الانتخابات العراقية: تحديات الاستقرار ومخاطر التصعيد

يرصد التقرير سياق الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت وسط تزايد في الرغبة بالخروج من دائرة الاحتشاد الطائفي، حيث تشكلت قوائم كثيرة عابرة للطائفية، وكان ذلك من سماتها المميزة، لكن الانتخابات جرت أيضا في سياق داخلي مشحون، وفي سياق إقليمي ودولي متوتر بسبب الاشتباك السياسي والدعائي الأميركي-الإيراني
ec093f26968e431eaf885b3ded926d2b_18.jpg
مظاهرة احتفالية لأنصار الصدر في بغداد قبيل الانتخابات وسط انقسام حاد بين مختلف التيارات (رويترز)

مقدمة 

بعيدًا عن الاتهامات بالتزوير وارتكاب المخالفات، أو توجيه البعض انتقادات حادة مثلما فعلت حركة التغيير الكردية التي اعتبرتها "أسوأ عملية انتخابية منذ 2003"(1)، فإن الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت السبت، 12 مايو/أيار 2018، يمكن أن تكون نقطة تحول إيجابية مهمة في مسيرة بطيئة يخطوها العراق، أو أن تصبح عامل تفجير للأوضاع المتوترة أصلًا في هذه البلاد.  

هذه الانتخابات العامة هي الرابعة التي يجريها العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003، والأولى منذ إعلان الحكومة العراقية النصر على تنظيم الدولة. حققت الانتخابات نسبة مشاركة بلغت نحو 45 بالمئة حسب النتائج الرسمية، وهي أقل نسبة مشاركة بين جميع الاستحقاقات الانتخابية الماضية؛ ففي عام 2014 سجلت نحو 60%، وفي عام 2010 بلغت 62%، ونحو 80% في عام 2005. 

مقابل انخفاض نسبة التصويت ارتفعت أعداد الأحزاب والتكتلات والمرشحين بشكل ملموس عن الانتخابات السابقة؛ حيث شارك نحو سبعة آلاف مرشح توزعوا على 87 حزبًا وتحالفًا سياسيًّا، لكن هذه الحماسة والإقبال على الترشح، قابلته شكوك شعبية واسعة بمصداقية المرشحين وقدراتهم ناهيك عن رغبتهم الحقيقية بتصحيح الأوضاع في العراق، والقضاء على الفساد الذي شكلت محاربته العنوان الأبرز للبرامج الانتخابية. 

تعرضت العملية الانتخابية لانتقادات واتهامات بارتكاب مخالفات، لكن لم يُعرف بعد مدى دقة هذه الاتهامات أو حجم تأثيرها على النتائج، كما أن عمليات التصويت جرت دون وقوع حوادث أمنية أو هجمات توعَّد تنظيم الدولة بشنها ضد المرشحين والناخبين على حد سواء. لكن الظاهرة الأخطر والتي يمكن أن يكون لها أثر كبير على سائر الأحداث اللاحقة، هي الدعوات المبكرة والمتكررة لإلغاء الانتخابات حتى قبل إعلان النتائج، وهو ما صدر من قبل أربع قوى سياسية كردية وكذلك من قبل ائتلاف الوطنية الذي يقوده إياد علاوي. 

هذه الدعوات لم يسبق لها مثيل على هذا المستوى من القوى السياسية، وفي الحصيلة فإن الانتخابات التي جرت دون عقبات أو عواقب خطيرة، تمضي في سياق مشحون ومتوتر لا يبدو أن أحدًا فيه يقبل بالخسارة، والكل يعتقد أن له الحق والأرجحية للفوز، وهو ما يفرض قتامة على المشهد السياسي العام، يضاف إليها سياق الأحداث التي جرت قبل الانتخابات متمثلة بشكل التحالفات وتدخلات القوى الخارجية، كل ذلك يمنح النتائج المرتقبة زخمًا خاصًّا ويوفر فرصًا لأحداث وتطورات أمنية وسياسية مهمة وربما تكون خطيرة. 

سياق داخلي متوتر ومتشابك

جرت الانتخابات وسط تزايد ملحوظ في الرغبة بالخروج من دائرة الاحتشاد الطائفي، ولذلك تشكَّلت قوائم كثيرة عابرة للطائفية، وكان ذلك من سماتها المميزة واللافتة، لكن الانتخابات الأخيرة جرت أيضًا في سياق داخلي مشحون ومتوتر، فالكتلتان اللتان ظلتا الأكثر توحدًا وتأثيرًا في المشهد السياسي، وهم الشيعة والكرد، قد انفرط عقدهما في انتخابات 2018، ودخلا الانتخابات وسط اختلافات بنيوية بين أطرافهما، تبدت نتائجها في توزع القوى السياسية الشيعية على خمس قوائم رئيسية، والكرد على سبع، من دون أن يكون لهذا التشظي دواع تكتيكية انتخابية كما حدث في الانتخابات الماضية. 

