كان المثقف والصحفي السعودي، جمال خاشقجي، ضمن المتحدثين في ندوة دولية مشتركة، نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات مع جامعة جون هوبكنز في واشنطن، في 12 يونيو/حزيران 2018، لمناقشة قضية بعنوان: "نحو تشكيل ميزان قوى جديد في الشرق الأوسط: اللاعبون الدوليون، والقوى الدولية، واستراتيجية الشرق الأوسط". في الفترة الصباحية، قدَّم المتحدثون في الجلسة الأولى "ديناميات الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط"، وفي الجلسة الثانية "الأطراف غير الحكوميين وسياسة الظل" مقاربات تفكيكية حول عدد من التوجهات الحديثة التي تشهدها سياسات المنطقة. وقد ناقش المشاركون الآفاق المختلفة لما يبدو أنها استراتيجيات تنافسية تتبناها مختلف الجهات الفاعلة على المستويين، العالمي والإقليمي، وكذلك الأطراف الفاعلة غير الحكومية في منطقة الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
انصبَّ تركيز المتحدثين في جلسات بعد الظهر أكثر على الجانبين التأملي والاستشرافي. وكان جمال خاشقجي أول المتحدثين في الجلسة الثالثة حول موضوع "ميزان القوى الجديد". ونبَّه جمال منذ البداية إلى مسألة أساسية مغيَّبة لا يشملها عادة تحليل أي توازن محتمل للقوة في المنطقة قائلًا: "نحن نتغاضى عن دور الشعوب. إن لشعوب الشرق الأوسط الدور الأهم في توازن القوى". أما النقطة المثيرة الأخرى التي تناولها جمال خاشقجي فكانت حول ما جادل بأنها "حساسية المملكة العربية السعودية تجاه الديمقراطية وفكرة اختيار المواطنين لحكامهم".
بعد مشاركته في الندوة، كان جمال خاشقجي أيضًا يخطط للمساهمة بكتابة فصل في كتاب جماعي التأليف سيصدر لاحقًا بعنوان "نحو تشكيل توازن جديد للسلطة في الشرق الأوسط: القوى العالمية، واللاعبون الإقليميون، واستراتيجية الدول الصغيرة". وخلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب 2018، دارت بيني وبينه محادثات هاتفية حول مضمون وتفاصيل الفصل الذي كان سيتولى كتابته تحت عنوان: "حسابات الربح والخسارة: السعودية في ميزان القوى الناشئ في الشرق الأوسط".
كان من المفترض أن يكون فصل خاشقجي هو الدراسة الوحيدة المخصصة في الكتاب لبحث الموقف الاستراتيجي لبلاده، المملكة العربية السعودية. في مقال رأي نُشر في صحيفة الواشنطن بوست، بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، كتب جمال: "المملكة العربية السعودية هي الدولة الأكثر استقرارًا على المستوى السياسي والأمن الاقتصادي بين بلدان المنطقة، ولا يمكن أن تتحمل المملكة ولا منطقتنا، التي تعاني الصراعات، رؤية بلدي يتعثر. إن من شأن الإجراءات المتهورة التي اتخذها محمد بن سلمان -ولي العهد الحالي- تعميق التوتر وتقويض أمن دول الخليج، بل والمنطقة ككل". بيد أن الاختفاء الغامض لجمال داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، في الثاني من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، الساعة 1:14 (بالتوقيت التركي)، يثير المزيد من الأسئلة حول رجل رفض وصفه بأنه "معارض مقيم في المنفى".
حاولتُ في الورقة التالية، التي أهديها إلى رُوح جمال -الرجل والرؤية والتركة الفكرية- أن أبني مقالًا يُحاكي ما كان جمال سيكتبه وفقًا لفهمه لسياقات توازن القوى الناشئ بناءً على ما قدَّمه في مداخلته خلال الندوة. هذه ورقة ذات طبيعة خاصة أكتبها تخليدًا لذكرى مواطن سعودي عربي وعالمي تمتع بفكر مستنير لم يُكتب له، مع كل أسف، بعد اختفائه أن يُعَبِّر عن أفكاره بنفسه من أجل دولة سعودية أفضل وفي سبيل شرق أوسط ينعم بالديمقراطية.
