دبلوماسية "التجارة لا المعونة": الإستراتيجية الأميركية الجديدة والسيادة الاقتصادية بإفريقيا

تعالج هذه الورقة دلالات خفض أميركا مساعداتها لإفريقيا مع فرض رسوم جمركية جديدة على الصادرات الإفريقية، وما يعنيه ذلك من أن العلاقات الأميركية-الإفريقية قد تتغير وفق أجندات الرئيس ترامب، فإفريقيا لم تعد مجرد متلقٍّ للمساعدات، بل "شريكًا" في التجارة والاستثمار وإنعاش الشركات الأميركية.
الرئيس دونالد ترامب يتحدث خلال غداء مع عدد من القادة الأفارقة في البيت الأبيض، يوليو/تموز 2025، في واشنطن. (أسوشيتد برس)

في شهر مايو/أيار 2025، أثناء المشاركة في منتدى الرؤساء التنفيذيين في إفريقيا، خاطب الدبلوماسي الأميركي "تروي فيتريل"، المسؤول الأول في مكتب الشؤون الإفريقية الأميركي، أصحابَ المصلحة الأفارقة في أبيدجان، العاصمة السابقة لساحل العاج، بمناسبة إطلاق إستراتيجية الدبلوماسية التجارية الجديدة لمكتبه، والتي تهدف إلى تعميق العلاقات التجارية والاستثمارية بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية(1).

ورغم قلة التحمُّس داخل إفريقيا بهذا الحدث؛ فإن لغة "فيتريل" الدبلوماسية ورسالته خلال الفعالية، إلى جانب التطورات الأخرى تحت سياسة "أميركا أولًا"، مثل خفض المساعدات الأميركية وفرض رسوم جمركية جديدة على الصادرات الإفريقية، كلها تشير إلى أن العلاقات الأميركية مع إفريقيا قد تكون في طور التغيير وفق أجندات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأن واشنطن قد تتحول من نظرتها إلى إفريقيا كمجرد متلقٍّ للمساعدات، إلى اعتبارها "شريكًا" في التجارة والاستثمار و"عنصرًا" إستراتيجيًّا لإنعاش الشركات الأميركية.

المساعدات الإنمائية الأميركية في إفريقيا

اتسمت علاقات الولايات المتحدة مع إفريقيا لعقود بالمساعدات التنموية وبرامج المعونة، والتي شكَّلت حجر الزاوية في مشاركات واشنطن بالقارة، واكتسبت زخمًا بعد فترات "إنهاء الاستعمار" لأسباب عديدة شملت جيوسياسية الحرب الباردة ومساعي مواجهة النفوذ السوفيتي.

وتتجلى المشاركات الأميركية بإفريقيا في إطار "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، والتي تأسست عام 1961، لتنفيذ برامج التنمية والمساعدة الإنسانية الأميركية على المستوى العالمي(2)، مع تركيز كبير على منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ إذ دعمت المنظمة برنامج الصحة العالمية من خلال مشاريع رئيسية، مثل "خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز"، التي تسهم في جهود الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز وعلاجه في جميع أنحاء القارة(3). بالإضافة إلى "مبادرة الرئيس لمكافحة الملاريا"(4) و"إطعام المستقبل" لمكافحة انعدام الأمن الغذائي وتشجيع النمو الزراعي(5)، وغيرهما من مبادرات التعليم والنمو الاقتصادي والإغاثة من الكوارث في أوقات الأزمات.

وقد أظهرت التقارير أنه في عام 2023، كانت دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ثاني أكبر مستفيد من "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (بعد أوكرانيا)؛ إذ حصلت على 40 في المئة من ميزانيتها. ومن بين أكبر دول المنطقة في هذا الصدد وفق بيانات عام 2023: إثيوبيا (حصلت على 1.7 مليار دولار)، والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا وكينيا وجنوب السودان وأوغندا وموزمبيق وتنزانيا وجنوب إفريقيا وملاوي؛ إذ حصل كلٌّ من هذه الدول على أكثر من 400 مليون دولار(6).

