من الثورة إلى الولي الفقيه: من هو آية الله علي خامنئي؟

استطاع خامنئي أن يدير بلدًا تتلاطم فيه التيارات السياسية، وعانى العزلة والعقوبات بفعل الصدام مع الولايات المتحدة الأميركية، ليعود السؤال اليوم ملحًّا وحرجًا بشأن خلافته. في هذا التقرير، نقدم قراءة تاريخية وسياسية حول آية الله علي خامنئي مرشد الثورة الذي حكم إيران عقب رحيل الإمام الخميني.
5473569c08bd4639af36852c702938a8_18.jpg
آية الله علي خامنئي مرشد الثورة الإسلامية في إيران (الأناضول)

إذا ما كان الإمام الخميني يعتبر مفجر الثورة الإسلامية ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية فلا شك أن آية الله علي خامنئي يعتبر المدير المدبِّر لاستمرارها بعد وفاة الخميني وحتى لحظة كتابة هذه الورقة. وحسب المادة 107 من الدستور الإيراني، فإن مرشد الثورة يجب أن يكون فقيهًا وعالمًا بأمور السياسة فضلًا عن القبول الاجتماعي. كان العديد يراهنون على انهيار الثورة الإسلامية بعد وفاة الإمام الخميني بسبب الافتقاد لشخصية لديها الكاريزما الموازية لما كان لدى مؤسس الجمهورية الإسلامية الراحل. وكشفت الأفلام والوثائق التي نُشرت فيما بعد، ووثقت لجلسة انتخاب المرشد الذي يلي الخميني، أن خامنئي نفسه كان مترددًا بقبول هذا المنصب، كما أن كثيرين كانوا يعارضون توليه.

ومع ذلك استطاع خامنئي أن يدير بلدًا تتلاطم فيه التيارات السياسية، وعانى العزلة والعقوبات بفعل الصدام مع الولايات المتحدة الأميركية، طوال 33 عامًا، ليعود السؤال اليوم ملحًّا وحرجًا بشأن خلافته، والشكل الذي ستكون عليه إيران ما بعد خامنئي. في هذا التقرير نقدم قراءة تاريخية وسياسية حول آية الله علي خامنئي مرشد الثورة الذي حكم إيران عقب وفاة الإمام الخميني.

المولد والنشأة

وُلِد السيد علي خامنئي في مدينة مشهد من محافظة خراسان الإيرانية بتاريخ 8 سبتمبر/أيلول 1939.

يعود نسب خامنئي إلى جده الأكبر من أبناء أحمد بن علي (زين العابدين السجاد) بن الحسين، الإمام الرابع للشيعة، وكان حسين خامنئي جد علي خامنئي ووالده جواد من العلماء الشيعة الآذريين المقيمين في مدينة النجف حيث كانت أصولهم تعود إلى مدينة تفرش في وسط إيران (المحافظة المركزية) ثم هاجروا إلى آذربيجان الإيرانية وبعدها إلى النجف. وُلد والد خامنئي في النجف ثم عاد مع والده إلى مدينة تبريز لأن والده كان يتولى إدارة أحد المساجد في هذه المدينة وعاد للدراسة إلى الحوزة العلمية في مدينة النجف مرة أخرى قبل أن ينتقل إلى مدينة مشهد كي يستقر فيها ويكون إمام جماعة جامع كوهرشاد المعروف في هذه المدينة ويولد علي خامنئي هناك (1).

والدة علي خامنئي، خديجة ميردامادي، أصولها من مدينة أصفهان وهي من أحفاد مير برهان‌ الدين محمد باقر إسترآبادي الملقب بـ"ميرداماد"، أحد اشهر الفلاسفة والفنانين والخطاطين والمحدثين والفقهاء في أيام الصفويين.

ولربما كان نسب والدته، كما يقول خامنئي نفسه عندما يتكلم عادة مع المقربين منه عن أيام طفولته، سببًا كي تقوم بتعليمه الشعر والأدب والفنون الإسلامية والإيرانية عند صغره وهي كانت حافظة للقرآن الكريم وكانت أول معلمة له (2).

ولهذا السبب، فإن خامنئي عشق الشعر والأدب والموسيقى منذ صغره وكان ما زال يقيم أمسيات شعرية وأدبية خاصة في منزله بين الفينة والأخرى.