استدعاء الذاكرة
قبل تقديمي فريق المتحدثين في الجلسة الثالثة للندوة، سلَّطْتُ الضوء على ما اعتبرتُه مفارقات ثلاثة مثيرة في توازن القوى في المنطقة:
-
تدَّعي القوى الدولية والإقليمية أنها تواصل سعيها ليكون الشرق الأوسط مستقِرًّا ومنطقة واعدة، لكن ما نشهده هو وجود ما يقرب من خمسين قاعدة عسكرية أجنبية في المنطقة في عام 2018، وشهد الشرق الأوسط أعلى مستوى من تركز قواعد عسكرية أجنبية في العالم، وهي قواعد أميركية وبريطانية وفرنسية وروسية وتركية وإيرانية، بل وحتى صينية موجودة في منطقة القرن الإفريقي.
-
اختارت هذه القوى الدولية والإقليمية صيغًا متنوعة لاستعراض قوتها؛ فأصبح الشرق الأوسط منطقة تجذب سائر أصناف القوة من قوة خشنة، وأخرى ناعمة، وثالثة ذكية، ورابعة قاسية.
-
لم تعد ممارسة القوة في منطقة الشرق الأوسط تتبع ذلك النهج المتسق الذي كانت عليه خلال حقبة الحرب الباردة، أي قوة عالمية واحدة مع عدد من الوكلاء أو الحلفاء، بل باتت القوة في المنطقة اليوم عبارة عن تحالفات تقوم على علاقات هجينة. فمنذ ثلاث سنوات خلت، لم يكن أيٌّ منَّا يتخيل قيام ميثاق ثلاثي يجمع بين روسيا وإيران وتركيا. أما أميركا في عهد دونالد ترامب، فقد اختارت الاستثمار في كل من محمد بن سلمان في السعودية ومحمد بن زايد في الإمارات العربية وعبد الفتاح السيسي في مصر. ويبقى السؤال قائمًا حول ما إذا كانت هذه التحالفات قابلة للاستدامة باعتبارها أساسًا لتوازن قوى بديل!
افتتح جمال خاشقجي مداخلته بالتعليق على إحالتي التي ذكرت فيها القواعد العسكرية الأميركية، التي يفوق عددها الثلاثين قاعدة، في الشرق الأوسط، وقال: "حتى مع وجود كل تلك القواعد العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، فإن أميركا لا تمتلك ما يكفي من النفوذ للتأثير على ما يجري في المنطقة. فهي لم تكن قوية بما يكفي لاحتواء التعفن الموجود في الشرق الأوسط. لا يقطن منطقتنا سوى 5% من مجموع سكان العالم، لكنها مع ذلك تُنتج 50% من اللاجئين في العالم، وهذه قضية من المُفترض أن تستدعي قلق الأميركيين والأوروبيين على حد سواء. والسؤال الآن: لماذا يبدو الأميركيون عاجزين عن السيطرة على الأوضاع؟ ذلك لأنهم يتجاهلون أهم عنصر في توازن القوى. وجميعنا هنا يكرر باستمرار تجاهل المُعطَى الأهم في توازن القوى".
الشعب: قوة الدفع
عادة ما ينصرف التركيز عند مناقشة أي توازن قوى في منطقة الشرق الأوسط إلى اللاعبين الأساسيين: القوى العظمى والقوى الإقليمية واستراتيجياتها الهادفة إلى تحقيق مكاسب على حساب منافسيها. غير أن جمال قرر بدء مداخلته بالدفع إلى الواجهة بحجة غير منتظرة: البُعد الإنساني مقابل إرادة الدول. لقد رفض التحليل العمودي المنطلق من أعلى الهرم إلى أسفله، وبدلًا من ذلك، سلَّط الضوء على حركية الدافع المعاكس في التغيير في المنطقة والذي يبدأ من القاعدة الشعبية نحو القمة، وهو في نظره محرك التغيير في المنطقة. لقد استخدم مخيلته السوسيولوجية في التقاط الفروق الدقيقة بين قدرات المجتمع وقدرات الفرد. وكما كتب عالم الاجتماع الأميركي، سي رايت ميلز، عام 1959: "لا يمكن فهم حياة فرد ما أو تاريخ مجتمع ما دون فهم كليهما معًا".
