حقق اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل أمنيات نتنياهو لكنه سيقوِّض الأمل المفترض في مصداقية الولايات المتحدة دون عائد سياسي واضح في المقابل. ورغم ترسخ معادلة الربح والخسارة في عقلية رجل الصفقات، تجاوز ترامب القواعد الأساسية في الواقعية السياسية وخدمة المصالح الذاتية الأميركية المتوارثة في الفلسفة السياسية للحزب الجمهوري. ويمكن اعتبار موقفه من القدس خطة أحادية دون قيمة استراتيجية محددة للولايات المتحدة.
دق قرارُ ترامب المسمار الأخير في نعش محادثات السلام واتفاق أوسلو، وحرَّر الفلسطينيين من وعد غير منجز من قبل وسيط سلام غير محايد. وقد تهتدي القيادة الفلسطينية إلى إعادة تركيب استراتيجيتها من رد الفعل إلى مسعى استباقي ومستقل من أجل تحقيق أهدافها الوطنية بمساعدة قوى إقليمية ودولية أخرى.
ينبغي أن يتذكر المرء أن السياسة ليست أمرًا محليًّا فحسب، بل هي تكريس أيضًا لعلاقات شخصية معينة في فهم ما دار في الكواليس قبل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن القدس. وكشفت الجلسة الطارئة لمجلس الأمن الدولي في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2017، وأيضًا جلسة التصويت في الثامن عشر من الشهر ذاته، تعميق الهوة بين الولايات المتحدة وبقية الدول الأعضاء الأربع عشرة التي عارضت القرار الأميركي. ويظل السؤال: من سيحل محل الولايات المتحدة وسيطًا نزيهًا لرعاية عملية السلام في الشرق الأوسط؟
تشريح سياسة ترامب بشأن القدس
ينمُّ قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس عن وجود دوافع خفية لتحول جسيم في السياسة الخارجية الأميركية إزاء النزاع الأكثر تعقيدًا وتشابكًا بأزمات فرعية متواترة في الشرق الأوسط. وفي خطابه المقتضب في البيت الأبيض، شدَّد ترامب بنبرة التباهي على أن "رؤساء أميركا السابقين جعلوا وضع القدس وعدًا رئيسيًّا ضمن حملاتهم الانتخابية، لكنهم لم يفوا بذلك. وأنا اليوم أطبِّق ما وعدتُ به"، في إشارة إلى قانون السفارة في القدس Jerusalem Embassy Act الذي أقره الكونغرس الرابع بعد المئة في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1995.
ضمن إطار محددات السياسة العامة الأميركية، ينص القانون على ثلاثة أمور:
- أن تظل القدس مدينة موحدة تتم فيها حماية حقوق كل مجموعة عرقية أو دينية.
- الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل.
- ينبغي تأسيس السفارة الأميركية في القدس قبل حلول الحادي والثلاثين من مايو/أيار 1999.
غير أن الرؤساء السابقين، بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما وقَّعوا قرارات دورية كل ستة أشهر لتأجيل تنفيذ القانون. وفي يونيو/حزيران 2017، وقَّع ترامب على مضض قرار التأجيل بعد أن أقنعه صهره والمهندس المحتمل لمبادرة سلام جديدة، جاريد كوشنر، بأن "نقل السفارة إلى القدس قد يقوِّض جهود المبادرة الجديدة قبل أن تقيم حكومة ترامب علاقات جيدة في المنطقة" (1).
