مقدمة
لطالما أنتجت الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة، 6 مايو/أيار 2018، برلمانًا بتوازنات مختلفة عن مجلس عام 2009، لمصلحة "حزب الله" وحلفائه وسياسيين قريبين من النظام السوري.
هذا ولم يكد يمر يوم على الانتخابات النيابية حتى خرجت، في 7 مايو/أيار 2018، مواكب الدراجات النارية الموالية للثنائي الشيعي (حزب الله، وحركة أمل بزعامة رئيس المجلس النيابي اللبناني، نبيه بري) في أحياء بيروت ومدن أخرى، للاحتفاء بانتصار تحقق لها ولحلفائها في أنحاء البلاد. كانت المواكب "استفزازية" بسبب شعاراتها الطائفية ودخولها مناطق مغايرة مذهبيًّا وسياسيًّا، لكنها شكَّلت رسالة عن هوية المرحلة المقبلة وعن نتيجة الانتخابات، على الأقل كما يراها "حزب الله" وحلفاؤه.
ورغم أن الثنائي الشيعي حصد 26 من أصل 27 نائبًا شيعيًّا، وبالتالي حصرية التمثيل الطائفي، ونوابًا سُنَّة ومسيحيين ودرزيًّا أيضًا، لكن المفاجأة أطلت برأسها في مكان آخر: عودة أقوى من المتوقع لرموز من حقبة "الوصاية السورية"(1) إلى البرلمان اللبناني من البوابتين السُنِّية والمسيحية.
والمفارقة السياسية أن هؤلاء الرموز عادوا إلى البرلمان بعد سنوات من انعزالهم عن قواعدهم الشعبية إثر اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط عام 2005، بما يوحي بأن العودة ترافقت مع تبدل في مزاج الشارع السُّنِّي بعد أكثر من 13 عامًا. بين هؤلاء الرموز: النواب إيلي الفرزلي وعبد الرحيم مراد (من البقاع الغربي) وأسامة سعد (صيدا) وعدنان طرابلسي (مرشح جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية المعروفة باسم "الأحباش"، والموالية للنظام السوري). يُضاف إلى عودة هؤلاء النواب، دخول اللواء جميل السيد (المدير السابق للأمن العام اللبناني) إلى البرلمان للمرة الأولى، وما يحمله من مدلولات، علاوة على فوز فيصل عمر كرامي ونائب آخر على قائمته هو جهاد الصمد.
وهذه العودة لرموز حقبة "الوصاية" ليست رمزية فحسب، بل تصير أيضًا عددية لو أضفنا أسماء نواب جدد مؤيدين للنظام السوري من المستقلين و"تكتل لبنان القوي" (التيار الوطني الحر). مع ذلك، من غير المنطقي الحديث عن غالبية لـ"حزب الله"، كما فعل بعض الإعلام الغربي. بل الأصح التحدث عن "أغلبيات" في قرارات وقضايا أساسية وربما مصيرية تنتظر البت فيها خلال السنوات المقبلة، مثل التقارب مع النظام السوري، وشرعية سلاح "حزب الله"، وإلغاء أو تقويض المساعدات الأميركية للجيش اللبناني، واستبدال أخرى من روسيا وإيران بها.
على سبيل المثال، هناك غالبية عددية في البرلمان، مؤيدة للنظام السوري والتقارب معه خلال الفترة المقبلة. تتكون هذه الغالبية من ثنائي حركة "أمل" و"حزب الله"، والحزب السوري القومي الاجتماعي وكتلة المردة وشخصيات حليفة تاريخيًّا للنظام، وقسم كبير من "كتلة العهد القوي"، التي تمثل التيار الوطني الحر، تيار رئيس الجمهورية ميشال عون.
ولعل أكثر الكلمات تعبيرًا عن هذه العودة جاءت على لسان النائب الحالي، إيلي الفرزلي(2)، إثر انتخابه في الجلسة الأولى، نائبًا لرئيس مجلس النواب، قال: إن "خطأ تاريخيًّا جرى تصويبه بعودتي إلى مجلس النواب وعادت الأمور إلى نصابها"(3). بيد أن عودته إلى هذا المنصب بعد طول غياب، تؤشر إلى مشهد سياسي جديد لم يكن ممكنًا قبل سنوات قليلة مضت. ففي مشهد انتخاب الفرزلي، تشتَّتت أصوات كتلة "المستقبل" في الجلسة الأولى، ما انعكس سلبًا على نتيجة منافسه أنيس نصَّار، مرشح القوات اللبنانية لمنصب نائب رئيس مجلس النواب. هذا التشتت والقدرة الأوسع للمناورة لدى "حزب الله" وحلفائه، هما السمة التي ستغلب على ولاية المجلس في عهدها الجديد، في ظل هذه التركيبة الحالية.