ومن الأدوات الإستراتيجية للمشاركات الأميركية في إفريقيا؛ "مؤسسة الولايات المتحدة للتنمية الإفريقية"، التي تأسست عام 1980، للاستثمار المباشر في الشركات الشعبية الإفريقية ورواد الأعمال الاجتماعيين(7). إضافة إلى "قانون النمو والفرص في إفريقيا"، والذي سُنَّ عام 2000، بهدف معلَن متمثِّل في السماح لدول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى المؤهلة بدخول السوق الأميركية معفاةً من الرسوم الجمركية لأكثر من 1800 منتج(8).

على أن المشاركات الأميركية، وخاصة مساعداتها وبرامجها التنموية، تعرضت لانتقادات كثيرة، منها أن هذه المساعدات غالبًا ما تأتي مشروطة للدول الإفريقية بإصلاحات سياسات الاقتصاد الكلي ومتطلبات الحوكمة؛ مما يُقوِّض السيادة الاقتصادية للدولة المتلقية بإجبارها على تبني سياسات تتماشى مع المصالح الأميركية. وهذا يحدُّ من مساحة السياسات المتاحة للحكومات الإفريقية واستقلاليتها في صنع القرار، كما يقوِّض قدرتها على التكيف مع السياقات المحلية والأولويات الوطنية.

بل كثيرًا ما يُنظر إلى برامج المساعدات الأميركية، وخاصة تلك التي ترتبط بمزاعم دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، على أنها وسائل لتعزيز المبادئ والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية التي تعتبرها واشنطن مُثُلًا عالمية وتحاول فرضها على دول مختلفة. وهناك -داخل إفريقيا- من يرى أن هذه البرامج غالبًا ما تُستخدم لتطوير أنظمة سياسية أكثر ملاءمةً للأهداف الاقتصادية والجيوسياسية الأميركية، من خلال مساعدة بعض منظمات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية أو حتى الشخصيات السياسية؛ مما يؤثر على المشهد السياسي، ويُلحق الضرر بالأنظمة السياسية المحلية أو نماذج الحوكمة في الدول الإفريقية.

وقد أثارت المشاركات الأميركية في إفريقيا مسألة تعزيز "التبعية"، بدلًا من تعزيز الاعتماد الإفريقي الفعلي على الذات؛ إذ أفرطت الاقتصادات الإفريقية لعقود في اعتمادها على المساعدات والتمويل الأجنبي؛ مما أعاق تطوير الإمكانات والموارد المحلية والحلول الوطنية طويلة الأجل، وخاصة أن هذه المساعدات غالبًا ما تضمنت إملاءات حول كيفية إنفاق الأموال المقدمة -بغضِّ النظر عن أجندات الحكومات الإفريقية أو أهداف المجتمعات المحلية-؛ مما زاد من اختلال توازن القوى بين المانحين والمستفيدين. هذا، إلى جانب تساؤلات مثارة حول فاعلية البرامج التنموية الأميركية وتوافقها الإستراتيجي داخل القارة.

ويضاف إلى ما سبق أن معظم المبادرات الأميركية التي تستهدف إفريقيا غالبًا ما تفتقر إلى مشاركة إفريقية عادلة في تصميمها وتنفيذها. وتتجلى هذه النقطة في مبادرة "قانون النمو والفرص في إفريقيا" التي تواجه انتقادات كبيرة بسبب التوزيع غير المتكافئ للمنافع، وهيمنة بعض الاقتصادات الكبيرة وقطاعات محددة (خاصة النفط والغاز) على الصادرات، بينما يُكافح العديد من الدول الإفريقية المؤهلة للاستفادة من تفضيلاتها بسبب صعوبة استيفاء معايير الامتثال الأميركية الصارمة وعوامل أخرى. إضافة إلى أن معايير الأهلية الأحادية والمتناقضة للمبادرة، والتي تشمل طبيعة أحادية وغير تبادلية، وشروطًا تتعلق بحقوق الإنسان والحوكمة، كلها تُشكِّل حالة من عدم اليقين الشديد للشركات الإفريقية، وتُفضي إلى حظرٍ مفاجئ يُلحق ضررًا بالاقتصادات الإفريقية، كما حدث في إثيوبيا ورواندا.