دراسته وشبابه

بدأ علي خامنئي دراسة العلوم الدينية منذ سن الرابعة في المكتب (مدارس ذلك الحين)؛ حيث بدأ بتعلم القراءة وحفظ القرآن الكريم واستمر بالدراسة في مدرسة نواب في مدينة مشهد حتى الثانية المتوسطة وبدأ بدراسة الدروس الحوزوية (الدينية) عند والده وآية الله، سيد جليل حسيني سيستاني، منذ الصف الخامس الابتدائي إلى جانب دراسته في المدرسة، ثم انتقل إلى مدينة النجف، عام 1958، مع والده لمدة عامين حيث تتلمذ هناك على يد آية الله محسن الحكيم، وآية الله أبوالقاسم الخوئي، وآية الله محمود شاهرودي، وبعدها عاد إلى مدينة مشهد مع والده ليكمل دراسته تحت إشراف آية الله محمد هادي ميلاني(3).

قرَّر علي خامنئي الذهاب إلى مدينة قم، عام 1959، لدراسة العلوم الدينية حيث تتلمذ هناك على يد آيات الله: حسين بجنوردي وروح الله الخميني ومرتضى حائري يزدي ومحمد محقق ميرداماد والعلامة طباطبائي حيث عاد إلى مدينة مشهد مجددًا، عام 1964، ليبدأ بتدريس العلوم الفقهية وأصول المكاسب والتفسير للطلاب الشباب، عند أستاذه القديم آية الله ميلاني (4). واستغل خامنئي موقعه كمدرس للعلوم الدينية للطلاب الشباب كي يقوم بتدريس أصول الإسلام والأيديولوجيات الإسلامية للشباب حيث كان يقنعهم بضرورة إسقاط نظام الشاه، وتم اعتقاله مرارًا ولكنه استمر بهذا العمل حتى عام 1977 حيث تم اعتقاله وإبعاده إلى مدينة إيرانشهر في محافظة سيستان وبلوشستان (5).

استطاع خامنئي في هذه الفترة تجنيد عدد كبير من الشباب الذين شاركوا فيما بعد في إقامة الثورة الإسلامية في إيران. وما ساعده في التأثير على الشباب شغفه بالشعر والآداب الإيرانية والعالمية الأمر الذي كان يجعله يُنظَر إليه كرجل دين معاصر مختلف عن غيره يشارك في الأمسيات الشعرية ولديه علاقات وطيدة بالمفكرين والمثقفين والأدباء في ذلك الحين ويشاركهم اجتماعاتهم الثقافية (6).

وعاد خامنئي إلى تدريس الخارج في الفقه وأبواب الجهاد والقصاص والمكاسب المحرمة عام 1989 بعد أن أصبح وليًّا فقيهًا ومرشدًا للثورة لكي يثبت مرتبته العلمية الدينية.

مؤلفات خامنئي

ألَّف آية الله علي خامنئي وترجم مؤلفات عديدة خاصة عندما كان يعيش في قم وبعدها في مشهد وقبل الثورة الإسلامية في إيران، أشهرها:

1 – أربعة كتب أصلية لعلم الرجال.

2 – تشريح رؤية الإسلام في القرآن.

3 – النموذج الصادق.

4 – من عمق الصلاة.

5 – الصبر.

6 – روح التوحيد بنفي العبادة لغير الله.

7 – تقرير عن تاريخ الحوزة العلمية لمدينة قم وشرح حالها.

ولكن لربما يمكن القول: إن ألمع كتاباته التي كانت تعكس نظرته للحركات الإسلامية كانت رؤيته وتحليلاته لكتب سيد قطب؛ الأمر الذي جعل العديد يرون أنه كان متأثرًا برؤية الإخوان المسلمين، ويمكن الإشارة إلى كتاباته (ترجمة وتحليلًا مفصلًا للكتب):

1 – المستقبل في ظل الإسلام، سيد قطب.

2 – صلح الإمام الحسن، أعظم انعطاف بطولي في التاريخ، شيخ راضي آل ياسين.

3 – تفسير ظلال القرآن، سيد قطب.

4 – المسلمون في حركة الهند التحررية، عبد المنعم النمر.

الحياة السياسية

قبل الثورة

كانت عائلة خامنئي عمومًا منضوية تحت ألوية الحركات القومية والمشاركة في الثورة الدستورية حيث إن عمه، محمد خامنئي، وزوج عمته، الشيخ محمد خياباني، كانا من الشخصيات المعروفة في الحركة الدستورية، وتم إعدام محمد خياباني إبَّان حكم الشاه (7).