تنطوي سردية ترامب ومديحه الذاتي على تحقيق الوعود الانتخابية على معضلات سياسية وأمنية وراء التزامه المعلن بتحقيق برنامجه الانتخابي وخدمة مصالح مؤيديه من المحافظين واليمينيين والجماعات الأنجليكانية وتعزيز ميوله نحو الانعزالية السياسية تحت شعار خدمة "أميركا أولًا". ويثير ولاؤه أُحَادي النظرة للجناح اليميني ومؤيديه من الأنجليكانيين أسئلة مهمة: إلى أي حدٍّ التزم ترامب بخدمة المصالح الاستراتيجية الأميركية بتحقيق رغبة رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، وضمان مصالح إسرائيل، فيما تظل أغلب الحكومات العربية غارقة حتى أخمص قدميها في الحروب الأهلية في اليمن وسوريا وليبيا وبقية التحديات بفعل تبعات ثورات عام 2011؟
هل أمام ترامب ضرورة دبلوماسية قصوى أم أن الاستراتيجية الأميركية استدعت تصحيحًا فوريًّا في مسارها في الشرق الأوسط عندما تفيد مؤشرات إدارة المخاطر الراهنة بوجود أزمات أكثر حدة كنفوذ تنظيم الدولة في سوريا، أو تنامي التأثير الإيراني في اليمن والعراق ولبنان، أو الاقتتال الداخلي وعودة أسواق النخاسة في ليبيا، أو التهديدات النووية المفتوحة على عدة احتمالات كارثية من قبل كوريا الشمالية؟ غير أن الفلسفة التبسيطية لترامب الذي يقول: "التحديات القديمة تحتاج لمنطلقات جديدة" تظل مغطاة بوازع أن يكون هو في مركز القيادة حتى وإنْ كانت لديه معادلة غير دبلوماسية وغير محسوبة استراتيجيًّا بشأن النزاع المزمن بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومع ميوله إلى التمحور حول الذات وأسلوبه الاستعراضي في تدبير الأمور السياسية، أظهر ترامب "ثقافة رجل صفقات على استعداد للمغامرة بخلط الأوراق"(2).
ما وراء التحرك غير الدبلوماسي لترامب؟
"الرئيس ترامب، وعدتَ ووفيتَ بالوعد. شكرًا على الاعتراف الشجاع بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل". هذا هو الشعار في أعلى صفحة كاملة تُظهر ترامب يصلي عند حائط المبكى في القدس نشرتها اللجنة اليهودية الجمهورية في نيويورك تايمز بعد يوم من خطابه. ومن المفارقات أن يختار ترامب أكثر القضايا إثارة للجدل والأكثر تقلبًا في الشرق الأوسط من بين 282 وعدًا أعلنها خلال حملته الانتخابية، ورمى بذلك شعلة نار على القضية الأكثر قابلية للانفجار في النزاع (3)؛ فقرر المضي قدمًا بخطته رغم مشورة وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، ووزير الدفاع، جيم ماتيس، بعدم تغيير وضع القدس حاليًّا. ويساور هذيْن المسؤوليْن قلقٌ متزايدٌ بشأن تنامي المشاعر المعادية للولايات المتحدة ورد الفعل المحتمل ليس على الدبلوماسيين الأميركيين فحسب، بل وأيضًا على الجنود الأميركيين المرابطين في الخارج"(4). وأبلغ المبعوث الدولي إلى عملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادنوف، مجلس الأمن بأن القدس "ربما هي الموضوع الأكثر إثارة للمشاعر والأكثر صعوبة" ضمن قضايا الوضع النهائي في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولاحظ مراقبون آخرون أن "ترامب يتجه حاليًّا نحو تطبيق استراتيجيته للتدمير الدولي في أكثر المناطق الملتهبة من الناحية الجيوسياسية في العالم"(5).
بيد أن القرارات السياسية لا تنطوي على الشؤون المحلية فحسب، بل وتدخل أيضًا العلاقات الشخصية في ترتيبها مسبقًا، مثال ذلك أن شلدون أدلسون Sheldon Adelson، المليونير اليهودي الأميركي صاحب نوادي القمار والمتبرع للحزب الجمهوري، اجتمع مع الرئيس المنتخب، ترامب، في إحدى بناياته في نيويورك قبل عشرة أيام من حفل التنصيب وأبلغ مورتن كلين Morton Klein، رئيس المنظمة الصهيونية في أميركا، بتصميم ترامب على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وأن هذا يظل "أولوية قصوى" و"قضية يتعلق بها قلبه ورُوحه"(6).
