لقد ارتكبت قوات النظام وحلفائه مذابح طائفية وتهجيرًا قسريًّا ضد السكان السُّنَّة الأشد فقرًا، سواء الذي شاركوا في الانتفاضة أو الذين أبدوا تعاطفًا معها في مناطق عدَّة. وعلى نحوٍ مماثل، فالميليشيات الإسلامية الشيعية الطائفية، المحلية و/أو الأجنبية، وأحيانًا عائلاتهم، انتقلوا إلى مناطق تعتبر حساسة لأسباب أمنية وسياسية؛ في حين أن إيران توسِّع باستمرار عمليات شراء الأراضي. التغيير الديمغرافي في مناطق محددة هو واقعٌ ملموس من هذا المنظور. كما أُدرِجَت مسألة إعادة الإعمار ضمن اتهامات التغيير الديمغرافي الموجهة للنظام.
ولكن التغيير الديمغرافي، كما يبين التحليل في النص، ليس استراتيجية وسياسة منظَّمة على مستوى وطني. وعلى صعيد إعادة الإعمار، لم يكن بالإمكان إثبات هذه الادعاءات، في حين أن السيناريو الأكثر احتمالًا هو تغيير هذه الفئات السنِّية الأشد فقرًا، بفئات تنتمي إلى الطبقتين الوسطى والغنية، من خلفيات دينية مختلفة، بما في ذلك السنَّة الأغنياء ومتوسطو الحال الذين لا يُبدون استعدادًا مماثلًا لمعارضة النظام. النظام لا يعادي السكان السُّنَّة، أو هوية سُنية معينة، بل يعادي الجماهير المعارضة له، التي كانت بأغلبيتها من خلفيات شعبية سُنيَّة، تحديدًا من المناطق الريفية الفقيرة والبلدات الوسطى، بالإضافة إلى ضواحي دمشق وحلب.
مقدمة
مسألة التغيير الديمغرافي في سوريا كانت مصدرًا للجدال بين المحلِّلين ودوائر المعارضة. وفقًا لهذا الجدال، فإن نظام الأسد يحاول تقليص نسبة السُّنَّة العرب الذين من الممكن أن يشكِّلوا خطرًا على حكمه، واستبدال جماعات دينية أخرى، خاصة من الأجانب و/أو المحليين من الشيعة بسكان المناطق ذات الغالبية السنية. في هذا النص، سوف نقوم بتحليل استراتيجية النظام، فيما يتعلق بمسألة التغيير الديمغرافي، وسياسته لإعادة الإعمار، وما إذا كُنَّا نشهد مشروعًا شاملًا لاستبدال جماعاتٍ دينية أخرى بالسكان السُّنَّة في سوريا، سواء أكانت هذه الجماعات من المحليين، أم من الأجانب القادمين من الخارج.
حجم التغيير الديمغرافي والتهجير القسري للسكان
منذ بدء الانتفاضة، في مارس/آذار من العام 2011، كانت ديناميات القمع، واستراتيجيات استخدام العنف، والمجازر المرتكبة من قبل قوات النظام والميليشيات التابعة له أو الشبِّيحة، تلعب دورًا رئيسيًّا في عملية الشرخ الطائفي، في القرى والأحياء الفقيرة ذات الأغلبية السُّنيَّة، وفي أقاليم مختلطة، بشكل خاص في محافظتي حمص وحماة والمناطق الساحلية التي يعيش فيها السكان من الطائفتين السُّنِّية والعَلَوية جنبًا إلى جنب. شكَّل العلويون في الظاهر أكثرية عددية في ميليشيات الشبيحة في مناطق حمص، واللاذقية، وبانياس، وجبلة(1)، ولكن يمكن للشبيحة أن يكونوا من جميع الطوائف والإثنيات. الشبيحة كانوا يرتكزون في الواقع على الموالين للنظام في مناطق قريبة من المظاهرات، الرجال المجندون من ذوي الخلفيات الإجرامية، وأعضاء حزب البعث، والعشائر الموالية للنظام من كل الطوائف الدينية والإثنيات. بالإضافة إلى كل هذا، فالهجمات على المساجد السُّنيَّة التي كانت تُعتبر في الكثير من الأحيان الملاذ الجماعي للمتظاهرين، كان يُنظَر إليها على أنها تعبيرات وإثباتات على التحيز الطائفي للنظام بدلًا من كونها محاولات لإخماد مراكز المعارضة(2).