ولكن حياة علي خامنئي السياسية بدأت عمليًّا عام 1952 عندما التقى بـ"مجتبى نواب صفوي" زعيم حركة فدائي الإسلام السرية في مدينة مشهد وأدى هذا اللقاء إلى بناء أواصر صداقة بين الشابين وتم اعتقال خامنئي لأول مرة بسبب مشاركته في اجتماع احتجاجي لأعضاء منظمة فدائي الإسلام لدعم القضية الفلسطينية في مشهد عام 1962، حيث كان يلقي بكلمة يدين فيها تعاون الشاه السابق مع الكيان الصهيوني (8). التقى خامنئي لأول مرة بالإمام الخميني عام 1957 حيث تتلمذ على يديه وتأثر بأفكاره السياسية (9).

التقى خامنئي برفيق دربه (حسب وصفه)، أكبر هاشمي رفسنجاني، عام 1957، في مدينة كربلاء بالعراق بالصدفة وتعرف إليه من خلال آية الله شبيري زنجاني، وبعد عامين التقيا مجددًا في مدينة قم حيث كان الشابان يدرسان العلوم الدينية وبدأت علاقات وطيدة بين الشابين واستأجرا منزلًا مشتركًا في مدينة قم بعد العودة من كربلاء وعاشا سوية لعدة سنوات مع عائلاتهم واستمرت هذه العلاقة فيما بينهم حتى وفاة هاشمي رفسنجاني عام 2017.

وعلاقة خامنئي بمجتبى نواب صفوي (الذي أُعدم فيما بعد من قبل الشاه) من جهة وهاشمي رفسنجاني الذي كان يعتبر من المقربين من الإمام الخميني (والذي كان يعتبر حينها معتمد وصندوق الاستثمار لعدد كبير من رجال الدين في قم بسبب أنه ترعرع تاجرًا عند والده الذي كان أحد أكبر إقطاعيي وتجار الفستق في محافظة كرمان)، أدت إلى دخول خامنئي الحركات السياسية الإسلامية عبر بواباتها العريضة حيث تم انتخابه عضوًا في لجنة من 11 شخصًا شكَّلها الإمام الخميني لإصلاح الحوزة العلمية في قم وتحضير أرضيتها سياسيًّا للانقلاب على الشاه.

كان آية الله بروجردي، مؤسس الحوزة العلمية في قم، يعارض فكرة تسيُّس الحوزة العلمية. وعليه فإن هذه المجموعة كان عليها أن تعمل بشكل سري في الحوزة ولم تستطع هذه المجموعة أن تعلن عن وجودها إلا بعد وفاة آية الله بروجردي عام 1961(10) .كانت هذه المجموعة تعمل على تجنيد طلاب العلوم الدينية وتنظيمهم سياسيًّا كي يكونوا نواة لحركة مستقبلية لإسقاط نظام الشاه.

واستطاع السافاك (جهاز استخبارات الشاه) كشف وجود هذه المجموعة وإلقاء القبض على بعض أعضائها عام 1964 واستطاع خامنئي الفرار (11) ولكن السافاك تمكن من اعتقاله بمدينة مشهد عام 1965 وتم الحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر. وعاد خامنئي إلى تحركاته السياسية بمجرد الخروج من السجن وسُجن مجددًا بسبب خطاباته المعارضة للشاه.

وكان خامنئي ضمن رجال الدين القلائل الذين كانوا لا يشاركون فقط في البرامج التي كان ينظمها علي شريعتي في حسينية الإرشاد في مدينة طهران، بل كان يشارك أيضًا في إلقاء الخطابات وإجراء محاضرات بجانب مرتضى مطهري، وأكبر هاشمي رفسنجاني، ومحمود طالقاني، وأبو الفضل زنجاني، ومهدي بازركان، ويد الله سحابي، وعباس شيباني، وكاظم سامي، الذين كانوا يُعتبرون من الإسلاميين الوطنيين والذين كانوا يعتبرون من قبل الشباب في ذلك الحين، منفتحين على العصر.

وعام 1970، قاد خامنئي مجموعة من رجال الدين في حركة إعلامية عبر المنابر لتحريك الشارع الشيعي خاصة الإيراني لقبول الإمام الخميني مرجعًا للتقليد بدلًا من آية الله الحكيم الذي توفي في ذلك التاريخ؛ الأمر الذي أدى إلى شهرة واسعة للإمام الخميني الذي كان يناضل ضد نظام الشاه وأدى إلى اعتقال خامنئي ومنعه من اعتلاء المنابر (12).