حذَّر جمال من التفسير البنيوي المهيمن لتحول ميزان القوى في المنطقة قائلًا: "عندما نتحدث عن ميزان القوى فإننا نتحدث عن السعودية وعن إيران وتركيا وأوروبا وروسيا الموجودين هناك في الشرق الأوسط. ونحن بذلك نتغاضى عن دور الشعوب؛ شعوب الشرق الأوسط هي العامل الأهم في ميزان القوى. لو قررت استخدام صور بيانية تصاحب هذا العرض، فإني كنت سأستخدم تلك الصورة الشهيرة للسيسي، التي التُقطت له عام 2012، وهو يقف على منصة المخابرات العسكرية في مصر، حيث كان يقف هناك مُحاطًا بناشطين مدنيين مصريين، مثل: وائل غنيم وأحمد ماهر وغيرهما. كان يبدو شديد التواضع وهو محاط بأولئك الناشطين الثوار المصريين الذين كانوا يكتبون التاريخ في تلك اللحظة. وبالطبع، فإن تلك الصورة لا يمكن تصورها مجددًا، ولا يمكن تكرارها مرة أخرى".
كان جمال يعتمد على حدسه في تحليل الصراعات أكثر من رؤيته للأحداث من منظور السياسة الواقعية (Realpolitik). كان يردد إحدى الحجج الرئيسية التي اعتمدها أحد أهم منظِّري الصراعات، جون بورتن، والذي ساعدت رؤاه الفكرية في تحديد الخطوط الفاصلة بين العلاقات الدولية وتسوية النزاعات منذ سبعينات القرن الماضي. في ورقته بعنوان "حل النزاعات: البُعد الإنساني" المنشورة عام 1998، يجادل بورتن بالقول: "إن مبدأ البقاء للأصلح ليس سوى مفهوم مضلِّل ما لم يتضمن بُعدًا مخصصًا ومحددًا للاحتياجات الإنسانية، بالإضافة إلى الأهداف المادية الملموسة. إن الكفاح من أجل تلبية الاحتياجات البشرية غير المادية هو المصدر الرئيسي للصراع. بهذا المعنى فقط يمكن القول: إن "الإنسان عدواني". إن استبعاد البعد الإنساني يؤدي إلى تشويه المفاهيم واللغة. خذوا على سبيل المثال "القيادة"، وطبعًا فإن القيادة القوية محترمة: يذهب رؤساء الولايات المتحدة إلى خوض الحروب من أجل إثبات صفاتهم القيادية، لكن تقييم الصفات القيادية، إذا ما وُضعت في سياق مختلف، فسيتم على أساس مدى امتلاك القدرة على تحفيز التفكير والتوليف بين وجهات النظر المختلفة".
عايش جمال ديناميات شتى الانتفاضات العربية الناشبة عام 2011 أو ما يطلق عليه "الربيع العربي". وشعر بنبض وحيوية الناشطين الشباب الثائرين والمتظاهرين في مختلف الميادين العامة على امتداد مدن وعواصم شمال إفريقيا والشرق الأوسط. شعر أنه يعيش مرحلة تَعِدُ بتحقيق الحداثة العربية. عادت به الذاكرة إلى عام 2012 وفترة ما بعد الثورة المصرية وصولًا إلى الانقلاب عليها في صيف 2013، "كانت تلك ذروة قوة الشعوب العربية حيث كان الجميع يُصغي لهم. لو كنا نظَّمنا ندوتنا هذه في ذلك الوقت لكان هناك اهتمام أكثر بالاستماع إلى نبض شعوب مصر وسوريا واليمن أكثر من الإصغاء إلى بوتين وأردوغان وروحاني أو إلى محمد بن سلمان أو محمد بن زايد، لكننا لم نفعل ذلك. هذه القوة الشعبية مهمة جدًّا وهي موجودة ولم تختف، فوقعها ما يزال مستمرًّا هناك، لكن لم يعد لها أصدقاء. فالأميركيون والأوروبيون لا يدعمون شعوب الشرق الأوسط. ثمة ثورة مضادة هائلة تقاوم قوة الشعب بشراسة في الشرق الأوسط وتستهدف تصفيته جسديًّا. ويظهر ذلك في رؤيتنا للانقلاب في مصر وهو يقضي على أصوات كل المصريين، بل حتى إن أنصار السيسي أنفسهم طالهم الإقصاء اليوم، ناهيك عن استهداف الإسلاميين والنقابات العمالية وغيرها...".
