تتطور الأحداث المتسارعة التي تشهدها إثيوبيا منذ تفجر ثورة احتجاجية، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، فمن يوم لآخر تحتل أخبارُ احتجاجات المعارضة الإثيوبية واجهاتِ الصدارةِ في الإعلام الإقليمي والعالمي، وتترافق مع هذه الاحتجاجات أخبارٌ ملونة بالدم؛ فأعداد القتلى من القومية الأورومية آخذة في التزايد، بينما يغيب الحوار وآفاق التفاوض بين المحتجين والسلطات الإثيوبية، التي تواجه المسيرات الغاضبة بالقمع والقتل. بلغت أعداد القتلى أكثر من 1500 قتيل في غضون أشهر قليلة بحسب روايات المعارضة، بينما تتكتم السلطات الإثيوبية أرقام الضحايا الذين يسقطون بين الحين والآخر في الاحتجاجات الشعبية التي تمتد إلى أغلب الأقاليم.
تصدرت القومية الأورومية الواجهة السياسية في المشهد الإثيوبي المفعم حاليًّا بموجات من الرفض الشعبي ضد السياسة الإنمائية التي تنتهجها الحكومة الإثيوبية، وهي السياسة التي أشعلت النار في قلوب الشباب الإثيوبي وخاصة من قومية الأورومو التي تعد الأكثر كثافة من حيث السكان؛ إذ تناهز نسبة 40% من المجتمع الإثيوبي، وتليها القومية الأمهرية بنسبة 25%، ومن ثم الصوماليون بنحو 6.2%، ويليهم عرقية تيغراي الذين يشكِّلون نحو 6.1% من السكان، وهي العرقية التي تحكم إثيوبيا منذ تولي ميلس زيناوي نظام الحكم في إثيوبيا مطلع تسعينات القرن الماضي.
ولم يكن لعرقية التيغراي حظ وافر في نظام الحكم في إثيوبيا منذ عقود كما لم يكن لها تأثير على الحياة السياسية، لكونهم لا يشكِّلون حجمًا سكانيًّا له تأثيره على مجريات السياسة، إلا أن بروز الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي بزعامة ميلس زيناوي، عام 1989، قلب موازين القوى السياسية؛ إذ نجحت الجبهة في قلب نظام الحكم وتولى زيناوي زعامة البلاد ابتداء من عام 1991 حتى وفاته عام 2012.
وبعد رحيل زيناوي توقَّع الكثيرون من الخبراء والمحللون مصيرًا قاتمًا ومستقبلًا ضبابيًّا لإثيوبيا؛ إذ كان الرجل يتمتع بشخصية كاريزمية؛ حيث حكم إثنيات متناقضة محافظًا على هيبة الدولة خلال عقدين، إلا أن مؤشرات التفكك بدت في حكمه أكثر من فرص الوحدة الفيدرالية الإثيوبية، إلا أن سياسات الدولة في عهده همَّشت القوميات الأكثر سكانًا وقلَّصت من فرصها وحظوظها من الخطة الإنمائية التي حققت لإثيوبيا نموًّا اقتصاديًّا منذ عام 2007.
في هذه الورقة نحاول أن نعرِّج بعمق على الأزمة السياسية الراهنة في إثيوبيا وجذور مأساة القومية الأورومية التي عانت من تهميش وإقصاء، ولا تزال تدفع ثمنًا باهظًا للحفاظ على تركيبتها السكانية، إلى جانب الأسباب والدوافع وراء النهضة الشعبية أو بتعبير آخر "الربيع الإثيوبي"، الذي يشكِّل الشباب القوة المغذِّية له، وسنحاول استشراف مصير تلك الاحتجاجات الشعبية وهل تحقق المطالب الشعبية، وإلى أين تقود هذه الثورة إثيوبيا في المستقبل.