"الدبلوماسية التجارية" الأميركية الجديدة في إفريقيا

ترتكز إستراتيجية واشنطن الجديدة في إفريقيا على ستة جوانب رئيسية(8)، بما في ذلك فكرة "التجارة لا المعونة"، التي تمثِّل تحولًا واضحًا من نموذج يعتمد على المساعدة إلى إستراتيجية تعتمد على الاستثمار. وهذا يُوحِي بأن الولايات المتحدة ربما لم تعد ترى إفريقيا قارةَ مساعدات، بل سوقًا ذات إمكانات تجارية هائلة، بما في ذلك قوة شرائية متوقعة تبلغ 16 تريليون دولار بحلول عام 2050، كما يوحي بأنها تنظر إلى القطاع الخاص كالمحرك الرئيسي للتقدم الاقتصادي طويل الأجل في القارة.

ومن الجوانب الأخرى للنهج الجديد جعلُ "الدبلوماسية التجارية" محور الاهتمام الرئيسي لمشاركات واشنطن في إفريقيا. ويشمل ذلك تقييم السفراء الأميركيين في إفريقيا بناءً على نجاحهم في الدفاع عن المصالح التجارية الأميركية وحجم الاتفاقيات التجارية التي يُيسرونها. كما يُتوقَّع أن تُشكِّل كل سفارة أميركية في إفريقيا "فريق صفقات" لإيجاد فرص تجارية، وتسريع الاستثمارات، وربط الشركات الأميركية بالشركاء المحليين داخل إفريقيا. وقد أنشأت وزارة الخارجية الأميركية أكاديمية لتدريب السفراء على التعامل مع أسواق إفريقيا المعقدة وبيئاتها التنظيمية، وتزويدهم بالمهارات اللازمة لمواجهة هذا التوجه التجاري الجديد. ويدعو هذا النهج الجديد إلى التعاون الأميركي مع الحكومات الإفريقية لإزالة حواجز التجارة والاستثمار، وزيادة الدعم الحكومي للشركات الأميركية الراغبة في الوجود والنمو في الأسواق الإفريقية، إضافة إلى تهيئة البيئة في جميع أنحاء القارة لتكون أكثر جاذبية للشركات الأميركية.

وتركز الإستراتيجية الجديدة أيضًا على مشاريع البنية التحتية التي تراها واشنطن "مجدية" اقتصاديًّا لدفع النمو الاقتصادي وجذب الاستثمار الخاص، واحتواء نفوذ منافسي واشنطن في القارة، وخاصة الصين ومشاريعها في البنية التحتية. وتتجلَّى هذه النقطة في عرض الولايات المتحدة قرضًا بقيمة 550 مليون دولار لمشروع ممر سكة حديد لوبيتو(10)، والذي يربط المناطق الغنية بالمعادن في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا بميناء لوبيتو بأنغولا.

كما أنه بموجب هذه الإستراتيجية الجديدة ستتعاون الولايات المتحدة مع شركائها الحكوميين الأفارقة في الدول ذات الأولوية لتنفيذ إصلاحات سوقية رئيسية يحددها القطاع الخاص باعتبارها حاسمة لجذب رأس المال الأميركي والأجنبي، مما يسمح للشركات الأميركية بالفوز بالمناقصات، والنجاح في العمل والتوسع. وهذا قد يعني أيضًا تحديث مبادرة "قانون النمو والفرص في إفريقيا" بالتركيز على المنافع المتبادلة، وذلك باعتبار أن الإستراتيجية الجديدة تسعى إلى ربط الشركات الأميركية جاهزة للتصدير (أكثر من 300 ألف شركة أميركية) وسوق رأس المال الأميركي الضخم (المقدر بنحو 120 تريليون دولار) بالفرص الاستثمارية في إفريقيا، مع تعزيز مبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات الاقتصادية، وإجراء محادثات مستمرة حول شروط تجارية أفضل ومناطق تجارة حرة محتملة(11).

