الإسلاميون المغاربة وفشل الانتقال لما بعد الحركة الإسلامية

جاء المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية في ظرفية حساسة للحزب لم يعرف لها مثيلًا في تاريخه؛ حيث كان التصدع الداخلي يهدد بشق الحزب إلى نصفين، ما بين تيار "محافظ" يتفادي الصدام مع الدولة والمؤسسة المَلَكية وتيار "إصلاحي" يطالب باحترام الإرادة الشعبية والانحياز لاختياراتها مهما كلف الثمن.
349aa075ce1e4ea794d63c1aec71cef6_18.jpg
بن كيران والعثماني: خلاف حول الوجهة (الجزيرة)

مقدمة 

في بحث سابق حول الجذور الاجتماعية للحركة الإسلامية (1)، كنا قد بيَّنا أن ظاهرة الحركات الإسلامية هي ظاهرة حديثة متعلقة بإشكالات الدولة الحديثة في المنطقة العربية وعملية "التحديث القسري" التي عرفتها هذه المجتمعات بعد مجيء الاستعمار الأوروبي بداية القرن العشرين، وبالضبط كردَّة فعل تاريخية قامت بها البنيات الاجتماعية التقليدية المحطَّمة (المجتثُّون بتعبير بورديو) في هذه المجتمعات، نتيجة إخفاق عملية التحديث وتكريس مأزق الدولة الحديثة فيها، متبنية خطابًا ثقافيًّا هوياتيًّا (المرجعية الدينية الإسلامية) يبدو في السطح رافضًا للحداثة ومقاومًا لها، إلا أنه في عمقه تعبير عن رفض نتائج عملية التحديث القسري وهيمنة النخب الوريثة لمشروع الاستعمار على دولة ما بعد الاستقلال، وتبنيها للمشروع الاستعماري نفسه بقيمه ومصالحه وأدواته ذاتها وتهميش المجتمع وقواه التقليدية التي كانت تعرف تحولات عميقة نتيجة انتشار التمدين والتعليم والوظيفة العامة، ونشأة الطبقة الوسطى من رحم المجتمع التقليدي. 

وفي هذا السياق، اشتغلنا على نموذج حزب العدالة والتنمية المغربي بمقاربة إحصائية، لنبيِّن أن الأغلبية الساحقة من أعضائه ينحدرون من أصول اجتماعية تقليدية (90% منهم من أسر قادمة من الأرياف)، وُلِدوا في فترة ما بعد الاستقلال (حوالي 85% منهم)، ودرسوا في المدرسة الوطنية، والتحقوا بالوظيفة العامة (حوالي 83 % منهم في القطاع العام)، ويتمركزون في المدن الكبيرة والمناطق الحضرية (حوالي 92 % من مقاعد الحزب البرلمانية هي في المدن).

وانتقلنا إلى تحليل تحولات الخطاب في الحركة الإسلامية المغربية (وخاصة إسلاميي العدالة والتنمية)، محلِّلين هذا الخطاب ومعالمه الرئيسية وانعطافاته التاريخية، إلى حدود الربيع العربي سنة 2011.

وفي هذه الدراسة نحاول إكمال مقاربتنا لهذا المسار من خلال تحليل مرحلة ما بعد الربيع العربي، وتطور حزب العدالة والتنمية فيها، وصولًا إلى مؤتمره الثامن ونتائجه، ومحاولة استشراف مستقبله في الأفق المنظور.

التطور التاريخي لإسلاميي العدالة والتنمية بالمغرب

كانت البدايات الأولى لنشأة الحركة الإسلامية بالمغرب أواخر ستينات القرن العشرين، مع نشوء تنظيم "الشبيبة الإسلامية" سنة 1969، على يد عبد الكريم مطيع، وتمدده في الفترة ما بين 1972 و1975، لكنه سرعان ما استعجل الاصطدام بالدولة وفرَّ قادته إلى خارج البلاد، وهو ما أدى إلى انهيار التنظيم وتفككه في الفترة ما بين 1975 و1981.

كانت إحدى المجموعات التي أعلنت انفصالها عن الشبيبة الإسلامية، والمكونة أساسًا من الشباب، قد أنشأت سنة 1981 تنظيمًا جديدًا تحت اسم "الجماعة الإسلامية"، بقيادة عبد الإله بنكيران، وأعلنت في بيانها الأول تبرؤها من المرشد عبد الكريم مطيع ومن تصرفاته غير المسؤولة (2). وتبنت هذه الجماعة الجديدة مجموعة من المبادئ تقوم على نبذ السرية والعنف، والانفتاح على المجتمع، والتدرج في الخطاب والممارسة. بينما احتفظت هذه الجماعة بنفس الخطاب الدعوي الإسلامي القائم على الدعوة لتحكيم الشريعة الإسلامية ومحاربة الانحراف عن الدين في المجتمع، مستندة على نزعة هوياتية ترى أن سبب تخلف المجتمع راجع إلى عدم التزامه بالدين الصحيح، فمشكلة التعليم سببها ضعف المقررات الدينية، ومشكلة الاقتصاد هي الربا، ومشكلة الإدارة هي الترخيص للقمار والخمور...إلخ (3).