يفسِّر مارك لاندلر Mark Landler في مقال مفصل كيف أن جمعية عمل سياسية مؤيدة لترشيح ترامب للرئاسة تلقَّت تبرعًا بعشرين مليون دولار من أدلسن وزوجته، وأنهما تبرعا أيضًا بمبلغ مليون ونصف مليون دولار للَّجنة التي نظَّمت المؤتمر القومي للحزب الجمهوري في صيف 2016. وتبعًا لذلك، ظل وضع القدس للمرشح والرئيس ترامب "ضرورة سياسية أكثر من مشكلة دبلوماسية". وعند المقارنة بين الإقدام على قرار "يثير خيبة أمل لدى الجماعات الأنجليكانية ومؤيدي إسرائيل مثل السيد أدلسن أو إثارة القلق لدى الحلفاء والزعماء العرب من خلال الإضرار بمبادرته للسلام في المنطقة، قرر الرئيس الوقوف في صف مؤيديه الرئيسيين"(7). وقبل عشرة أيام من خطاب ترامب، دخل على اجتماع فريقه لشؤون الأمن القومي لمناقشة الخيارات الممكنة بشأن قضية القدس وطلب منهم تحديد "حلول أكثر ابتكارًا"؛ فقدَّم مستشاروه اقتراحيْن: "توقيع قرار تأجيل نقل السفارة مجددًا أو توقيع قرار نقل السفارة لكن مع تأجيل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتحديد خطة لنقل السفارة"(8).
ثمة سبب آخر هو اجتماعاته المتكررة مع ممثلي الجماعات الأنجليكانية المسيحية الذين دأبوا على حثِّه على المضي قدمًا بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، من هؤلاء توني بيركينزTony Perkinsرئيس مجلس أبحاث العائلة الذي يتذكر "كيف عبَّر الأنجليكانيون والمسيحيون المتمسكون بالإنجيل عن رغبتهم لترامب بشكل واضح في ربط علاقات خاصة مع إسرائيل"(9). غير أن هذا المسعى الأنجليكاني لاعتبار القدس عاصمة الدولة اليهودية يأخذ منحى مغايرًا لرؤية المسيحية ويتعارض مع أحكام القانون الدولي. وقد عبَّر البابا فرانسيس عن "قلقه البالغ" و"ناشد بشدة الجميع احترام الوضع الراهن للقدس بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة".
يتساءل المرء عمَّا إذا كان قرار ترامب بشأن القدس بمثابة رُبَّ ضارة نافعة قد تفيد في بلورة استراتيجية فلسطينية وعربية وإسلامية بديلة. وفي ضوء تراجع الأمل في حل الدولتين، من سيحل محل الولايات المتحدة في جهود إحلال السلام في المستقبل؟ في الوقت ذاته، تواجه روسيا جملة من التحديات بسبب تدخلها في النزاع السوري. وبفعل وقوفها في صف بشار الأسد، أضعفت مصداقيتها باتجاه أن يكون لها دور دبلوماسي مقبول في المنطقة. والمفارقة الآن هي أن موقف روسيا إزاء نظام الأسد مواز لموقف ترامب من إسرائيل. أما الصين فتميل نحو تطوير علاقات تجارية أكثر من السعي لأي تدخل سياسي في الشرق الأوسط. فمن المرشح المقبل لرعاية عملية السلام في المستقبل؟
الولايات المتحدة وإسرائيل: مصالح منْ أولًا؟
يبدو أن تحقيق ترامب أمنيات نتنياهو سيقوِّض الأمل المفترض في مصداقية الولايات المتحدة دون عائد سياسي واضح في المقابل. ورغم ترسخ معادلة الربح والخسارة في عقلية رجل الصفقات، تجاوز ترامب القواعد الأساسية في الواقعية السياسية وخدمة المصالح الذاتية الأميركية المتوارثة في الفلسفة السياسية للحزب الجمهوري. ويمكن اعتبار موقفه من القدس خطة أحادية دون قيمة استراتيجية محددة للولايات المتحدة. لقد تطوَّع بالتخلي عن حماسته للفوز وهو وازع رئيسي في منظوره إلى إبرام الصفقات. ذكر في كتابه بعنوان "التفكير في الأمور الكبيرة"Think Big ، "أنا أعشق تحقيق الأهداف الكبرى والتوصل إلى الصفقة الكبرى. أعشق أيضًا سحق الطرف الآخر وجني ثمار الصفقة. لماذا؟ لأنه ليس هناك أعظم من الفوز"(10).