في سياق تحركات إدارة "ترامب" الأخيرة

بالرغم من أن الإستراتيجية الأميركية الجديدة فُصِّل الحديث عنها مؤخرًا فقط في أبيدجان أمام أصحاب المصلحة الأفارقة، فقد طرأت تطورات حديثة تؤكد التحول في السياسة الخارجية الأميركية تجاه إفريقيا، لاسيما مع فترة رئاسة "دونالد ترامب" الثانية. ويتجلى ذلك في إعادة هيكلة المساعدات الأميركية؛ إذ أجرت الإدارة الحالية تخفيضات كبيرة في ميزانية "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" المخصصة للمساعدات الخارجية. وأشارت تقارير إلى خفض بنسبة 83 في المئة في عقود مساعدات الوكالة، وانخفاض ملحوظ لإجمالي المساعدات المقدمة لإفريقيا(12).

ومن ضمن هذه التحولات بوادر ما تجريه "القيادة الأميركية في إفريقيا" (أفريكوم) من تغييرات في إستراتيجيتها المركِّزة على الأمن القومي الأميركي؛ إذ تطلب "أفريكوم" زيادة المسؤولية الإفريقية في مواجهة تحديات القارة الأمنية، كما تسعى وراء تعزيز القدرات العسكرية المحلية تمهيدًا لتقليص الوجود العسكري للولايات المتحدة في القارة، وتقويةً لنهج "تقاسم الأعباء" مع حلفاء واشنطن الأفارقة(13).

وفيما يتعلق بالدبلوماسية التجارية الجديدة؛ فإن تقييم سفراء الولايات المتحدة في إفريقيا بناءً على كفاءتهم في التفاوض على اتفاقيات الأعمال، تتماشى مع نهج "أميركا أولًا"، الذي يُركز على المصلحة الاقتصادية الأميركية، وتؤشر على إحساس واشنطن بتزايد المنافسة الجيوسياسية. وهذا ما دفع واشنطن، منذ عام 2022، إلى التفكير في الاستثمار في مشاريع بنية تحتية التي تعتبرها إستراتيجية في إفريقيا كتكتيك لمواجهة نفوذ المنافسين وضمان الوصول إلى الموارد المهمة، كما هو واضح مع التحركات الأميركية في دول زامبيا وتنزانيا وأنغولا والكونغو الديمقراطية.

ماذا تعنيه الإستراتيجية الجديدة للسيادة الاقتصادية الإفريقية؟

إن الإستراتيجية الأميركية الجديدة قد تكون جهدًا حقيقيًّا للتراجع الأميركي عن تعاملاتها القديمة، والتحول إلى الشراكة مع الدول الإفريقية. وهذا يتماشى مع رغبة إفريقيا في الاعتماد على الذات؛ إذ إن هذا التحول قد يُعلي -من الناحية النظرية- من شأن الدول الإفريقية إلى مستوى أكثر مساواةً، ويساعد في إدراك بعض دول القارة لإمكاناتها التجارية بدلًا من انتظار المساعدات لتلبية احتياجاتها التنموية.

ومن الفرص المحتملة للإستراتيجية الجديدة أن تركيزها على النمو الذي يقوده القطاع الخاص، سواءً في الولايات المتحدة أو في إفريقيا، قد يسهم في تحقيق الاستقلال الاقتصادي على المدى الطويل، باعتبار أنه قد يُمكِّن المبتكرين والشركات المحلية، ويُشجِّع ريادة الأعمال ويُنوِّع الاقتصادات الإفريقية، وكلها أمور بالغة الأهمية لخلق فرص عمل مستدامة وإضافة قيمة للمواد الخام وتطوير الصناعات المحلية.