خلفية الأزمة الراهنة
تاريخيًّا، يُعدُّ شعب الأورومو من أقدم الشعوب القاطنة منطقة القرن الإفريقي، ويقول بعض المؤرخين: إن بعضًا من وفود الأمراء الذين رحَّبوا بقدوم الملكة حتشبسوت إلى بلاد البنت كانوا يحملون اسم أمراء الأورومو. وتقترب نسبة الأورومو من 40% ولذلك فهم أكبر قوميات إثيوبيا الفيدرالية التي يصل تعداد سكانها إلى 94 مليون نسمة، وهم يتحدثون اللغة الأورومية التي يسميها أبناؤها بـ"أفان أورومو" وهي من اللغات الكوشية، وموطنهم الأصلي منطقة القرن الإفريقي وفي إثيوبيا حاليًّا. وأصولهم ترجع إلى القبائل الحاميَّة الكوشية الإفريقية القاطنة منطقة القرن الإفريقي في إثيوبيا وشمال كينيا، وأجزاء من الصومال.
يعتنق ما يزيد على 70% من شعب "أورومو" الإسلام، و20% منهم مسيحيون، فيما هناك 10% منهم وثنيون(1). وقد خضع الأورومو على مرِّ التاريخ لدول وممالك عديدة، من أواخرها الممالك الإسلامية التي حكمت المنطقة قرونًا إثر دخول الإسلام إليها.
وفي العصر الحديث ومع ظهور الدولة الإثيوبية منتصف القرن التاسع عشر، اتسمت سياسات الأباطرة الإثيوبيين بالتوسع على حساب الأقاليم الإسلامية المجاورة وعلى حساب العِرقيات الموجودة بها، فتشكَّلت الدولة من عرقيات مختلفة تحت هيمنة عرقيتيْ (الأمهرية والتيغراي) اللتين يعتنق معظم أبنائهما المسيحية(2).
ومنذ تشكُّل الدولة الحديثة في إثيوبيا، بدأت معها معاناة القومية الأورومية، التي تتمتع بالأكثرية السكانية في المنطقة، من هنا لم يكونوا يومًا مهيمنين وحدهم مثل الأقليات الأخرى التي كانت لها السيطرة (الأمهرا والتيغراي)، وكذلك فإنهم كثيرًا ما تمرَّدوا دون أن تنتج عن تمردهم أية نتيجة تُذكر، وتكاد القومية الأورومية تكون على مدار التاريخ حامية الإمبراطورية الإثيوبية رغم أنهم لا يشكِّلون سلطتها في معظم الأزمنة، بل جنودها يقاتلون لصالح الطبقة الحاكمة، وهذا هو وجه الغرابة. ورغم صدور دستور إثيوبيا منذ نحو عشرين عامًا، وهو دستور ينص على احترام حقوق العرقيات والأقليات، فإن عرقية الأورومو ما فتئت تطالب بحقوقها كأكثرية، وتعبِّر عن ذلك مرارًا بتمردات مطَّردة دون أن تُكلَّل مسيرتُهم بالنجاح في إسقاط نظام الحكم أو في تحقيق حدٍّ أدنى من مطالبهم(3).
وتتمثل أوجه المعاناة في أن القومية الأورومية كانت -ولا تزال- تدفع ثمنًا باهظًا منذ وصول الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي إلى الحكم، ويتمثل ذلك الثمن في أمور يشترك معها فيها الكثيرون لكنها تعاني منها كأكثرية سكانية:
- التضخم المتزايد في أسعار الغذاء.
- النقص في المناطق الحضرية.
- استمرار الجوع في المناطق الريفية الذي يتطلب معونات غذائية دولية متكررة.
- ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب.
- تفاقم التفاوت في الدخل.
- الفساد وتهريب الأموال، ويتراوح ما تم تهريبه ما بين 8 مليارات إلى 11 مليار دولار على مدى العقدين الماضيين.
- انسداد أفق التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي أمام غالبية السكان(4).
- ضَمِّ مساحات شاسعة من الأراضي ضمن نطاق الاستراتيجية الإنمائية الجديدة لتوسيع رقعة مساحة أديس أبابا في إطار برنامج الخطة العامة (MASTER PLANE) وانحسار النفوذ الجغرافي لقومية الأورومو.
