مقدمة
بعد اتفاق روسيا وتركيا، في 17 سبتمبر/أيلول 2018، على تجميد الأوضاع حول محافظة إدلب وإيجاد منطقة منزوعة السلاح وعزل "هيئة تحرير الشام" والبحث في سبل تصفيتها وتنفيذ خطوات تمهد لفتح طرقات مقطوعة منذ خمس سنوات (1)، انعقدت في إسطنبول، في 27 أكتوبر/تشرين الأول، قمة جمعت الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى نظيريه، الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
خلصت القمة إلى التوصية بتمديد العمل بالاتفاق حول إدلب والدعوة لتشكيل لجنة صياغة لدستور سوري جديد (2)، سبق للمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي مستورا (المغادر مهامه آخر نوفمبر/تشرين الثاني 2018) أن أعلن رفض نظام الأسد لها.
إدلب وملفاتها الشائكة
منذ بدء تنفيذ الاتفاق الروسي-التركي حول إدلب وتفاهم الطرفين بعد ذلك على منحه المزيد من الوقت ليأخذ مجراه، تتطور الأمور في المحافظة الشمالية حيث آخر معاقل الفصائل المسلحة المعارِضة للنظام السوري وِفق ثلاثة إيقاعات. إيقاع التظاهر الأسبوعي واستعادة الزخم المدني في الشارع معارضةً للأسد ورفضًا للقبول باستمراره في السلطة، وإيقاع التهدئة العسكرية على الجبهات مع قواته وحلفائها رغم بعض الخروقات التي أسقطت ضحايا مدنيين في غارات جوية "نِظامية"، وإيقاع تضييق الخناق على "هيئة تحرير الشام" من قبل الأتراك والفصائل المعارِضة المتحالفة معهم. غير أن هذا التضييق، خاصة بعد تنفيذ الانسحاب المُعارِض من المنطقة منزوعة السلاح (3)، لم يصل بعدُ إلى نتيجته التركية المرجوة، وهي إحداث انشقاقات وتصدّعات في صفوف الهيئة تسهل لاحقًا عزلها وضربها وتحييد معظم المحافظة عن العمليات الروسية التي قد تستهدفها. كما أن فتح الطرقات بين المدن السورية الكبرى التي تمر في المنطقة لم يبدأ بعد ولَو أن المهلة المحددة لاستكماله هي نهاية العام 2018.
ويبدو جليًّا أن عقدة "تحرير الشام" ليست مُقبلة على حل قريب، وهذا ما يفسّر إصرار أنقرة على طلب المزيد من الوقت لتجنب معارك ضارية. من جهتها، توافق موسكو على تجنب التصعيد العسكري راهنًا لتبدو دوليًّا قابلةً بحل سياسي بعد أن أبعدت الخطر عن النظام ومكَّنته من استعادة السيطرة بمساعدة الإيرانيين على أكثر من 60 في المئة من مساحة البلاد. وهي تدرك كذلك أن الحسم العسكري في إدلب ليس بسهولة الحسم في الغوطة أو درعا المحاصرتين أو المقفلة الحدود بوجه المقاتلين فيهما؛ فالحدود التركية قد لا تُقفل (4)، وعشرات الآلاف من المقاتلين المعارضين لا يمكن الاكتفاء بالطيران الحربي في مواجهتهم. وهذا يعني الحاجة إلى تدخل إيراني ميداني يُوسِّع بالتالي انتشار "الميليشيات الشيعية" على الخريطة السورية في وقت تصعِّد فيه واشنطن لهجتها ضد طهران، وتطلب من موسكو إخراجها من المعادلة السورية كشرط للسير بأي حل تريده. ويُضاف إلى هذين العنصرين المُربكين لموسكو عنصر ثالث يرتبط هذه المرة بالأوروبيين الذين لا يريدون أزمة لاجئين جديدة، إن هجَّر القصف الروسي مئات آلاف المدنيين ودَفَعَهم نحو الأراضي التركية، بما يُعيد إلى الأذهان صوَر العامين 2015 و2016 حين كان هؤلاء يحاولون عبور البر والبحر نحو أوروبا.
