حقق الصومال في الفترة الأخيرة تقدمًا طفيفًا نحو المضي قدمًا في بناء دولة صومالية حديثة، لكنه لا يزال يواجه أزمات كثيرة في تذليل العقبات والتحديات الداخلية والخارجية، فضلًا عن فرض أمن واستقرار سياسي في بلد يعاني تدهورًا اقتصاديا وأزمات إنسانية، وتتناول هذه الورقة التحديات السياسية الداخلية والخارجية التي يواجهها هذا القُطر العربي، إلى جانب التطرق إلى مسودة قانون الانتخابات التي أجازتها الحكومة الصومالية مؤخرًا، وكيف أثارت هذه المسودة جدلًا واسعًا في أوساط المجتمع، والتي يُتوقع أن يناقشها البرلمان المحلي للمصادقة عليها، بالإضافة إلى استشراف المرحلة المقبلة والسيناريوهات المحتملة قبل انتخابات عام 2020.
قانون الانتخابات: بين رفض الأحزاب والولايات الفيدرالية
أقرت الحكومة الصومالية، في الثاني من مايو/أيار الماضي (2019)، مسودة قانون الانتخابات والأحزاب السياسية، جاء ذلك، بعد أن ضغطت الأحزاب المعارضة على الحكومة لإقرار المشروع، واتهامها بتأجيل الانتخابات المزمع عقدها أواخر 2020، ومن المنتظر أن يُعرض مشروع القانون على البرلمان بغرفتيه (الشعب والشيوخ)، لمناقشته والمصادقة عليه ليدخل حيز التنفيذ، بعد توقيعه من قبل الرئيس، محمد عبد الله فرماجو(1).
لكن قانون الانتخابات الذي أعدته الداخلية الصومالية، أثار موجة من السخط والاستياء من قبل الأطراف الصومالية الفاعلة في السياسة الصومالية، فرأت الأحزاب السياسية وخاصة تلك التي توصف بالمعارضة أن هذا القانون يعطي فرصة أكبر ومجالًا أوسع للحكومة الصومالية الفيدرالية في تمديد فترتها لمدة عام أو عامين على الأقل، بالإضافة إلى أنها تخطط لقلب نظام التداول السلمي للسلطة الذي عرفه الصومال منذ العقد الأخير، وأبدى حزب "ودجر" الذي يرأسه السياسي المعارض، عبد الرحمن عبد الشكور، تخوفه واستياءه الشديد حيال هذا القانون، موضحًا أنه يحمل رسالة مفادها، تمديد فترة الرئاسة الحالية إلى أجل غير مسمى(2).
وأعلنت أربع ولايات فيدرالية (بونتلاند، جلمدغ، هرشبيلي، جوبالاند) منذ صدور قانون الانتخابات، عن مقاطعتها في بيانات منفصلة، وألمحت تلك البيانات إلى أن الحكومة الفيدرالية تهدف من وراء هذا القانون إلى إطالة أمد بقائها في الحكم، وأنها استأثرت برأيها في إعداد هذا القانون ولم تشرك قادة الولايات الفيدرالية في إعداده، ليكون مشتركًا بين الولايات الفيدرالية والحكومة الفيدرالية، ويبدو أن هذا القانون الجديد صبَّ الزيت على قِدر الخلافات السياسية الملتهب بين الحكومة من جهة والولايات الفيدرالية من جهة ثانية؛ حيث كانت قضايا كثيرة موضع خلاف جذري وتؤجج الصراع بين أقطاب الحكم في البلاد(3).
ويتألف قانون الانتخابات من سبعة فصول وواحدًا وستين بندًا، في مجملها مشتقة من قوانين انتخابية أخرى ومن الدستور الصومالي، حسب ما يعتقده كثير من المراقبين، وما يؤكد ذلك التناقضات الواردة فيه، حيث لا يمنح هذا القانون حقوقًا متساوية بين الأحزاب السياسية التي ستترشح لخوض غمار الانتخابات، ويعطي الأولوية للحزب السياسي المتوقع تشكيله من قبل الرئاسة الحالية، كما تضمن بنودًا غامضة تحتاج إلى توضيحات قانونية بعيدًا عن اللبس والجمود.
وعلى سبيل الحصر لا الذكر نورد هنا القضايا التي أثارت الجدل والخلافات بين الأحزاب السياسية والولايات الفيدرالية والحكومة الفيدرالية، وأبرزها:
- مخاوف تمديد فترة المجلس التشريعي والتنفيذي: تتفق الكتل الحزبية والولايات الفيدرالية معًا على أن مسودة قانون الانتخابات بشأن تنظيم الانتخابات الرئاسية عام 2020، تبعث قلقًا وهاجسًا حول مستقبل فترة الرئاسة الحالية، فقد قضت المسودة طبقًا للبند الـ56 بـ"أن فترة الرئاسة الصومالية الحالية تتمدد مع تمدد فترة نواب البرلمان الصومالي، إذا تأجل موعد الانتخابات"(4).