ولكن خامنئي لم يلتزم بقرار المحكمة واستمر باعتلاء المنابر حتى تم اعتقاله ونفيه إلى مدينة إيرانشهر في محافظة سيستان وبلوشستان ولكن نفيه إلى هذه المدينة تحول إلى أداة قوة له مجددًا؛ حيث إن هذه المدينة شهدت سيلًا عظيمًا عام 1977 أدى إلى تخريب قسم كبير من المنازل ولم تستطع حكومة الشاه حينها إعانة المصابين بسبب بعد المسافة ووعورة الطرق ولكن خامنئي استطاع الاتصال بعدد من رجال الدين في مدن يزد ومشهد وكرمان وباقي المدن الإيرانية من خلال شبكة العلاقات التي كان رجال الدين قد بنوها خلال السنوات الماضية. وقام رجال الدين بجمع المساعدات من خلال المساجد وانهالت المساعدات إضافة إلى المتطوعين إلى أهالي مدينة إيرانشهر وضواحيها من قبل رجال الدين؛ الأمر الذي أدى إلى اكتساب خامنئي لشعبية كبيرة في هذه المدنية والمدن المجاورة لها ولفت النظر إلى قدرة رجال الدين على إدارة أمور الناس في حين أن الحكومة كانت تفتقر إلى هذا التنظيم.

اضطر السافاك إلى نقله لمدينة جيرفت ولكن شعبية خامنئي في كل المحافظة كانت في أوجها وبمجرد دخوله جيرفت ألقى خطابًا معارضًا للشاه مجددًا في جامع جيرفت المركزي ولم يستطع السافاك اعتقاله بسبب كثرة الناس الذين كانوا يحيطون به.

وعلى الرغم من نفيه إلى مدينة جيرفت فإن بدء حركة الثورة الإسلامية في إيران أدى إلى انفراط كل الدوائر الأمنية من حوله وبمجرد إحساسه بفك الحصار عنه عاد إلى مدينة مشهد عام 1378 ليقود الحركات الثورية ضد نظام الشاه في محافظة خراسان.

بعد الثورة 

1978-1987

قام الإمام الخميني بتشكيل لجنة الثورة لتشكيل نظام جديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية (13) ضمَّت:

1 – مرتضى مطهري

2 – محمد بهشتي

3 – مهدوي كني

4 – علي خامنئي 

5 – أكبر هاشمي رفسنجاني

6 – محمد جواد باهنر

7 – عبد الكريم موسوي أردبيلي

وتحملت هذه اللجنة مسؤولية إدارة أمور البلاد خلال الثورة والمفاوضات مع حكومة الشاه والدول الأخرى ومن ضمنها الولايات المتحدة في الفترة الانتقالية (14). وقامت هذه اللجنة باقتراح اسم مهدي بازركان رئيسًا للوزراء لإدارة الحكومة الانتقالية للبلاد للإمام الخميني (15).

واستمرت هذه اللجنة بالعمل بعد انتصار الثورة واستقالة حكومة بازركان كي تصبح حكومة الظل في البلاد تشرف على كل صغيرة وكبيرة فيها وتنافس الحكومة الإيرانية في قراراتها؛ الأمر الذي أدى إلى إيجاد خطين سياسيين في البلاد أحدهما ثوري يميني والآخر حكومي يساري.

وتغير عدد أعضاء هذه اللجنة فيما بعد وخرج البعض ودخل البعض الآخر ولكن هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي كانوا دومًا من أعضاء هذه اللجنة بقرار من الإمام الخميني حتى تم دمج هذه اللجنة مع الحكومة (للتخلص من الخلافات بين اليمين واليسار ووجود حكومتين في بلد واحد ولكن هذه الخلافات لم تنته مع دمج اللجنة بالحكومة بل استمرت حتى يومنها هذا) بقرار من الإمام الخميني نفسه وأضحى عدد من أعضاء هذه اللجنة ذوي مناصب حكومية مثل علي خامنئي الذي أضحى مساعد الشؤون الثورية لوزارة الدفاع في حين كان مصطفى شمران وزيرًا للدفاع.

كان أحد أهم قرارات لجنة الثورة تشكيل قوات عسكرية لحماية الثورة سميت بالحرس الثوري واللجان الثورية والتعبئة الشعبية (بسيج)، وأشرف خامنئي على هذه القوات حتى أواخر عام 1979 حيث استقال ليترشح لانتخابات مجلس الشورى الإسلامي.