مراقب فلسطين في الأمم المتحدة رياض منصور يتحدث في مجلس الأمن (رويترز) |
على خلاف ذلك، غابت روح الفوز لدى ترامب بعدم وجود عائد سياسي محدد من تغيير وضع القدس بالنسبة لرئيس دعا إلى تكريس الصفقاتية transactionalism، وحصل على حوالي نصف تريليون دولار من الاستثمارات الخليجية خلال حضوره قمة الرياض في شهر مايو/أيار. وتحول ترامب من رجل شرس في المفاوضات بمنطق "فن الصفقات" إلى سخي حسب منطق فن الأعطيات. يقول توماس فريدمان Thomas Friedman، الذي تابع تطورات السياسة الخارجية الأميركية منذ ثلاثين عامًا: إن "ترامب أصبح مصدر هذه الأعطيات ليس بسبب كونه جاهلًا، بل لأنه لا يرى نفسه رئيسًا للولايات المتحدة. هو يعتبر نفسه رئيسًا لقاعدته الانتخابية، وهذا بسبب أنها هي مصدر التأييد الوحيد المتبقي له. هو يشعر أنه بحاجة لأن يقدم إلى قاعدته الشعبية باستمرار من خلال تحقيق وعوده الانتخابية الخام وغير القائمة على تصورات سليمة عندما كان يطلقها جزافًا خلال الحملة الانتخابية... لم أَرَ قط رئيسًا يتخلى عن الكثير مقابل العائد الضئيل بداية بالصين ونهاية بإسرائيل"(11).
يثير قرار ترامب توقعات جون ميرشايمر John Mearsheimer وستيفان والت Stephen Walt اللذين كتبا قبل عشرة أعوام أن "من الصعب تحديد حدود اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة"، وأنه يشمل "ائتلافًا رخوًا من الأفراد والمنظمات الذين يسعون حثيثًا لتحويل بوصلة السياسة الخارجية الأميركية نحو الوجهة المؤيدة لمصلحة إسرائيل"(12). وقد نجحت عائلة أدلسن والأثرياء اليهود الأميركيون في إقناع ترامب بالتحرك في هذا الاتجاه. كما أن العلاقة الشخصية والسياسية بين أدلسن وترامب ونتنياهو تجاوزت منطق التوازن بين مراكز القوة ضمن آليات السياسة الأميركية. وتظهر أيضًا كيف أن اللوبي الإسرائيلي يخلِّف "مفعولًا سلبيًّا ليس على المصالح الأميركية فحسب، بل ويمتد تأثيره إلى إلحاق الضرر بشكل غير مقصود بمصالح إسرائيل أيضًا"(13). ويتضاءل الرأسمال السياسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى، ويؤكد بالتالي انطباعين سلبيين: أولهما: أن الولايات المتحدة لم تكن وسيطًا نزيهًا في عملية السلام. وثانيهما: عبثية التلويح باتفاق السلام من خلال تفادي الحسم في الوضع النهائي للقدس وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة وعدم إمكانية حل الدولتين. وكما قال أحد المعلقين: "إذا كانت هناك أي منفعة في إعلان ترامب بشأن القدس، فهي أنه يوفر الوضوح باتجاه غاية توحد الفلسطينيين"(14).
