد التنظيم في هذا الموقع في قلب المعادلة الدولية التي تَمَيَّز التنظيم بقدرته على الاقتراب منها وتهديدها(25). 

سيناريوهات للمستقبل(26) 

عند غياب الدولة يطل التاريخ برأسه، وحين تنشأ زعامات تمارس السياسة يظل المجتمع بدون مؤسسات تمثِّله، لتبقى الحركات الإسلامية تستنسخ التجارب الخارجية في الفصل بين الدعوي والسياسي وغير ذلك من الثنائيات والمفاهيم التي لم يحدث حولها أي نقاش علمي أو جدل بين المثقفين، بل كانت القوة تملك المعرفة، وترسم ملامحها كما تشاء في مناهج التعليم وفي الجامعات والمطبوعات والإعلام. هذا وفي ظل فشل الدولة والانقسام السياسي والتدخل الخارجي والإقليمي توفر السلاح لتنشأ من جرَّاء ذلك "الجماعات المتشددة" وهو ما اتضح جليًّا في تنظيم الدولة، عندها فقط لجأ الجميع للمجتمع وتماسكه وعرف أنه القادر على طرد شبح هذا التنظيم كما حدث في مدينة درنة وصبراتة. 

هذا العرض يجعل توقع المستقبل ممكنًا، فإنَّ فعْل الحركات المعتدلة سيكون مرتبطًا بالسيناريوهات الأربعة للمشهد الليبي بين الاستقرار المشوب بالحذر والعنف الذي سيبقى في تناقص ربما لسنوات طويلة، وهو السيناريو الممكن في ظل التقدم الذي تحرزه القوات الليبية في سرت فيما يسمى بعملية "البنيان المرصوص"، أو أن يحدث انقسام في البلد وهذا سيُنشئ دولة ضعيفة في الشرق الليبي ما يعزِّز التدخل المصري ولن تكون نتيجته إلا حالة من عدم الاستقرار واستمرار النزاعات التي يتعزز معها "الإرهاب". 

سيناريو آخر وهو انتشار تنظيم الدولة و"الإرهاب" والاتصال بالجنوب وهكذا تصبح منطقة شمال إفريقيا منطقة توتر وهذا يعني المزيد من "الحركات المتشددة" التي ستهمِّش كافة الحركات المعتدلة وستجد "الحركات المعتدلة" نفسها مرغمة على مقاتلة هذه "التنظيمات المتشددة"، ليصبح بالتالي العنف سيد الموقف في ليبيا ومحيطها خاصة تونس والجزائر ومالي وهذا مشهد مخيف. 

وهناك سيناريو آخر محتمل ألا هو القضاء على تنظيم الدولة في سرت ويصبح "المجلس الرئاسي" في وضع يمكِّنه من بسط سلطته في طرابلس. والى حين ذلك يحتمل أن يكون هناك نوع من الصراع بين بعض التيارات الإسلامية في طرابلس -والتي لها علاقة بالجماعة الإسلامية المقاتلة- وبعض الرافضين للحوار من المواطنين من جهة، وبعض التشكيلات المسلحة والتي من بينها تيارات سلفية من جهة أخرى، وهذه الأخيرة أقرب للمجلس الرئاسي. وستعتمد نتيجة هذا الصراع على قدرة المجلس الرئاسي على التصرف بحكمة بما يحول دون انتقال الصراع كما كان في بنغازي إلى طرابلس. 

هذا السيناريو قد يجعل من جماعة الإخوان المسلمين أقرب إلى التغيير في سياساتها وحسب المعلومات التي رشحت من نقاشات في الجماعة هناك إمكانية لحل الجماعة وإقامة مؤسسات مدنية تمارس العمل الدعوي والتثقيفي لأبناء المجتمع ويترك حزب العدالة والبناء ضمن المعادلة السياسية كما هو، وهنا يمكن تصور التيار الإسلامي كجزء من العملية السياسية والسُّلطات التي ستتكون بشكل تدريجي. 

أمَّا "الحركات المتشددة" في إطار سيناريو تشكُّل السلطات التابعة للمجلس الرئاسي فإن مصيرها سيرتبط بتكوين الدولة وقد بيَّنت التجربة أن المجتمع يرفض هذا "الإرهاب" وأنه قادر على محاربته وطرده؛ لذا فإن مستقبل "الحركات المتشددة" ضعيف ويمكن أن يوضع في إطار العنف السياسي الذي سيقل تدريجيًّا مع بناء مؤسسات الدولة.

____________________________

 نزار كريكش - باحث ومحلل سياسي ليبي

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)           الفرصة السياسية كما هي في النظرية الاجتماعية تعني وجود إمكانية في الواقع تدفع الناس للحركة وفق الحسم المنظَّم الذي يملك بعض الموارد والرؤى السياسية، ولعل المثال الأبرز للحركات الإسلامية في المنطقة العربية هو ما وفَّره الرئيس السادات للحركة الإسلامية في السبعينات حين أفسح المجال للإخوان المسلمين بالحركة في المجتمع وتكوين المؤسسات، وهذا لم يحدث في التجربة الليبية.

(2)           هذا يعني، وفق أنَّا بالدينيتي، أن ليبيا نموذجًا للصناعة الخارجية أو الاستعمارية هي ردُّ فعل ضروري من المهجر لمواجهة الاستعمار الإيطالي.

Anna Baldenetti (2010) The Origins of the Libyan

Nation (London: Routledge).

(3)           Lisa Anderson (1986) The State and Social Transformation in Tunisia and Libya, 1830-1980 (Princeton: Princeton University Press).

(4)           Amal Obeidi (2001) Political Culture in Libya (London: Routledge).