- عدم احترام معتقدات القوميات الأخرى؛ إذ إن نظام الحاكم أودع السجونَ عشراتٍ من المسلمين الأورومو على أساس أنهم ينتمون إلى الجماعات الإرهابية، وهو ما وسَّع رقعة الاحتجاجات الشعبية ضد النظام السياسي في البلاد؛ إذ تُنظَّم الاحتجاجات كل جمعة في باحات المساجد وفي فضاءاتها.
الاحتجاجات الشعبية: قراءة في الأسباب والدوافع
تتعدد العوامل التي لعبت دورًا في تبلور الأزمة السياسية المستفحلة حاليًّا، وخروج صورتها النهائية إلى تظاهرات حاشدة تكاد تغرق إثيوبيا بموجة من الاحتجاجات الشعبية المناهضة لسياسات السلطة الحالية، رغم أن الكونفيدرالية الإثيوبية نجحت في مرَّات عدَّة في قمع وكبح جماع حركات التمرد إلى جانب إخماد نار الاحتجاجات السلمية، وتضييق خناق المعارضة، التي يقبع أعضاؤها في أقبية السجون.
ونستعرض هنا أبرز الجوانب التي يمكن الاستناد إليها وراء الاحتجاجات الشعبية (الأورومو والأمهرا) التي تتوسع رقعتها في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
الأسباب السياسية
اندلعت الاحتجاجات الرسمية الآخذة في التوسع حاليًّا في أواخر عام 2015 في إثيوبيا وذلك عقب قرار الحكومة الإثيوبية بتوسيع رقعة مساحة العاصمة ضمن مشروع الخطة العامة، وهو الأمر الذي دفع الطلاب في المدارس والجامعات إلى تنظيم تظاهرات واحتجاجات شعبية ضد هذه الخطة، وهي المظاهرات التي جوبهت بالرصاص من قبل الشرطة الإثيوبية وقُتل على إثرها نحو عشرة من الطلاب من القومية الأورومية(5).
وتقضي خطة "ماستر بلان" إلى توسيع الحدود الإقليمية للعاصمة (أديس أبابا) وزيادة حجمها نحو عشرين ضعفًا، وذلك من خلال مصادرة الأراضي الزراعية المتاخمة حدوديًّا للعاصمة؛ ما يعني الاستيلاء على الأراضي الزراعية التي يملكها الأورومو، وهي مساحة قدرها 1.1 مليون هكتار، وتعتقد المعارضة الإثيوبية أن هذه الخطة وُضعت في إطار من السرية، وأن المحتجين تلقوا انتهاكات وتعديات تمثَّلت في استهدافهم بالدخيرة الحية، وأودت بحياة نحو 70 من الطلبة، بالإضافة إلى اعتقال الآلاف منهم(6).
وفي ضوء الأحداث السياسية الراهنة، فإنه من المحتمل في نظر الكثيرين تصاعد الأزمة السياسية في المنطقة، وخاصة المدن التي يقطنها الأورومو بحثًا عن حقوقهم السياسية التي تلاشت وذهبت أدراج الرياح، منذ انسحابهم من العملية السياسية برمتها عام 1993 وجنوحهم إلى حمل السلاح تحت مظلة جبهة تحرير الأورومو التي تأسست عام 1973 وأصبحت منذ ذلك التاريخ تطالب بالحكم الذاتي أو الانفصال.
وبعد ابتعاد جبهة تحرير أورومو عن العملية السياسية أصبحت "المنظمة الديمقراطية لشعب الأورومو" المشارِكة في الحكومة، هي المسيطِر على المقاعد النيابية المخصصة لولاية أوروميا، وأصبحت هذه المنظمة تحتكر بصورة شبه كاملة السلطة السياسية في الولاية منذ 1992(7).