تنوع ظاهري للمجلس
تتوزع، في الشكل، الكتل النيابية في المجلس المنتخب وفقًا للتسلسل الآتي: تكتل لبنان القوي (تيار رئيس الجمهورية ميشال عون وحلفاء آخرين) 29 نائبًا، ثم كتلة "المستقبل" 19 نائبًا، و"التنمية والتحرير" برئاسة نبيه بري 17 نائبًا، وكتلة "الجمهورية القوية" (القوات وحلفاؤها) 15 نائبًا، و"الوفاء للمقاومة" (حزب الله) 13 نائبًا، وكتلة "اللقاء الديمقراطي" (برئاسة تيمور وليد جنبلاط) 9 نواب، وكتلة "التكتل الوطني" 7 نواب في جبل لبنان والشمال، (وتضم "تيار المردة" وفيصل كرامي وجهاد الصمد وفريد هيكل الخازن)، و"كتلة الوسط المستقل" برئاسة رئيس مجلس الوزراء السابق، نجيب ميقاتي، 4 نواب، و"الكتلة القومية الاجتماعية" 3 نواب، وكتلة نواب "حزب الكتائب" 3 نواب. أما النواب "المستقلون" فعددهم تسعة، بعضهم فاز بلوائح حزبية، ويضمون في صفوفهم الوزير السابق عبد الرحيم مراد وبوليت ياغوبيان وأسامة سعد وجميل السيد وأدي دمرجيان وعدنان طرابلسي (الأحباش) وفؤاد مخزومي وميشال المر، ورئيس مجلس الوزراء السابق، تمام سلام. قد يُوحي هذا التوزع بتنوع في المجلس النيابي يحول دون غالبية تُذكر، وبالتالي فإن التوافق سيد الموقف.
لكن هذا المجلس يحوي غالبية واضحة حيال قضايا أساسية كانت عناوين خلافية لأكثر من عقد. لو احتسبنا الثنائي الشيعي (30 نائبًا) والتكتل الوطني (7 نواب) والكتلة القومية الاجتماعية (3 نواب) و5 نواب مستقلين، هم: مراد وسعد وطرابلسي والسيد ودمرجيان (فاز على لائحة نقولا فتوش، أحد القريبين من النظام السوري)، فإن هناك 45 نائبًا مؤيدًا لإعادة العلاقات "المميزة" مع النظام السوري، وأيضًا لسلاح "حزب الله". وإذا أضفنا إليهم الكتلة الأكبر في تكتل لبنان القوي، باستثناء بعض الأسماء الحيادية أو المعارضة مثل النائبين نعمة إفرام وميشال معوض، يحصل هذان البندان على غالبية بسيطة من الأصوات النيابية. إنها غالبية لم تتحقق منذ عام 2005.
غياب السياسة المحلية عن الحملات الانتخابية
كسابقاتها، طغت على المعركة الانتخابية الحالية شعارات وجودية استدعت مفردات إما الحرب الأهلية أو الصراع الإقليمي. وكان هذا الخطاب سلاحًا مهمًّا لكل القوى السياسية الرئيسية. قبل أسبوع من موعد الانتخابات، صرح الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، بأن "مصير وجودنا يكمن في أعلى نسبة تصويت". حتى اسم اللائحة التي ترأَّسها تيمور وليد جنبلاط في دائرة الشوف-عالية، كان "المصالحة"، في إشارة إلى المبادرة التاريخية للبطريرك الماروني، مار نصر الله بطرس صفير، لإرساء السلم الأهلي وتشجيع المسيحيين على العودة إلى قراهم في الجبل. فهذه التسمية للائحة أوحت بأن سقوطها سيُعيد المنطقة إلى الحرب الأهلية. واتخذت حملة "المستقبل" في بيروت كذلك طابعًا وجوديًّا وربطته بعروبة العاصمة، وأن الفريق المنافس يُحاول فرض هوية مغايرة عليها. أما تمام سلام، رئيس الحكومة السابق، فقد ربط بين التصويت له وبين رفض أهالي بيروت "أي محاولة لتغيير هويتهم". وعلى الضفة المقابلة، اعتبر "حزب الله" على لسان أمينه العام، حسن نصر الله، معركة بعلبك-الهرمل، "معركة الحفاظ على الهوية"، وكأن خصمه يريد فرض ثقافة جديدة على السكان. وعلى العموم، باستثناء وعود يتيمة بمكافحة الفساد، اقتصرت خطابات "حزب الله" على اعتبار الانتخابات "استفتاء" لخيار المقاومة، والتصويت واجب لمنع "تسلل" أي طرف لا يؤمن بهذا الخيار(4).