ترامب ضد العالم
تعهَّد المرشح ترامب مرارًا بأن يكون "صديقًا حقيقيًّا لإسرائيل"، وأن على الولايات المتحدة أن "تتعاون أكثر فأكثر فأكثر فأكثر مع إسرائيل"(15). وهذا الالتزام للمنظمات اليهودية الأميركية بدعم المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية ساعد في نمو قناعة مترسخة لديه بأنه رئيس متمسك بمبادئه أحيانًا فيما يقترب أحيانًا -كأحد الواقعيين السياسيين- من تبني ميكيافيلية جديدة في التعامل مع قضايا أقل تعقيدًا. وقد تحدَّث مع نتنياهو ثلاث مرات قبل إلقاء خطابه حول القدس، ونسقت البعثتان، الأميركية والإسرائيلية، في الأمم المتحدة جهودهما لتقويض إمكانية صدور قرار على خلاف مبتغاهما من مجلس الأمن (16). غير أن ثماني دول بما فيها المملكة المتحدة وإيطاليا وفرنسا من أصل خمس عشرة دولة أعضاء في مجلس الأمن طالبت بجلسة طارئة فيما شدَّد الفلسطينيون والأتراك على أن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ينتهك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة"(17).
وجسَّدت جلستا مجلس الأمن انقسامًا واضحًا حول مستقبل عملية السلام بين معسكرين: الولايات المتحدة وإسرائيل، مقابل المجتمع الدولي. وحاولت السفيرة الأميركية، نيكي هيلي Nikki Haley، دخول المعركة الدبلوماسية بنظرية أن أفضل استراتيجية للدفاع هي الهجوم، فانتقدت الأمم المتحدة بأنها "فعلت الكثير في إلحاق الضرر بمستقبل عملية السلام بدلًا من تعزيز فرصها في المستقبل"، كما اتهمت المنظمة العالمية بأنها "واحدة من أشرس المراكز في العالم عدائية نحو إسرائيل". وفي مسعى لتبديد الانتقاد للاعتبارات غير القانونية والأخلاقية في قرار ترامب، انطوى خطاب هيلي على اعتبار إسرائيل ضحية قائلة: "لن ولا ينبغي أن تتعرض إسرائيل لسوء المعاملة والضغط من خلال أي اتفاق تتوصل إليه الأمم المتحدة أو أية مجموعة من الدول التي تبث تجاهلها لأمن إسرائيل". واعتبر السفير الإسرائيلي، داني دانون، قرار ترامب بأنه "خطوة عملاقة لإسرائيل وللسلام والعالم".
في المقابل، أبدى سفراء الدول دائمة وغير دائمة العضوية في المجلس إجماعًا بشأن عدم حصافة ترامب. وعبَّر سفير السويد، أولوف سكوغ Olof Skoog، عن معارضة بلاده وشدَّد على أن الخطوة الأميركية "تتناقض مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة" وأنها "تتعارض أيضًا مع نداء عدد من أصدقاء الولايات المتحدة وإسرائيل". وجاءت المعارضة الأكثر حدة ضمن خطاب سفير بوليفيا، سيرجيو لورانتز سوليز Sergio Llorenty Solíz، الذي أبدى قلقه من مغبة أن "يتحول مجلس الأمن إلى أرض محتلة". وعقب الجلسة الطارئة في المجلس، أصدر سفراء المملكة المتحدة وفرنسا والسويد وألمانيا وإيطاليا بيانًا مشتركًا نددوا فيه بالموقف الأميركي الذي اعتبروه "متناقضًا مع قرارات مجلس الأمن وغير مساهم باتجاه تحقيق السلام في المنطقة"(18). وبعد عشرة أيام، بادرت الولايات المتحدة باستخدام حق النقض في وجه مشروع قرار قدَّمته مصر باسم السلطة الفلسطينية لكنه حظي بتأييد الدول الأخرى الأربع عشرة في المجلس، ويظل الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، متمسكًا بأن "لا بديل عن حل الدولتين، وليست هناك خطة باء" في هذه المرحلة.