على الجانب الآخر، قام النظام بتكييف استراتيجياته ووسائل قمعه وفقًا للمناطق وتركيباتها الطائفية، مستخدمًا، على سبيل المثال، مجموعات الشبيحة المحليين في المناطق المأهولة بالأقليات لقمع المظاهرات، كما في مدينتي السَلَمية والسويداء.
مع عسكرة وتعميق الحرب، استخدم النظام على نحو متزايدٍ استراتيجية الاتفاقيات المحلية مع المدن و/أو الأحياء المحاصَرة التي تتعرض للقصف المستمر من قِبله، لإجبار السكان المحليين المعارضين للنظام على ترك منازلهم، والنزوح من المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. في العام 2016، مرَّر النظام اتفاقيات، مثلًا، مع مدينة داريا، وأحياء الوعر في حمص، وأحياء شرق حلب، بعد أن عانت جميعها من الحصار والقصف، بهدف نقل السكان والمقاتلين إلى محافظة إدلب التي يسيطر عليها عسكريًّا كلٌّ من "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقًا) و"حركة أحرار الشام". استُكمِل هذا السيناريو في العام 2017، من خلال الاتفاقية التي عُقِدَت بين الحركات الإسلامية السورية المقاتلة المتمثلة بـ"هيئة تحرير الشام" و"حركة أحرار الشام" من جهة، والنظام السوري وحزب الله والجانب الإيراني من جهة أخرى، والتي غطت أربع مدن محاصرة، هي: الزبداني، ومضايا، والفوعة، وكفريا، والتي تم تنفيذها بعد ذلك. اتفاق "المدن الأربع" نصَّ على أن حوالي 3,800 شخص، بمن فيهم مقاتلو المعارضة، يمكنهم ترك مدينة الزبداني والتوجه نحو محافظة إدلب، في حين أن 8,000 شخص، بمن فيهم مقاتلو الميليشيات الموالية للنظام، يمكنهم ترك مدينتي كفريا والفوعة في ريب إدلب الشمالي للتوجه نحو حلب ومناطق أخرى يسيطر عليها النظام(3). في نهاية أبريل/نيسان 2017، قامت دمشق بتوطين بعض المقاتلين مع عائلاتهم، ممن تركوا الفوعة وكفريا بناءً على اتفاق "المدن الأربع"، في القصير، إحدى بلدات محافظة حمص. معظم القرى والبلدات حول القصير تم تهجير أهاليها، فيما تحولت البلدة بحدِّ ذاتها إلى ثكنات ومراكز تدريب عسكرية لمختلف الميليشيات الإسلامية الشيعية، بما فيها "قوات الرضا"، التي تمتلك نفوذًا وتأثيرًا، وهي ميليشيا شيعية سورية تم تأسيسها عام 2014 بمساعدة من حزب الله(4). في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2017، حدث تهجير قسري مماثل، تبع اتفاقيات مع قوات النظام، أجبر بضعة آلاف من السكان ومقاتلي المعارضة على إخلاء كلٍّ من القابون وبرزة وتشرين والتوجه نحو إدلب. محافظة إدلب كانت لا تزال تعاني من الغارات الجوية للطيران الحربي التابع لنظام الأسد والقوات الروسية، وافتقرت في الكثير من الأحيان إلى الوسائل والبنى التحتية الكافية لاستقبال الوافدين الجدد، ناهيك عن الضغوطات السياسية والاجتماعية التي تفرضها أحيانًا الحركات المقاتلة الإسلامية في هذه المنطقة.