وباستثناء حزب الدعوة الذي يجزم أن دخوله الانتخابات بقائمتين للمالكي والعبادي كان قرارًا مؤقتًا، فإن بقية القوى في الكتلة السياسية الشيعية تختلف جوهريًّا فيما بينها، وتتشارك في رفض استمرار حزب الدعوة بالسيطرة على رئاسة الحكومة منذ عام 2005. 

أما الكرد، فإنهم دخلوا انتخابات هذا العام منقسمين لأول مرة بهذه الدرجة من العمق والخطورة، وكان ذلك جزءًا من تداعيات استفتاء الانفصال الذي جرى في سبتمبر/أيلول 2017، وتسبب بردة فعل شديدة من الحكومة المركزية التي أخرجت البشمركة الكردية من كركوك وسائر المناطق (المتنازع عليها) بين إقليم كردستان وبغداد. 

ولعل الخطورة الأكبر في هذا الانقسام هي امتلاك كل من الأحزاب الشيعية والكردية على حد سواء لميليشيات مسلحة يمكن في أية لحظة أن تنقل الخلاف السياسي إلى مواجهات دموية، وهو أمر ظهرت بوادره بسرعة بعد إغلاق صناديق الاقتراع مساء السبت بنحو ساعتين، حينما هاجم مسلحون تابعون للاتحاد الوطني الكردستاني مقرًّا لحركة تغيير الكردية في السليمانية. 

كان هذا الهجوم جزءًا من السياق المتوتر والمشحون للانتخابات، لكن النظر إليه بوصفه مجرد حادث معزول سيبقى مرتبطًا برهانات الأطراف السياسية ذات الأذرع المسلحة في العراق وقدرتها على كبح جماح قواعدها سواء إزاء نتائجها الانتخابية السيئة الممكنة، أو تجاه الاتهامات المتبادلة بالتزوير والتأثير على سير عملية التصويت والفرز. 

وتبرز في هذا السياق تحديدًا تصريحات أطلقها رئيس كتلة دولة القانون ورئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، قبل موعد الانتخابات ببضعة أيام وتحدث فيها بوضوح عن احتمال اندلاع حرب أهلية في العراق إن كانت النتائج "مطعونًا بها". 

استخدم المالكي في تصريحه المتلفز هذا عبارة "تهديد"، ومهما يكن غرضه منه، فهو في النهاية مؤشر على ما يمكن أن تذهب إليه الأمور إن وجدت بعض الأطراف أن مصالحها عرضة للتهديد. 

أما القوى السياسية السنية، فقد شاركت بقائمتين رئيسيتين، وبين أطرافها العديد من الخلافات، غير أن افتقاد السُّنَّة العرب في العراق للميليشيات المسلحة، بل وتجريد أغلب المناطق السنية من السلاح، يجعل استخدام العنف مستبعدًا بشكل عام لعدم توفر أدواته، لكن المخاوف من التصعيد بين من يمتلك السلاح والقوة، سوف تجد طريقها سريعًا للامتداد إلى كافة أنحاء البلاد. 

تأثير خارجي ثلاثي الأركان 

في السياق الخارجي تبدو الأمور أكثر تعقيدًا؛ فالانتخابات جرت في سياق إقليمي ودولي متوتر بسبب الاشتباك السياسي والدعائي الأميركي-الإيراني، وبداهة أن يسعى كل من هذين الطرفيْن المنخرطين أصلًا وبقوة في العراق للاستحواذ على النفوذ السياسي، ربما لاستباق أي تطور محتمل في المواجهة بينهما. 

ولم يكن تحذير وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، في مارس/آذار 2018، من تدخل إيراني في الانتخابات العراقية، بعيدًا عن هذا التجاذب بين البلدين حول الساحة العراقية، لكن الوزير الأميركي الذي لا تُعرف عنه كثرة التصريحات الإعلامية تعمد أن يتحدث عن "أدلة مثيرة للقلق" عن استخدام إيران للأموال للتأثير على المرشحين والأصوات في الانتخابات العراقية(2). 

وبرغم أن ما أعلنه ماتيس لم يكن سرًّا في داخل العراق، إلا أنه على الأقل كشف عن تصور أميركي للدور الإيراني، وعزز ما هو سائد من اعتقاد بانخراط خارجي واسع في الانتخابات الأخيرة. 

لكن إيران من جانبها توجه نفس الاتهام للولايات المتحدة، وقد لفت علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، قبل أكثر من أسبوع إلى أن "الانتخابات العراقية ستوصل رسالة إلى أميركا وسائر دول الجوار التي تتدخل بعض الأحيان، بأنه من الآن فصاعدًا لن يكون مكانها في المنطقة"(3). 