وضع القدس: انشقاق في التحالف الأطلسي
اتسمت المعارضة الأوروبية لقرار ترامب بنبرة غير مسبوقة في الرفض والتحدي مما يزيد في عمق الشرخ في الائتلاف التقليدي بين ضفتي الأطلسي. ومنذ فوز ترامب بالانتخابات، أبدت ألمانيا وفرنسا انتقادات متوالية لسياساته، وحثَّتا على تفاعل أقل مع منطلقه متقلب المزاج في تدبير الشؤون الدولية. وتقول المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل: "لا نوافق على قرار ترامب بشأن القدس"، وذكرت أنها تتمسك بقرارات الأمم المتحدة التي "توضح أنه يتعين التفاوض على وضع القدس ضمن مفاوضات حل الدولتين، ولهذا نريد إعادة إحياء عملية السلام على هذا الأساس"(19).
غير أن التحول الأكثر إثارة جاء ضمن رد فعل رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي Theresa May، التي وصفت قرار ترامب بأنه "لا يساعد آفاق السلام في المنطقة"، وأن "السفارة البريطانية ستظل في تل أبيب، وليست لدينا خطط لنقلها إلى مكان آخر".
ومن منطلق شامل للقارة الأوروبية، أعلنت فديريكا موغيرني Federica Mogherini، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي معارضتها وأن موقفها يحظى بتأييد "جميع وزراء الخارجية في الدول الثماني والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي"(20). وشددت على أن "السياق العام هش للغاية وأن إعلان القرار ينطوي على احتمال العودة بالمنطقة إلى حقبة أكثر ظلامية مما عايشناها من قبل... هذه اللحظة الصعبة تستدعي التزامًا أقوى بالسلام"(21). وقد أبلغت موغيرني وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، خلال اجتماعهما في بروكسل عشية خطاب ترامب "بأننا نؤمن أن الحل الواقعي الوحيد للنزاع بين إسرائيل وفلسطين يقوم على أساس وجود دولتين مع اعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل وعاصمة لفلسطين". وحذَّرت من مغبة "تصعيد التوترات في المناطق القريبة من المواقع المقدسة وفي المنطقة أيضًا بسبب أن ما يحدث للقدس يهم كل المنطقة وكل العالم"(22).
خلاصة: ماذا بعد قرار ترامب؟
مع تجاهل مضاعفات الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، يتناقض ترامب مع وعده الآخر بأن "حكومته لن تضع مصالح أية دولة أجنبية قبل مصالح بلادي. ومن الآن فصاعدًا، ستكون أميركا أولًا"(23). لا شك أن القرار الجديد سينفع إسرائيل دبلوماسيًّا. غير أن اليسار السياسي في الولايات المتحدة بمن فيه اليهود الليبراليون غير مرتاح لوجود ترامب يميني أكثر ليكودية من ترامب القومي الأميركي. وينال قراره بشأن القدس من مصداقيته في أعين أكثر من مليار من المسلمين والمسيحيين والعرب وحتى الأوروبيين، ويزيد في ترسخ المشاعر المعادية لأميركا في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا وحتى في أوروبا. ووفقًا لذلك، يكون ترامب قد وضع الأرضية لعدة تحولات مرتقبة:
-
مسؤولة السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي فدريكا موغيرني في لقاء مع وزير الخارجية الأمريكية ريكس تليرسون عشية خطاب ترامب عن القدس (رويترز) دق قرارُ ترامب المسمار الأخير في نعش محادثات السلام واتفاق أوسلو، وحرَّر الفلسطينيين من وعد غير منجز من قبل وسيط سلام غير محايد. وقد تهتدي القيادة الفلسطينية إلى إعادة تركيب استراتيجيتها من رد الفعل إلى مسعى استباقي ومستقل من أجل تحقيق أهدافها الوطنية بمساعدة قوى إقليمية ودولية أخرى.
