التحالفات اللبنانية ما بعد انتخاب عون رئيسًا: السيناريوهات والتداعيات

جاء انتخاب الرئيس، ميشال عون، رئيسًا للجمهورية بأصوات من كل الكتل في البرلمان اللبناني، واستهل عهده بكلمة معتدلة ضمَّنها مطالب الفرقاء المتخاصمين ليطمئنهم، ولكن لا يمكن تطبيق تعهداته هذه على أرض الواقع دون أن يعيد خلط التحالفات أو أن يكرِّسها وبشدة أكبر.
3 نوفمبر 2016
945a3b47df084ae2a39b2da9b4543466_18.jpg
التزم رئيس مجلس النواب نبيه بِرِّي وكتلته الحضورَ لتأمين نصاب انتخاب ميشال عون لكنه صوت بورقة بيضاء إيذانًا بمعارضته له. (الجزيرة)

تعزَّز الانقسام اللبناني منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، ما بين الموالين لسوريا وإيران أي قوى 8 آذار، والمعارضين لها أي قوى 14 آذار، واليوم بعد ما يقرب من 11 عامًا يُنتخَب ميشال عون أحد أبرز وجوه 8 آذار رئيسًا للجمهورية اللبنانية وبأصوات من قوى 14 آذار وبمعارضة من بعض حلفائه. هذه التطورات فتحت الباب أمام سيناريوهات متعددة، وهو ما تتناوله هذه الورقة وحصرتها في ثلاثة رئيسة: أن يبقى الانقسام كما هو على حاله ليشتد ويدخل لبنان في أزمة نظام، أو أن تتصدع التحالفات وتضعف بانتظار حلٍّ إقليمي، أو أن تنهار وتتبدل تحت ضغط التناقضات التي جاءت بها انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية.

انتُخب ميشال عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية بـ83 صوتًا من أصل 127 صوتًا، وبقدر ما أثار من أسئلة حين ترشيحه وانتخابه من قبل خصومه: سمير جعجع قائد القوات اللبنانية وسعد الحريري رئيس تيار المستقبل، فإن هذه الأسئلة قد كثُرت بعد اليوم التالي للانتخاب وما سينتج عنه من تداعيات وعواقب. 

هذا، وقد كان تيار المستقبل من حيث الصورة هو المنتخِب الأول لعون في البرلمان لأنه يملك الكتلة النيابية الأكبر في البرلمان اللبناني(1) ، كما أن حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، كان الفاعل الأكبر في انتخابه لأنه عطَّل البرلمان اللبناني لما يقرب من سنتين وستة أشهر، بالتعاون مع قوى 8 آذار، وذلك بامتناعهم عن تأمين النصاب لعقد جلسة انتخاب الرئيس إلا لانتخاب عون(2)، كما أن القوات اللبنانية لعبت دورًا حاسمًا في حمل تيار المستقبل على ترشيح عون بانسحاب جعجع وإعلانه تأييده لهذا الأخير ليقطع الطريق على المرشح الآخر سليمان فرنجية. 

هذه التحولات التي تتابعت خلال سلسلة من الحوارات والتفاهمات الثنائية العابرة لانقسام قوى 8 و14 آذار التي شهدها لبنان، خاصة تلك التي أفضت إلى ترشُّح سليمان فرنجية(3) وما أعقبها وأفضت لانتخاب عون، جعلت هذين التحالفين يبدوان وكأنهما يسيران نحو تفكيك وإعادة تركيب. على صعيد 14 آذار فالمسافة الفاصلة بين الحريري وجعجع كانت تزيد لكنها ما لبثت أن التأمت بعد اجتماعهما على ترشيح عون، ثم أعلن بعض نواب كتلة الحريري، عقب ترشيحه لعون، عدم التزامهم بهذا الترشيح، ومنهم الأكثر قربًا منه، رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة، وبدأ تيار المستقبل في الفترة الأخيرة بإعادة رصِّ صفوفه، وقد أجرى مؤخرًا انتخاباته الداخلية ليجدد من نشاطه(4). 