ترافقت مرحلة الثمانينات في المغرب مع موجة مراجعات عامة قام بها التيار الإسلامي في مجمل العالم العربي، بعد النتائج الكارثية لاستعجال الصدام مع الأنظمة الحاكمة، والهزائم المتتالية التي تعرض لها، والتي بلغت حدَّ المجازر الدموية، خاصة في الحالة السورية (مجزرة حماة في عام 1982). وفي هذا السياق، شارك عدد من رموز الحركات الإسلامية المغتربين في الخارج، في بلورة خطاب نقدي جديد يرفض العنف كأداة للتغيير ويرفض استعجال الاصطدام بالأنظمة القمعية ونتائجه الكارثية، ويدعو إلى تجديد الدين والنهضة الحضارية الشاملة...إلخ، مستفيدًا من تأصيلات مفكرين من قبيل مالك بن نبي وجودت السعيد، وأسهمت مجلة "الأمة" القطرية التي كانت تصدر في الدوحة في ترويج هذا الخطاب الجديد، والذي تُوِّج بتأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا في الولايات المتحدة الأميركية، ومحاولة توجيه الاهتمام إلى مجالات عمل جديدة تحت شعار "البدائل الإسلامية" (أسلمة المعرفة، الاقتصاد الإسلامي، الأدب الإسلامي، الفن الإسلامي...إلخ).

كانت فترة "الجماعة الإسلامية" في المغرب، مرحلة مراجعات فكرية وسياسية ومصالحة مع مكونات الدولة والمجتمع، ابتعدت فيها الجماعة عن جميع أشكال العمل السياسي المباشر لتخوض نقاشًا داخليًّا يمهد للمرحلة المقبلة، والتي تُوِّجت بتأسيس حركة "الإصلاح والتجديد" في عام 1992، والتي يحمل اسمها دلالات واضحة على معالم التحول الذي عرفته المرحلة الماضية، والانتقال من حركة هوياتية منعزلة إلى حركة وظيفية إصلاحية مندمجة في النسيج الاجتماعي.

بقي الهاجس السياسي مطروحًا منذ أواخر فترة الجماعة الإسلامية، حيث أصدرت الحركة وثيقة "المشاركة السياسية"، سنة 1988، والتي طُرح فيها لأول مرة فكرة تأسيس حزب سياسي. وفي عام 1992، وبموازاة تأسيس حركة الإصلاح والتجديد، قُدِّم طلب تأسيس حزب " التجديد الوطني"، لكن السلطات المغربية قابلته بالرفض، ليبدأ بعدها البحث عن بدائل أخرى تتيح تنفيذ فكرة المشاركة السياسية، وجرى التواصل أولًا مع حزب الاستقلال لكن دون نتائج تذكر، ليجري بعدها التفاوض مع عبد الكريم الخطيب على أساس إعادة تجديد هياكل حزبه "الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" وصولًا إلى تحقيق هذا الهدف مع عقد مؤتمر استثنائي للحزب في عام 1996، لإدماج جزء من الإسلاميين المغاربة في اللعبة السياسية التي كانت تعرف تحولات كبيرة مع بروز تجربة التناوب التوافقي وتعديل الدستور سنة 1996.

كانت هذه السنة، 1996، أيضًا مفصلية مع تأسيس حركة جديدة تحت اسم "التوحيد والإصلاح" نتيجة اندماج حركة الإصلاح والتجديد مع "رابطة المستقبل الإسلامي" والتي كانت عبارة عن تجمع لعدة جمعيات بعضها من بقايا الأعضاء السابقين للشبيبة الإسلامية، في إطار واحد. هكذا عرفت سنة 1996 تتويجًا لمسارين اندماجيين منفصلين أولهما سياسي/حزبي والثاني دعوي/حركي، نتج عنه ازدواجية في المؤسسات ستطبع تجربة الإسلاميين المغاربة طوال الفترة المقبلة، مع بروز ثنائية "الدعوي والسياسي" وطبيعة العلاقة المفترضة بينهما.

شارك الحزب في أول انتخابات تشريعية سنة 1997، ليحصل على 9 مقاعد في البرلمان المغربي، ويغيِّر اسمه إلى حزب "العدالة والتنمية" بعد ذلك بسنة، ويختار مقاربة "المساندة النقدية" لحكومة التناوب الأولى بقيادة عبد الرحمن اليوسفي، قبل أن ينقلب عليها ويخرج إلى المعارضة خصوصًا بعد نزول أنصاره إلى الشارع سنة 2000 خلال المعركة المعروفة بخطة "إدماج المرأة في التنمية"، ضد مشروع الحكومة القاضي بمنح النساء حقوقًا اجتماعية أكبر. وهي المعركة التي أعادت الإسلاميين المغاربة إلى المشروع الهوياتي والنزوع الصدامي في قضايا الهوية مع المكونات الأخرى للمجتمع، وهو الطابع الذي سيطغى على خطاب حزب العدالة والتنمية طوال تلك الفترة، من خلال اعتراضه المستمر على عدد من المهرجانات الغنائية والأفلام السينمائية والقضايا الإعلامية المختلفة، وغيرها من موضوعات الهوية التي كانت ترضي رغبات شرائح اجتماعية محافظة من داخل الحزب ومن خارجه.

