احتجاجات بازار طهران: مرآة الصراع السياسي والقرارات الاقتصادية

بعد خروج ترامب من الاتفاق النووي وتوقيع عقوبات جديدة على إيران، قام الفريق الاقتصادي لروحاني بإقناعه بضرورة تغيير السياسات الاقتصادية والتوجه نحو التقشف، وأوجدت هذه السياسات أزمة في العملة الصعبة قادت لبدء احتجاجات بازار طهران. تبحث هذه الورقة في خلفيات الاحتجاج ومآلاته.
3e0e152ae7a6442fb554d86dcdf0647c_18.jpg
إضراب شل الحياة في بازار طهران وأغلق التجار محلاتهم احتجاجًا على السياسات الاقتصادية (الأناضول)

منذ تأسيس الإمبراطورية الفارسية وإلى يومنا هذا كانت قوائم طاولة السلطة السياسية في إيران مبنية على أربع ركائز، وهي: "الحكومة"، و"العسكر"، و"رجال الدين"، و"الإقطاعيون من التجار والملاك".

منذ حوالي المئة عام وقبيل الثورة الدستورية المعروفة بثورة "المشروطة" في إيران، بدأت مجموعة جديدة بالظهور وهي مجموعة المثقفين الذين حاولوا تغيير ركائز السياسة الإيرانية وفقًا لسياسات باقي دول العالم، ولكن سرعان ما اضطروا للاندماج مع أعمدة السلطة السياسية في البلاد بشكل أو بآخر فظهروا تارة كمحرك اجتماعي قوي وعادوا إلى الظل تارة أخرى خلف الركائز الأخرى.

تاريخيًّا، حاول الحكام الإيرانيون السيطرة على هذه الركائز بالقوة تارة وبالتحالفات تارة أخرى، ونرى أنه كلما خرجت إحدى هذه الركائز من سيطرة الحكومة فإن البلاد كانت تواجه أزمات، وفي بعض الأحيان كان تحالف بعض الركائز يؤدي إلى إسقاط ركيزة أخرى كما حدث مع الشاه السابق، محمد رضا بهلوي، عندما تحالف رجال الدين والتجار والمثقفون ضد الحاكم.

منذ أن أضحت طهران عاصمة إيران بات بازار طهران القاعدة الأصلية لحضور كبار التجار في هذا البلد. وعليه، فإن سوق طهران الكبيرة المعروفة ببازار طهران أصبحت رمزًا يشد الانتباه إذا ما كانت هناك أية تحركات سياسية فيها؛ حيث من الممكن أن تتبلور إلى حركات احتجاجية ضاغطة أخرى تشهدها البلاد، ويسهم فيما إذا كان لهذه الحركات أن تتطور إلى درجة أكثر جدية أو لا. وهو ما تبحثه الورقة بعد استعراض مختصر لتاريخ نشأة بازار طهران ودوره السياسي.

لمحة تاريخية: البازار ودوره السياسي
لا يعتبر بازار طهران من الأسواق القديمة في البلاد مقارنة ببازارات تبريز وأصفهان وقزوين وشيراز. ويعود تاريخ بازار طهران إلى أواسط الحقبة الصفوية(1)، عندما كانت طهران تعتبر مصيفًا للإيرانيين، وقام عدد من الإقطاعيين الطهرانيين ببناء حجرات صغيرة (غرف صغيرة)، في حدود المنطقة التي تُعرف اليوم ببازار طهران، تسمح للتجار الذين كانوا ينقلون بضائعهم من منطقة إلى أخرى، وكانوا يبيعونها على البسط من قبل، أن يستأجروا هذه الحجرات ويضعوا بضائعهم فيها كي لا تتلف أو تُسرق حتى يبيعوها أو ينقلوها إلى مكان آخر فيما بعد. وعليه، فما زالت كلمة "حجرة" تُستعمل لحد يومنا هذا وصفًا للمحلات الموجودة في البازار(2).