ولا يكشف تصريح ولايتي بدوره سرًّا عن الحضور الأميركي في العراق؛ ففي النهاية تمتلك كل من واشنطن وطهران مفاتيح أساسية للأوضاع في هذا البلد، وكل منهما يعرف تمامًا ما لدى الآخر من أوراق ومصادر نفوذ، وقد ارتضيتا سويًّا بأن تعملا وفق براغماتية واضحة في الساحة العراقية منذ 2003 وحتى الآن على الأقل. 

لكن المتغير الجديد في التدخل الخارجي، كان بروز المملكة العربية السعودية كطرف أجنبي ثالث في الانتخابات الأخيرة؛ فهي تنخرط لأول مرة بهذه القوة في الوضع العراقي، فيما يبدو أنه محاولة منها لمواجهة النفوذ الإيراني القوي في العراق، ولتحقيق اختراق سياسي لأول مرة في هذا البلد منذ الغزو قبل 15 عامًا. 

ولا يُعرف حجم تدخل هذه القوى الثلاثة في هذه الانتخابات، لكن المراقبين داخل العراق لاحظوا الحملات الدعائية المكلفة والمال السياسي الضخم الذي جرى إنفاقه من قبل بعض القوى والشخصيات المحسوبة على إيران أو السعودية بشكل خاص، غير أن فرصة أي من هاتين الدولتين في الحصول على نتائج مفيدة من هذا التدخل في الشأن العراقي تبقى رهنًا بما سيُعلَن من نتائج وما سيُبنى من تحالفات داخل البرلمان. 

الفرص والمخاطر 

الانتخابات بحد ذاتها خيار أساسي لتداول السلطة، وقد يكون بلا بديل مقنع أو مقبول، والعراق حقق تقدمًا جيدًا باستمرار اعتماده على هذه الآلية بغض النظر عن الاتهامات الواسعة الموجهة للنخب الحاكمة والطبقة السياسية برمتها سواء بسبب العجز أو الفساد أو الارتهان للخارج. 

لكن الانتخابات كممارسة ديمقراطية بحاجة لمتطلبات أخرى لتعزيز وتفعيل نتائجها، ومن بين ذلك، سيادة القانون وقوة الدولة، وفي الحالتين هناك قدر من السيولة فيما يتصل بالحالة العراقية، وهو أمر جعل من الممارسة الانتخابية عرضة للتأويل والطعن ومحاولة التأثير. 

وقد حصل ذلك في آخر عمليتين انتخابيتين في العراق، ففي العام 2010، جرى إقصاء الفائز آنذاك وكان رئيس القائمة العراقية، إياد علاوي، بضغط أميركي لتجاوز خلاف طويل مع رئيس الوزراء حينها، نوري المالكي، مما هيأ للأخير ولاية ثانية مشكوكًا بها. 

وفي العام 2014، فاز المالكي، لكنه خسر الولاية الثالثة تحت ضغط هزيمة القوات العراقية أمام تنظيم الدولة، ومع ذلك، فقد ظل يمارس دورًا سياسيًّا قويًّا، وهو يطمح اليوم ليعود للحكم أو ليشارك في تحديد هوية من يتولاه على الأقل. 

هذا النمط من العمل السياسي، يفرض نفسه على هذه الانتخابات ونتائجها المرتقبة التي قد لا تعطي أي طرف أرجحية مطلقة لتشكيل الحكومة، والراجح أن التحالفات البرلمانية المرتقبة والتي قد لا تتخذ شكلًا طائفيًّا أو عرقيًّا نقيًّا، هي من سيحدد هوية الحكومة المقبلة. 

لكن مثل هذه الفرصة الجيدة لتغيير النمط السياسي الطائفي التقليدي السائد منذ عام 2003، بحاجة لأمرين: قبول الجميع للنتائج، أو على الأقل عدم اللجوء للعنف في التعبير عن رفضها، والأمر الثاني هو ضرورة احترام القوى الخارجية مهما كانت للإرادة الشعبية الداخلية، وترك الآليات الاجتماعية والسياسية في العراق لتقوم بما عليها لإنضاج التجربة الديمقراطية في هذا البلد.

________________________________________

د. لقاء مكي، باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- "كتلة التغيير: صدمنا بأسوأ عملية انتخابية حصلت بعد 2003"، موقع قناة السومرية، 13 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 13 مايو/أيار 2018):

   https://goo.gl/5o1Guq

2- “Mattis Accuses Iran of Using Money to Sway Iraq’s Elections”, New York Times, 15 March 2018, (Visited on 13 May 2018):

https://www.nytimes.com/2018/03/15/world/middleeast/iran-iraq-mattis.html

3- "ولايتي: تدابير ميشال عون والسيد حسن نصر الله أحبطت المؤامرة السعودية"، وكالة تسنيم الإيرانية، 8 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 13 مايو/أيار 2018):

 https://goo.gl/BAoMQS