الربيع العربي وحكومة بنكيران: بوادر التحول إلى تيار مجتمعي

بالرغم من انشغال الحزب الدائم بالقضايا الهوياتية طوال بداياته، إلا أن عددًا من العوامل الأخرى أدت إلى انغماسه أكثر فأكثر في القضايا السياسية وقضايا الدولة والمؤسسات وتدبير الشأن العام، خاصة مع مشاركة الحزب في الانتخابات المحلية وبدء تدبير الحزب لعدد من البلديات في عدد من المدن المغربية، وهو ما أدى إلى تفعيل مقولات: "الإصلاح" السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وانشغال جزء متزايد من كوادر الحزب وأطره بها، وابتعادهم التدريجي عن قضايا الهوية والخلافات حولها. وهو ما حدا بأحد قيادات حركة التوحيد والإصلاح البارزين، فريد الأنصاري، إلى إصدار كتاب سنة 2003، بعنوان "البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي"(4)، منتقدًا هذا التوجه الجديد الذي وصفه بظاهرة "التضخم السياسي" وبداية ابتعاد عدد متزايد من أطر الحزب عن الاهتمام بالخطاب الدعوي وقضايا الهوية لحساب القضايا السياسية وتدبير الشأن العام.

لكن المحفز الأكبر لهذا التحول التدريجي كان هو إحساس عدد كبير من قيادات الحزب وقواعده بوجود تيار قوي داخل السلطة المغربية يرى في الحزب خطرًا على شبكات مصالحه الاقتصادية والسياسية وتبنيه مقاربة جديدة تهدف إلى محاربة الوافد الجديد للساحة الحزبية المغربية وتضييق الخناق عليه، حيث ضغطت هذه القوة على الحزب لتخفيض نسبة مشاركته في انتخابات 2002 إلى أقل من نصف الدوائر الانتخابية(5)، قبل أن تقرر إنشاء حزب سياسي منافس للوقوف في وجه التمدد الانتخابي لحزب الإسلاميين، وهو حزب الأصالة والمعاصرة، وصولًا إلى المواجهة المباشرة والمفتوحة في الانتخابات المحلية لسنة 2009، واتهام حزب العدالة والتنمية لوزارة الداخلية بالتدخل لمنع فوزه بعدد كبير من المدن، وتمكين الوافد الجديد، حزب الأصالة والمعاصرة، من الفوز بها باعتباره حزب السلطة(6).

أدت هذه الضغوطات الكبيرة إلى تحول بوصلة حزب العدالة والتنمية من الخطاب الهوياتي إلى "أطروحة النضال الديمقراطي" والتي تبناها الحزب في مؤتمره السادس، وسجل فيها تراجع خطاب الدمقرطة وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون وتراجع نسبة الشفافية والنزاهة في الانتخابات (7). وهو ما يستلزم "نضالًا ديمقراطيًّا" من أجل إرساء قواعد الممارسة السياسية السليمة. وفي جانب علاقة الديني بالسياسي، عرَّفت الوثيقة الحزب بأنه "حزب سياسي مدني، ذو مرجعية إسلامية، يعمل وفق قواعد الديمقراطية"، وهو ما بدا وكأنه تخفُّف من ثقل الخطاب الدعوي والهوياتي لمصلحة خطاب سياسي يدافع عن الديمقراطية بدل الهوية.

وجاءت انتخابات 2007، والتي حصل فيها الحزب على 46 مقعدًا في البرلمان، لتكرِّس مقولة النضال الديمقراطي أكثر فأكثر، والدخول في مواجهة غير مسبوقة مع قوى داخل النظام المغربي أصبحت ترى في تزايد شعبية الحزب خطرًا على مصالحها، خصوصًا بعد تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة والذي سيتحول سريعًا إلى الغريم الأول لحزب العدالة والتنمية في الساحة الحزبية.

وفي سنة 2008، انتُخب أمين عام جديد هو عبد الإله بنكيران كتعبير عن هذا التوجه الجديد الذي يعطي أولوية للنضال السياسي على ما سواه من قضايا أخرى.

لكن المنعطف الأساسي كان في لحظة الربيع العربي سنة 2011، ووصول رياحه إلى المغرب مع الحراك الشعبي المتمثل في حركة 20 فبراير، والتي رفعت شعارات الانتقال الديمقراطي والملكية البرلمانية ومحاربة الفساد والاستبداد. انقسم الحزب على نفسه في تلك اللحظة التاريخية الفارقة؛ حيث رفض الأمين العام، عبد الإله بنكيران، فكرة الخروج إلى الشارع للاحتجاج، مبرِّرًا ذلك بالمخاطر المرتبطة بعدم القدرة على ضبط الحراك الجماهيري والتنبؤ بنتائجه، في حين شارك عدد مهم من قيادات الحزب وقواعده في حراك الشارع مكرِّسين بذلك حالة الانقسام داخل الحزب.

لكن النظام المغربي تميز بقدرة عالية على سرعة المناورة؛ حيث عرض دستورًا جديدًا يحقق جزءًا من مطالب الشارع المتظاهر، على قاعدة توازن القوة بين الملكية والشارع، والالتقاء في منتصف الطريق، لينخرط الحزب في هذا المسار الجديد باعتباره سيوفر إمكانيات للتغيير السلمي من دون الدخول في مغامرات الصدام والعنف بين الدولة والشارع، فكانت النتيجة إقرار دستور جديد للبلاد سنة 2011، وإجراء انتخابات تشريعية حصل فيها الحزب على المرتبة الأولى بـ 107 مقاعد في البرلمان، والتي مهَّدت لتولي أمينه العام، عبد الإله بنكيران، لرئاسة الحكومة.