عمليًّا، تم تأسيس بازار طهران على يد الملك "محمد خان قاجار"، منذ حوالي 225 عامًا، حين قام بانتخاب طهران عاصمة لإيران وأمر الإقطاعيين بأن يهبوه الحجرات التي بنوها كي يحولها إلى سوق أو بازار ولكن جميع الإقطاعيين اتفقوا على أن يهبوا حجراتهم لمنظمة الأوقاف الشرعية (التي كانت حينها تحت إشراف رجال الدين شريطة أن يبقوا هم وورَّاثهم المستفيدين من هذه الحجرات) كي لا يضطروا أن يهبوها للملك الذي كانوا يهابونه.(3)

وبهذه العملية، أضحت منظمة الأوقاف المالك الشرعي لهذه الحجرات وأبناء الإقطاعيين المستفيدين منها ولا يمكن للملك مصادرتها، وعُقد القران الأول حينها بين تجار البازار ورجال الدين.

بعد وصول ناصر الدين شاه قاجار إلى السلطة، أمر الملك الجديد بضم قسم كبير من المنازل والقصور والحدائق المحاذية لسوق طهران إلى البازار وجاء بمهندسي مدن فرنسيين كي يقوموا بالتخطيط لإعادة بناء طهران على أساس المدن الحديثة الأوروبية، ومن ضمن تخطيط هؤلاء كان تسقيف بازار طهران بالشكل الحالي على أساس البازارات الأخرى في إيران كي لا تؤذي الشمس المتسوقين(4).

وبسبب معارضة تجار البازار ورجال الدين حينها لم يستطع الملك القاجاري تغيير خريطة البازار المعقدة وشوارعه الضيقة التي كانت تجعل البازار مأمنًا للمعارضين السياسيين الذين كانوا يختبئون في أزقته المتداخلة فيما بينها(5).

وكان ناصر الدين القاجاري قد أهدى أحد قصوره لمنظمة الأوقاف الخيرية لتحويله إلى مسجد وحسينية (المعروف اليوم بمسجد الشاه)، للتقرب من رجال الدين وتجار البازار ولكن هذا المسجد تحول فيما بعد إلى ملتقى للثوريين من رجال الدين والبازار والمثقفين(6).

مع بداية الثورة الدستورية المعروفة بالمشروطة، أضحى بازار طهران ملاذًا آمنًا لمعارضي الحكومة ومكانًا لنشر إعلاناتهم حيث إن مجمل الإيرانيين حتى ذلك الحين كانوا قد اعتادوا شراء كل ما يحتاجونه من البازار. وعليه، فإنه كان أفضل مكان لتوزيع المنشورات والتبليغ ضد الحكومة.

وأضحى بازار طهران مكانًا يلتقي فيه التجار ورجال الدين والمثقفون الجدد ومصدرًا لتمويل وتسيير مجمل حركات المعارضة ضد الحكومة خاصة في العاصمة طهران.

بعد وصول رضا شاه بهلوي إلى السلطة حاول الملك الجديدة إضعاف موقع البازار بافتتاح أسواق جديدة في أرجاء مدينة طهران ولكن هذه السياسة لم تؤد إلى إضعاف بازار طهران الذي كان يعتبر ركيزة للحركات السياسية. وفي النهاية، رأينا أن التحالف بين تجار البازار ورجال الدين والمثقفين أدى إلى إسقاط نظام الشاه، والمعروف أن ثلاثة أضلاع، أي رجال الدين والبازار والجامعات، كانت ركيزة الثورة الإسلامية في إيران.

ما الأسباب التي تقف وراء الاحتجاجات الأخيرة؟
لا يمكننا الحديث عن الأسباب التي تقف وراء الاحتجاجات الأخيرة دون الرجوع إلى الخلافات التي بدأت بين تجار البازار والمثقفين بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

فهدف الثوار في بداية الثورة كان إسقاط نظام الشاه دون أن يكون لديهم أية خطة للسياسة الاقتصادية التي سوف تنتهجها البلاد بعد الإطاحة به. وبعد إسقاط نظام الشاه بدأ اتجاهان أساسيان بين الثوار بالظهور: أحدهما كان اتجاهًا اشتراكيًّا وماركسيًّا مدعومًا من قبل المثقفين اليساريين وكان يدعو إلى سياسة انغلاق اقتصادي وتقشفي في البلاد حينها، والآخر رأسمالي ينادي بالانفتاح التجاري والاقتصادي على العالم ومدعوم من تجار البازار(7).