في نفس الوقت، كانت هناك أيضًا اتهامات بالتغيير الديمغرافي في بعض المناطق التي شهدت حملات عسكرية كبيرة على حساب السكان السُّنَّة. في حمص، سكان حي بابا عمرو، الذين كانوا في معظمهم مهجَّرين سُنَّة من المناطق الريفية القريبة من المدينة، بعد أن أصبح الحي مركزًا رمزيًّا للانتفاضة السورية إلى أن تم سحقه من جانب قوات النظام(5)، تم تقريبًا التخلص منهم، إمَّا أثناء حملات القصف من قِبل النظام وإما بعد قيام الأخير باحتلال الحي(6). انخفض عدد سكان حمص من 1.5 مليون نسمة قبل بدء الثورة السورية، إلى حوالي 400,000 نسمة في أكتوبر/تشرين الأول 2016. تقريبًا حوالي 65% من السكان الأصليين للمدينة هُجِّروا إلى البلدان المجاورة ونزحوا إلى محافظة إدلب(7). في الوقت ذاته، العديد من السكان حُرِموا من حق العودة إلى منازلهم، مع إشارة المسؤولين إلى غياب الدليل على كونهم عاشوا هناك بالفعل، وذلك نتيجة لإحراق مديرية السجل العقاري في حمص. وفي الحقيقة، قامت القوات الموالية للنظام، بإحراق مكاتب السجل العقاري في عددٍ من المناطق التي استعاد النظام سيطرته عليها، مثل: الزبداني، وداريا، والقصير، بالإضافة إلى حمص، مما يجعل من الصعب على السكان إثبات حقهم في الملكية.
منذ بداية العام 2017، أُطلِقت اتهامات جديدة بتزايد حضور العائلات الشيعية في بعض مناطق العاصمة. 25 عائلة شيعية من دير الزور ولبنان، انتقلت كما يبدو إلى حي دُمَر، غرب دمشق، بعد شراء عقارات، وبيوت، ومتاجر، وأراضٍ، بأسعار مرتفعة. على الجانب الغربي لجبل قاسيون، يقعُ الحي الذي يبعد 7 كيلومترات عن مدينة دمشق، وهو يجاور عددًا من المراكز الأمنية والقواعد العسكرية، بالإضافة إلى القصر الجمهوري والمراكز التابعة للحرس الجمهوري (8).
إلى جانب كل هذا، وُجِّهَت أيضًا اتهامات للنظام الإيراني بالمشاركة بفعالية في مخطط التغيير الديمغرافي في بعض المناطق، مع تزايد تأثيره بشكلٍ كبير من خلال إنشاء الميليشيات والمؤسسات التي تروِّج أيديولوجيته. أُثيرت الاستنكارات مثلًا، بعد موجة عمليات الشراء التي قام بها تجار إيرانيون لمساحات كبيرة من العقارات السورية في عدد من المدن، بالدرجة الأولى في وسط العاصمة دمشق ووسط مدينة حمص، بالإضافة إلى أملاك خاصة بأولئك الذين هربوا من سوريا منذ منتصف العام 2016. هذا بالإضافة إلى جهود السفارة الإيرانية لشراء عقارات في أحياء تاريخية في دمشق القديمة، في المنطقة التي تمتد من الجامع الأموي إلى باب توما. واشترت طهران عددًا كبيرًا من المنازل، مع مساحات من الأرض، في منطقة مقام السيدة زينب غرب العاصمة، والتي عمل حزب الله على تحصينها بشكل كبير واستخدامها كعازل أمني، كما سكنتها عائلات الحركة الإسلامية الشيعية اللبنانية التي انتقلت إليها منذ أواخر العام 2012(9). هذه العناصر مجتمعة، بصرف النظر عن حجمها، ضاعفت التوترات الطائفية في البلد وغذَّت خطاب التغيير الديمغرافي. لقد كانت سوريا، لفترة طويلة من الزمن، وحتى الآن، الحليف الاستراتيجي الرئيسي لإيران، وقد كان لها دور أساسي في إمداد ودعم وكيله في لبنان، حزب الله، والأخير يلعب دورًا مهمًّا في تحقيق عمق استراتيجي أمني تجاه "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية.
مسألة إعادة الإعمار: تغيير ديمغرافي أيضًا؟
أُدرِجَت كذلك مسألة إعادة الإعمار ضمن اتهامات التغيير الديمغرافي الموجهة للنظام. في سبتمبر/أيلول من العام 2012، وقَّع بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 66 القاضي بـ"تنظيم وتحديث مناطق السكن العشوائي وغير المصرَّح به"، بكلمات أخرى، توفير الأسس القانونية والمالية لمشروع إعادة الإعمار(10). على أساس هذا المرسوم، أعلن النظام قراره بتدمير ومصادرة منطقتين كبيرتين في العاصمة دمشق، معروفتين بمناصرتهما للمعارضة، الأولى خلف مستشفى الرازي على الطريق الرئيسي لأوتوستراد المزة، والثانية على الضفة الجنوبية من العاصمة السورية بجانب حي القدم. خطة إعادة الإعمار ستوفر 12,000 وحدة سكنية لحوالي 60,000 شخص. سيكون هناك مدارس ومطاعم، وأماكن للعبادة، وحتى مواقف سيارات متعددة الطوابق ومركز للتسوق. الجهات المسؤولة في دمشق برَّرت قرارها مدعية أن الهدف منه هو تحسين نوعية السكن، وأن المناطق الأخرى ستتبع نفس الخطوات لتحديث مناطق السكن العشوائي في كل البلاد(11).