هدأت وتيرة الاحتجاجات في الشارع المغربي تدريجيًّا، وفقدت حركة 20 فبراير زخمها الأول، قبل أن تتوقف الاحتجاجات نهائيًّا بعد تشكيل حكومة بنكيران الأولى. وكان ذلك إعلانًا عن نقل المعركة السياسية من الشارع إلى المؤسسات، وبدأ ما سُمِّي بمعركة "تنزيل الدستور".

لكن توازن القوة السابق سرعان ما اختل سريعًا جرَّاء التأثيرات الإقليمية التي كنت العامل الأساسي لحصول التغيير بالمغرب، حيث أدت موجة الثورات المضادة بدءًا من الانقلاب العسكري في مصر سنة 2013، وما تلاه من أحداث، إلى استعادة النظام المغربي زمام المبادرة مجددًا، ومحاولة إفراغ الدستور الجديد من مضامينه، بدءًا بأزمة الحكومة سنة 2013 مع انسحاب حزب الاستقلال، وتواصل التضييق على الحكومة الجديدة لمنعها من تحقيق أي إنجاز على الأرض، تمهيدًا للتخلص من هذه التجربة في الانتخابات المقبلة.

في خضم هذه المعركة، برزت شخصية رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، والذي كان مختلفًا تمامًا عن كل رؤساء الحكومات السابقين في تاريخ المغرب، بسبب كاريزميته وخطابه السياسي الذي استثمره لنيل تعاطف المواطنين معه، باعتباره يقود معركة الدفاع عن مكتسبات دستور 2011، في وجه السلطوية العائدة وأداتها الحزبية (حزب الأصالة والمعاصرة).

هنا، بدأت معركة سياسية وإعلامية ضخمة لم يعرف لها المغرب مثيلًا من قبل، حول شخصية رئيس الحكومة وصلاحياته والسياسات الحكومية، ومن يتخذ القرار في المغرب، وقوى الدولة العميقة (التماسيح والعفاريت كما كان يسميهم بنكيران، قبل أن يغيِّر الاسم إلى مصطلح "التحكم") ...إلخ. 

كل ذلك أدى إلى مزيد من انخراط المغاربة في الشأن السياسي والشأن العام، وكانت له تأثيرات عميقة على حزب العدالة والتنمية وخطابه السياسي، الذي أصبح بفضل زعيمه بنكيران، منخرطًا أكثر في قضايا تدبير الشأن العام، مبتعدًا بشكل كبير عن قضايا الهوية والاختلاف حولها في المجتمع؛ ما جعله يكسب تعاطف شرائح واسعة من المغاربة لم تكن تدعمه سابقًا، سواء من الفئات الشعبية أو النخبوية من مثقفين وأكاديميين وفنانين ونشطاء في المجتمع المدني.

أدى هذا التحول العميق مثلًا إلى إقرار الحزب بالبروتوكول الاختياري لاتفاقية "سيداو" المتعلقة برفع جميع أشكال التمييز ضد المرأة، رغم ما تتضمنه من بنود المساواة الكاملة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، وهو الذي وقف بكل قوته ضد "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" قبل ذلك بسنوات، رغم أن سقفها كان أقل بكثير من اتفاقية سيداو، مبرِّرًا تحوله العميق هذا بمبررات براغماتية صرفة متعلقة بالتمويل الدولي والعلاقة مع المؤسسات الدولية. ولم يكترث الحزب وقتها كثيرًا لمعارضة حركة التوحيد والإصلاح لهذا القرار ورفضها القاطع له (8).

وصلت المعركة السياسية في المغرب لإغلاق قوس الربيع العربي، منعطفها الحاسم في الانتخابات المحلية لسنة 2015، والتي اكتسح فيها حزب العدالة والتنمية معظم المدن الكبيرة في البلاد (التي تهيمن على معظم الميزانيات والأنشطة الاقتصادية في البلاد)، والتي تعد مراكز الطبقة الوسطى في المغرب. وكانت تلك النتيجة بمثابة الصدمة لخصومه الذين راهنوا على أن تجربة التدبير الحكومي والعراقيل الموضوعة أمامها، كفيلة بإضعاف الحزب وإسقاطه، لكن العكس هو الذي حصل؛ حيث استفاد الحزب من تلك العراقيل ليكسب مزيدًا من التعاطف الشعبي معه، ولعب بنكيران دورًا محوريًّا في هذا المسار بخطابه الشعبوي وشكواه الدائمة من مراكز القوى والنفوذ التي تحاربه باستمرار.

كان الجميع متوجهًا نحو السرعة القصوى في المواجهة التي صارت مفتوحة بين حزب العدالة والتنمية ومراكز النفوذ المعادية له في الدولة، استعدادًا للمحطة النهائية في الانتخابات التشريعية لسنة 2016. وتحمَّل بنكيران جزءًا كبيرًا من هذه المواجهة، التي بلغت أوجها في المسيرة المناهضة لحزب العدالة والتنمية والتي عرفتها مدينة الدار البيضاء، والتي رفعت شعار الوقوف ضد "أخونة الدولة"، وهو مصطلح غريب في المغرب، قبل أن تتحول إلى مهزلة سياسية بعد انكشاف وقوف جهات داخل الدولة ورجال أعمال بارزين وراءها (9)، ما زاد من تعاطف فئات شعبية واسعة مع الحزب الذي بدا وكأنه في موقع المستهدَف من قبل مراكز النفوذ في الدولة.