كما أن الاستثمارات الأميركية في مشاريع البنية التحتية "المجدية" تجاريًّا، قد تكون تحويلية لإفريقيا إذا صُمِّمت ونُفِّذت بمراعاة المِلْكية والمنفعة الإفريقيتين، وذلك بالنظر إلى القدرة المحتملة لهذه المشاريع في تحسين الاتصال وتسهيل التجارة وخفض تكاليف الخدمات اللوجستية، وهو ما يعزز مكانة إفريقيا التنافسية في الأسواق العالمية ويمنح دولها مزيدًا من السيطرة على شرايينها الاقتصادية.

ويضاف إلى ما سبق أن الإستراتيجية الأميركية تدعو إلى التعاون مع الحكومات الإفريقية بشأن إصلاحات السوق. وهذه الإصلاحات -إذا كانت بقيادة إفريقية حقيقية وأعطت الأولوية للاحتياجات المحلية-، قد تُحسِّن بيئة الأعمال العامة وتجذب استثمارات متنوعة (من الولايات المتحدة وغيرها) وتعزز الأطر التنظيمية، وخاصة أن تنافس الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى (مثل الصين وروسيا وغيرها) على النفوذ والوصول إلى الأسواق في إفريقيا، يمنح الدول الإفريقية قوة تفاوضية متزايدة تسمح باختيار شروط أكثر ملاءمة للاستثمارات والاتفاقيات التجارية واستغلال الموارد، وبالتالي تأكيد المصالح السيادية الإفريقية.

ومع ذلك، فإن إعادة النظر في الإستراتيجية الأميركية الجديدة وعناصرها في ظل قرارات إدارة "ترامب" الحالية؛ كلها تكشف عن وجود "منطقة رمادية"، وتؤشر إلى احتمال عدم حدوث أي تغيير ملموس أو أي جديد، اللهم إلا في الاسم فقط، وذلك لإبقاء مكتب الشؤون الإفريقية الأميركي في إعلان النهج الجديد على بعض المخاوف القديمة المتجددة، لاسيما فيما يتعلق بالقرار الإفريقي وقدرة الحكومات الإفريقية على التأثير في واشنطن، ومدى مراعاة المصالح المحلية الإفريقية والسيادة الاقتصادية ودورها في صياغة آليات العمل مع الولايات المتحدة.

وعلى سبيل المثال، تنصُّ الإستراتيجية الجديدة على التخلِّي عن الاعتماد على المساعدات في تعاملات واشنطن مع القارة، ولكنَّ بعض مرتكزاتها أو جوانبها قادرة أيضًا على خلق أشكال جديدة من التبعية، أو الاعتماد على رأس المال والشركات الأميركية، وذلك لحقيقة أن هذه الإستراتيجية تُفيد الشركات الأميركية في المقام الأول؛ مما قد يؤدي إلى استثمارات "استخراجية" يكون هدفها الأساسي خدمة المصالح الاقتصادية الأميركية، مع محدودية القيمة المضافة المحلية أو نقل التكنولوجيا داخل إفريقيا، والتالي تقويض سيطرة إفريقيا على مواردها وأسواقها.

بل بالرغم من أن الإستراتيجية الجديدة لا تنص صراحةً على "شروط المساعدات" أو فرض اللوائح على الدول الإفريقية، فإن حقيقة أن الدبلوماسية التجارية الأميركية ستعطي الأولوية للقطاعات التي تُقدم عوائد عالية للشركات الأميركية، وتركيز الإستراتيجية على "إصلاحات السوق"؛ قد يدفعان الحكومات الإفريقية ضمنيًّا نحو سياسات تتماشى مع المصالح الاقتصادية الأميركية بدلًا من أجندات الاقتصاد وأولويات تنمية هذه الحكومات الإفريقية البحتة.