بما أن أعضاء هذه اللجنة كانوا في معظمهم فعَّالين سياسيًّا قبل الثورة وكانوا على علم بأهمية العمل الحزبي في البلاد فقد قام عدد من أعضاء هذه اللجنة، وهم: خامنئي، وبهشتي، ورفسنجاني، وموسوي أردبيلي، وباهنر بتأسيس حزب الجمهوري الإسلامي كي يصبح هذا الحزب وأعضاؤه فيما بعد الحزب المسيطر على القرار السياسي في البلاد لعدة أعوام، وما زال عدد كبير من أعضاء هذا الحزب يشغلون مناصب سياسية عليا في البلاد على الرغم من حل الحزب عام 1987 بقرار من الإمام الخميني الذي كان يعتبر الأب الروحي لهذا الحزب على الرغم من أنه لم يكن يومًا عضوًا فيه. وتم انتخاب خامنئي كثالث أمين عام لهذا الحزب بعد بهشتي وباهنر.

قام الإمام الخميني بتعيين خامنئي بمنصب إمام جمعة طهران بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني 1980، وقام بإقامة صلاة الجمعة في طهران منذ ذلك الحين وحتى 26 يونيو/حزيران 1981؛ حيث قام أعضاء منظمة مجاهدي خلق بزرع قنبلة في ميكروفون جامع أبي ذر بطهران ومحاولة اغتيال خامنئي ولكنه نجا من محاولة الاغتيال هذه بصعوبة بالغة أدت إلى إصابته بجروح بليغة وخسارة أعصاب يده اليمنى واضطراره إلى ترك مسؤولية إقامة صلاة الجمعة لمدة طويلة بسبب حالته الصحية، وقام الإمام الخميني بتعيين أشخاص كأئمة جماعة مؤقتين لمدينة طهران ريثما يعود خامنئي إلى إمامة صلاة الجمعة في مدينة طهران الأمر الذي ما زال مستمرًّا حتى يومنا هذا، إذ أن جميع خطباء جمعة طهران مازالوا مؤقتين. واستطاع خامنئي النجاح بالدخول إلى مجلس الشورى الإسلامي في أول دورة له بعد الثورة، فبراير/شباط عام 1980، حيث شغل منصب رئيس لجنة الدفاع في هذا المجلس. وترك المجلس بعد أن تم انتخابه رئيسًا للجمهورية عام 1981. يمكن القول: إنه في فترة ما بعد الثورة وقبل انتخابه رئيسًا للجمهورية، كان خامنئي من أشهر منتقدي الليبراليين والقوميين وبرزت خلافاته مع أبوالحسن بني صدر أول رئيس جمهورية انتُخب بعد الثورة.

واشتهر خامنئي أيضًا بأنه كان من أشد معارضي الإبقاء على العلاقات مع الولايات المتحدة ويصر على تصفية كل الحكومة ممن لم يكونوا ثوريين أو لديهم ميول تجاه العلاقات مع الولايات المتحدة أو الدول العربية الرجعية (حسب وصفه في عدد من الجلسات حينها) (16).

عام 1981، وبعد اغتيال محمد علي رجائي ثاني رئيس جمهورية بعد الثورة، قام أعضاء حزب الجمهورية الإسلامية وجامعة مدرسي الحوزة العلمية في قم بترشيح خامنئي لمنصب رئاسة الجمهورية واستطاعوا إقناع الإمام الخميني بالعدول عن رؤيته المتمثلة في عدم ترشح رجال الدين لمناصب حكومية مثل رئاسة الجمهورية (17).

قام خامنئي على الفور بترشيح علي أكبر ولايتي لمنصب رئيس الوزراء ولكن ولايتي لم يستطع كسب ثقة المجلس مما اضطر خامنئي إلى ترشيح مير حسين موسوي لمنصب رئيس الوزراء الذي كان حسب الدستور يدير كل شؤون الحكومة التنفيذية. وواجه خامنئي ذو الاتجاه اليميني في الحكم مشاكل عديدة مع رئيس وزرائه الذي كان ذا اتجاهات يسارية، واستمرت الخلافات التي بدأت مع تشكيل لجنة الثورة في داخل الحكومة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ولكنه قام بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية مرة ثانية واضطر أيضًا لأن يرشح موسوي مجددًا لرئاسة الحكومة بضغط من الإمام الخميني كي لا تواجه البلاد تشتتًا سياسيًّا في حين أنها كانت تواجه حربًا مع العراق.