أما الضلع الثالث للثورة، ونعني به رجال الدين، فقد انقسموا بين مؤيد لهذا الطرف أو للطرف الآخر. 

وسيطر اليساريون الذين أضحوا فيما بعد يُسمَّون بالإصلاحيين على السلطة ببداية الثورة وقاموا بفرض سياساتهم الاقتصادية ولكن مع وصول الرئيس السابق الراحل، هاشمي رفسنجاني، إلى السلطة (والذي كان يعتبر تاجرًا ورجل دين في نفس الوقت) تحولت سياسة البلاد الاقتصادية من سياسة اشتراكية إلى سياسة اقتصادية ليبرالية منفتحة على العالم.

وكان أنصار اليسار يعتبرون أن الانغلاق الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى ضغوطات على الشعب لفترة وجيزة ولكن بعد مدة فإن البلاد سوف تعتمد على إنتاجها الداخلي وتصبح إيران بلدًا منتجًا لشتى أنواع البضائع، وبما أن تجار البازار حتى ذلك الحين (حدوث الثورة) كانوا يعتمدون على بيع البضائع المنتجة داخليًّا عمومًا وتصديرها فيما كان استيراد البضائع الأجنبية محصورًا عمومًا بيد الشركات التابعة لحاشية الشاه السابق (وهذه الشركات صودرت بعد الثورة) فلم يتحمل تجار البازار ضغوطًا كبيرة نتيجة هذه السياسة حينها(8).

ولكن الفريق الثاني الذي أصبح فيما بعد يسمى بالأصوليين كان يرى أن البلاد لا تحتاج صناعة العجلة من جديد وعليها أن تبدأ بالعمل عند النقطة التي انتهت إليها باقي دول العالم، وارتباط إيران الاقتصادي بباقي دول العالم من شأنه التأثير على العلاقات السياسية مع هذه الدول أيضًا.

وبعد حقبة رفسنجاني، تحول تجار بازار إيران من موزعين ومصدِّرين للمنتجات الداخلية عمومًا إلى مستوردين للمنتجات الأجنبية مثلهم مثل الشركات الأخرى التي تأسست لاستيراد البضائع الأجنبية فيما بعد. ودخول البضائع الأجنبية الرخيصة وهامش الربح المالي الكبير الموجود فيها، أثَّر على عمل هؤلاء التجار كثيرًا حيث إن عددًا كبيرًا منهم لم يعد يبيع البضائع المصنعة داخليًّا وتحول البازار إلى سوق للبضائع الأجنبية خاصة الصين وكوريا الجنوبية وتايلاند والهند وباكستان وتركيا...إلخ، إضافة إلى شتى أنواع البضائع المعاد تصديرها من دبي إلى إيران(9).

على الرغم من أن الرئيس روحاني يعتبر أحد أتباع خط رفسنجاني ولكنه استخدم فريقًا اقتصاديًّا ذا توجهات اشتراكية من الإصلاحيين لإدارة سياسة البلاد الاقتصادية، وجاء هذا القرار بسبب دعم الإصلاحيين له في الانتخابات الرئاسية.

وكان هذا الفريق ينادي بتغيير سياسات إيران الاقتصادية والعودة إلى السياسات الاشتراكية السابقة (بشكل نسبي) منذ فترة طويلة، ولكن بعد خروج الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي وتوقع وضع عقوبات جديدة على الاقتصاد الإيراني، قام هذا الفريق بإقناع الرئيس روحاني بضرورة تغيير سياسات إيران الاقتصادية والتوجه نحو سياسات تقشفية ومنزوية داخليًّا.