طهران وواشنطن الغائبتين–الحاضرتين في قمة إسطنبول
وِفق هذه المعادلة الإدلبية الجديدة، حيث تجميد الأمور وترك تركيا تتعامل مع عقدة "هيئة تحرير الشام" في انتظار فتح بعض الطرقات بعد نزع السلاح "المعارِض" من حولها، انعقدت القمة التركية-الفرنسية-الألمانية-الروسية في إسطنبول للتداول في المسألة السورية. جاء الاجتماع بعد أيام من استقالة دي مستورا الذي فشل على مدى أربع سنوات في تحقيق أي اختراق أو في دفع النظام السوري إلى احترام مسار جنيف، وانتهى به الأمر مجرد مراقب لمسار آستانة الذي فرضته روسيا وهمّشت من خلاله الجهود الأممية.
وقد خلصت القمة الرباعية التي أرادها الأتراك لتدعيم اتفاق إدلب وتهيئة ظروف دولية تسبق ضغطهم العسكري والسياسي المُزمع على القوات الكردية شرق الفرات، وأرادها الروس لاستجلاب تمويل أوروبي لما يسمونه إعادة إعمار تجعل التطبيع مع نظام الأسد أمرًا واقعًا مقابل منعه من التصعيد في إدلب والبحث في تقليص الدور الإيراني ووقف كل تهجير جديد للمدنيين السوريين(5)، وأرادها الفرنسيون والألمان من جهتهم للتأكيد على رفضهم الحل العسكري النهائي وربطهم تمويل "إعادة الإعمار" بحل سياسي يضمن عودة اللاجئين، خلصت القمة إلى التركيز على أهمية تجميد العمليات الحربية، وتشكيل لجنة تطرح دستورًا جديدًا يكون مقدمةً لتغييرات في السلطة السورية ومؤسساتها. وإذ تجنب الجميع الحديث الواضح عن مصير الأسد، فيما عدا القول بحق السوريين في اختيار رئيسهم، بدا جليًّا أن لا اتفاقَ أُبرم حول إعادة الأعمار، وإنما قُطعت عهود مشروطة بضغوط روسية على النظام السوري لمنع أي تدهور أمني والقبول بالبحث في صياغة دستور جديد والعودة إلى المفاوضات برعاية أممية.
على أن ما يمكن التعليق به على قمة إسطنبول، فيما يتخطى ما جرى الإعلان عنه أو التباحث مباشرة فيه، هو أن واشنطن وطهران الغائبتين عن الاجتماعات كانتا حاضرتين بقوة لارتباط معظم ما تطرق المجتمعون إليه بمواقفهما. فالتصعيد الأميركي اقتصاديًّا ضد طهران بدءًا من 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، والاجتماعات الأميركية الأوروبية التي انعقدت في باريس في 11 من الشهر إياه سيكون لها أثر أكيد على الملف السوري (6). كما أن المفاوضات الأميركية-التركية حول "مستقبل مدينة منبج" وانتشار الجيش التركي فيها بالتنسيق مع الأميركيين والتوسع في محيطها (7) (وانكفاء القوات الكردية عن كامل منطقتها)، تعني -إنْ توافق الطرفان- تمددًا تركيًّا في الشمال سيقوّي من حضور أنقرة ويعزز سطوتها في الريف الشمالي لحلب، ومنه نحو نقاط تمركزها في إدلب عبر عفرين التي سبق أن سيطرت عليها مطلع العام 2018. وللضغط على واشنطن المتلكئة حتى الآن في مفاوضاتها وإجراءاتها، تقصف القوات التركية منذ مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2018 مواقع كردية قرب كوباني وتل أبيض وتتوعد القوات الكردية هناك بعمليات عسكرية بعنوان "حماية الحدود التركية الجنوبية". وهذا إذا استمر قد يؤدي إلى صدام واسع بين أنقرة والأكراد ما يُلزم واشنطن والأوروبيين بالتدخل لِلَجْمِه، آخذين على الأرجح في الحسبان المطالب التركية القاضية بتقليص الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها الأكراد على الحدود السورية-التركية.