ويُرجِع الخبراء الأسباب الرئيسة في تدهور الأوضاع في المنطقة سياسيًّا والتي تسببت في المظاهرات الشعبية التي تطالب بإجراء تعديلات فورية لإصلاح النظام السياسي في البلاد، إلى:
أولًا: غطرسة قومية تيجراي: بعد وفاة رئيس الوزراء السابق، ميليس زيناوي، في عام 2012 وتولِّي الحكم رئيس الوزراء الحالي، هيلا مريام ديسالين، دخلت السياسة الإثيوبية منعطفًا جديدًا؛ إذ رفضت معظم القيادات في الصف الأول من الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي السياسات التي ينتهجها رئيس الوزراء الحالي الذي يؤمن بسياسة الانفتاح على جميع القوميات في البلاد، ويرجع ذلك إلى تغيير كبير حدث في ذهن الساسة الإثيوبيين؛ حيث يرى الكثير من السياسيين أنه لا يمكن أن تسيطر قومية قليلة لا يتجاوز تعدادها 6% من الشعب الإثيوبي الذي يتجاوز 90 مليون نسمة على النظام السياسي في إثيوبيا. ولو استمرت هذه الحالة السياسية المتردية في البلاد فإنها ستفجِّر ثورة شعبية ضد الحكومة آتية لا محالة وخاصة ضد قومية تيغراي التي تسيطر على المشهد السياسي في البلاد منذ 25 عامًا.
ثانيًا: الاختلاف بين القيادة السياسية والعسكرية: ويرجع هذا الاختلاف إلى توجيه القيادة العسكرية بوصلة السياسة في البلاد منذ فترة طويلة نحو القمع والاضطهاد ضد القوميات الأخرى في البلاد. كما تتحكَّم في هذا الاختلاف بين القيادتين الأسباب التالية:
- كوْن قيادة الجيش الإثيوبي من قومية واحدة وهي تيغراي.
- رفض سياسي من القوميات الأخرى وخاصة الأمهرا والأورومو من سيطرة قومية تيغراي على المؤسستين العسكرية والتنفيذية في البلاد.
- خوف قومية تيغراي على مصالحها في البلاد في ظل سياسات رئيس الوزراء الحالي، ديسالين، التي يرون فيها تهديدًا لمصالحهم(8).
ومع الضبابية التي تلف المشهد السياسي في إثيوبيا والخلافات التي تعصف بالمؤسسة العسكرية والقيادة الحالية فإن نذر أزمة سياسية تلوح في الأفق، في ظل تصاعد موجات الاحتجاجات الشعبية التي وصلت شرارتها إلى أكثر من 100 مدينة في إثيوبيا.
الأسباب الاجتماعية
لعقود طويلة عانت قومية الأورومو الاضطهاد الاجتماعي؛ حيث كانت -ولا تزال- تطالب بحق تقرير المصير، وتقود جبهة تحرير الأورومو النضال لمواجهة حكومة أديس أبابا، وتستخدم السلاح، والضغوط السياسية، والحملات الإعلامية من الخارج في مواجهة النظام الحاكم بإثيوبيا، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على ضم أوروميا لإثيوبيا فإن أبناء هذه العرقية حافظوا على تقاليدهم وموسيقاهم، ويسعون للانفصال.
ويمكن تلخيص أبرز القضايا الاجتماعية التي تعاني منها الأورومو، وترفع شعاراتها لتحقيق مطالبها، في البنود الآتية:
- إعادة صياغة مفهوم هويتهم الوطنية برفض الهوية الوطنية الإثيوبية "المفروضة على الجميع"، لكن الانشقاقات التي اتسمت بها صفوفهم أسهمت في إضعاف قدرتهم على تحقيق أهدافهم.
- إثيوبيا ليست دولة موحدة من حيث التاريخ والثقافة واللغة المشتركة، وإنما تشكَّلت عبر حروب قادها "الغزاة الإثيوبيون" بمساعدة من الأوروبيين، بدافع تصورهم أن إثيوبيا "جزيرة مسيحية تعيش في بحر إسلامي".
- تتهم الأورومو السلطات الإثيوبية بأنها تعتمد تجاهها سياسة القتل والتنكيل والاعتقال العشوائي، واغتصاب النساء والتهجير القسري والاستيطان المنظَّم والإبادة الجماعية ومحاربة الثقافة الخاصة لقوميتها، وباعتمادها سياسة تكرِّس انتشار الفقر والتخلف والجهل ومحاربة التنمية والتطور في مناطقها.
- تتهم الأورمو السلطات الإثيوبية باستخدام سياسة تقسيم الأراضي والاستيطان بغرض الإخلال بالتركيبة السكانية.