أما واقع قوى 8 آذار فليس أفضل حالًا؛ حيث إن النزاع بين رئيس حركة أمل ورئيس مجلس النواب، نبيه بري، مع الرئيس عون طويل وله أسباب كثيرة، منها تشكيك عون بشرعية مجلس النواب بعد أن مدَّد لنفسه، فضلًا عن خلافات لها صلة برفض عون لاتفاق الطائف ولهيمنة المسلمين على النظام سُنَّةً وشيعة وحول تقاسم السلطة. كما أن سليمان فرنجية، رئيس تيار المَرَدة، وبتأييد من بري دخل في خصومة مع عون بسبب تنافسهما على رئاسة الجمهورية، ما استدعى تدخلًا من حزب الله لضبط إيقاع النزاع بين حلفائه، وهو ما تمت تسويته بتأمين النصاب للانتخاب من الجميع مع التزام بِرِّي وفرنجية وكتلتهما الحضورَ والتصويتَ بورقة بيضاء إيذانًا بمعارضتهما له، وهو ما ذهبت إليه أيضًا قِلَّة من 14 آذار. 

هذا، ويمكن القول: إن عون قد انتُخب بأغلبية قد يزيد فيها عدد أصوات قوى 14 آذار على قوى 8 آذار، وبمعارضة تزيد فيها الأوراق البيضاء (36 ورقة بيضاء) من قوى 8 على 14؛ ما يعيد طرح السؤال مرة أخرى، هل هذان التحالفان اللذان نشآ بعد مقتل رفيق الحريري عام 2005 في طريقهما للتبدل والتحول أم لا؟ 

السيناريوهات 

يمكن حصر السيناريوهات الممكنة للمرحلة التالية لانتخاب عون رئيسًا في خطوط رئيسة ثلاث، وهي مبنية على وجود ثابت إقليمي ملازم لها وإلى متغيرات محلية ممكنة في ضوء الاختلافات التي سبقت الانتخابات نفسها. 

أما الثابت فيها فهو النزاع السعودي-الإيراني، القوتين الإقليميتين التقليديتين، وهو مما لا يحتاج إلى تدليل؛ حيث إن نفوذ الدولتين في لبنان مباشر، والمواجهة بينهما في المنطقة محتدمة وهي تنعكس وخاصة في سوريا على الأزمة اللبنانية مؤخرًا، خاصة فيما يتعلق بالمسألة المذهبية التي نشأت مع تنامي النفوذ الإيراني في لبنان والمنطقة العربية. وهو الأمر الذي استدعى تدخلًا أميركيًّا للتواصل مع إيران لإنجاز استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية إذا ما صحَّ قول نبيه بري(5): إن انتخاب عون تم باتفاق إيراني-أميركي. ومن الثوابت الدولية الأخرى النزاع الغربي-الروسي والذي يشهد أعنف تجلياته في سوريا، ووردت بعض الأخبار تفيد بأن انتخاب عون أيضًا جاء بغطاء روسي-فرنسي(6)، وهذه الأخيرة لا تزال تحتفظ بعلاقات جيدة مع عون، ولها علاقات تاريخية مع المارونية السياسية عمومًا. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن عون تلقَّى تهنئة وترحيبًا باختياره رئيسًا من كل دول الإقليم(7) والدول الكبرى كتغطية لاحقة إقليمية ودولية لانتخابه وأنها معنية بالمسألة اللبنانية. 