وكان لافتًا أيضًا حضور الدين في الحملات الانتخابية، حيث حضر رئيس مجلس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، قبل يومين من موعد الانتخابات إلى دار الفتوى، وكان المشهد أشبه بالمبايعة في حضور رجال دين سُنَّة من أنحاء البلاد، حتى إن المفتي، عبد اللطيف دريان، توجه بالحديث إلى الحريري: "أقول لك: لا تخف ولا تقلق، أنا معك، وعلماء لبنان معك"(5). وزجَّ حزب الله أيضًا برجال الدين بقوة في الميدان الانتخابي(6). مثلًا، نشرت قائمة "نحمي ونبني" الفتوى الآتية للشيخ حسين كوراني: "من يقترع بورقة بيضاء، يطعن المجاهدين في الظهر…ويُحاسب يوم القيامة عن حصَّته من دماء الشهداء الذين يُستشهدون بعد الانتخابات في لبنان وخارجه. وهو شريك الذين دَوعشوا الدواعش ومولوا عمليات السيارات المفخخة"(7). كل هذه الاختراقات الصريحة لقانون الانتخابات لم تُسجَّل ولم يُحقق فيها لدى السلطات المعنية.
أين الاقتصاد؟
باستثناء التصريحات المتداولة بين المسؤولين والمرشحين اللبنانيين عن ضرورة الإصلاح ووعود مكافحة الفساد، لم تحمل الانتخابات أية خطة جديدة للنهوض بالاقتصاد، رغم ورود تحذيرات عديدة من انهيار وشيك على الطريقة اليونانية في حال بقاء الأمور على حالها(8). بيد أن كل المؤشرات في هذا المجال سلبية دون أي تغيير في الأفق. بلغ الدَّيْن العام ثمانين مليار دولار، ونسبته إلى الناتج المحلي، أي حجم الاقتصاد، باتت 150%. والحقيقة أن مشاريع تنمية البنى التحتية مثل الكهرباء والمواصلات والاتصالات، سيما شبكة الإنترنت، لم تشهد انفراجًا يذكر، بل اتهامات متبادلة بين أقطاب السلطة بالفساد وبإعطاء أولوية للصراع الإقليمي على الحاجات المحلية. ورغم أن المرحلة المقبلة تتطلب ترشيدًا للإنفاق، إلا أن مداولات تشكيل الحكومة تتركز على رفع حجم الحكومة إلى 30 حقيبة وزارية لإرضاء كافة مكونات المجلس.
في مفاعيلها الدولية
بالإمكان فهم نتيجة الانتخابات النيابية المقبلة فقط من منظور السياسات المتطلب اتخاذ مواقف حيالها. على رأس هذه السياسات: التطبيع مع النظام السوري تحت عنوان التنسيق بين البلدين لتأمين عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. والواقع أن حكومة رئيس مجلس الوزراء، سعد الحريري، شهدت محاولات من حزب الله وحلفائه لفرض تطبيع رسمي مع النظام السوري، من خلال زيارة وزارية في 2017 للمشاركة في معرض دمشق الدولي(9). ورغم أن 3 وزراء (يوسف فنيانوس، وزير الأشغال العامة، وغازي زعيتر، وزير الزراعة، وحسين الحاج حسن، وزير الصناعة) أعلنوا وجودهم بصفة رسمية، إلا أن كتلة المستقبل اعتبرت الخطوة في بيان لها مبادرة شخصية "لأن مثل هذه الزيارات -وإن تكررت- تعتبر زيارات شخصية ولا تتم بصفة رسمية، لأن لبنان ليس باستطاعته التطبيع مع نظام ارتكب المجازر بحق شعبه وارتكب المؤامرات الإرهابية بحق لبنان"(10).