وإذا ما أردنا أن نعدِّد القرارات المؤثرة لهذا الفريق يمكننا القول:

1في أول قرارات هذا الفريق الاقتصادي، قرر الفريق الاقتصادي للحكومة فرض تخفيض نسبة الفوائد على الريال الإيراني في المصارف أملًا منها بأن تنصبَّ الأموال المودعة من قبل الإيرانيين في المصارف باتجاه البورصة ويتم تأمين الأموال اللازمة للمصانع المنتجة بفوائد أقل من السابق(10).

2 - القرار الآخر لهذا الفريق الاقتصادي كان فتح المجال أمام ارتفاع سعر العملة الصعبة في البلاد كي لا يعود المواطن الإيراني يستطيع شراء البضائع الأجنبية ويضطر لأن يكتفي بالبضائع الداخلية من جهة ويضطر المواطن أن يتخذ سياسات اقتصادية تقشفية في حياته من جهة ثانية(11)

إضافة إلى هذه الأسباب، فإن ارتفاع سعر العملة الصعبة سوف يؤدي إلى تخفيف الضغوط المالية على الميزانية الإيرانية حيث إن حوالي الثمانين بالمئة من هذه الميزانية هي رواتب موظفين أو مصاريف جارية وكلها محسوبة على أساس الريال الإيراني.

وبدأ البعض يتذكرون أيام سيطرة اليساريين على الحكم في إيران مع بداية الثورة حيث كان سعر الدولار في الأسواق الإيرانية يعادل 1400 ريال وكان السعر الحكومي له 70 ريالًا فقط، أي بنسبة واحد من عشرين.

3 - في قرار ثالث، قام الفريق الحكومي بمنع التعامل وبيع وشراء العملة الصعبة عبر الصرافين في البلاد(12).

4 - في رابع قرار لهذا الفريق، قامت الحكومة بإصدار قرار يُمنع بموجبه استيراد وإدخال وبيع حوالي 1400 سلعة إلى البلاد بحجة أن سلعًا مشابهة لهذه المنتوجات يتم تصنيعها في الداخل الإيراني ولا تحتاج البلاد استيرادها(13).

5 - إضافة إلى كل هذه الأمور، وبسبب العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، فإن معظم تجار البازار في إيران كانوا يقومون بتأمين العملة الصعبة التي يحتاجونها عبر الصرافين بشكل نقدي ويقومون بشراء واستيراد بضائعهم أو تهريبها للالتفاف على العقوبات، في حين أن الحكومة الإيرانية تسعى وعبر البرلمان إلى الانضمام إلى معاهدة الـFATF أو "معاهدة مكافحة تبييض الأموال والإرهاب" التي من شأنها إغلاق جميع منافذ هؤلاء التجار للتجارة ولتعاملاتهم المالية أيضًا(14).

وعلى الرغم من أن مرشد الثورة الإسلامية أعلن موقفه المعارض لانضمام إيران إلى مجموعة العمل المالي (FATF) إلا أنه أكد على ضرورة إصدار قانون لمكافحة تبييض الأموال وفقًا للمصالح الإيرانية. وكان بعض أعضاء المجلس قد بدأوا دراسة إصدار قانون إيراني لمكافحة تبييض الأموال والإشراف على التعاملات والحسابات المصرفية للتجار(15).

وربما كان هذا السبب الأخير أحد أهم الأسباب التي جعلت تجار البازار يتوجهون تجاه المجلس بدل أن يتوجهوا تجاه مقر رئاسة الجمهورية للاحتجاج على القرارات الحكومية؛ حيث إن البازار يقع في الوسط بين مقر الحكومة والمجلس ويبعد نفس المسافة عن المكانين.

ويمكن القول: إن التجار أرادوا بتحركهم هذا أن يرسلوا رسالة إلى الحكومة والمجلس معًا.

وبجمع هذه القرارات الخمسة، نلاحظ أن تجار البازار الذين كانوا يستوردون بضائعهم من الخارج لم يعد باستطاعتهم أن يؤمِّنوا العملة الصعبة التي يحتاجونها من جهة، واستيراد بضائعهم من جهة أخرى، وحتى لو استطاعوا تأمين العملة الصعبة نقدًا ونقلها إلى الخارج عابرين الحواجز المصرفية وقوانين تبييض الأموال واستيراد بضائعهم فإن معظم الإيرانيين لن يستطيعوا شراء هذه البضائع نظرًا لارتفاع سعر العملة الصعبة.