أدى ذلك إلى تحول حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات بالتحديد من مجرد حزب سياسي عادي، إلى ما يشبه "التيار المجتمعي" الذي يحمل معه مشروع الانتقال الديمقراطي والدفاع عن مكتسبات دستور 2011، بعد أن تحلقت حوله قوى اجتماعية مختلفة ونخب من مشارب متعددة كلها دعت إلى مساندته في هذه المعركة الانتخابية الحاسمة.

كل ذلك أدى بالنتيجة إلى الفوز التاريخي لحزب العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية لسنة 2016، بـ 125 مقعدًا في البرلمان، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المغرب منذ الاستقلال. كانت هذه النتيجة كفيلة بتعيين الملك محمد السادس عبد الإله بنكيران رئيسًا للحكومة مجددًا، وتكليفه بتشكيل حكومة جديدة.

لكن بنكيران اصطدم بتحالف معظم الأحزاب السياسية مع بعضها للضغط عليه وابتزازه سياسيًّا؛ ما أدى إلى اندلاع أزمة تعثر تشكيل الحكومة أو ما عُرِف بـ"البلوكاج الحكومي"، والذي امتد لأكثر من ستة أشهر، قبل أن ينتهي بإعفاء الملك لبنكيران، وتعيين سعد الدين العثماني خَلَفًا له لتشكيل حكومة جديدة، ونجاحه في هذا الأمر بسرعة كبيرة، بعد رضوخه لشروط محاوريه كاملة؛ ما أدى إلى ترسيخ قناعة كون الأزمة السابقة مفتعلة وهدفها الأساسي هو التخلص من بنكيران لا غير.

نهاية مشروع التيار المجتمعي وعودة المحافظين

كان الإعفاء الملكي بمثابة رصاصة الرحمة، لعبد الإله بنكيران ومعه خطه السياسي الفريد، القائم على إمكانية الوقوف في وجه مراكز النفوذ في الدولة وإجراء إصلاحات هيكلية دون الاصطدام بشرعية المؤسسة الملكية، والذي لخصه في مقولته الشهيرة: "أنا مَلَكي، لكني غير منبطح"(10).

لكن هذه التجربة الفريدة لم يكن يُراد لها الاستمرار؛ حيث انتهت بقرار من أعلى هرم السلطة في البلاد، وكان التساؤل لحظتها حول رد الفعل المتوقع من حزب العدالة والتنمية على هذا القرار.

كانت لحظة إعفاء بنكيران أكبر من قدرة نخب الحزب وقياداته على مجاراتها وبدا التخبط والعشوائية في ردود الأفعال سمة طاغية على تلك اللحظة التاريخية. ولإيجاد حل لها لجأ الحزب كعادته إلى أجهزته التنظيمية (الأمانة العامة والمجلس الوطني)، والتي زكت كلها القرار الملكي وقبلت بالمشاركة في الحكومة الحالية برئاسة سعد الدين العثماني، بدل الذهاب إلى المعارضة وحماية الإرادة الشعبية التي بفضلها انتصر الحزب في الانتخابات الأخيرة.

كانت تلك هي اللحظة الفارقة التي طرحت معضلة جوهرية لطالما توقَّع كثيرون حصولها لحزب العدالة والتنمية مع تحوله لتيار مجتمعي يعبِّر عن مقولة التغيير من داخل المؤسسات، أي: ماذا لو تعارضت استراتيجية "التطبيع مع الدولة" مع مقولة: "التغيير من داخل المؤسسات"؟ ما الذي سيختاره الحزب: الدفاع عن الإرادة الشعبية متمثلة في التغيير السياسي باعتباره ممثلها داخل المؤسسات، أم سيختار التضحية بها لصالح تطبيعه مع القصر؟ أي باختصار، هل سيختار الوقوف مع الشعب ومطالبه (تيار مجتمعي حامل لمشروع الانتقال الديمقراطي) أم مع الدولة وحساباتها (أداة حزبية لتمرير مرحلة مضطربة)؟

كان جواب هذا السؤال مصيريًّا في تطور تجربة الإسلاميين المغاربة؛ حيث كان اختيار الجواب الثاني كفيلًا بإغلاق قوس الحركة الإسلامية كمرحلة تاريخية وبدء مرحل جديدة عنوانها العريض "ما بعد الحركة الإسلامية"، أي التحول لتيار مجتمعي تجتمع حوله قوى اجتماعية عديدة (طبقات وسطى وشعبية وبورجوازية) ونخب فكرية وأيديولوجية مختلفة (محافظون ويساريون وليبراليون)، ويقود مشروع الانتقال الديمقراطي في المغرب في مواجهة السلطوية وأدواتها المختلفة.

أدى رضوخ قيادة الحزب للابتزاز السياسي إلى حصول تصدع كبير في الحزب، نتيجة الطريقة التي أُديرت بها المشاورات الحكومية وطريقة تشكيلها، والتي جعلت كثيرين بمن فيهم أعضاء في المجلس الوطني للحزب يصفونها بـ “حكومة الإهانة"(11)، وتهرَّب رئيس الحكومة الجديد، سعد الدين العثماني، من الإفصاح عن ملابسات تلك المشاورات والتعليق على نتائجها.