أما التغيرات الممكنة نظريًّا فهي تعتمد على سلوك فاعلين اثنين أساسيين في قوى 8 آذار، التيار الوطني الحر برئاسة عون وحركة أمل بزعامة بري، وهما حاليًّا يشغلان منصب الرئاسة الأولى، أي: الجمهورية، والثانية: رئاسة المجلس النيابي، ولديهما القدرة على إعادة المناورة بأي اتجاه، وعلى إعادة التموضع في الأزمة اللبنانية وفق صيغ متعددة، بالنظر إلى أن كلًّا منهما يمثِّل قوة قائمة بذاتها، لها شخصيتها الكاملة كما أن طموحاتها ومصالحها لبنانية محلية وليست إقليمية كما هو الشأن مع حزب الله. إلا أن هذه المصالح نفسها إضافة إلى مخاوف تتصل بما يجري من حروب في الإقليم وتتعلق بمصير الطائفة أو الطوائف التي ينتميان إليها ويمثلان جمهورها، أي: المسيحية والشيعية، والخشية من هيمنة الأكثرية في الإقليم، اقتضت منهما التحالف مع حزب الله ومن ورائه إيران وفق هذه الصيغة الصلبة. 

بالنسبة للرئيس عون، هناك تاريخ من التحولات، فمن أحد أهم أعمدة قوى 14 آذار وعدو لحزب الله وللنظام السوري إلى حليف لهما، ومن خصم للقوات اللبنانية ولتيار المستقبل فضلًا عما نُسِب إليه من إساءات لفظية للسُّنَّة(8) إلى تفاهمه الأخير معهم والذي جاء به إلى الرئاسة. وطالما طرح نفسه الرئيسَ القويَّ الذي يستطيع أن يحمي استقلال لبنان وسيادته، وأعلن في خطاب القسم الرئاسي التزامه باتفاق الطائف وتحييد لبنان عمَّا يجري في الإقليم لاسيما النزاع السوري(9). ولم يتحول عون عن قوى 14 آذار إلى 8 آذار لأسباب تتصل بالإقليم، بل لعدم ترشيحها له للرئاسة ولأنها لم تعترف به وبالقوة التي يتمتع بها. 

أما الرئيس بري، فهناك رهان حتى من خصومه في قوى 14 آذار عند الأزمات المتعلقة بالنظام اللبناني، على تفضيله لشركائه في صناعة الطائف، أي تيار المستقبل وحزب التقدم الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط وسليمان فرنجية وأمثالهم، على سواهم، ويُقدِّرون أنه حريص على حفظ ما يربطه بالعُمق العربي مهما اختلف معه، بخلاف ما هو عليه موقف حزب الله. وهناك رهان أيضًا على أن تحالفه مع حزب الله في هذه اللحظة حيث النزاع المذهبي على أشده هو لحفظ أمن الطائفة الشيعية بلبنان ولعدم نقل النزاع العربي-الإيراني أو اللبناني الطائفي إلى داخل طائفته الشيعية وبيئته الحاضنة له وللحزب، لاسيما وأن له مع حزب الله حربًا سابقة "حرب الإخوة" عام 1988 ولا يريد تكرارها(10). كما أن حزب الله قد فوَّض إليه وخاصة منذ العام 2005 الشأن الداخلي اللبناني بمغانمه ومشاكله، باعتبار أن الحزب كيان إقليمي أكثر مما هو محلي؛ لذا فإن منافسة الحزب له محليًّا لم تكن كبيرة. ولكن هناك اختلافات طرأت مؤخرًا وتركت مسافة بين الطرفين، من أهمها: مشاركة حزب الله في الحرب السورية، ووضع الطائفة الشيعية في مواجهة مفتوحة مع الأكثرية السُّنِّية في الإقليم ولأهداف إقليمية أكثر مما هي محلية، وحركة أمل وإن كانت لا تمانع الوقوف مع سوريا سياسيًّا إلا أنها لم تذهب إلى الحدِّ الذي ذهب إليه حزب الله، وهي بأصل وجودها كيان محلي وكلما أوغل حزب الله في المواجهة المذهبية في الإقليم تضاربت مصالح أمل حتى الوجودية منها مع الحزب. 