وتسرُّع الفريق الاقتصادي للحكومة في اتخاذ هذه القرارات أدى إلى حدوث صدمة للبازار بشكل كبير أدت إلى الاحتجاجات ونزول التجار إلى الشوارع.

ما أسباب انهيار سعر الريال أمام الدولار؟ وما تداعياته؟
عندما وصل الرئيس حسن روحاني إلى السلطة في إيران كانت البلاد تواجه تضخمًا يزيد عن الـ 45%، ولكي تحد الحكومة من التضخم قامت بتجميد الاقتصاد عبر سياسة تقشفية أدت إلى إيقاف مجمل الاستثمارات والمصاريف والمشاريع الحكومية في البلاد أملًا منها بأن تصل إلى الاتفاق النووي خلال أشهر وتقوم بضخ الأموال الإيرانية المجمدة خارج البلاد من جهة وإدخال الاستثمارات الأجنبية من جهة أخرى لتفعيل عجلة الاقتصاد الإيراني مجددًا؛ الأمر الذي لم يحصل بسبب تهرب الأميركيين من تنفيذ تعهداتهم في الاتفاق النووي.

الوصول إلى الاتفاق النووي استغرق أكثر من ثلاث أعوام قامت حكومة الرئيس روحاني خلالها بضخ كل ما باستطاعتها من العملة الصعبة في الأسواق لتثبيت سعر العملة الصعبة ودعم موقفها بالنسبة للمفاوضات داخليًّا.

بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي والتهديد بفرض عقوبات جديدة فضلت الحكومة الاحتفاظ بما تملكه من العملة الصعبة (أكثر من 132 مليار دولار، حسب تقرير شبكة الاستخبارات الأميركية(16)) للأيام الصعبة وخفض مصاريفها في الميزانية عبر رفع سعر العملة الصعبة التي تشكل مدخولها الأصلي، وتخفيف نسبة استيراد البضائع بسبب ارتفاع سعر البضائع الأجنبية داخليًّا؛ الأمر الذي من ممكن أن يؤثر على عودة عجلة الصناعة الداخلية للدوران.

حسب اعتقاد بعض الخبراء الاقتصاديين، كان يجب على الحكومة بالتوازي أن تقوم بمنع تصدير البضائع المنتجة داخليًّا حتى تقوم بإيجاد نوع من التوازن في الأسواق ولا يقوم المنتجون الداخليون بمحاسبة سعر البضائع على أساس سعرها خارج البلاد(17)، ولكن تعللها في هذا الأمر وأملها بأن تستطيع المنتجات الداخلية أن تحل مكان الصادرات النفطية أدى إلى تأخرها في اتخاذ مثل هذا القرار؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار البضائع المنتجة داخليًّا أيضًا وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الإيراني، والذي أدى بدوره إلى حصول غضب ونقمة كبيرة في داخل البلاد من قرارات الحكومة.

ما علاقة ذلك بانسحاب أميركا من الاتفاق النووي؟
لم يكن لخروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي تأثير مباشر في هذه القضية، لكن كان له تأثير نفسي أكثر منه واقعي على الساحة الإيرانية. وإلى الآن لم يتم فرض أية عقوبات جديدة على إيران ولم تُرفع العقوبات القديمة عن إيران بالأصل، ولكن سياسة الحكومة الإيرانية لمقابلة العقوبات الأميركية المحتملة، خاصة في رفع سعر العملة الصعبة، أدت إلى هلع كبير في الداخل الإيراني وتهافت المواطنين على شراء العملة الصعبة والذهب لحفظ أموالهم وقدرتها الشرائية(18).

هذا التهافت أدى إلى تسارع انهيار العملة الصعبة وارتفاع سعر الذهب بشكل أسرع من المتوقع؛ الأمر الذي يهدد إيران بانهيار اقتصادي فيما لو استمر.