وبما أن البلاد كانت تواجه دومًا خلافات متعددة بين مجموعات اليمين واليسار، قام خامنئي بإقناع الإمام الخميني بضرورة تشكيل مجمع تشخيص مصلحة النظام لفض الخلافات بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور والخلافات بين الاتجاهات السياسية المختلفة في البلاد عمليًّا في داخل هذا المجمع بدل أن يتم حل الخلافات في الشارع؛ حيث تم تعيين خامنئي أول رئيس لمجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران بأمر من الإمام الخميني (18).

آية الله خامنئي مرشدًا للثورة

إثر خلافات دبَّت بينه وبين نائبه، علي منتظري، قام الإمام الخميني، بتاريخ 25 مارس/آذار 1989، بإقالة آية الله علي منتظري والذي كان يعتبر أكبر داعم لليساريين الإسلاميين، وذلك قبل وفاة الخميني بتاريخ 3 يونيو/حزيران من نفس العام، ليخلو منصب نائب المرشد وتواجه إيران مشكلة من سيخلف الخميني بعد وفاته، ولكن مجلس خبراء القيادة استطاع تدارك الموقف بقيادة علي مشكيني وهاشمي رفسنجاني للمجلس وتعيين خامنئي خلفًا للخميني الذي كان قد توفي قبل بضعة ساعات من جلسة انتخاب خامنئي.

وقام هذا المجلس بتعيين علي خامنئي مرشدًا للثورة على الفور وخلَفًا للخميني، بتاريخ 14 يونيو/حزيران 1989. وكان الإمام الخميني قد طلب، بتاريخ 28 أبريل/نيسان 1989، من علي مشكيني رئيس مجلس خبراء القيادة ورئيس لجنة إعادة دراسة الدستور حذف شرط المرجعية من مرشد الثورة، الأمر الذي فسح المجال أمام خامنئي كي يصبح مرشدًا للثورة دون أن يكون مرجعًا للتقليد حسب الدستور السابق (19).

وكان خامنئي يواجه مشاكل عديدة أهمها تشتت الاتجاهات السياسية في ظروف لم يكن وقف إطلاق النار بين إيران والعراق قد تثبت بشكل كامل، في حين أن خامنئي كان يفتقر إلى الكاريزما القيادية التي كان الخميني يحظى بها وقَبِلَ اليساريون الذين كانوا على خلافات سياسية معه تصديه لهذا المنصب على مضض.

وتعاون خامنئي مع صديق دربه، هاشمي رفسنجاني، الذي تم انتخابه رئيسًا للجمهورية، بعد استقالة خامنئي من هذا المنصب، لإدارة دفة البلاد التي كانت مشتتة سياسيًّا. وبعد تثبيت وقف إطلاق النار بين إيران والعراق عاد مئات آلاف الشباب من المتطوعين ومقاتلي الحرس الثوري من الجبهات ليطالبوا بحصتهم من إدارة البلاد ومشاغل تليق بمن ضحوا ودافعوا عن البلاد لمدة ثمانية أعوام.

العلاقة مع الحرس

وجد رفسنجاني وخامنئي ضالتهم في هؤلاء الشباب إذ إن اليساريين كانوا يسيطرون على جميع مقومات إدارة البلاد، ودون الاستفادة من هذه الطاقة الجديدة كان من المستحيل أن يتمكن المرشد الجديد والرئيس الجديد من السيطرة على دفة البلاد، فما كان منهم إلا أن قاموا باستبدال هؤلاء الشباب الذين عادوا من الجبهات بكل من يستطيعون استبداله في الحكومة وأركان الحكم وطبعًا -حسب رؤية خامنئي القديمة- فإن الولاء للمرشد والنظام كان الشرط الأساسي لوصول أي شخص إلى منصب حكومي (20).

وفي المقابل، وجد الشباب العائدون من الجبهات في المرشد الجديد مظلة سياسية لهم في ظروف كان اليساريون فيها يقفون عائقًا أمامهم ويصرون على أن الحرس الثوري هم من العسكر ويجب ألا يتدخلوا في الشؤون السياسية للبلاد ويتركوا الحكومة لهم. ورويدًا رويدًا استطاع هؤلاء الشباب السيطرة على معظم الشؤون الحيوية للبلاد مقدِّمين الولاء للمرشد.