وبالعودة للسيناريوهات الثلاثة:

1- أن يبقى الانقسام بين 8 و14 آذار على ما هو عليه

فيكون الاتفاق على الرئاسة الأولى في لبنان شبيهًا بما تم الاتفاق عليه في حكومة تمام سلام ورئاسته لها، والتي كانت حكومة ربط نزاع. فيكون الاتفاق على رئاسة الجمهورية ربطًا للنزاع بين قوى 8 و14 فيُنتخب عون للرئاسة ويتم تجنيب المؤسسات المختلف عليه في القضايا الرئيسية المحلية والإقليمية. وفي هذا تسليم بأن مشكلة سلاح حزب الله وتدخله في سوريا قضية إقليمية لا يستطيع اللبنانيون حلَّها، وكذلك الشأن مع المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري وإبقاء النظام اللبناني قائمًا على دعامة الطائف. ووفق هذا السيناريو سيتم تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة لتكون بنهجها حكومة ربط نزاع أيضًا (أي شبيهة بحكومة تمام سلام)(11)، وسيتم إقرار قانون انتخاب يتوافق عليه الجميع والراجح ما سُمِّيَ بقانون الستين(12) -جرت الانتخابات السابقة وِفْقَه- لينتهي مرة أخرى بانتخاب نبيه بري رئيسًا للبرلمان ومن ثم ستُفتح بقية الملفات الأخرى المتصلة بالسُّلطة وبشؤون الناس اليومية والاقتصادية والأمنية. وهنا، سيكون على الرئاسات الثلاث تسيير إدارات الدولة وتجنيبها أي نزاع قد يعطِّل الدولة ومؤسساتها وتحييد لبنانَ النزاعَ الإقليمي واستيعاب تداعياته التي من أبرزها راهنًا اللاجئون ومحاربة ما يوصف بالإرهاب الذي في جزء منه نتيجة لانخراط حزب الله العسكري في سوريا، ويبقى بهذا كل طرف من الأطراف اللبنانية حيث اصطفافه ما بين 8 و14 آذار إضافة إلى ما تُسمَّى الكتلة الوسطية(13) وسواها، أي: كلٌّ حيث هو. هذا السيناريو لا يمنع كتلة بري التي اختارت لعب دور المعارضة منذ إعلان الحريري ترشيحه لعون، أن تجعل مهمة هذين الأخيرين صعبة، بدءًا من تشكيل الحكومة وانتهاء بإقرار أي سياسات في المستقبل. وسيبقى، وفق هذا السيناريو، حزب الله يلعب دور الناظم لقوى 8 آذار وينجح بضبط خلافاتها، خاصة تلك التي نشأت بين بري وفرنجية من جهة وعون من جهة أخرى. وسيبقى كذلك تيار المستقبل وفق هذا السيناريو القائد لقوى 14 آذار، وسيكون موقع القوات اللبنانية حينها في هذا التحالف كما كان في السابق رغم أن قوتها ستزداد قليلًا بسبب مساهمتها في صناعة رئيس الجمهورية عون ولمشاركتها بحصة في حكومة الحريري المقبلة كما هو متوقع. وبهذا ستستمر المواجهات الأساسية في الساحة اللبنانية بين قوى 8 و14، وبين محورين: محور إيراني-سوري من جهة وآخر سعودي-عربي من جهة أخرى. وحينها، فإن أي حلٍّ للنزاع أو تخفيض له فسيكون على علاقة مباشرة بما يجري في الإقليم وبالسعودية وإيران، وأكبر المخاوف في هذا السيناريو أن تُفضي الخلافات السياسية إذا ما استحكمت إلى أزمة نظام ليُعاد النظر بالطائف جزئيًّا أو جذريًّا وربما يعود الحديث عن المثالثة مرة أخرى(14) كما حُكِي عن الطموح الإيراني، أو استعادة بعض صلاحيات الموارنة كما هو طموح عون المعلَن قبل ترشحه وانتخابه رئيسًا، وسيوضع مؤيِّدو الطائف في موقف الدفاع عن النفس ولكن بشراسة أكبر. وهذا السيناريو يفترض استمرار قوة المدِّ الإيراني في المنطقة واستمرار التراجع العربي والغربي أمامه، وكل منهما له أسبابه. 