إرادة الشعب على طريق النصر
شدَّد جمال أيضًا على أهمية الشعوب في مقاربات تحليل سياسات الدول والعلاقات الدولية، وذكَّر جمهوره في الندوة بالمطالبات المستمرة من المواطنين العاديين بشأن مطالبهم ومحاولة حمل الحكومات على اتخاذ ما يجب من إجراءات تصحيحية، وقال: "في الأسبوع الماضي [5 يونيو/حزيران 2018]، جعلتنا أحداث الأردن ندرك قوة الشعب. لقد رأينا ما حدث في الأردن حيث أصغت الحكومة لصوت الشعب وأجبر الملك رئيس وزرائه على الاستقالة. كما أصبحت القيادة السعودية تدرك سلطة الشعب، فدعوا ملك الأردن وملك البحرين ونائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وعقدوا اجتماعًا مهمًّا أثمر عن تقديم حزمة مساعدات عاجلة للأردن. إذن، لقد استمعت المملكة العربية السعودية، وكذلك ملك الأردن والعالم بأسره، لقوة الشعب الأردني، ولا شك أن في ذلك إشارة جيدة.
نجحت الأنظمة في تلطيخ سمعة قوة الشعب والإضرار بها في الشرق الأوسط عن طريق التركيز على إبراز قوة ودور تنظيمي "الدولة الإسلامية" والقاعدة. لكن عندما كانت الثورة السورية تجذب انتباه العالم إليها وقد وقف الشباب السوريون في خطوطها الأمامية، تفتَّق ذهن بشار الأسد، بالتواطؤ مع الإيرانيين وحزب الله، عن الفكرة "العجيبة" التالية: دعونا نَصِمُها بالثورة الراديكالية. ثم كان أن سمح بإخراج المتطرفين من السجون؛ وبطريقة ما، تم تشجيع أولئك المتطرفين على اختطاف قيادة الثورة ومن ثم تحويلها إلى ثورة مسلحة بعد أن كانت سلمية في بدايتها. وهكذا لم يعد الأمر يتعلق بقوة الشعب بل بخطر تنظيم الدولة، لقد تحولت القضية إلى مواجهة قوة الراديكاليين، حتى وصل الأمر بالكثير منَّا، نحن من يراقب من الخارج، إلى النأي بأنفسنا عن هذه الثورة. لقد بدأنا نقول: لا، إنهم لا يطالبون بالديمقراطية ولا يطمحون إلى التغيير بل يدعون لإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. بكل تأكيد، أصبح تنظيم الدولة يمثل الوجه القبيح للثورة، وقد ألحق بها بالغ الضرر وأدى إلى تدميرها. بالطبع، كان الإيرانيون وحزب الله سعداء بذلك، واستغلوا تلك الصور القبيحة لتنظيم الدولة ومقاتليه الذين يقطعون رؤوس الناس. أصبحت تلك الصور عالقة بشكل نمطي بالثورة السورية بدلًا من صورة الشباب السوريين وهم يقفون حاملين الزهور وزجاجات المياه يوزعونها على الجنود كما رأينا في درعا عام 2011".