ومن معالم البرلمان الحالي أن تركيبته تسمح بإضفاء الشرعية على مثل هذه المحاولات ويمكن أن تتسع رقعتها، سيما لو أخذنا في الاعتبار التصريحات المتكررة لزعيم التيار الوطني الحر، جبران باسيل، في شأن ضرورة عودة اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان إلى وطنهم. حتى إن النائب في كتلة القوات اللبنانية (الجمهورية القوية)، سيزار المعلوف، أعرب في مقابلة بعد انتخابه عن تأييده لبناء "صداقة" مع النظام السوري "لمصلحة لبنان"، وتحديدًا لحل ملف النازحين والمشاركة في إعادة اعمار سوريا، لأن هناك "عدوين فقط، هما: الإرهاب التكفيري والعدو الإسرائيلي"(11).
يبقى أن مثل هذه العودة محفوفة بالمخاطر، بدليل أن التجربة الأخيرة، وهي نقل مئات اللاجئين السوريين من شبعا في جنوب لبنان، إلى "بيت جن" السورية، لم تحظ بمباركة دولية، رغم اتسامها بـ"الطوعية"، بل تضمن بيان مقتضب لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تأكيد عدم مشاركتها في العملية لأن الوضع في سوريا غير ملائم للعودة، لكنها أبدت احترامها لقرارات بالعودة الطوعية دون تلازمها مع "ضغوط لا مبرر لها"(12). جهاز الأمن العام اللبناني أشرف على العودة، وتولى التنسيق مع الجانب السوري، وبخاصة أنها ترافقت مع ضمانات لبعض المطلوبين للخدمة العسكرية في سوريا بإعطائهم مهلة قبل الالتحاق بالخدمة العسكرية(13). من المرجح أن تُمثِّل هذه التجربة نموذجًا يُكرَّر في أكثر من بلدة لبنانية بعد تشكيل الحكومة.
لكن بالمقابل، هناك عقبات خارجية تحول دون تنسيق عودة "إجبارية" للاجئين السوريين. فالاتحاد الأوروبي، مجتمعًا وبدوله الأعضاء، أنفق مئات ملايين اليوروهات في مساعدات للحكومة اللبنانية، ولديه علاقات تجارية واقتصادية مع لبنان بحجم يُخوِّله ممارسة ضغوط للحؤول دون تبني سياسة جذرية في موضوع اللاجئين السوريين. وكذلك يُضاف إلى الدور الأوروبي المحتمل، إمكانية تدخل الولايات المتحدة، مُسلحَّة بالعقوبات، لوقف أي تقارب غير مرغوب فيه مع النظام السوري تحت عنوان إعادة اللاجئين. وفي حال حصول هذه الضغوط، وهو مرجح، سيكون على عاتق رئيس الجمهورية، ميشال عون، وفريقه إيجاد التوازن الملائم.
المحكمة الدولية
بعد ركود لسنوات، تقترب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان من إصدار حكمها النهائي في قضية اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري. ونظرًا إلى احتمال توجيهها الاتهام لـ"حزب الله" ورموز في النظام السوري، من المتوقع أن يضغط الأول كي تتخذ الحكومة اللبنانية إجراءات ضد المحكمة، مثل سحب القضاة اللبنانيين أو وقف التمويل(14). لذلك، تردد بعد تكليف رئيس مجلس الوزراء، سعد الحريري، بتشكيل الحكومة المقبلة، أن "حزب الله" يُطالب بحقيبة العدل، وهي أساسية في هذا الملف، وأيضًا لمتابعة برنامجه لمكافحة الفساد، وبخاصة بعد إعلان الأمين العام، حسن نصر الله، تبنيه هذه القضية شخصيًّا.
ويُرجَّح أن تُركز حملة حزب الله لمكافحة الفساد المرتقبة على فريق الحريري وحلفائه، وذلك في محاكاة لانطلاقة عهد الرئيس اللبناني السابق، إميل لحود، في بداية ولايته مطلع تسعينات القرن الماضي؛ حيث استخدم لحود عنوان "مكافحة الفساد" للتضييق على رئيس الوزراء الراحل، واستهدف رموزًا موالية للحريري بشكل انتقائي، وتحديدًا وزير ماليته السابق، فؤاد السنيورة، ومن ثم اختار "كبش محرقة" هو وزير الطاقة اللبناني السابق، شاهي برصوميان، الذي أمضى شهورًا في السجن. والواقع أن السنيورة نفسه كان سيُودع السجن لولا تدخل رئيس مجلس الوزراء الأسبق، سليم الحص(15).