2- أن تتصدع التحالفات ولكن تبقى تحت السقف الإقليمي

وفق هذا السيناريو يستعاد المشهد الذي ظهر بعد ترشيح الحريري لعون؛ حيث رفض بعض حلفاء الحريري وأعضاء من كتلته ترشيح عون، واحتدم النزاع بين فرنجية وبري من جهة وعون من جهة أخرى. وبالحالين اضطر كل من حزب الله والمستقبل للَمِّ صفوف حلفائهما وبدون خسائر تُذكَر. إذا ما تجدد  خلاف عون مع بري وفرنجية فمن المؤكد أنه سيكون أكثر حدَّة بسبب تراكم الخلافات السابقة كما أن هناك أزمة ثقة واضحة بينهما، وهو ما أكده بري بممانعته العلنية لترشيح عون للرئاسة وعزمه على أن يكون في صفوف المعارضة، وإن كان قد جنح للتهدئة بعد الانتخابات. وما يعزِّز هذا السيناريو طبيعة الطرفين أي عون وبري وطبيعة دورهما الدستوري كما يراه كل منهما، وخاصة عون القادم تحت شعار الرئيس القوي والميثاقي والمتوقع منه إذا ما أخذ بما تعهد به للأغلبية التي انتخبته من النواب، أن يكون إلى جانب الحكم والدولة. ما يعني أنه قد يختلف في تفاصيل محلية وبعض القضايا الإقليمية غير الأساسية مع بعض قوى 14 أو 8 مرة وقد يتفق مع آخرين مرة أخرى، فتكون خلافاته عابرة لهذا الانقسام بهذا الاعتبار، لكنه يبقى في خياراته الكبرى حيث هو، مؤيدًا للمحور السوري والإيراني مع تمايز بما يخص الشأن اللبناني لمصلحة تحييد لبنان عن الانفجار في المنطقة. وهذا سيقوده حتمًا إلى بضع مواجهات مع خصومه التقليديين في تحالف قوى 8 آذار، ما سيلقي عبئًا ثقيلًا على حزب الله وسيدفعه لمزيد من التدخل في الشأن اللبناني المحلي بغية إطفاء النزاعات بين حلفائه أو لسد الفجوات التي ستنشأ بسبب ذلك، وسيكون عليه أن يكون أكثر وضوحًا في خياراته الداخلية التي طالما تجنب الخوض فيها ليحفظ انتظام محور 8 آذار حوله وهو الذي يتكئ عليه ليتفرغ أكثر لدوره الإقليمي. وفق هذا السيناريو ستلاحق حزب الله التناقضات ما بين الحلفاء وسيكون منهكًا ومدعوًّا للاختيار بين حلفائه، وعليه حينها إذا أراد إعادة جمعهم أن يتجنَّب الاختيار بينهم حتى لا يخسر بعضهم. هذا السيناريو سيجعل الأزمة اللبنانية تراوح مكانها وهي منهكة بمشاكلها وسيبقى لبنان الطائف قائمًا، بل ستكون نسخة الطائف في عهد عون هي الأوهن. ويفترض هذا السيناريو استمرار فعالية الدور الإيراني في الأزمات الإقليمية واستمرار تفويضه لحزب الله لإدارة الحلفاء في لبنان، وبالمقابل استمرار دعم السعودية لحلفائها. 