انتصار المحافظة على الإصلاح والجماعة الدينية على التيار المجتمعي

جاء المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية في ظرفية حساسة للحزب لم يعرف لها مثيلًا في تاريخه؛ حيث كان التصدع الداخلي يهدد بشق الحزب إلى نصفين، مع ارتفاع درجة التراشق السياسي والاتهامات المتبادلة ما بين تيار "محافظ" يقوده وزراء حكومة العثماني المتشبثون بالمشاركة في الحكومة وتفادي الصدام مع الدولة والمؤسسة المَلَكية وأولوية التطبيع معها ورفض التحول لتيار مجتمعي باعتبار ذلك خطرًا على مستقبل الحزب، وتيار "إصلاحي" مقابل يقوده الشباب ومعهم بنكيران، والذي يطالب باحترام الإرادة الشعبية والانحياز لاختياراتها مهما كلف الثمن (الذهاب للمعارضة أو إعادة الانتخابات)، وما يعنيه ذلك ضمنيًّا من إنهاء حقبة الحركة الإسلامية وبدء حقبة جديدة بمشروع سياسي مختلف.

وكان عنوان هذا الصراع هو بين التمديد لبنكيران أمينًا عامًّا لولاية ثالثة أو انتخاب العثماني بديلًا عنه باعتباره رئيسًا للحكومة (كان أمينًا عامًّا في الفترة ما بين 2004 و2008). أدى النقاش المستفيض حول هذا الموضوع والذي كانت الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي منصاته -رغم معارضة تيار الوزراء داخل الحزب لتحويله إلى نقاش عام ومفتوح- إلى بروز تيارين مختلفين ومتناقضين لأول مرة في تاريخ هذا الحزب، وخروج هذا التناقض إلى العلن، بين من يرى أولوية التطبيع مع الدولة (باعتبار التمديد لبنكيران يعني الصدام معها) ومن يرى أولوية الدفاع عن الإرادة الشعبية (باعتبار بنكيران تعبيرًا عنها)، ووصل النقاش في حدته إلى مستويات لم يكن يعرفها جمهور الحزب سابقًا وفي بعض الحالات إلى درجة التخوين المتبادل.

كان واضحًا وقتها أن ذهاب الحزب مع أطروحة التمديد لبنكيران من عدمها، تعني لا محالة مجيء بنكيران لولاية ثالثة بسبب شعبيته الهائلة، وقدرته على استقطاب الكثيرين لخطابه. فتحولت المعركة لدى أنصار "التطبيع مع الدولة بأي ثمن" إلى منع وصول بنكيران إلى انتخابات الأمين العام، باعتباره يشكِّل تهديدًا جوهريًّا لهذا "المنهج"، وكانت أداة ذلك هي اعتبار التمديد لبنكيران مخالفًا لقوانين الحزب التي تحصر مدة الولايات المتتالية للأمين العام في ولايتين، رغم أن هذا الطرح كان محل خلاف وجدل قانوني باعتبار المؤتمر هو صاحب السلطة العليا وهو من يضع القوانين ويمكنه تعديلها لو رأى أن الظروف تقتضي ذلك.

كان من اللافت في هذه المعركة موقف حركة التوحيد والإصلاح، التي ساندت "تيار الوزراء" في الحزب، وتخندقت ضد التمديد لبنكيران، وهو ما كان بمثابة إعلان سقوط مقولة: "الفصل بين السياسي والدعوي" في تجربة الحزب والحركة، حيث أصبح "الدعوي" طرفًا في الصراع "السياسي" ونزل بكل ثقله لمنع وصول بنكيران إلى منصب الأمين العام (12). ولا يمكن فهم موقف الحركة التي كان بنكيران أبرز مؤسسيها وقائدها في البدايات الأولى أوائل الثمانينات، دون فهم التحول الذي كان جاريًا في بنية الحزب وخطابه بقيادة بنكيران بعد 2011، والذي ترى فيه الحركة تجاوزًا لها وربما يكون بداية نهايتها.

ذلك أن التحول إلى "تيار مجتمعي" كان يعني بالضرورة التخلص التدريجي من الخطاب الهوياتي "الدعوي" الذي تمثله الحركة، لصالح المشروع "السياسي" الإصلاحي، وتحوُّل الحزب إلى مظلة تجمع تيارات مختلفة من المجتمع بأيديولوجيات مختلفة يعني فعليًّا الانتقال لمرحلة "ما بعد الحركة الإسلامية"، ما يجعل الحركة في موضع "المنتهية صلاحيته" التاريخية، وبدء البحث عن بدائل فكرية وثقافية جديدة تلائم التوجه الجديد (13).

كان المعبِّر عن هذا التوجه مبكرًا هو رئيس الحركة السابق، أحمد الريسوني، والذي كان قد عبَّر في وقت سابق عن انتقاده لابتعاد حكومة بنكيران عن "المرجعية الإسلامية" لصالح ما سماه "مرجعيات أخرى قانونية وسياسية وإعلامية، وأن الخطاب السياسي لبنكيران بدأت تصبح فيه المرجعية الإسلامية باهتة ومحتشمة لصالح المرجعيات السائدة..."(14).

كان هذا التحول مخيفًا لكل القوى المحافظة سواء في الحزب أو الحركة (وحتى في الدولة)، لذلك وجب التخلص منه سريعًا، عبر منع عنوانه الأبرز من الحدوث، وهو التمديد لبنكيران أمينًا عامًّا.

استخدم المحافظون في هذه المعركة كل الوسائل المتاحة، عبر التخويف من إمكانية الاصطدام بالدولة في حالة إعادة انتخاب بنكيران، وضرورة الحفاظ على "بيضة الحزب" في مرحلة حساسة، وصولًا إلى التهديد العلني بالاستقالة الجماعية من الحزب والانشقاق عنه كما صرح بذلك عدد من الوزراء (من بينهم: مصطفى الرميد ونجيب بوليف) (15).