- قرر الفلسطينيون إيقاف اتصالاتهم مع حكومة ترامب ورفضوا مقابلة نائبه، مايك بنس Mike Pence، خلال زيارته المنطقة، وطووا بذلك صفحة الدور الأميركي في عملية السلام، وبدأ "البحث عن وسيط جديد من إخواننا العرب والمجتمع الدولي، وسيط يستطيع المساعدة في التوصل إلى تحقيق حل الدولتين"(24).
- أوصل تآكل مصداقية الدور الأميركي في مفاوضات السلام النزاع برمته إلى مفترق طرق حاسم. ويتمسك سفراء السويد وبريطانيا وفرنسا وغيرهم في الأمم المتحدة بالالتزام الدولي بحل الدولتين على أساس أن تكون القدس الغربية عاصمة لدولة إسرائيل والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين. وبالنظر إلى أن ترامب وقف في صف إسرائيل، فإنه يعزِّز احتمالًا واردًا بأن يتكئ الفلسطينيون على الأوروبيين لتولي قيادة محادثات السلام في المستقبل.
- مرة أخرى، وعلى غرار تبعات الغزو الأميركي للعراق عام 2003، سيكون من السهل لبعض الدول والتنظيمات السياسية مثل إيران وحزب الله وأيضًا الجماعات السنية المتشددة أن تنشر خطابًا معاديًا لأميركا وإسرائيل وعملية السلام في ظل عواقب غير منظورة قد تفضي إلى تنامي تيار عروبة متماسك وتيار إسلامي قومي جديد.
- من المرجح أن يصب السجال بشأن القدس في تشكيل جبهة متجانسة تشمل العرب والفُرس والمسلمين والمسيحيين والسُّنَّة والشيعة والإسلاميين والحداثيين والمعتدلين والقوميين. ويبدو أن سرديات "لا للقدس عاصمة لإسرائيل" التي يتردد صداها في عدة مدن في الشرق الأوسط ومناطق أخرى ستتحول إلى خطاب ملهم لحماسة حركة أوسع للمقاومة والتحدي. ولا يمكن التقليل من رمزية القدس في أبعادها السياسية والنفسية والدينية والثقافية حاضرًا ومستقبلًا.
- زاد قرار ترامب في تصعيد النزاع وتعميق البُعد الديني بين الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من جهة ويهود إسرائيل من جهة أخرى. وسيولد لهيب الشعلة المقبلة لأعمال العنف من وقود الحمولة الدينية في السياسة والاستشهاد دفاعًا عن الحفاظ عن المواقع الدينية للجانبين. وسيدخل ترامب كتب التاريخ على أنه الرئيس الذي أصرَّ على تحفيز فرضية صراع الحضارات مما يجعل صمويل هانتنغتون يبتسم في قبره.
وبغضِّ النظر عن هذه التحولات والسيناريوهات المحتملة، انتقل ترامب خلال خطابه من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى التبشير بمزايا التوصل إلى "اتفاقية القرن"، بيد أن الفلسطينيين قالوا له ببساطة: "إنك مُقَال"، على غرار عباراته الشهيرة التي كان يطرد بها الراغبين في تسيير شركاته التجارية ضمن البرنامج التليفزيوني The Apprentice.
__________________________________
د. محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن، وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقًا.