هل يأتي ذلك بفعل الصراع السياسي الداخلي؟ وهل له أي أبعاد اجتماعية؟
كما أسلفنا سابقًا، فإن الخلافات على السياسة الاقتصادية للبلاد في إيران بدأت بعد انتصار الثورة وما زالت مستمرة. وما يزيد على هذه الخلافات هو الخلافات السياسية بين اتجاهات النظام حيث إن البعض يطالب بمفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة في حين أن البعض الآخر يرفض أي مفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة.

على الرغم من أنه وبعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي بات اليوم موقف المعارضين للمفاوضات مع الولايات المتحدة أقوى في الداخل الإيراني، ولكن بالطبع فإن شد الحبل بين الأطراف السياسية المختلفة داخليًّا موجود وكل طرف يحاول الاستفادة من الظروف الاقتصادية لإقناع المجتمع بموقفه.

فإذا راجعنا ما حصل في أول تجمع لتجار البازار أمام المجلس فمن اللافت أن من قاموا بالاحتجاجات هم تجار البازار المحسوبون على الأصوليين ورفعت بعض الشعارات التي تتعارض مع مبادئ الأصوليين وأهداف المحتجين في هذه الاحتجاجات.

ويمكن القول: إن سبب ذلك يُفسَّر بأن أطيافًا مختلفة انضمت إلى المحتجين، بعضها لم يكن هدفه مشابهًا لأهداف تجار البازار والبعض الآخر تقول الحكومة إنهم مندسون من قبل أجهزة استخبارات أجنبية(19).

وما يزيد من تعقيد الموضوع أن الاتجاهين يستفيدان حاليًّا من هذه الاحتجاجات والاحتجاجات المشابهة؛ حيث إن المنادين بالمفاوضات الجديدة يضغطون على النظام كي يغير موقفه من المفاوضات في حين أن الاتجاه الثاني يهدد بإسقاط الحكومة إذا ما تأكد لهم مفاوضات جديدة قيد البحث.

السيناريوهات المتوقعة
حتى اليوم، فإن هذه الاحتجاجات جاءت عفوية ولم تكن احتجاجات مبرمجة أو مخططًا لها مسبقًا قبل أمد طويل، ولم نلاحظ أي دعم شعبي واجتماعي لهذه الاحتجاجات بسبب الهوة الكبيرة بين البازار الغني والمواطن الفقير في المجتمع. ودون وجود مُنظِّم سياسي ودعم شعبي لأي احتجاجات فلا يمكن للاحتجاجات أن تصل إلى نتيجة. وبما أن الاتجاهات السياسية المختلفة تقف مستفيدة من نتائج هذه الاحتجاجات وأن سقوط النظام يهدد بغرق مركب الجميع فإنه من المتوقع أن يضطر زعماء الاتجاهات السياسية المختلفة إلى التوصل إلى حل وسطي فيما بينهم.

لا يمكن توقع توقف هذه الاحتجاجات في الظروف الاقتصادية الحالية للبلاد وخاصة أن الاتجاهات السياسية المختلفة ليس لديها أي برنامج لحل المشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد، ولكن لا تشكل هذه الاحتجاجات (إلى الآن) تهديدًا لبقاء نظام الجمهورية الإسلامية في إيران حيث إنه عوَّدنا خلال الأربعين سنة الماضية أنه باستطاعته احتواء احتجاجات على هذا المستوى ويسمح بتنفيس الضغوط عن الشعب من خلالها

أما تصريحات الرئيس روحاني الأخيرة التي تدعو إلى الوحدة الوطنية ورفض المفاوضات واتخاذ موقف المقاومة ضد الضغوط الأميركية ووعوده بتغيير فريقه الاقتصادي فتأتي في السياق السابق؛ حيث يبدو أن حكومة الرئيس روحاني باتت متأكدة من أن موقف المعارضين لأية مفاوضات جديدة بات أقوى فقررت تغيير موضعها والوقوف في خانة المعارضين لأية مفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة، على الأقل حتى يحصل تغيير جديد في الداخل الأميركي مثل وصول الديمقراطيين المعارضين للرئيس ترامب إلى الكونغرس خلال الانتخابات المقبلة.