تركيبة البرلمان والتصعيد الإقليمي
سيكون التصعيد الإقليمي احتمالًا واردًا فقط في حال اتجاه الغرب بأكمله لعزل إيران. فبعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، في 12 مايو/أيار 2018، مثَّل الالتزام الأوروبي حبل إنقاذ للوضع اللبناني، رغم وجود قناعة لدى بعض الأوساط السياسية اللبنانية بكونه مؤقتًا. وعلى العموم، أي تصعيد لإيران وحلفائها في لبنان سيُزعزع من استقرار لبنان، وبالتالي سيُهدد المصالح الأوروبية من بوابة اللاجئين.
في حال فشل أوروبا في إبقاء الاتفاق النووي حيًّا، واستسلامها للضغوط الأميركية، فإن تصعيدًا تلقائيًّا سيأخذ مداه على الساحتين اللبنانية والسورية. عندها سيكون بإمكان فريق "حزب الله" وحلفائه تدشين حملة واسعة لمكافحة الفساد، والبدء بملاحقة شخصيات متهمة بالفساد في تيار الحريري. ومن الاحتمالات الواردة أيضًا إسقاط حكومة الحريري خلال الشهور أو السنوات المقبلة، وتشكيل أخرى بقيادة أحد الحلفاء السُنَّة للحزب. ولكن مثل هذه الخطة تتطلب تعاون فريق رئيس الجمهورية بقيادة وزير الخارجية السابق، جبران باسيل، وهو الذي يجمعه تفاهم مع الرئيس سعد الحريري.
بيد أن تجربة "حزب الله" مع رئيس مجلس الوزراء اللبناني الأسبق، فؤاد السنيورة، إبَّان حرب عام 2006، على الأقل كما يرويها نصر الله وقياديون آخرون، تستدعي تغييرًا في هذا الاتجاه إذا لاح تصعيد عسكري في الأفق.
في التركيبة الحالية بعد الانتخابات النيابية، بات لدى الحزب وحلفائه أكثر من ثلث المجلس، ويُتوقع استحواذهم على أكثر من ثلث الحكومة أيضًا، وبالتالي، فإن إسقاطها وتغيير رئيس الحكومة بات خيارًا في متناول اليد. كما أن مثل هذه الخطوة كفيل بفضِّ الشراكة بين الحكومات اللبنانية والغربية، اقتصاديًّا ولتسليح الجيش اللبناني. بيد أن قضية تسليح الجيش أيضًا أساسية في المرحلة المقبلة؛ إذ يدفع "حزب الله" علنًا باتجاه إبدال الشراكة مع روسيا وإيران بالشراكة الحالية مع الولايات المتحدة. عندما وقَّع الجانب الروسي اتفاقًا للتعاون العسكري مع لبنان، في شهر فبراير/شباط 2018، مارس دبلوماسيون أميركيون وأوروبيون ضغوطًا على الجانب اللبناني للحؤول دون توقيعه في الشهر التالي. عندها وردت انتقادات على لسان النائب عن الحزب، نواف الموسوي، اتهم فيها الحكومات الغربية بتقديم سلاح متواضع وغير كاف للجيش اللبناني، ومما قاله: "في معركة فجر الجرود، أُعطِي الجيش عدد الطلقات التي يحتاجها في المعركة فقط وليس أكثر، لذلك نسأل: أما آن الأوان لأن تتوقف الحكومة عن اللهاث وراء حكومات غربية بخيلة وشحيحة؟! لماذا لا نتجه عوضًا عن ذلك شرقًا باتجاه روسيا والصين؟! ولماذا حتى الآن تمتنع الحكومة عن إبرام اتفاق تعاون استراتيجي مع الاتحاد الروسي؟! سوريا لديها علاقة مع الاتحاد الروسي، لماذا لا نشمل لبنان بالتغطية الجوية الروسية؟! وإن كان الاتحاد الروسي بحاجة إلى قواعد عسكرية ومطارات، فالأميركي يستخدم مطاري رياق وبيروت، فلماذا لا يمكن أن يستخدمها الروسي، وهذا السلاح الذي تمتلكه المقاومة هو إنتاج روسي من الكورنيت وغيره؟"(16).