1-Mark Landler, “For Trump, an Embassy in Jerusalem Is a Political Decision, Not a Diplomatic One”, the New York Times, Dec. 6, 2017
2- Rick Klein, “Analysis: In Jerusalem gamble, Trump may go bust “, ABC News, Dec. 6, 2017
http://abc30.com/news/analysis-in-jerusalem-gamble-trump-may-go-bust-/2748475/
3- Jonathan Freedland, “Donald Trump’s Jerusalem statement is an act of diplomatic arson”, The Guardia, Dec. 6. 2017
4- Mark Landler, “For Trump, an Embassy in Jerusalem Is a Political Decision, Not a Diplomatic One”, the New York Times, Dec. 6, 2017
5- Jonathan Freedland, “Donald Trump’s Jerusalem statement is an act of diplomatic arson”, The Guardia, Dec. 6. 2017
6- Mark Landler, “For Trump, an Embassy in Jerusalem Is a Political Decision, Not a Diplomatic One”, the New York Times, Dec. 6, 2017
7- Mark Landler, “For Trump, an Embassy in Jerusalem Is a Political Decision, Not a Diplomatic One”, the New York Times, Dec. 6, 2017
8- Mark Landler, “For Trump, an Embassy in Jerusalem Is a Political Decision, Not a Diplomatic One”, the New York Times, Dec. 6, 2017
9- Mark Landler, “For Trump, an Embassy in Jerusalem Is a Political Decision, Not a Diplomatic One”, the New York Times, Dec. 6, 2017
10- Steven Watts, “What Donald Trump’s Books Say About Winning”, The Atlantic, Nov. 12, 2017
11- Thomas Friedman, “Trump, Israel and the Art of the Giveaway” the New York Times, Dec. 6, 2017
12- John J. Mearsheimer, and Stephen M. Walt, “The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy”, Penguin, 2008, p. 5
13- John J. Mearsheimer, and Stephen M. Walt, “The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy”, Penguin, 2008, p. 9
14- Dalia Hatuqa, “For Palestinians, There's Only One Road Left”, The Atlantic, Dec. 7, 2017
15- Jenna Johnson, “’I will give you everything.’ Here are 282 of Donald Trump’s campaign promises.” The Washington Post, November 28, 2016
16- Noa Landau, “U.S. Envoy Nikki Haley Says UN Did More Damage Than Good to Mideast Peace,” Haaretz, Dec. 8, 2017
https://www.haaretz.com/world-news/.premium-1.827766
17- Peter Beaumont, “Trump's recognition of Jerusalem as Israel capital sparks West Bank clashes”, the Guardian, December 7, 2017
18- Rick Gladstone “U.S. Faces Blunt Criticism at U.N. Over Jerusalem Decree”, The New York Times, Dec. 8, 2017
https://www.nytimes.com/2017/12/08/world/middleeast/un-jerusalem-security-council.html
19- Judith Mischke, “Mogherini: Trump’s Jerusalem decision ‘very worrying’”, POLITICO, Dec. 7, 2016
https://www.politico.eu/article/federica-mogherini-donald-trump-jerusalem-decision-very-worrying/
20- Judith Mischke, “Mogherini: Trump’s Jerusalem decision ‘very worrying’”, POLITICO, Dec. 7, 2016
https://www.politico.eu/article/federica-mogherini-donald-trump-jerusalem-decision-very-worrying/
21- Judith Mischke, “Mogherini: Trump’s Jerusalem decision ‘very worrying’”, POLITICO, Dec. 7, 2016
https://www.politico.eu/article/federica-mogherini-donald-trump-jerusalem-decision-very-worrying/
22- Judith Mischke, “Mogherini: Trump’s Jerusalem decision ‘very worrying’”, POLITICO, Dec. 7, 2016
https://www.politico.eu/article/federica-mogherini-donald-trump-jerusalem-decision-very-worrying/
23- Jenna Johnson, “’I will give you everything.’ Here are 282 of Donald Trump’s campaign promises.” The Washington Post, November 28, 2016
24- Reuters Staff, “Palestinian President Abbas won't meet U.S. Pence in region - foreign minister”, Reuters, Dec. 9, 2016
https://af.reuters.com/article/commoditiesNews/idAFL8N1O90CL