3- أن تتغير التحالفات باتجاه التشظي الداخلي لانشغال الدول الإقليمية التقليدية

هذا السيناريو يتضمن بعضًا من السيناريوهين السابقين؛ إذ من المؤكد أن الرئيس عون سيحرص في بداية عهده على "ربط النزاع" مع قوى 14 آذار وأن يحاول الحفاظ بنفس الوقت على تفاهمه مع جعجع ونصر الله، وسيُعطي حزب الله مساحة وتفويضًا ما كي يعمل على رأب الصدع داخل قوى 8 آذار، ولكن من المستحيل أن يستطيع الجمع بين كل هذه التناقضات إذا ما كثرت التحديات والمشاكل المحلية وطال أمد الأزمات الإقليمية، حينها سيجد عون، بحسب السيناريو الثاني، نفسه مضطرًّا لأن يحسم موقفه بما يغضب أحد طرفي 8 و14 آذار. ووفقًا لهذا السيناريو ستتصاعد خلافاته مع أقرانه في تحالفه ويعجز حزب الله عن حل هذه الاختلافات ليصبح تفسخ محور 8 آذار أمرًا ممكنًا. وحينها قد يصبح بري أقرب إلى تكتل الوسط أو رأسًا له، وهي الكتلة التي نشأت أثناء حكومة الرئيس ميقاتي، وضمَّت هذا الأخير إضافة إلى جنبلاط ثم بري بوجهٍ ما. ومن الاحتمالات الأخرى أن ينتقل عون إلى تحالف مسيحي قد يجمعه مع جعجع ليكون أكثر بُعدًا عن هذين التحالفين (14 و8 آذار)، وهذا إذا ما لم يُرضه حزب الله كالعادة وخاصة إذا ما لقي دعمًا غربيًّا مشجعًا. هذا السيناريو لا يمكن أن يقوم إلا إذا عجزت القوى الإقليمية التقليدية عن تلبية رغبات حلفائها المحليين، أو إذا غفلت عنهم، أو إذا ما تدخلت القوى الغربية في المسألة الإقليمية والشأن اللبناني بقوة أكبر. حينها سيبحث كل من القوى اللبنانية عن مصالحه بتحرر أكبر من القوى الإقليمية، وستكون الساحة اللبنانية أكثر سيولة وسهولة لتغيير تحالفاتها. ويمكن أن يلحق بهذا السيناريو بعض القراءات التي لا تستبعد وجود اتفاق أو بنود غير معلنة بين عون والحريري برعاية سعودية أو غربية ليغيِّر من بعض تموضعه تدريجيًّا ليقترب من المحور السعودي-العربي أكثر وبما قد يعيد دعم السعودية للجيش ليتعزز موقع الرئاسة، مع العلم بأن هناك هِبة سعودية مجمدة للجيش اللبناني منذ فبراير/شباط 2016(15). 

هذه أبرز الوجوه المفتاحية لسيناريوهات ثلاثة قد تتسم مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية اللبنانية بها، وهي قابلة للتناسل بأكثر من اتجاه، ولكنها تصب جميعًا باتجاهين: صعوبة استمرار الأزمة اللبنانية على أسس الطائف كما تركه النظام السوري، فما دام لا اعتراف إقليميًّا ودوليًّا برعاة جدد له ومنهم إيران أو هزيمتها وردها عن المنطقة، فإن النظام اللبناني يجب أن يتحول إلى طائف آخر أو إلى طوائف، والرئيس اللبناني الجديد ميشال عون يستطيع أن يفعل الكثير.

_____________________________________

شفيق شقير - باحث متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)غسان ريفي، الورقة البيضاء تتجاوز المتوقع...36 صوتًا، السفير اللبنانية، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، https://assafir.com/Article/8/516098

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(2) انتهت ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان في 5 مايو/أيار 2014.

وانظر: نصر الله رسم خريطة الطريق النهائية لجلسة الانتخاب، وعون بدأ العدَّ العكسي، باسكال أبو نادر، موقع النشرة اللبناني، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2016، https://goo.gl/j1BkeC

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(3)هافنغتون بوست عربي، النائب "فرنجية" حليف الأسد يعلن ترشحه رسميًّا لرئاسة لبنان، 18 ديسمبر/كانون الأول 2015،

http://www.huffpostarabi.com/2015/12/18/story_n_8836554.html

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(4) زينب زعيتر, الحريري يحصِّن زعامته بتفكيك دائرة المعترضين أولًا، صحيفة البلد اللبنانية، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2016،

http://www.albaladonline.com/ar/NewsDetails.aspx?pageid=418386&utm_campaign=magnet&utm_source=article_page&utm_medium=related_articles