(الجزيرة) |
المرسوم رقم 66 الصادر عام 2012 وفَّر كذلك بعض أشكال التعويض للسكان السابقين في هذه المنطقة، بالإضافة إلى احتمال نقل مكان سكنهم، بشرط أن يؤمِّنوا أولًا دليلًا على حقهم بالملكية، وهو أمرٌ معقَّد كون الكثيرين منهم لم يملكوا سندات ملكية(12) و/أو هاجروا من البلد. ومع ذلك، فإن المنطقتين اللتين تم اختيارهما كانتا تؤيدان الانتفاضة إلى حدٍّ كبير، بينما مناطق سكن عشوائي أخرى يسكنها مؤيدون للنظام، كـ "مزة 86" و"عيش الوروَر"، في شمال شرق العاصمة، لم يشملها المخطط، مما لا يدع مجالًا للشك بالبُعد السياسي لهذا القرار. إلى جانب معاقبة السكان المعارضين، ومنح فرصة سهلة للمقربين من النظام لمراكمة الأرباح عبر الاشتراك في تطوير المشروع، بما في ذلك عن طريق تكليفهم بأعمال البناء، فإن المشروع كان يُعتبر من قبل البعض عقابًا جماعيًّا(13)، وجزءًا من خطة أكبر للنظام ترمي إلى فرضِ تغييرٍ ديمغرافي في العاصمة، عبر إحاطتها بمناطق يملؤها بسكان من مؤيديه ومن الأقليات الدينية. حالةٌ أخرى حصلت في مدينة حمص، عندما وافقت البلدية، عام 2015، على خطة إعادة إعمار حي بابا عمرو. في مارس/آذار 2017، أنشأت البلدية شركتها القابضة الخاصة لتمسك بالمشاريع العقارية(14). خطة إعادة الإعمار تضمنت 465 قطعة أرض مُعدَّة للسكن بشكل أساسي، بالإضافة للمساحات العامة والخدمات، كالمدارس والمستشفيات. وبالمثل، وُجِّهَت الاتهامات إلى التداعيات التي يمكن أن تنتج عن التغيير الديمغرافي.
ولكن، في كلتا الحالتين، لم يكن بالإمكان إثبات هذه الادعاءات، في حين أن السيناريو الأكثر احتمالًا هو إجلاء هذه الفئات السُّنيَّة الأشد فقرًا، وجلب فئات تنتمي إلى الطبقتين الوسطى والغنية، من خلفيات دينية مختلفة، بما في ذلك السنَّة الأغنياء ومتوسطو الحال الذين لا يُبدون استعدادًا مماثلًا لمعارضة النظام.