وبعد انتهاء دورتي رئاسة هاشمي رفسنجاني القانونية حاول اليسار العودة والاستئثار بالسلطة مجددًا فما كان من الشباب العائدين من الجبهات إلا الالتفاف حول المرشد وحمايته بكل ما لديهم من قدرة؛ الأمر الذي أدى إلى أن يقوم اليساريون بتشكيل اتجاه سياسي سُمي فيما بعد بالإصلاحيين وقام أنصار المرشد واليمين السابق بالائتلاف في اتجاه سياسي آخر سمي بالأصوليين فيما بعد. وبالفعل، فإن وجود اتجاهين سياسيين في البلاد تكرس رسميًّا منذ ذلك الحين.

وعلى الرغم من أن صديق درب خامنئي، هاشمي رفسنجاني، كان من مؤسسي التيار اليميني الذي عُرف فيما بعد بالأصوليين ولكنه تصور أنه وبما أن اليساريين يفتقدون إلى زعيم يوحدهم، يستطيع أن يلعب دور الأب الروحي السياسي للبلاد بالوقوف فيما بين الاتجاهين السياسيين اللذين تشكَّلا في ذلك الحين. وبهذه الحركة الخاطئة، خسر رفسنجاني ثقة صديقه القديم من جهة ولم تثمر محاولاته للتقرب من اليسار من جهة أخرى، إذ إن اليساريين أيضًا رفضوا القبول به زعيمًا لهم. وعليه، فإن الساحة أضحت ساحة صراع بين خامنئي وأعوانه الجدد مقابل اليساريين الذين كانوا يسيطرون على أركان الحكم في بدايات الثورة لمدة عشرة أعوام واستطاعوا أن يجمعوا في هذه الفترة تجارب وثروات طائلة جعلتهم من سلاطين الاقتصاد والسياسة والإعلام في إيران.

وما كان على خامنئي الذي بات وحيدًا دون صديق دربه، إلا أن يستغل جميع قدراته الدستورية لمواجهة المجموعة الجديدة التي وصلت إلى السلطة التنفيذية بعد انتخاب محمد خاتمي رئيسًا للجمهورية، عام 1997، وسيطروا على السلطة التشريعية في انتخابات عام 1998، وخلال سنوات تلت، شهدت الساحة السياسية الإيرانية خلافات عديدة بين الاتجاهين الأصليين في البلاد للسيطرة على السلطة ولكن خامنئي استطاع تثبيت قدرته وسلطته على البلاد لمدة تزيد عن الثلاثين عامًا على الرغم من كل الظروف الصعبة التي واجهتها إيران.

قد يكون أحد أهم أسباب استطاعة خامنئي السيطرة على السلطة في البلاد لكل هذه المدة أنه درس مجمل المدراس الفلسفية، اجتماعية كانت أم فكرية أم سياسية، إيرانية كانت أم أجنبية وتاريخية كانت أو حاضرة، دون استثناء خلال أيام شبابه؛ الأمر الذي جعل منه رجل دين ورجل سياسة في نفس الوقت إضافة إلى أنه مشرف شخصيًّا على وضع الاجتماع الإيراني بشكل كبير، وهو يعلم أن الوضع الاجتماعي الإيراني يحتاج إلى حاكم قوي ومطلق إلى جانب ديمقراطية شعبوية إسلامية (كما يفضِّل النظام الإسلامي في إيران اعتبار نفسه). وعلى هذا الأساس، نراه يفسح المجال للانتخابات والتنفيس عن رأي الشعب في حين ولكنه يتدخل بصورة قاطعة ويحسم القرارات لمصلحة الثورة والنظام عندما يرى الأمور بدأت تخرج عن خط الثورة أو السيطرة، وفيما يفسرها البعض على أنها نوع من الديكتاتورية، يفسرها البعض الآخر بأنها من أصول الديمقراطية الشعبوية حيث إن الولي الفقيه يجب أن يتدخل عندما يرى المصالح العليا للنظام الإسلامي والبلاد في خطر (21).

وعلى الرغم من أن حجمًا كبيرًا من ثروات البلاد تحت تصرفه، إلا أن ذلك لم يجعله ممن يعيشون حياة الترف، فما زال هو وعائلته يعيشان حياة بسيطة وعادية جدًّا في حين أن معظم رجال الثورة غرقوا في مكتسباتهم بعد الثورة؛ الأمر الذي أبعد عددًا كبيرًا من رجال الثورة عن أصولها وجعل خامنئي واحدًا من قلَّة تمثل الفكر الثوري الذي أطاح بنظام الشاه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د. عماد آبشناس، إعلامي وأستاذ جامعي إيراني.

 

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1)     ولايتي، علي أكبر، دائره المعارف بزرگ إسلامي (دائرة المعارف الإسلامية الكبرى)، (نشر مرکز دايرة المعارف بزرگ إسلامي،طهران 2017) المجلد 21ـ ص 673.