(5)           الزعامة هي مفهوم اجتماعي سكَّه ماكس ويبر في القرن التاسع عشر، وتعني القدرة على تحريك الجماهير وجذبهم نحو الشخصية المحورية، وفي السياق الليبي تعني شيوخ القبائل وأمراء المحاور والسياسيين القادرين على المبادرة والفعل السياسي عبر الموارد المتاحة لهم كما كان القذافي.

(6)           المولدي الأحمر (2008)، الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا: الفرد والمجموعة والبناء الزعامي للظاهرة السياسية، (تونس: جامعة تونس).

(7)           Ronald Bruce St. John (2008) Libya: From Colony to Independence (London: Oneworld)

(8)           للمزيد حول تاريخ الجماعة في ليبيا خاصة في ملاحقة الحكومة المصرية لعناصر الإخوان، وهم: عز الدين إبراهيم ومحمود يونس الشربيني وجلال الدين إبراهيم سعده، انظر: www.islamist-movements.com .

(9)           لقاء أجراه الباحث مع العديد من أعضاء المؤتمر.

(10)         الجماعات الإسلامية في ليبيا حظوظ الهيمنة السياسية وتحدياتها، منظمة فريدريتش أيبرت، 2015، (تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2016).

(11)         تعريف بالحزب، موقع العدالة والبناء، http://www.ab.ly/about/template-info-2/ta3reef.html ، 2014، (تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2016).

(12)         Arend Lijphart (1999) Patterns of Democracy (New Haven & London: Yale University Press).

(13)         تنظيم الاتحاد الإسلامي الأفغاني الذي كان يضم مجموعة من الفصائل المقاتلة قبل أن تنفض هذه الفصائل لكنها بقيت بنفس الاسم. يترأَّس هذا الاتحاد القائد الأفغاني عبد الرسول سياف، وانتظم أعضاء من الجماعة الليبية في معسكر يعرف بمعسكر سلمان الفارسي في منطقة من مناطق القبائل الباكستانية على الحدود مع أفغانستان.

(14)         دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس، مراجعات الجماعة الليبية المقاتلة، تأليف وإعداد: قادة الجماعات المقاتلة، 2010، تحت إشراف الدولة الليبية وجمعية القذافي لحقوق الإنسان وبمشاركة مجموعة من العلماء راجعت الجماعة مجموعة الأفكار المؤسِّسة للتيار الجهادي من حيث حكم بالتكفير والحسبة، ومقاصد الشريعة وضرورة الارتباط بالأصول الشرعية الفقهية.

(15)         (2016) "Libya, Extremism, & the Consequences of Collapse," The Soufan Group, http://soufangroup.com/wp-content/uploads/2016/01/TSG_Libya-Extremism-and-the-Consequences-of-Collapse-Jan2016.pdf  (تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2016).

(16)         الخارطة السياسية في ليبيا بعد ثورة السابع عشر من فبراير، مركز بيان للدراسات، دراسة قُدِّمت للمفوضية العليا للانتخابات لمجموعة باحثين، 2012.

(17)         التيار المدخلي هو تيار سلفي سُمِّي نسبة لأحد رجال الدين في السعودية وهو الشيخ ربيع المدخلي، وقد برز هذا التيار في ليبيا خاصة بعد عملية الكرامة في منطقة بنغازي وشارك في القتال بكتيبة اسمها كتيبة التوحيد. للمزيد انظر: http://arabi21.com/story/919751/%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%84%D9%8A-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7

(18)         Christopher S. Chivvis, Jeffrey Martini (2014) Libya After Qaddafi: Lessons and Implications for the Future (Santa Monica: RAND).

(19)         (2016) "Libya, Extremism, & the Consequences of Collapse," The Soufan Group, http://soufangroup.com/wp-content/uploads/2016/01/TSG_Libya-Extremism-and-the-Consequences-of-Collapse-Jan2016.pdf (تاريخ الدخول 16 أغسطس 2016).

(20)         الاتفاق السياسي الليبي، موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، https://unsmil.unmissions.org/LinkClick.aspx?fileticket=pRVejDEPRU4%3D&tabid=5120&mid=8563&language=en-US (تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2016).

(21)         أحد قيادات الجماعة الإسلامية المقاتلة والذي اغتاله تنظيم الدولة في درنة 10 يونيو/حزيران 2015.

(22)         Omar Ashour (2015) " Between ISIS and a failed state: The saga of Libyan Islamists," Project on U.S. Relations with the Islamic World at Brookings, https://www.brookings.edu/wp-content/uploads/2016/07/Libya_Ashour-FINALE.pdf(accessed 16 August 2016).

(23)         حسب شهادات ولقاءات أجراها الباحث مع الناشطين من المدينة.

(24)         Charlie Winter (2015) “Libya: The Strategic Gateway for the Islamic State,” Quilliam, https://www.quilliamfoundation.org/wp/wp-content/uploads/publications/free/libya-the-strategic-gateway-for-the-is.pdf  (تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2016).

(25)         Kamal Qsiyer (2015) " The Islamic State (IS) in Libya: Expansion by Political Crisis," Al Jazeera Centre for Studies, http://studies.aljazeera.net/mritems/Documents/2015/6/23/2015623111631833734Islamic%20Libya.pdf  (تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2016).

(26)         Jon Mitchell (2015) " Scenarios for the Future of Libya – Scenarios 1: Towards Peace?" The Red (Team) Analysis Society, https://www.redanalysis.org/2015/06/29/scenarios-future-libya-scenario-1-towards-peace-1/ ) تاريخ الدخول: 16 أغسطس/آب 2016).