وعندما لم تنجح هذه الاستراتيجية، لجأ تيار الوزراء الذي يسيطر على الأمانة العامة -دون أن يكونوا منتخبين فيها من طرف المؤتمر الوطني (هم أعضاء بالصفة بعد توليهم للوزارات وليسوا منتخبين)- إلى منع إدراج بند إعادة انتخاب بنكيران ضمن جدول أعمال المؤتمر، وتهريبها إلى التصويت في المجلس الوطني (برلمان الحزب)، والذي تسيطر عليه أيضًا فئات محافظة تتشكَّل أساسًا من أعضاء بالصفة غير منتخبين من طرف المؤتمر الوطني، هم الوزراء في الأمانة العامة والكُتَّاب الجهويون والكُتَّاب الإقليميون (جُلُّهم رؤساء بلديات وبرلمانيون) وثلاثون عضوًا مضافون من طرف الأمانة العامة(16)، وهو ما يشكِّل فعليًّا أغلبية المجلس الوطني، ويطرح سؤالًا عميقًا حول حقيقة الديمقراطية الداخلية في الحزب، مع هيمنة الأعضاء بالصفة على الهيئات التقريرية في الحزب، وهؤلاء جميعًا محافظون بطبيعتهم، ولهم مصالح شخصية في استمرار الحزب في الحكومة والتطبيع مع الدولة وجهازها الإداري لتخفيف الضغط عليهم محليًّا (في البلديات) ووطنيًّا (في الحكومة).

هكذا، جرى إبعاد بنكيران بالقوة عن انتخابات الأمين العام، رغم معارضة أعضاء كثيرين في الحزب ولجوئهم إلى الطعن في قرارات الأمانة العامة والمجلس الوطني، باعتبارها قامت بالسطو على اختصاصات المؤتمر الوطني والوصاية عليه، رغم أنه هو أعلى هيئة في الحزب وصاحب الصلاحية الوحيد في وضع القوانين وتعديلها (17).

وفي النهاية، أسفرت انتخابات المؤتمر الثامن للحزب عن فوز العثماني بأغلبية ضئيلة لا تتجاوز 1% أمام منافس غير معروف كثيرًا ولا ينتمي إلى جيل المؤسسين لقيادات الحزب، هو رئيس الفريق البرلماني، إدريس الأزمي. وذلك بعد انقسام عمودي داخل المؤتمرين، عبَّرت عنه التدخلات المختلفة في المؤتمر الوطني، ما بين محافظين موالين للعثماني يرفعون شعار التطبيع مع الدولة باعتبار المرحلة هي مرحلة تراجع، وإصلاحيين كانوا يريدون التمديد لبنكيران قبل أن يضطروا للوقوف خلف الأزمي باعتباره ممثلًا للنهج الإصلاحي في الحزب.

هل هي بداية نهاية العدالة والتنمية كحزب جماهيري؟

جاءت الانتخابات الجزئية التي أُجريت في عدد من الدوائر الانتخابية (التي صدرت أحكام قضائية بإعادة الانتخابات فيها نتيجة طعون في الحملة الانتخابية السابقة)، لتعطي مؤشرات قوية على اتجاه المزاج العام للناخبين المغاربة في المرحلة التي المقبلة. حيث سجَّلت هذه الانتخابات نسب مشاركة ضعيفة جدًّا، أشارت إلى عودة العزوف السياسي للمغاربة ومقاطعة الانتخابات كنتيجة مباشرة لموت السياسة في المغرب، مع فقدان الثقة في الفاعلين الحزبيين وعودة الاحتجاجات إلى الشارع في عدد من المناطق المختلفة (الريف، زاكورة، جرادة...) كنتيجة مباشرة لذلك.

وكان لافتًا خسارة حزب العدالة والتنمية في عدد من المدن التي كانت تعد بمثابة معاقله الرئيسية (من بينها أكادير وسطات وتارودانت وبني ملال) وتراجع نسب التصويت له في تلك المدن (18). وهو ما كان قد تنبأ به كثير من المحللين الذين اعتبروا أن خذلان الحزب للإرادة الشعبية وقبوله بعملية تدجينه من طرف الدولة، سيكون له انعكاسات كبيرة على قاعدته الانتخابية ستؤدي لا محالة إلى تقهقره انتخابيًّا (19).

لكن قد لا يكون ذلك هو الثمن الوحيد الذي سيدفعه الحزب جرَّاء نتائج المؤتمر الوطني الثامن، حيث لم تنجح تلك النتائج في تهدئة الانقسام الداخلي بين تيارين متناقضين داخله، خاصة بعد ممارسات العثماني في انتخابات أعضاء الأمانة العامة والتي وُصِفت بأنها انتقامية من خصومه الذين منعهم من عضوية الأمانة العامة رغم تصدرهم نتائج انتخابات المجلس الوطني(20)، إضافة إلى رفض بنكيران تولي أية مسؤولية حزبية في المرحلة المقبلة، ما يعني ضمنيًّا رفضه لمخرجات المؤتمر الثامن، ومنحها غطاء شرعيًّا بمشاركته في الأمانة العامة أو المجلس الوطني.