سوريا: عين العاصفة في السياسة الدولية
يعتقد جمال أن سوريا تظل المعركة الأهم بين القوى الإقليمية، بل تفوق أهميتها بكثير ما يجري في اليمن. وقد أشار إلى أن: "قوة الشعب لم تمت في سوريا، وتركيا تدعم شريحة صغيرة من تلك القوة التي تنشط في شمالي سوريا وهو ما يساعدها على النمو وممارسة شكل ما من الديمقراطية. إنها جزء جيد من مساحة سوريا الجغرافية؛ ربما تقترب من نصف مساحة لبنان، وهي تحت السيطرة التركية. لكن إذا أضفنا إليها إدلب فستكون بحجم مساحة لبنان. يجب توجيه الشكر للدور التركي في الدفع نحو إقامة حكم محلي في تلك المناطق، وعندما يحين الوقت فسيكون على كل السوريين أن يتفاوضوا.
تمارس بعض تلك المناطق نوعًا من أشكال الديمقراطية الحقيقية وتقاسُم السلطة، وقد يكون ذلك مثالًا يُحتذى في إدارة شؤون سوريا في المستقبل. في الجنوب السوري، تقع درعا، وهي إلى حد الآن مدينة محررة. لكن، ومع كونها منطقة محررة، إلا أنها خاضعة لسيطرة واسعة من قبل الأردن وقوى إقليمية أخرى. إذن، وبغضِّ النظر عمَّا إذا كانت في شمال سوريا أو جنوبها، فإن تلك المناطق تخضع لرحمة القوى الإقليمية، وهي تسمح للمواطنين بممارسة حرياتهم".
سياسة دولية جديدة: الارتباط بين المحلي والدولي
قال رئيس مجلس النواب الأميركي الأسبق، تيب أونيل، ذات مرة: "كل السياسة تقوم على اعتبارات محلية". من شأن إهمال الدول العربية للمطالب الشعبية المنادية بالإصلاح والتنمية أن يطيل حقبة العنف وانتهاكات حقوق الإنسان. وقد جادل جمال بأنه لم يعد ممكنًا اليوم تجاهل قوة الشعب وتهميشها، ذلك لأن تأثيرها يطول أوسع مدى ممكن. وأضاف يقول: "بعد تسليطي الضوء على أهمية قوة الشعب، أود الآن أن آخذ سلطة الشعب هذه وأطبقها على القوى الإقليمية التي دائمًا ما نناقش دورها. دعوني أبدأ هنا بأهم نزاع بالوكالة، والذي نشير إليه جميعًا في مداخلاتنا، ألا وهو الصراع السعودي-الإيراني لنرى كيف ترتبط هذه الدول بقوة الشعب. كلنا يتابع المواجهة السعودية-الإيرانية في الشرق الأوسط. فالسعوديون يعملون على إخراج الإيرانيين من سوريا واليمن إن استطاعوا. إخراج الإيرانيين من لبنان سيكون أمرًا عظيمًا لو تم، في حين يبدو إخراجهم من العراق صعبًا. في المقابل، تحرص إيران على تجذير وجودها أكثر فأكثر في العراق وسوريا واليمن.
لكن المفارقة المثيرة للسخرية هنا هي أن كلا البلدين (السعودية وإيران) لا يُعيران أي اعتبار للشعبين، السوري واليمني، وهذا ما يعقِّد الأمور أكثر على السعودية. يحتاج السعوديون للتواصل مع الشعب السوري وتفهُّم مطالبه، لأن الشعب السوري وحده هو الضمانة لرفض وجود الإيرانيين على أرضه. ربما، على المدى الطويل، وبعد سلسلة من الصراعات، سيكون بإمكان السعوديين إخراج الإيرانيين من سوريا. لكن بدلًا من التواصل مع الشعب السوري، نجد لدى السعودية حساسية تجاه أمرين اثنين يميزان قوة الشعب في الشرق الأوسط: الطابع الإسلامي أو الإسلام السياسي، لأن شريحة جيدة من سكان الشرق الأوسط إذا ما خُيِّروا بحرية فسيختارون الإسلام السياسي. وسواء أكنا نتفق مع ذلك أم لا، فهذه حقيقة يتعين علينا التعايش معها. فكلما كان للشعوب في الشرق الأوسط، في أي بلد عربي كان، الحق في التصويت، فإن أصوات ما بين 25 % و30% منهم ستذهب إلى ممثلي الإسلام السياسي. إن لدى المملكة العربية السعودية مشكلة حقيقية مع الإسلام السياسي".