خاتمة
أنتجت الانتخابات اللبنانية مجلسًا متعدد الكتل، لكن فيه غالبية واضحة في قضايا أساسية وخلافية في البلاد منذ اغتيال الرئيس، رفيق الحريري، قبل 13 عامًا، مثل: التطبيع الشامل مع النظام السوري، وتشريع سلاح "حزب الله". لكن في المرحلة الحالية، يبدو التوافق السياسي سيد الموقف بين كافة القوى، على الأقل حتى يتضح مصير الاتفاق النووي مع إيران، وحتى يتضح مسار التصعيد العسكري بينها وبين إسرائيل في سوريا. أما التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة فيتمثل في معالجة الوضع الاقتصادي المتردي، في ظل التقلبات الحادة في الصراعات الإقليمية. هذه المعضلة اللبنانية الأزلية.
____________________
*د. مهند الحاج علي، باحث في مركز كارنيغي بيروت.
(1) مصطلح الوصاية السورية مستخدم من بعض الأطراف اللبنانية للإشارة إلى مرحلة الوجود السوري في لبنان التي انتهت بانسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005.
(2) الفرزلي، صاحب تاريخ طويل في تأييده للنظام السوري في البرلمان اللبناني وخارجه، وذلك منذ انتهاء الحرب الأهلية مطلع تسعينات القرن الماضي، وحتى اغتيال الرئيس الحريري عام 2005.
(3) "الفرزلي: تم تصويب خطأ تاريخي وعادت الأمور إلى نصابها"، موقع النشرة، 23مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 23 مايو/أيار 2018):
(4) "رعد: 6أيار في الجنوب ليس يوم انتخابات بل موعد استفتاء"، موقع النشرة، 5أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2018):
(5) "المفتي دريان للحريري: لا تخف ولا تقلق. أنا وعلماء لبنان معك"، المستقبل، 4 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 23 مايو/أيار 2018).
(6) "حزب الله يستعين بالمشايخ في بعلبك"، موقع "ليبانون ديبايت"، 7مارس/آذار 2018. (تاريخ الدخول: 9 مارس/آذار 2018):
(7) المنافسة ممنوعة شيعيًا"، موقع المدن، 5 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 20مايو/أيار 2018):
(8) “It Could Be Crunchtime for World’s Third Most-Indebted Country, 5 March, 2018, (Accessed: 20 May, 2018).
(9) "3 وزراء لبنانيين في دمشق بصفة رسمية للمشاركة في معرض دمشق الدولي"، موقع الميادين، 5أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2018):
(10) "زيارات وزراء لبنانيين لسوريا تثير جدلًا"، الشرق الأوسط، 18أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 26 مايو/أيار 2018):
(11) "سيزار المعلوف: التواصل مع سوريا ضروري"، موقع النشرة، 22مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2018):
(12) "بيان المفوضية بشأن العودة من شبعا، لبنان إلى بيت جن في سوريا"، موقع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 18أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول 22 مايو/أيار 2018):
(13) "موعد جديد لعودة النازحين إلى شبعا"، آمال خليل، صحيفة "الأخبار"، 6أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2018): https://tinyurl.com/yb2o7pux
وينظر أيضًا زمان الوصل، عودة "طوعية" لنحو 500 لاجئ من لبنان إلى "بيت جن"، 19 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 17 مايو/أيار 2018):
https://www.zamanalwsl.net/news/article/86495/
(14) سبق أن حاول "حزب الله" وحلفاؤه اتخاذ مثل هذه الاجراءات ضد المحكمة، لكن محاولاته باءت بالفشل لعدم توافر تأييد كاف في البرلمان اللبناني لذلك.
(15) الحص، سليم، "ارتكبت خطأ حين رحبت بخطوة توقيف وزير النفط السابق، شاهي برصوميان"، الشرق الأوسط، 22فبراير/شباط 2001، (تاريخ الدخول: 22 مايو/أيار 2018):
(16) "نواف الموسوي: انحدروا بخطابهم وسلوكهم إلى ما تشمئز منه النفوس"، موقع "إن بي إن" الإخباري، 25مارس/آذار عام 2018، (تاريخ الدخول: 25 مايو/أيار 2018):