هذه الفقرة يكمن في طياتها ما هو كفيل بأن تتعزز نظرية المؤامرة في دهاليز الأحزاب والولايات الفيدرالية، كما أنها تشجع الحكومة على عدم تنظيم الانتخابات في الموعد المحدد، كما أن أعضاء من البرلمان وخاصة الذين لايضمنون بطاقة العودة إلى قبة البرلمان يشجعون على فكرة تأجيل موعد الانتخابات إلى سنتين على الأكثر.
ورغم أن الرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، أكد في خطاب متلفز له أن الانتخابات الرئاسية ستنعقد في موعدها المحدد (أواخر عام 2020)، وهو ما بدد مخاوف كثير من الأحزاب والشخصيات السياسية الذين يعتقدون أنه بإمكان الحكومة أن تضمن للمجتمع الدولي والمحلي انعقاد الانتخابات، بغضِّ النظر عن مخاوف السياسيين ورؤساء الولايات الفيدرالية(5).
- غموض في قانون الانتخابات: تضمن القانون الجديد بنودًا ما زالت مبهمة وغير واضحة، لأن في صياغتها الكتابية شيئًا من اللبس والغموض، وهو موطن جدل واستغراب لدى كثيرين في أوساط السياسيين والقانونيين، وعلى سبيل المثال، ووفقًا للبند الـ56 "ألمح القانون إلى إمكانية تأجيل الانتخابات في حال حدوث ظروف قاهرة"، بينما لم يبين القانون ما هو المقصود بـ"الظروف القاهرة" واكتفى فقط بالإشارة إلى توضيحها بالأزمات الإنسانية والفيضانات والحروب، وهو ثالوث موت اتسم به الصومال منذ عام 1991، وكان من الأجدر أن يفسِّر القانون بشكل أوضح ما هي الظروف القاهرة التي ستمنع الصومال من انعقاد وتنظيم انتخابات رئاسية أو أن تكتفي فقط بالظرف الأمني في البلاد، وهو ظرف اعتاده الصوماليون زهاء عقدين ونيف ليصبح ظرفًا واقعيًّا أكثر منه حشوًا زائدًا في بند غامض.
- إشكالية الدائرة الانتخابية الواحدة: نظام الدائرة الانتخابية الواحدة الذي سيدلي الناخبون بموجبه، هو الآخر بات مثار جدل بين الأقطاب السياسية والرؤساء في الصومال، فقد تهدف اللجنة المنظمة للانتخابات من وراء هذه المسودة، إلى أن تتحكم بشكل صارم في أصوات الناخبين البالغ عددهم تقديرًا نحو أكثر من مليوني ناخب، في جميع المدن والأقاليم التي ستُجرى فيها الانتخابات الرئاسية، فمثلًا يصوِّت الناخبون إجمالًا للقائمة الانتخابية الواحدة والتي تضم 275 مرشحًا للبرلمان، فالناخب في إقليم بونتلاند يصوِّت لمرشح في إقليم جوبالاند لايعرف اسمه وقبيلته لكنه يصوت لحزبه، والعكس. لكن الولايات الفيدرالية تعارض هذا النظام الانتخابي في جزئيته الكلية الشاملة، وتريد صياغته ليتلاءم مع متطلبات الرؤساء الحاليين للولايات الفيدرالية، وهو ما يتيح لرؤساء الأقاليم إمكانية أن يؤثروا على توجهات المقترعين الذين يدلون بالأصوات للمرشحين الذين يدخلون قبة البرلمان من إقليم بونتلاند، أي إن الناخبين في إقليم بونتلاند يصوِّتون للمرشحين المحتملين المنتمين للقبائل التي تقطن في هذا الإقليم فقط، وهو ما ترفضه الحكومة الفيدرالية التي تسعى للسيطرة على مجريات الانتخابات المقبلة بتفاصيلها الصغيرة وشجونها المتشعبة.
عيوب تطبيق نظام الدائرة الانتخابية الواحدة في الصومال
لكن هذا النظام الانتخابي الذي اختارته اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات لا يخلو من عيوب وسلبيات عديدة، بسبب أنه حديث عهد في بلد مثل الصومال، لم يجرب نظام قانون الانتخابات وفق القوائم المغلقة في تاريخه الحديث، لكنه شهد في فترة الستينات انتخابات عامة، لكنها دفعت البلاد إلى مجاهل الفساد وسوء الإدارة السياسية، ما أدى إلى انقلاب عسكري أطاح بالتعددية الحزبية وألغى الحريات وحل البرلمان.