وهذا قد يُضعِف قدرة الحكومات الإفريقية على وضع خطتها الاقتصادية الوطنية وفق احتياجاتها، كما قد يؤدي إلى نقص الاستثمار في قطاعات حيوية، وإن كانت أقل ربحيةً على الفور، مثل الخدمات الاجتماعية والزراعة الصغيرة والبنية التحتية في المناطق النائية. بل هذا التوجه قد يجبر الحكومات الإفريقية على ترك الاهتمام بقطاعات لا تجذب الاستثمار الخاص الأميركي مباشرةً رغم أهمية هذه القطاعات للنمو الشامل والحد من الفقر.

وهناك نقطة أخرى، وهي أن الولايات المتحدة -رغم خطاب الشراكة مع إفريقيا- لا تزال تمارس نفوذًا وضغطًا كبيرين، مع استمرار تجاهلها للحكومات الإفريقية في قراراتها. واعتمادًا على هذا، فقد تواجه الدول الإفريقية، وخاصة "الصغيرة اقتصاديًّا" أو ذات الحوكمة الضعيفة، صعوبة في التفاوض على صفقات عادلة؛ مما قد يخلق اتفاقيات ذوات مصالح غير متناسبة لصالح الشركات الأميركية، وتُقيد السيطرة السيادية الإفريقية على قطاعاتها الاقتصادية الرئيسية.

ويُعَضِّد النقطة السابقة حظر السفر الذي فرضه الرئيس الأميركي، ترامب، على مواطني سبع دول إفريقية (تشاد وجمهورية الكونغو وغينيا الاستوائية وإريتريا وليبيا والصومال والسودان) بدعوى مخاطر الإرهاب وانتشار تجاوز مدة التأشيرات. بينما دول بوروندي وسيراليون وتوغو ضمن سبع دول أخرى تخضع لقيود أميركية جزئية(14) في ظل تقارير جديدة عن احتمال إضافة حوالي 25 دولة إفريقية أخرى في قائمة الحظر(15). وهذه الخطوة تؤشر إلى استمرارية النظر الأميركي إلى معظم الشعوب الإفريقية من منظور المخاطر المحتملة، بدلًا من اعتبارها "شركاء" أو مصادر للتبادل الثقافي والاقتصادي.

وعليه، ورغم أن إدارة "ترامب" تدَّعي أن دبلوماسيتها التجارية مع إفريقيا هي إستراتيجية تشاركية جديدة، فإن واقع قراراتها وتحركاتها تُظهر أنها لا تأتي بجديد. بل هي تمارس نهجًا أكثر انعزالية وأقل تركيزًا على المشاركة تجاه القارة. ويُلاحَظ بتعميق النظر في هذه الإستراتيجية أنها مُصوغة في سياق المنافسة الجيوسياسية، وخاصة مع الصين، وهو ما قد يعني أن على الدول الإفريقية اختيار جانب أو الانحياز إلى نموذج اقتصادي تابع لمنافس معيَّن على حساب آخر. وكل هذا سيحدُّ من حق الدول الإفريقية السيادية في السعي نحو شراكات متنوعة تخدم مصالحها الوطنية وتطلعاتها المستقبلية.

خاتمة

يمكن اعتبار إستراتيجية الدبلوماسية التجارية الجديدة للولايات المتحدة في إفريقيا جهدًا لإعادة تقييم انخراطها في القارة من خلال نهجٍ اقتصادي أكثر تجاه القارة. وقد تُمكِّن الإستراتيجية الدول الإفريقية بشرط تحقيق السيادة الإفريقية الحقيقية، والذي سيعتمد على قدرة الحكومات الإفريقية على تأكيد مصالحها ومكانتها التفاوضية، وتنويع شراكاتها، وضمان مساهمة الاستثمارات الأجنبية مساهمة حقيقية في أهدافها التنموية الشاملة طويلة الأجل.