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(5)انظر: فراس الشوفي، بري عشيَّة الجلسة: انتخاب عون تسوية أميركية-إيرانية، صحيفة الأخبار اللبنانية، 31 أكتوبر/تشرين الأول 2016،

http://www.al-akhbar.com/node/267273

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(6)انظر: زياد عيتاني، توقعات بانتخاب عون رئيسًا نهاية أكتوبر، صحيفة عكاظ السعودية، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2016، 

http://www.okaz.com.sa/article/1503144

وانظر أيضًا: هيام القصيفي، فرنسا راعية انتخاب عون والصفقة «غير خاسرة» سعوديًّا، صحيفة الأخبار اللبنانية، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2016،

http://www.al-akhbar.com/node/266595

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(7)انظر: صحيفة المستقبل اللبنانية، خادم الحرمين يتصل بعون مهنئًا: المملكة مع لبنان ووحدته،

الحريري لتأليف حكومة العهد، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2016،

http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?type=NP&ArticleID=721620

وانظر: صحيفة الأخبار اللبنانية، الرئيسان الإيراني والسوري يهنئان عون، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2016،

http://www.al-akhbar.com/node/267325

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(8) انظر ربيع شنطف، لهذه الأسباب لا يبصم السُّنة على ترشيح عون للرئاسة، صحيفة اللواء اللبنانية, 18 يناير/كانون الثاني 2016،

http://www.aliwaa.com/Article.aspx?ArticleId=272545

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(9) انظر خطاب القَسَم، صحيفة الأخبار اللبنانية، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2016،

http://www.al-akhbar.com/node/267331

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(10)انظر كنموذج لأحد الإشكالات التي كادت تتطور لنزاع بينهما، خالد الغربي، "أمل-حزب الله" في الصرفند: حرب الإخوة تعود، المدن اللبنانية الإلكترونية، 16 أغسطس/آب 2016،

https://goo.gl/wPTq0M

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(11)شفيق شقير، الرئاسة الأولى والحكومة اللبنانية: ربط النزاع بانتظار تفاهم لبناني جديد، مركز الجزيرة للدراسات، 8 مايو/أيار 2014،

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2014/05/20145811193295356.html

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(12) هيام القصيفي، قانون الستين شرط الرئاسة الأولى، صحيفة الأخبار اللبنانية، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016،

http://www.al-akhbar.com/node/265973

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(13)انظر: موقع الوكالة الوطنية للإعلام نقلًا عن صحيفة اللواء اللبنانية، وفيه: جنبلاط يكشف عن "حلف رباعي"، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012،

http://nna-leb.gov.lb/ar/show-news/5802/nna-leb.gov.lb/ar

وانظر: شفيق شقير، ترشيحات الرئاسة اللبنانية: من الفراغ إلى المؤتمر التأسيسي، 1 فبراير/شباط 2016،

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2016/02/20162181919342320.html

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(14)انظر: إميل خوري، الموارنة قد يخسرون إذا عُدِّل الطائف: المناصفة تُصبح مثالثة والرئاسة الأولى مداورة، النهار اللبنانية، 28 إبريل/نيسان 2015،

 https://goo.gl/VkpjzG

غسان حجار، المثالثة مطلب شيعي قديم، النهار اللبنانية، 10 يونيو/حزيران 2014،

https://goo.gl/bFVHbV

ميشال نصر، مخاوف المثالثة تجمع جنبلاط بالحريري بعد حسم المستقبل لحدود التفاهم مع عون، الديار اللبنانية، 8 يونيو/حزيران 2014،

https://goo.gl/hxQiWV

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(15) انظر: السعودية تعلن "مراجعة شاملة" للعلاقة مع لبنان ووقف هِبَة التسليح بسبب "حزب الله"، 19 فبراير/شباط 2016،

https://goo.gl/Kos3C0

وانظر موقع قناة إم تي في اللبنانية حول تجميد الهبة، كيف علَّق سياسيون لبنانيون على القرار السعودي؟، 20 فبراير/شباط 2016،

https://goo.gl/TEPfrn

تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.