( فيديو )
المملكة العربية السعودية والديمقراطية: الرابط المفقود
لم يكن جمال خاشقجي معارضًا متشددًا لنظام الحكم في بلده. ولا يزال زملاؤه في الواشنطن بوست يتذكرون كم كان يردد أنه لا يريد أن يُصنَّف على أنه "معارض مقيم في المنفى".
في مقاله المنشور في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017، تحت عنوان "ولي العهد السعودي يريد سحق المتشددين، لكنه يعاقب الأشخاص الخطأ"، عبَّر جمال عن حلمه برؤية المملكة العربية السعودية دولة عصرية بحق. وقد كتب يقول: "إن فتاواهم الرجعية (أعضاء لجنة كبار العلماء) حول الديمقراطية والتعددية، بل وحتى حول قيادة المرأة للسيارة، تتمتع بالحصانة المستمدة من مرسوم ملكي ضد أي رأي مخالف أو أي نقد. كيف بإمكاننا أن نكون أكثر اعتدالًا في ظل التسامح مع مثل هذه الآراء المتطرفة؟ وكيف يمكننا التقدم كمجتمع عندما يتم التعامل بالنفي مع أولئك الذين يقدمون ملاحظات بنَّاءة (غالبًا ما تكون من قبيل الدعابة) ومع المعارضين؟".
كان لدى جمال ما يكفي من الوقت، خلال الندوة التي أُقيمت في واشنطن، لتقديم تقييم أكثر تأملًا وراهنية لما أصبحت عليه السعودية في منتصف عام 2018: "للمملكة العربية السعودية حساسية أيضًا تجاه الديمقراطية وتجاه فكرة اختيار الأشخاص لقادتهم. ببساطة، يسيطر حاليًّا مسار تفكير، في المملكة العربية السعودية وفي دول عربية أخرى كمصر وأماكن أخرى، مبني على اعتقاد يجزم بأن الشعوب غير مهيأة بعد لممارسة الديمقراطية وأن على الحكام أخذ زمام المبادرة بالنيابة عنهم. إن التحفظ الذي تتعامل الرؤية السعودية على أساسه تجاه الشعب السوري أو اليمني هو ما سمح لإيران بتحقيق مزيد من المكاسب على الأرض، وليس سرديتها بل قوتها. لا يحقق الإيرانيون تقدمهم في سوريا واليمن عبر الإقناع بل بقوة السلاح عن طريق الأطراف الموالية لهم والوكلاء في جميع تلك البلدان. وفي الوقت الذي تتنافس فيه المملكة العربية السعودية وإيران في المنطقة وتبدوان كعدوين، فإن كليتهما متفقتان على القضاء على صوت الشعب. إنهما لا تستمعان إلى الشعوب في كل تلك البلدان. لذلك، فإنه عندما بحث السعوديون عن حل للخروج من المأزق فإنهم تواصلوا مع الأميركيين. وهناك شائعات، لم يؤكدها أي مسؤول سعودي بعدُ، تقول إنهم تواصلوا مع الإسرائيليين ليتصرفوا بالنيابة عنهم ودفع إيران للخروج من سوريا. لكن، الرئيس ترامب غير مهتم، وقد قال مرارا وتكرارًا إنه يريد أن يغادر الجنود الأميركيون سوريا. والإسرائيليون مهتمون، لكنهم غير معنيين بتحقيق رغبة السعوديين في قتال إيران خارج الأراضي السورية. وينصرف جل اهتمامهم إلى رسم الحدود وتثبيت قواعد الاشتباك مع الجار الجديد: الإيرانيون هم الجيران الجدد للإسرائيليين، وهم جيران لا يمكن الوثوق بهم. وهكذا، فإن ما ينفذه الإسرائيليون من عمليات قصف روتيني، نسمع عنه يوميًّا، لأهداف عسكرية في سوريا إنما هو، في الأساس، رسالة للإيرانيين تخبرهم عن أي نوع من المعدات العسكرية مسموح لهم بها في سوريا وأي نوع من الأسلحة لا يمكنهم جلبه إلى هناك، وهم ربما حتى يخبرون الإيرانيين عن أي نوع من الاختبارات التي يمكنهم إجراؤه في سوريا وأي نوع محرم عليهم، وكذلك هم من يحدد لهم إلى أي مدى يُسمح لهم بالاقتراب من الحدود الإسرائيلية...