ما هي استراتيجية النظام؟
ليس هناك ما يدعو للشك بارتكاب قوات النظام وحلفائه لمذابح طائفية وتهجير قسري ضد السكان السنَّة الأشد فقرًا، سواء الذين شاركوا في الانتفاضة أو الذين أبدوا تعاطفًا معها في مناطق عدَّة. وعلى نحوٍ مماثل، فالميليشيات الإسلامية الشيعية الطائفية، المحلية و/أو الأجنبية، وأحيانًا عائلاتهم، انتقلوا إلى مناطق تعتبر حساسة لأسباب أمنية وسياسية كما رأينا أعلاه، في حين أن إيران توسِّع باستمرار عمليات شراء الأراضي. التغيير الديمغرافي في مناطق محددة هو واقعٌ ملموس من هذا المنظور، ولكنه ليس استراتيجية وسياسة منظمة على مستوى وطني. غير أن هدف النظام الاستراتيجي، من خلال إجراءات قمعه، لم يكن إحداث التغيير الديمغرافي بل كان لإسكات الاحتجاجات وإنهاء كل أشكال المعارضة، وتقسيم الناس وفقًا لهويات بدائية وبث الخوف بينهم بهدف كسر رسالة الحركة الشعبية الشاملة والديمقراطية في بداية الانتفاضة. هذا لا يعني أن تهجير السكان السنَّة الفقراء لم يكن مشمولًا في هذا الإطار لبلوغ هذا الهدف، ولكنه يختلف عن القول بأنه سياسة منظمة ووطنية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الادعاءات بأن دمشق وطهران لا تريدان تجمعات سكنية سُنيَّة على طول الحدود مع لبنان، من دمشق إلى حمص، يجب الطعن فيها، تمامًا كما أن إعلانات تسوية العائلات الشيعية العراقية في داريا لم يكن لها أي أساس من الصحة(15). في الواقع، لقد كانت الميليشيات الموالية للنظام في منطقة القلمون تُجنِّد من السكان السنَّة منذ العام 2014، في حين أنشأ النظام مؤخرًا ميليشيا "فوج الحرمون" لتجنيد السكان المحليين، بما فيهم مقاتلو المعارضة السابقون في القرى التي وافقت على صفقات "التسوية"، وذلك لكي يستعيد النظام الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في ريف دمشق الغربي، حول جبل حرمون، بالقرب من الحدود مع لبنان ومرتفعات الجولان المحتلة(16).
لا يأخذ خطاب التغيير الديمغرافي في العالم، بعين الاعتبار، الطرق المتعددة التي يتبعها النظام السوري لاستعادة السيطرة على مناطق المعارضة وإدارتها، والتي تختلف بحسب الظروف والاحتياجات. في نهاية العام 2016 وبداية العام 2017، سعى النظام إلى تجنيد السكان المحليين في ميليشيات مستحدثة؛ حيث كان يعزز سيطرته في المناطق التي انتزعها حديثًا، تزامنًا مع اتباع سياسة صفقات "التسوية" في المناطق التي لا تزال المعارضة تسيطر عليها. بالإضافة إلى ذلك، ومع تماسك النظام بعد انتصاراته في حلب ومحافظة دمشق، كانت هناك حالات عودة لعدد من السكان النازحين إلى بعض الأراضي. وذلك دون أن ننسى أن حوالي مليون نازح من حلب وإدلب، معظمهم من السُّنَّة العرب ومن خلفيات اجتماعية واقتصادية متنوعة، قد استقروا منذ العام 2011 في محافظتي طرطوس واللاذقية، وسكانهما أغلبهم من العلويين، مُتَحَدِّينَ بذلك خطاب "علوستان" خاصة بالعلويين، الذي تم التراجع عنه. هذه المناطق كانت أيضًا، وبشكل عام، متسامحة، ومرحِّبة بالأعداد الكبيرة للاستثمارات التي يجلبها النازحون السنَّة(17).
تجاهلت هذه السردية، كذلك الأمر، دعم قطاعات من السنَّة العرب للنظام، وخاصة في دمشق وحلب، وفي أماكن أخرى في جميع أنحاء البلاد، دون أن نغفل حضور أولئك العاملين في مؤسسات النظام. لقد تواجدت الميليشيات السنية، وبشكل كبير القبائل المتحالفة مع النظام، أيضًا منذ بداية الانتفاضة، وهناك ميليشيات سُنيِّة ما زالت قيد التشكيل في العام 2017 لتقاتل إلى جانب قوات النظام وحلفائه في مناطق مختلفة. تمامًا مثل غيرهم من الجماعات الدينية والإثنية؛ فالسنَّة العرب في سوريا لا يملكون موقفًا سياسيًّا موحدًا، ولكنهم يتكَّونون من عناصر عديدة مختلفة (الطبقة الاجتماعية، الجندر، الأصول الجغرافية، المعتقد الديني أو اللادينية...إلخ)، وهم متنوعون سياسيًّا.