- تعاني الأورومو فقدان الحقوق الأساسية كحرية التعبير والحركة والتجارة، وحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات، إضافة إلى ما تسميه: "المستقبل المجهول" الذي ينتظر أطفالها المحرومين من مقومات الحياة الأساسية من تعليم وصحة.
تلك هي أبرز المظالم الاجتماعية التي يئنُّ لها الجسد الأورومي منذ عقود، فالاحتجاجات الأخيرة أبرزت إلى العلن مدى حجم الظلم الاجتماعي الذي تدفع القومية ضريبته ولو بصمت منذ ما يزيد عن عشرين عامًا.
وهنا، تتضح الأسباب الاجتماعية لاستهداف السلطات الإثيوبية للقومية الأورومية، وهي أسباب نوردها في البنود الآتية:
- الخوف من الكثافة السكانية التي تتمتع بها القومية الأورومية؛ إذ تشكِّل 40% من الكثافة السكانية لإثيوبيا.
- الديانة الإسلامية؛ إذ ينتمي نحو ما يزيد على 70% من الأورومو إليها، وهو ما قد يدفع السلطات الإثيوبية إلى الزج بهم في السجون والأقبية السرية، وذلك من خلال إلصاقهم بـ"الإرهاب" والإخلال بالنظام العام والأمن في إثيوبيا.
- كفاحهم المسلح ضد الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي التي تتربع في كرسي الحكم، مبرر آخر للسلطات الإثيوبية لقمع هذه القومية.
- دعاوى الانفصال وحق تقرير المصير التي ينادي بها أفراد القومية الأورومية.
الأسباب الاقتصادية
يرى معارضو النظام الحالي في إثيوبيا أن الإقدام على طرح مشروع الخطة العامة وضع النظام السياسي في مقتل؛ إذ إنه يقلِّص الفرص الإنتاجية للأورومو حيث تشير التقارير الدولية إلى أن هذا المشروع مئات آلاف الكيلومترات المربعة من الأراضي التي يملكها مزارعو الأورومو.
وعلى الرغم من أن إثيوبيا حققت نهضة اقتصادية ونفَّذت مشاريع اقتصادية تكلَّلت بالنجاح؛ إذ ارتفع مؤشرها الاقتصادي المتنامي، بنسبة 8.5% خلال العام المالي 2015/2016، مقارنة مع 10.7% خلال العام المالي السابق عليه غير أن ذلك النجاح الاقتصادي المتواصل منذ عام 2007، لا يشمل القوميات الأخرى وخاصة (الأمهرا والأورومو)، والاحتجاجات الشعبية الراهنة اندلعت من أجل ضمان حقوقهم الاقتصادية الاجتماعية من جهة، وضمان تنظيم حياتهم السياسية من جهة أخرى(9).
في السنوات الـ9 الأخيرة تلقت إثيوبيا مساعدات مالية من المانحين الأوروبيين بلغ حجمها نحو 9 مليارات دولار، لمعالجة آثار الجفاف التي ضربت مناطق عدَّة في الريف والمدن الإثيوبية، إلا أن القومية الأورومية لم تحصل على شيء من هذه المساعدات رغم أن المأساة الإنسانية ألحقت بهم أضرارًا كثيرة وقضت على الأخضر واليابس(10).
ويكافح الأورومو حاليًّا من أجل حماية مصالحهم الاقتصادية من الأراضي الزراعية ومراعيهم إلى جانب الحفاظ على بيئتهم ومياههم وذلك ما يصون لهم شيئًا من تركيبتهم الاجتماعية والاقتصادية.
وتنحصر جملة الأسباب في الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية آنفة الذكر، وهي التي باتت محركًا أساسيًّا للأزمة الإثيوبية الراهنة المتمثلة في الغضب الشعبي المتواصل في المنطقة، فمن دون تذليل تلك العقبات وحل المشاكل والأسباب الرئيسة للاحتجاجات الشعبية، لا تزال تلك الرغبة الشعبية المتعطِّشة للتغيير والإصلاح مستمرة وحتى إن تقطعت أو توقفت بفعل حجم العنف أو السياسات القمعية فإنها تتجدد مثل بركان يتفجر من الداخل يومًا بعد آخر.