ورغم أنه ظل وفيًّا لديمقراطيته الداخلية، رغم كل الملاحظات المسجلة عليها، إلا أن التصويت داخل هياكل الحزب يمكنه فقط أن يحسم مؤقتًا الخلافات التنظيمية، لكنه لا يحسم أبدًا الخلافات الأيديولوجية والمشاريع الكبرى. ومع تبلور تيارين متكافئين في الحزب، إصلاحي ومحافظ، وصعود خلافهما الحاد إلى السطح في المؤتمر الثامن، وتزايد الهوة بينهما يومًا بعد يوم، يبدو مستقبل حزب العدالة والتنمية غامضًا ومفتوحًا على كل الاحتمالات.

وتبقى ثنائية الدولة والشارع وصراعهما، حاسمة في رسم معالم الطريق أمام المغاربة ومستقبل الحياة السياسية في بلد تتغير بنياته الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يومًا بعد يوم، فاتحةً الباب أمام تحولات بنيوية عميقة، لا يبدو أن الفاعلين السياسيين الغارقين في حساباتهم الضيقة، قادرون على استيعابها أو استشراف مآلاتها التاريخية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمد الكوخي: باحث مغربي.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) محمد الكوخي وإبراهيم أمهال، الإسلام السياسي ومأزق الدولة الحديثة: بحث في الجذور الاجتماعية للإسلام السياسي وتحولات الخطاب: المغرب أنموذجًا. ضمن كتاب "الإسلاميون وقضايا الدولة والمواطنة"، الجزء الأول، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2016). (تم التصفح في 17 يناير/كانون الثاني 2018)، للاطلاع على الورقة في موقع أكاديميا المتخصص:  https://goo.gl/TCqDP4 

(2) محمد ظريف، الإسلام السياسي في المغرب: مقاربة وثائقية. ط 2 (الرباط: منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، 1992)، ص 256.

(3)  انظر البيان العام لجمعية الجماعة الإسلامية، في جريدة الراية المغربية، العدد 4 (نوفمبر/تشرين الثاني 1990).

(4) فريد الأنصاري، البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي. (مكناس: منشورات ألوان مغربية، 2003).

(5) انظر حوار بنكيران مع موقع الأول الإخباري، هكذا تسبب حوار بنكيران مع "الأول" في غضبة مَلَكية عليه، 29 يوليو/تموز 2016، (تم التصفح في 17 يناير/كانون الثاني 2018)،  http://alaoual.com/politique/30283.html

(6) انظر الحوار السابق مع بنكيران، موقع الأول الإخباري.

(7) حزب العدالة والتنمية، أطروحة المؤتمر الوطني السادس (الرباط: طوب بريس، 2009).

(8) جريدة اليوم 24 الإلكترونية، التوحيد والإصلاح ترفض مصادقة مجلس النواب على اتفاقية "سيداو"، 13 يوليو/تموز 2015، (تم التصفح في 17 يناير/كانون الثاني 2018):     http://www.alyaoum24.com/331990.html

(9) توفيق بوعشرين، مسيرة ولد زروال التاريخية، موقع اليوم 24 الإخباري، 20 سبتمبر/أيلول 2017، (تم التصفح في 17 يناير/كانون الثاني 2018): http://www.alyaoum24.com/951410.html

(10) مصطفى بوكرن، دلالات اختيار شخصية ثانية من حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة، جريدة العمق المغربي، 16 مارس/آذار 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018):https://www.maghress.com/chamaly/21810

(11) انظر موقع عربي 21، جدل حول تشكيل الحكومة بالمغرب.. وهاشتاغ "حكومة الإهانة"، الأحد، 26 مارس/آذار 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018): goo.gl/HPkxuk

(12) جريدة هسبريس الإلكترونية، "التوحيد والإصلاح" تضغط لمنع بنكيران من ولاية ثالثة في "البيجيدي"، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018):https://www.hespress.com/politique/370684.html

(13) إبراهيم بوحنش، السؤال التنظيمي ومستقبل حزب العدالة والتنمية، الموقع الرسمي لحزب العدالة والتنمية، 14 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018): goo.gl/PcJXUz

(14) انظر الحوار الذي أجرته معه جريدة أخبار اليوم المغربية، عدد الاثنين 9 أبريل/نيسان 2012.

(15) انظر جريدة هسبريس الإلكترونية، بوليف يهدد بالاستقالة من "حزب الإخوان" عند التمديد لولاية بنكيران، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018): https://www.hespress.com/politique/368887.html

(16) انظر القانون الداخلي لحزب العدالة والتنمية المغربي، على موقع الحزب الرسمي، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018):https://goo.gl/qpB2PN

(17) جريدة العمق المغربي، مؤتَمِر بالـPJD يطعن في تفسير الأمانة العامة لقانون الحزب، 3 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018):goo.gl/ZBEpAE

(18) جريدة العربي الجديد، المغرب: خلافات "العدالة والتنمية" تنعكس على الانتخابات التشريعية الجزئية، 19 سبتمبر/أيلول 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018): goo.gl/LdZ6Vg

(19) شبكة إيلاف الاخبارية، خبراء مغاربة: "العدالة والتنمية" سيتراجع شعبيًّا وانتخابيًّا، 14 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018): http://elaph.com/Web/News/2017/12/1181400.html

(20)  انظر موقع هسبريس الإخباري، العثماني يُبعد بنكيران ومناصريه من الأمانة العامة للعدالة والتنمية، 11 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2018): https://www.hespress.com/politique/374360.html