وعلى نحوٍ مماثل، فإن الهدف الأساسي من مسألة إعادة الإعمار هو تمتين القدرات السياسية والاقتصادية للنظام والرأسماليين المحسوبين عليه، فيما يقوم النظام بتوفير حصة من السوق لحلفائه، خاصةً روسيا وإيران، كمجاملة مقابل دعمهم. في الواقع، لقد كان النظام يخطط منذ بداية العام 2017، بعد تحقيق انتصاره في شرق حلب، من أجل فرض المرسوم رقم 66 على كافة أنحاء البلاد. المرسوم الذي تسبب فعلًا بالتخلص من العديد من سكان دمشق كما ذُكر أعلاه، ويمكن لمشاريع مماثلة أن تُفرَض على حلب ومختلف ضواحي دمشق كما في مناطق أخرى. ومن الممكن أيضًا، أن يُستخدَم هذا المرسوم للسماح بتدمير ومصادرة مناطق كبيرة، ليصبح أداة فعَّالة تعود بالفائدة على الرأسماليين المحسوبين على النظام عبر مشاريع تطويرية ضخمة وسريعة التنفيذ، بينما يعمل في الوقت نفسه كإجراء عقابي ضد سكانٍ معروفين بمعارضتهم للنظام. إن تطوير المشاريع السكنية التي يمكن بناؤها في هذه المناطق سيتم في الواقع عبر عقود مع شركات تملكها المحافظات أو البلديات، ولكن ترسية عقود التنفيذ والبناء والإدارة والإشراف ستكون على الأرجح لصالح شركات القطاع الخاص التي يملكها المستثمرون ذوو الصلات القوية. تنفيذ هذا المرسوم على كامل الأرض السورية سيخدم عددًا من الأهداف الأخرى، بما في ذلك كوسيلة للضغط على سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؛ كمصدر لإثراء الرأسماليين المرتبطين بالنظام؛ كوسيلة لجذب الموارد المالية والمستثمرين؛ وكـ"جزرة" لجذب رؤوس الأموال من بلدانٍ مختلفة ترغب بكسب الأرباح من حملة إعادة الإعمار في سوريا(18).
خاتمة
في النهاية، فإن التغيير الديمغرافي الناتج عن قوات النظام وحلفائه أمرٌ واقعي في بعض مناطق سوريا، ولكنه ليس استراتيجية وسياسة منظمة لتغيير الديمغرافية العامة في البلد الذي يمثل السنَّة العرب فيه أكثر من 70% من عدد السكان. وعلى المبدأ نفسه، لا يمكننا أن ننسى أن الحركات الإسلامية المقاتلة (مثل: تنظيم الدولة، وجبهة النصرة، وأحرار الشام، وجيش الإسلام) قد شاركت في التغيير الديمغرافي وفي ارتكاب مجازر طائفية في بعض المناطق، وتلك الممارسات يجب أن تُدان بنفس الشكل أيضًا.
برأينا، فإن النظام لا يعادي السكان السنَّة، أو هوية سُنِّيَّة معينة، بل يعادي الجماهير المعارضة له، التي كانت بأغلبيتها من خلفيات شعبية سُنيَّة، تحديدًا من المناطق الريفية الفقيرة والبلدات الوسطى، بالإضافة إلى ضواحي دمشق وحلب. إن مشكلة العديد من المحللين وبعض أقسام المعارضة هي النظرة للنظام على أنه نظامٌ علوي لا غير، نظرًا لأن التمييز لصالح العلويين في بعض المؤسسات (على وجه الخصوص مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية، وإلى حدٍّ ما بعض المؤسسات العامة) قد تزايد بشكلٍ كبير طوال فترة الحرب، بدل النظر إليه على أنه نظامٌ وراثي وديكتاتوري يحافظ على سلطته، ويحظى بدعم مهم من خلال وسائل مختلفة: الطائفية، والعنصرية، والقبلية، والزبائنية، دون أن ننسى القمع الشديد ضد أي شكل من أشكال المعارضة. ومن هذا المنظور، لم تكن الطائفية أبدًا غاية بحد ذاتها بالنسبة للنظام، ولكنها ظلت أداةً بيده للتحكم والسيطرة.
______________________
جوزيف ظاهر- أستاذ العلوم السياسية-جامعة لوزان بسويسرا
1- نيروز ساتيك، "الفصل العاشر: الحالة الطائفية في الانتفاضة السورية: المسارات والأنماط"، في خلفيات الثورة، دراسات سوري، (المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، 2017)، ص 398.