_________________________________________________

*د.عماد آبشناس، باحث وأستاذ جامعي إيراني

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) كريمي، سميه، بازار تهران (نشر افكار، طهران، 2014)، ص 25.

(2) شعبان زاده، بهمن، تاريخ تهران (كتاب همراه، طهران، 1995) ص 17.

(3) المرجع السابق، ص 19.

(4) كريمي، سميه، بازار تهران (نشر افكار، طهران، 2014)، ص 32.

(5) المرجع السابق.

(6) مركز دراسات المستندات التاريخية، مسجد جامع بازار تهران (مجموعه پايگاه هاي انقلاب اسلامي، طهران، 2014)، ص 248.

(7) شاملو، عباس، اطلاعاتي درباره? احزاب و جناح‌هاي سياسي ايران امروز (معلومات حول الأجنحة والأحزاب السياسية في إيران اليوم) (نشر وزرا، طهران، 2007)، ص 42.

(8) دادگر، حسن، اقتصاد ايران قبل و بعد انقلاب اسلامي (الاقتصاد الإيراني قبل وبعد الثورة الإسلامية) (کانون انديشه جوان، طهران، 2005)، ص 73.

(9) المرجع السابق ص 128.

(10) موقع تابناك، دستور کاهش سود بانکي(قرار تقليل أرباح البنوك)، 27 أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018): https://bit.ly/2tLXdA8

(11)اتاق خبر 24 ،  "پشت پرده افزايش قيمت دلار- سياسيون تصميم ميگيرند يا مشاورين اقتصادي"(خلف ستار ارتفاع قيمة الدولار – الساسة أم المستشارون الاقتصاديون من يتخذ القرار)، 9 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018):  http://otaghkhabar24.com/news/134655  

(12) وكالة أنباء فارس، "بخشنامه فعاليت صرافي ها ابلاغ شد\ ممنوعيت خريد وفروش فيزيكي ارز ىر صرافي ها"(الإعلان عن مقررات نشاط المقايضة/حظر الشراء الفعلي وبيع العملات في محلات الصرافة)،  15 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018):  https://bit.ly/2KpJNEk

(13)وكالة أنباء إيسنا، واردات بيش از 1400 قلم كالا ممنوع شد (منع استيراد أكثر من 1400 صنف من البضائع)، 25 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018):

(14) جدال سياست و اقتصاد بر سر لوايح مالي"، جريدة تعادل، العدد 547، 7 مايو/أيار 2018، ص 1.

  https://bit.ly/2KpCeh1

(15) الموقع الرسمي لمرشد الجمهورية الإسلامية، "مجلس ىر مواردي مثل مبارزه با پولشويي و تروريسم مستقلا قانون بگذارد"(على المجلس أن يسن قانونًا مستقلًّا لمكافحة بعض حالات غسيل الأموال والإرهاب)، 20 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018)https://bit.ly/2KuJA27

(16) مشرق نيوز، "ذخاير ارزي ايران 132 مليارد دلار و بالاتر از أميركا است" (احتياطيات إيران من النقد الأجنبي تبلغ 132 مليار دولار وتفوق الولايات المتحدة"، 23 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018): https://bit.ly/2KBYXT2  

(17) وكالة أنباء فارس، "تبعات بي پايان سياست گذاري اشتباه ارزي" (العواقب التي لا نهاية لها لسياسة العملة الخاطئة)، 25 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018): https://bit.ly/2tTo8cI

(18) عبد الرحمن، فتح اللهي، "آينده اي ملتهب در انتظار است"(مستقبل ملتهب في انتظارنا)، شبکه ديبلماسي ايراني، 22 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018)https://bit.ly/2lNM25K    

(19) مقيمي، محمد حسين، "رد پاي عوامل ضد انقلاب در تحرکات اخير پايتخت مشهود است" (آثار أقدام معارضي الثورة في الاحتجاجات الأخيرى في العاصمة واضحة)، وکالة أنباء ايرنا، 27 يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2018):  http://www.irna.ir/fa/News/82954432