(2)     محسن مؤمني شريف، (گزارشي کوتاه از زندگي ادبي حضرت آيت‌الله خامنه‌اي)(تقرير قصير حول الحياة الأدبية لخامنئي)، الموقع الرسمي لمرشد الثورة علي خامنئي، (11 مايو/أيار 2009)، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018):

http://farsi.khamenei.ir/others-page?id=9369

(3)     (أرشيف مركز مستندات المكتبة الوطنية)، المكتبة الوطنية الإيرانية، رقم 1225، تاريخ النشر 2015.

(4)     أرشيف مركز مستندات المكتبة الوطنية)، المكتبة الوطنية الإيرانية، رقم 1226، تاريخ النشر 2015.

(5)     (آرشيف مركز مستندات المكتبة الوطنية)، المكتبة الوطنية الإيرانية، رقم 1228، تاريخ النشر 2015.

(6)     (آرشيف مركز مستندات المكتبة الوطنية)، المكتبة الوطنية الإيرانية، رقم 1237، تاريخ النشر 2015.

(7)     ولايتي، علي أكبر، دائره المعارف بزرگ إسلامي، مرجع سابق، المجلد 21ـ ص 675.

(8)     (أرشيف مركز مستندات المكتبة الوطنية)، المكتبة الوطنية الإيرانية، رقم 1242، تاريخ النشر 2015.

(9)     المرجع السابق.

آيت الله شبيري زنجاني، (روايتي خواندني از ماجراي آشنايي هاشمي با رهبري)(رواية تستحق القراءة حول تعارف هاشمي والقائد)، موقع تابناك (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018): اضغط هنا 

(10)  هاشمي رفسنجاني، علي أكبر، دوران مبارزه،(فترة المبارزة) (نشر دفتر نشر معارف إسلامي، طهران 1997)، المجلد الثاني، ص556.

(11)  قدوسي، علي، ياران امام (رفقاء الإمام)، (نشر مركز بررسي اسناد تاريخي، طهران 2010)، ص 88-87.

(12)  (أرشيف مركز مستندات المكتبة الوطنية)، المكتبة الوطنية الإيرانية، رقم 1251، تاريخ النشر 2015.

(13)  حسن شمس آبادي، (نگاهي به زمينه هاي تشکيل شوراي انقلاب إسلامي)(نظرة في أرضيات تشكيل لجنة الثورة الإسلامية)، موسسه مطالعات و پژوهشهاي سياسي، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018):

http://ir-psri.com/Show.php?Page=ViewArticle&ArticleID=1784

(14)  هاشمي رفسنجاني، علي اكبر، انقلاب وپيروزي(الثورة والانتصار)،(دفتر نشر معارف إسلامي، طهران، 2014)، ص183.

(15)  المرجع السابق.

(16)  (نگاهي گذار به زندگي نامه حضرت آيت الله العظمي سيد علي حسيني خامنه اي) (مرور بالسيرة الذاتية لآية الله العظمى السيد علي خامنئي)، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018): http://farsi.khamenei.ir/memory-content?id=26142

(17)  مذكرات هاشمي رفسنجاني، (چگونه امام ره قبول کردند روحانيون کانديداي رياست جمهوري شوند) (كيف قبل الإمام بترشح رجال الدين لرئاسة الجمهورية؟)، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018):اضغط هنا

(18)  (چگونگي تشکيل مجمع تشخيص مصلحت نظام) (كيف تشكل مجمع تشخيص مصلحة النظام)، پرتال امام خميني، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018): اضغط هنا

(19)  (شرط مرجعيت براي رهبري)،(شرط المرجعية للمرشد)، پرتال امام خميني، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018): اضغط هنا 

(20)  العميد علي اكبر بور جمشيديان، (ورود سپاه به عرصه هاي سازندگي به دعوت دولت ها بوده است) (دخول الحرس إلى ميدان إعادة البناء تم بدعوة من الحكومة)، وكالة إيرنا، (8 يونيو/حزيران 2013)، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018): اضغط هنا

(21)  آيت‌الله مصباح يزدي: برخي مسئولان، ولايت فقيه را ديکتاتوري مي‌دانند (آية الله مصباح يزدي: بعض المسؤولين يعتبرون ولاية الفقيه ديكتاتورية)، وكالة ايسنا، 10 بهمن 1396، (تاريخ الدخول 9 ديسمبر/كانون الأول 2018): اضغط هنا