2- Wimmen, Heiko, “Syria’s Path From Civic Uprising to Civil War”, Carnegie Endowment for International Peace, 22 November 2016, (Visited on 29 November 2016): https://goo.gl/DoKx7k
3- Shobassi, Mays, Timeline: Syria's 12 'people evacuation' deals, al-Jazeera English, 16 May 2017, (Visited on 18 May 2017):
4- Zaman al-Wasl, “Militiamen of Shiite Villages Resettled in Qusayr Town: Source”, The Syrian Observer, 27 April 2017, (Visited on 30 April 2017): http://www.syrianobserver.com/EN/News/32674/Militiamen_Shiite_Villages_Resettled_Qusayr_Town_Source
5- لقد عانى الحي من حصار دام عامين، وانتهى في 4 أبريل/نيسان 2014، عبر اتفاق بين النظام والمعارضة برعاية روسية. نصَّ الاتفاق على أن 2250 مقاتلًا، إضافةً إلى المدنيين الذين بقوا تحت الحصار معهم، سيُجبرون على مغادرة المدينة والانتفال إلى الريف الشمالي.
6- The Syria Report, “Homs City Council Approves Baba Amro Master Plan”, 7 September 2015, (Visited on 15 September 2015):
7- Jablawi (-al), Hossam, “Increasing Tactics of Forced Displacement in Syria”, Atlantic Council, 6 October 2016, (Visited on 10 October 2016): http://www.atlanticcouncil.org/blogs/syriasource/increasing-tactics-of-forced-displacement-in-syria
8- Iqtissad, “Shiite Influence Increases in Damascus' Dummar District”, The Syrian Observer, 19 October 2016, (Visited on 10 May 2016): إضغط هنا.
9- Chulov, Martin “Iran repopulates Syria with Shia Muslims to help tighten regime's control”, The Guardian, 13 January 2017, (Visited on 18 January 2017): https://www.theguardian.com/world/2017/jan/13/irans-syria-project-pushing-population-shifts-to-increase-influence
10- Rollins, Tom, “Decree 66: The blueprint for al-Assad’s reconstruction of Syria?”, IRIN News, 20 April 2016, (Visited on 12 May 2017):
https://www.irinnews.org/investigations/2017/04/20/decree-66-blueprint-al-assad
11- تفاوتت التقديرات حول نسبة السكان الذين يعيشون في سكن عشوائي قبل الانتفاضة، وتراوحت عادةً بين 30 و40 في المئة، وأحيانًا كانت تصل إلى 50 في المئة. انظر: غولدن، روبرت، "الإسكان، وعدم المساواة، والتغير الاقتصادي في سوريا"، المجلة البريطانية لدراسات الشرق الأوسط، المجلد 38، العدد 2، 2011، ص 188.
12- The Syria Report, “Demographic Change Believed to be Important Motive in Launch of new Real Estate Development in Damascus”, 19 January 2016, (Visited on 20 January 2017):
13- على هامش شمال شرق دمشق، على سبيل المثال، يسكن العلويون منطقة عيش الوروَر بشكل أساسي. ينطبق الأمر نفسه على منطقتي "المزة 86" والسومرية باتجاه غرب العاصمة، بينما تقع منطقتي الدويلعة وجرمانا باتجاه الشرق حيث يحوز السكان المسيحيون والدروز الأكثرية السكانية فيهما. معظم السكان من كل هذه المناطق هم من خلفيات ريفية فقيرة. ومع ذلك، لا يوجد مثل هذا التركز السكاني في جنوب وجنوب غرب العاصمة.
14 - Rollins, T., “Decree 66: The blueprint for al-Assad’s reconstruction of Syria?”.
15- Rollins, T., “Decree 66: The blueprint for al-Assad’s reconstruction of Syria?”; and Tamimi (-al), Jawad, “The Syrian Civil War & Demographic Change”, Aymenn Jawad Al-Tamimi, 15 March 2017, (Visited on 25 March 2017):
http://www.aymennjawad.org/19745/the-syrian-civil-war-demographic-change
16- Tamimi (-al), Jawad, “The Syrian Civil War & Demographic Change”
17- Sada al-Sham, “Aleppans on the Syrian Coast: We Want to Return to Our City”, Syrian Observer, 6 January 2017, (Visited on 10 January 2017):
http://syrianobserver.com/EN/Features/32176/Aleppans_the_Syrian_Coast_We_Want_Return_Our_City/
18- The Syria Report (2017), “Government Planning to Expand Use of Expropriation Law”, 10 January 2017, (Visited on 12 January 2017):
19-La Libre (2016), “Défigurée par la guerre, Alep se prépare à une reconstruction titanesque”, 28 December 2016, (Visited on 30 December 2016):