ومع ذلك، فإن إمعان النظر في جوانب تركيز الإستراتيجية يؤشر على أنها مصوغة لتحقيق المصالح الخاصة لواشنطن وفق سياسة "أميركا أولًا" لإدارة الرئيس "ترامب". وهذا قد يكون من أسباب قلَّة التفاعل الإفريقي مع إعلان الإستراتيجية؛ إذ إن الأفارقة تعودوا من واشنطن إطلاق مبادرات تستهدف إفريقيا ولكنها تخدم واشنطن وحدها، واستخدام إجراءات أحادية الجانب وتجاهل الأعراف الدبلوماسية الراسخة في قراراتها المرتبطة بإفريقيا.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1- Bai S. G. Best. “Africa: U.S. Pivots to Six-Point Trade for Africa.” Liberian Observer, 19 May 2025, https://shorturl.at/lvYIP (اطلع عليه في يونيو 14, 2025)

2- Sam Ursu. “A brief history of USAID.” Development Aid, Nov 3, 2022, https://shorturl.at/t4Nm3 (اطلع عليه في يونيو 14, 2025)

3- “The U.S. President’s Emergency Plan for AIDS Relief (PEPFAR).” KFF, May 13, 2025, https://shorturl.at/KpR3Z (اطلع عليه في يونيو 14, 2025)

4- “The President’s Malaria Initiative and Other U.S. Government Global Malaria Efforts.” KFF, May 13, 2025, https://shorturl.at/Ivp7A (اطلع عليه في يونيو 14, 2025)

5- “Feed the Future (FtF) Program.” International Food Policy Research Institute, https://shorturl.at/ewiWq (اطلع عليه في يونيو 14, 2025)

6- Jakkie Cilliers. “The toll of USAID cuts on Africa.” African Futures & Innovation Programme, February 25, 2025, https://shorturl.at/s4bH7 (اطلع عليه في يونيو 14, 2025)

7- “United States African Development Foundation.” The United States Government Manual, https://shorturl.at/traLO (اطلع عليه في يونيو 14, 2025)

8 - فضل محمد زكريا، "آثار قانون النمو والفرص في إفريقيا (أغوا) على اقتصادات إفريقيا"، مركز الجزيرة للدراسات، 19 يناير/كانون الثاني 2025، (تاريخ الدخول: 14 يونيو/حزيران 2025)، https://shorturl.at/vP6mE

9- “Remarks for Launch of Bureau of African Affairs Commercial Diplomacy Strategy.” Ambassador Troy Fitrell, Senior Bureau Official -Bureau of African Affairs, May 14, 2025, https://shorturl.at/Sxtma (اطلع عليه في يونيو 15, 2025)

10 - حكيم نجم الدين، "توسيع ممر لوبيتو: استعمار إفريقيا بعباءة جديدة"، الجزيرة، 15 سبتمبر/أيلول 2024، (تاريخ الدخول: 14 يونيو/حزيران 2025)، https://shorturl.at/vqQa1

11 - مصدر سابق:

“Remarks for Launch of Bureau of African Affairs Commercial Diplomacy Strategy.” Ambassador Troy Fitrell, Senior Bureau Official -Bureau of African Affairs.

12- “Sub-Saharan Africa, the first victim of the USAID reduction.” Coface, March 19, 2025, https://shorturl.at/Kw1RO (اطلع عليه في يونيو 15, 2025)

13- Brandi Vincent. “U.S. military posture in Africa shifts while terrorist threats intensify.” Defense Scoop, May 29, 2025, https://shorturl.at/xICf2 (اطلع عليه في يونيو 15, 2025)

14- David Thomas. “Trump imposes US travel ban on seven African countries.” African Business, June 5, 2025, https://shorturl.at/Ej34I (اطلع عليه في يونيو 15, 2025)

15- “US envisages adding 25 more African countries to travel ban.” RFI, June 16, 2025, https://shorturl.at/hcjV2 (اطلع عليه في يونيو 16, 2025)