إلى أين تقود الاحتجاجات إثيوبيا؟
يتساءل المراقبون حول مستقبل ومصير الاحتجاجات الشعبية في إثيوبيا المضطربة حاليًّا، سياسيًّا وأمنيًّا، فمنذ استفحال الأزمة السياسية الراهنة، يتخوف المجتمع الدولي من أن تتحول هذه الاحتجاجات التي بدأت سلمية إلى أعمال شغب وثورة مسلحة، وتمهد الطريق أمام صدام مسلح مباشر بين الجبهات الإثيوبية المعارضة التي تحمل السلاح من جهة والقوات الأمنية الإثيوبية من جهة ثانية(11).
وبدأت دعوات الحل للأزمة السياسية من الداخل؛ إذ طالبت القوى المعارضة بتشكيل حكومة "وفاق وطني"، لاحتواء المظاهرات التي اندلعت مؤخرًا في إقليمي أورومو (وسط غرب) وأمهرا (شمال) والعاصمة أديس أبابا، تمثِّل كافة القوى السياسية بما فيها قوى المعارضة، دون استثناء من أجل تحقيق المصالحة الوطنية في البلاد. وأن الاحتجاجات الشعبية جاءت نتيجة تراكمات لتظلمات الشعوب الإثيوبية، وتعنت الحكومة في الاستماع إلى مطالبهم مما دفع الشعب الإثيوبي لأول مرة للخروج بعصيان مدني رافضًا سياسات الحكومة القمعية(12).
غير أن بوادر الحل التي كانت القوى المعارضة تعقد آمالها عليها في التوصل إلى تفاهمات مع السلطات الإثيوبية تبددت وتلاشت بإعلان الأخيرة حالة الطوارئ والتي لم تتحدد مدتها، إلا أنها من المتوقع أن تستمر من 3 أشهر إلى 6 أشهر؛ مما يجعل آلة القمع تقسو على المتظاهرين بحسب روايات المعارضة الإثيوبية، وترى ذلك سبيلًا لإسكات صوتها ضد السياسات التوسعية التي تنتهجها السلطات على حساب حقوق وأملاك القوميات الأخرى.
ومن هنا، يتضح أن المشاكل الداخلية في إثيوبيا أكبر بكثير مما يذاع عبر الأثير، ويعتقد الكثير من المراقبين أن تزايد حدة الاحتجاجات الشعبية تعبِّر عن مشاعر غضب كانت دفينة تنتظر لحظة انفجارها، غير أن السعي لإصلاح النظام أو تغييره يُعدُّ مطلبًا ليس من السهل تنفيذ بنوده أو حتى مواربتها نظرًا للاعتبارات الآتية:
أولًا: أن قومية التيغراي تشكِّل 6% من القوميات في إثيوبيا، وليس من السهل أن تترك نظام الحكم لصالح القوميات الأخرى، وخاصة الأورومو والأمهرا، ظنًّا منها أنها بذلك ستعجِّل نهايتها في نظام الحكم في إثيوبيا.
ثانيًا: هناك خوف وقلق يساوران أفراد قومية تيغراي وخاصة المتربعين على كرسي الحكم، وهو القلق من مصيرهم ومستقبلهم السياسي، في حين اختاروا الرضوخ لمطالب المحتجين وهو ما قد يدفعهم إمَّا إلى الخروج هربًا بأجسادهم نحو الدول المجاورة أو تسليم أنفسهم أمام القضاء.
ثالثًا: عدم توفر بيئة أو أرضية ملائمة للاستجابة لمطالب المحتجين من القومية الأورومية والأمهرية؛ إذ لا يتوفر لديهم ما قد يؤهِّلهم لتولي نظام الحكم السياسي والأمني والاقتصادي، إلى جانب مواكبة التطورات الاقتصادية التي تمر بها إثيوبيا حاليًّا والمتربعة في مصاف النجاحات الاقتصادية في القرن الإفريقي.