في المقابل، تجهد روسيا للمحافظة على التهدئة بين حليفيها، إسرائيل وإيران، وتنتظر تبلور المواقف في واشنطن بما يتعلق بالعقوبات ضد طهران وآثارها وحجم تواجد القوات الأميركية شرق سوريا، لتقدّم اقتراحاتها للحل المُبقي على الأسد على رأس حكومة موسعة، ومعها الطلب المتجدد للأوروبيين للسير في عمليات الإعمار.
سيناريوهات
يمكن القول، بناءً على ما ورد: إن التطورات السورية المقبلة سترتبط على نحو وثيق بمستويات التصعيد الأميركي ضد إيران، وما قد يُترجمه الأمر من ربط واشنطن الوجود العسكري لقواتها شرق سوريا بالوجود الإيراني في غربها (8)، بما يعني استحالة الوصول إلى الحل الذي تريده موسكو بغطاء دولي سياسي واقتصادي نتيجة استحالة التوفيق بين الوجودَين وتداعياتهما (9)، وصعوبة إخراج الأولى أيضًا وما قد يتسبب به الافتراق الجدي عنها ميدانيًّا في سوريا(10). والأمر يعني كذلك استمرار تركيا في دورها المحوري في الشمال السوري واحتمال توسيعه على حساب القوات الكردية شرق الفرات للإمساك بأكثر من ورقة تفاوض، وليس مستبعدًا أن تتمكن أنقرة من المحافظة على تعاونها مع موسكو وعلى تُقربها في الوقت نفسه من واشنطن.
وفق ذلك، قد تصبح إدلب منطقة تبادل الرسائل النارية، عند كل تراجع في التفاهمات السياسية بين الأطراف الثلاثة الأساسية، موسكو وأنقرة وواشنطن، ومعها الطرف الرابع في المعادلة إيران، إنْ لجهة شكل التعامل مع "هيئة تحرير الشام"(11) أو لجهة قضم الروس أراضي لصالح النظام (والحدّ من توسع الإيرانيين نحوها)، عبر عمليات فتح الطرقات السريعة المارة في المحافظة. وقد تصبح أيضًا منطقة تهدئة تطول بعض الشيء إن تفاهم الأطراف الدوليون الأساسيون على تجنيبها الأسوأ ريثما تتبلور معادلات جديدة بما يخص مقاربات الشأن السوري عامة.
أما أوروبا، ممثَّلة بالثنائي الفرنسي-الألماني فستبقى في انتظار تبلور ما ذُكِر، أقرب إلى رفض تمويل "الإعمار" الروسي (12) المطروح راهنًا طالما أن لا حل سياسيًّا "نهائيًّا" يظهر في الأفق، لا تملك في أية حال القدرة على فرضه أو تسريع حصوله (13).
وهذا كله يعني، إن صح، أن لا حلول سياسية في سوريا في المرحلة المقبلة ولا حسم عسكريًّا في إدلب، وإنما تمديد لمرحلة الانتظار مع احتمالات خروقات أمنية وصدامات متفرقة بين أكثر من طرف لا تغيِّر جذريًّا في المعادلات القائمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*زياد ماجد - أستاذ دراسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في باريس.
(1) نص الاتفاق الموقَّع في مدينة سوتشي الروسية على المحافظة على خفض التصعيد وإنشاء منطقة منزوعة السلاح وإخراج "الجماعات الإرهابية" وفتح طرقات اللاذقية-حلب وحماه-حلب بحلول آخر العام 2018. وأظهر الاتفاق أن روسيا وتركيا هما اللاعبان الأساسيان في الشمال الغربي لسوريا على حساب الإيرانيين، وعلى حساب النظام السوري نفسه الذي كان يُكرر تصريحاته بشأن قرب "استعادة إدلب" والقضاء على المعارضين فيها.
(2) قمة إسطنبول تدعو لإعادة كتابة الدستور السوري، الجزيرة، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2018. (تاريخ الدخول 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2018).https://bit.ly/2RseGHh
(3) فرض الاتفاق الروسي التركي الانسحاب على الفصائل المعارضة التي لم تكن تُريده؛ إذ إنه يمنح قوات الأسد وحلفاءها أفضلية عسكرية في حال هاجمت المحافظة ويمكِّنها من عبور المناطق المنزوعة السلاح من دون صعوبات كبرى.