إلخ. إذن، هم من يحددون قواعد الاشتباك بينهم وبين جارهم الجديد. لكن الإسرائيليين لن يذهبوا إلى وسط دمشق أو وسط حلب لقتال الإيرانيين وإخراجهم من سوريا. من ناحية ثانية، يبدو أن الإيرانيين متأقلمون تمامًا مع الوضع هناك؛ فهم على استعداد أكثر لتغيير ملابسهم بدلًا من الخروج إلى العلن وهم يرتدون بزاتهم العسكرية الإيرانية. لذا، نراهم قد غيَّروا بزاتهم العسكرية إلى ملابس الجيش السوري وبقوا في سوريا. كل من يتصور أن بإمكان بشار الأسد تحرير نفسه من إيران أو اختياره العيش دون الإيرانيين فهو على خطأ بيِّن، فمصير بشار الأسد شديد الارتباط بإرادة الإيرانيين.
المهم بالنسبة لإيران هو الحفاظ على السلطة؛ فبقاؤها في سوريا هو جائزتها الكبرى. لذلك، فهم سيتغاضون عن المواجهة مع الإسرائيليين، بل سيتغاضون حتى عن خلافهم النووي مع الأميركيين طالما أنهم يحافظون على الجائزة الكبرى ويحافظون على نوع من أشكال استمرار بقائهم في سوريا. أما تركيا، فتجد نفسها في وضع مثير للاهتمام؛ فهي مؤيدة للتغيير في العالم العربي وللثورة في سوريا، لكنها، في الوقت ذاته، أكثر اهتمامًا بقضيتها الداخلية الأهم، المسألة الكردية. السؤال المثير هو: كم ستزداد الشهية التركية بقدر مدى امتلاكها القدرات الكافية لتحقيق طموحاتها؟ إن حرب تركيا الباردة مع السعودية هي ما يمكن أن يحد من التدخل التركي في شؤون المنطقة وشعوبها".
دعوة جمال للإصغاء العميق!
اختار جمال خاشقجي اختتام مداخلته في الندوة بالتأكيد على محورية دور الشعوب العربية في أي تغيير مستقبلي، وقال: "علينا الإصغاء للشعوب ولمطالبهم واهتماماتهم في الشرق الأوسط بهدف فهمهم وإيجاد الحلول المناسبة لهم لأن ما يؤرق الشرق الأوسط هو حالة الفوضى التي يعيشها تحت إمرة دول فاشلة، أكثر من التركيز على المواجهة بين السعودية وإيران أو الحرب الباردة بين الإمارات العربية المتحدة والسعودية وتركيا. نحن بحاجة إلى الاستماع، لوقت أطول، لإرادة شعوب منطقة الشرق الأوسط حتى نحدد حلولًا أفضل لمستقبل المنطقة. والعالم اليوم ليس في حاجة أصلًا للمزيد من اللاجئين، بيد أن هناك اليوم عشرات الملايين من اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط".
بكل أسى وحزن عميقين، يمكنني تقبل حقيقة أن جمال لن يكون بيننا بعد اليوم. سوف نفتقده في حياتنا، لكنه لن يغيب عن قلوبنا وصلواتنا. سنتذكر صِدقه وجرأته الفكرية وسعيه الحثيث من أجل إرساء عهد أنوار جديد وتحقيق شرق أوسط ديمقراطي.
من اليمين: محمد الشرقاوي، حسين إيبش، كميل بيكاستين، تيري هوبمن، جمال خاشقجي. (الجزيرة) |
ملاحظة: النص بالأصل أُعِد لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنجليزية، وترجمه إلى العربية د.كريم الماجري.