وبغضِّ النظر عن استجابة النظام الحالي في إثيوبيا لمطالب المحتجين من عدمها، فإن سقوط النظام الإثيوبي الحالي أمر سابق لأوانه؛ إذ إن هناك عدة عوامل تجعل السلطة الإثيوبية في جعبة التيغراي، والتي تتمثَّل في كونهم يتقلدون المناصب السيادية في البلاد، من بينها السلطة العسكرية والتنفيذية، ولديهم إمكانيات عسكرية ومادية لمجابهة أي خطر يداهم سلطتهم في المنطقة.
كما أن الاحتجاجات الراهنة ليست جديدة على إثيوبيا بل تمتد جذورها إلى عام 2004، وقتها كان زيناوي بمثابة الرجل الحديدي في مواجهة المحتجين بسياساته القمعية تارة والوعود الإصلاحية تارة أخرى، فسلسلة الاحتجاجات التي شهدتها إثيوبيا منذ الألفية الجديدة لم تؤثِّر على الوضع السياسي في البلاد، بيد أن الاحتجاجات المستمرة لأكثر من عام ربما ستهز عرش إمبراطورية التيغراي أو على الأقل تجد نفسها مرغمة على تلبية مطالب المحتجين بضغوط من المجتمع الدولي ما سيتيح للقوميات الأخرى بابًا ومنفذًا للدخول إلى بلاط الحكم لتقاسم ثروات البلاد مع القومية الحاكمة (التيغراي).
وأخيرًا، تتسارع الأحداث السياسية في إثيوبيا في ظل ثورة شعبية تطالب بحق تقرير مصيرها رغم أن السلطة الإثيوبية تراجعت عن خطتها العامة (ماستر بلان)، والتي أجَّجت نار الاحتجاجات، إلا أنها فتحت بابًا واسعًا للتعبير عن مطالب السواد الأعظم من الإثيوبيين، والأشهر المقبلة كافية للإجابة عن سؤال المصير والمستقبل المجهول للدولة الكونفيدرالية في القرن الإفريقي (إثيوبيا).
____________________________________________
الشافعي ابتدون - باحث وكاتب صومالي مهتم بقضايا القرن الإفريقي.
1 – "من هم الأورومو الثائرون؟"، (تاريخ الدخول: 5 أكتوبر/تشرين الأول 2016): انظر هنا.
2 – "الأورومو.. كبرى قوميات إثيوبيا وأشدها حرمانًا"، (تاريخ الدخول: 6 أكتوبر/تشرين الأول 2016): انظر هنا.
3 – "إثيوبيا..إمبراطورية تفقد توازنها"، (تاريخ الدخول: 6 أكتوبر/تشرين الأول 2016):
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=91018
4 – "إثيوبيا وإمكانية التأثر بالثورتين التونسية والمصرية"، (تاريخ الدخول: 8 أكتوبر/تشرين الأول 2016):
http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2011/07/201172392341607670.html
5 - انظر العريضة المنشورة حول أسباب الاحتجاجات الشعبية وخاصة من القومية الأورومية، (تاريخ الدخول: 9 أكتوبر/تشرين الأول 2016):
. http://oromostudies.org/images/osa/osa-statement-oromo-protests.pdf
6 - انظر العريضة نفسها، مرجع سابق.
7 – "الأورومو..كبرى قوميات إثيوبيا وأشدها حرمانًا"، (تاريخ الدخول: 6 أكتوبر/تشرين الأول 2016): انظر هنا.
8 - محمود عبد الصمد، دراسة غير منشورة "إثيوبيا.. إلى أين؟"، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2016):
9 – "النمو الاقتصادي لإثيوبيا ما بين عامي 2015/2016"، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2016): انظر هنا.
10 – "إثيوبيا..إمبراطورية تفقد توازنها"، (تاريخ الدخول: 6 أكتوبر/تشرين الأول 2016):
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=91018
11 – "فايننشيال تايمز: إثيوبيا..تعثُّر طريق الإصلاح"، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2016): انظر هنا.
12 – "معارض إثيوبي يطالب بتشكيل حكومة وفاق وطني"، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2016): انظر هنا.