(4) سبق الاتفاق الروسي-التركي إرسال أنقرة تعزيزات عسكرية إلى نقاط المراقبة التي أنشأتها في المحافظة في إطار اتفاقية "خفض التصعيد"، وسماحها بمرور ذخائر وأسلحة إلى بعض الفصائل المعارضة التي شكلت جبهة موحدة بدعم منها.
(5) "ماذا تريد روسيا من الأوروبيين في سوريا؟"، تحقيق لجريدة لاكروا الفرنسية، في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2018). https://bit.ly/2DMxwW
(6) مع العلم بأن واشنطن عيَّنت مؤخرًا مسؤولًا جديدًا عن الملف السوري هو جيمس جيفري، الساعي إلى تظهير مقاربة أميركية أكثر جدية في التعاطي مع قضايا الملف وتنفيذ المزيد من العقوبات ضد نظام الأسد والأفراد والهيئات المتعاملة معه.
(7) تركيا والولايات المتحدة الأميركية تقيمان دورات تدريبية بهدف إجراء دوريات مشتركة في منبج، تقرير لوكالة رويترز، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2018).https://reut.rs/2RgSWPd
(8) تربط واشنطن الأمر حتى الآن بالحرب ضد "تنظيم الدولة الإسلامية" الذي استعاد في الأسابيع الأخيرة بعض أنشطته العسكرية في أكثر من منطقة شرق سوريا وجنوب شرقها. لكنها قد تربط الأمر أيضًا بالتواجد الإيراني، خاصة لتبرير تموضعها على مقربة من الحدود العراقية بحيث يمكنها مراقبة تحركات الميليشيات الشيعية الموالية لطهران وممارسة الضغط عليها.
(9) يمكن، مثلًا، في حالة التصعيد الأميركي-الإيراني، أن تستأنف إسرائيل قصفها الجوي للقواعد الإيرانية في سوريا، وهو القصف الذي توقف بطلب روسي بعد إسقاط دفاعات النظام السورية طائرة روسية عن طريق الخطأ نتيجة التشويش الإسرائيلي خلال إحدى الغارات، في 18 سبتمبر/أيلول 2018.
(10) تُدرك موسكو أن إخراج إيران من سوريا ليس بالأمر اليسير؛ فلإيران حضورها العسكري الميداني المباشر وعبر حلفائها (حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية). وهي تُحكم السيطرة على مناطق واسعة محاذية للحدود اللبنانية، كما أنها تستملك عبر وسطاء أراضي في بلدات وفي أحياء مدينية (لاسيما في أطراف العاصمة دمشق). أكثر من ذلك، لا يمكن لروسيا تعويض العنصر البشري الميداني الذي أمَّنته وتؤمِّنه إيران لدعم النظام السوري، وكل خطة روسية تصعيدية لتوسيع سيطرة نظام الأسد في سوريا، شمالًا أو شرقًا، تتطلب مشاركة إيرانية. وفي أية حال، سترفض إيران كل طلب لمغادرة سوريا، ولا يملك الروس والإيرانيون أن يصطدموا بسبب ذلك. وهذا ما يدعو موسكو وطهران للتريث حتى الآن والرهان على الوقت لاستيعاب الضغط أو تبديده.
(11) يمكن لـ"هيئة تحرير الشام" أن تندفع من جهتها نحو تصعيد تجس من خلاله نبض جميع الفرقاء. فالهيئة المحاصَرة تُدرك أن الهدف النهائي المُتفق عليه بين القوى الإقليمية والدولية هو القضاء عليها بشكل أو بآخر، وهي بدورها تعمل على كسب الوقت، لكن هذا قد لا يطول إن أحس المسؤولون فيها بتطورات تعجِّل من استهدافهم مباشرة.
(12) صرَّح مستشارو الرئيس الفرنسي بالأمر في لقاء خاص مع باحثين وصحافيين (في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2018) عقب قمة إسطنبول وأكدوا أن لا تمويل لمشاريع إعمار كبرى في سوريا من دون حل سياسي. غير أن معالم هذا الحل وشروطه لم تتحدد بوضوح في كلامهم.