1. فراغ سياسي: يقضي القانون الجديد بأن الحزب السياسي الذي حصل على غالبية الأصوات يفوز بالرئاسة، لكنه يحتاج لتمرير سياساته وتشكيل الحكومة إلى نيل أصوات البرلمان (1+50)، بيد أن تحقيق ذلك المطلب ليس سهل المنال، نظرًا لتركيبة المجتمع الصومالي القبلية، وهو ما سيجعل من الصعب بمكان تحقيق هذا الرقم، مما سيدفع الأحزاب الكبيرة إلى تشكيل تحالفات مع الأحزاب الصغيرة، وفي حال عدم تمكن تلك التحالفات من تحقيق مغزاها السياسي وصعوبة التفاهمات بين الأحزاب، فإن البلاد ستذهب إلى فراغ سياسي وهي تجربة عاشتها دول عربية، مثل لبنان نتيجة الطائفية الموجودة في المجتمع اللبناني.
2. صعوبة توزيع مقاعد البرلمان الصومالي: طبقًا للقاعدة القبلية المعمولة بها في البلاد (4.5)، والتي بُني على أساسها البرلمان المحلي بغرفتيه وشُكِّلت مجالس ولجان الحكومة الفيدرالية، يكون من الصعب توزيع مقاعد البرلمان طبقًا لهذا النظام، أي إن الأحزاب تواجه معضلة تنويع أعضائها المرشحين للانتخابات من جهة، أي أن يختار من جميع القبائل خضوعًا للقاعدة القبلية (4.5)؛ الأمر الذي سيصعِّب مهمة الأحزاب في تكوين واختيار أعضائها ومرشحيها حاضرًا ومستقبلًا(6).
3. فقدان حرية الاختيار: يسلب هذا النظام حرية اختيار الناخب لمن يدلي بصوته في الدائرة الانتخابية الواحدة، ما يمثِّل نكسة لأمال الناخب الصومالي، إلى جانب أن هذا النظام يضع ما يشبه "الحاجب" ويغلق قنوات الاتصال بين الناخب وأعضاء الحزب الذي اختاره في البرلمان الصومالي.
4. سياسة الحزب الواحد: تنحصر الصلاحيات في يد الحزب السياسي الذي سيفوز بالبرلمان، وخاصة في اختيار المرشحين الذين سيمثلونه في البرلمان، واتخاذ القرارات السيادية المصيرية، خضوعًا لسياسة الحزب الذي يمثله في البرلمان، وهو ما يبدد آمال الناخبين والنواب أيضًا.
بالإضافة إلى مجمل القضايا والمسائل الشائكة، تكمن إشكالية استقلالية اللجنة المستقلة للانتخابات، فقد شُكِّلت هذه اللجنة وفقًا للقانون رقم 4 الصادر بتاريخ 2 أبريل/نيسان 2015(7)، ويرى كثير من منتقدي الحكومة الصومالية أن اللجنة السابقة للانتخابات كانت غير جديرة بالثقة، فقد وُجِّهت لها التهم سابقًا في فترة الحكومة السابقة (2012 -2017)، وخاصة فيما يتعلق بتنظيم الانتخابات السابقة، حيث لم تكن هناك معايير لضبط سير عملية الانتخابات النيابية، بل شابها فساد مالي وتنافس قوي بين المرشحين، ويُخشى حاليًّا أن تعود تلك الشبهات والتهم إلى الصدارة من جديد، بسبب عدم قدرة هذه اللجنة على تنظيم الانتخابات والتفرد بقراراتها دون أن تجد ضوءًا أخضر من الحكومة الصومالية.
ومما يعزز فرضية عدم استقلالية اللجنة المنظمة للانتخابات أن مسودة قانون الانتخابات خصصت للرئاسة الصومالية حقوقًا وامتيازات خاصة بها، ومن بينها تحديد موعد الانتخابات وعملية تسجيل الناخبين، وهو ما يمثل ضربة لشفافية هذا القانون واستقلالية اللجنة المستقلة للانتخابات، أي إن الرئيس الصومالي "فرماجو" بإمكانه تأجيل موعد الانتخابات، حتى يتمكن من ترتيب بيته من الداخل، وهو ما ترفضه الأحزاب والولايات الفيدرالية، ويحذران من مغبة التزوير والفساد في الانتخابات المقبلة(8).
خريطة الأحزاب السياسية: مسارات التقاطع والتحالف
مع قرب موعد كل استحقاق انتخابي في البلاد، تزداد الأحزاب السياسية كالفِطر؛ حيث سجلت اللجنة الوطنية للانتخابات حاليًّا 52 حزبًا سياسيًّا، أكملوا شروط تأسيس الأحزاب الأولية، لكن تبقى مهمة صعبة وعسيرة أمام الأحزاب السياسية لاستكمال شروطها للمشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهي شروط تضع حدًّا لكثرة الأحزاب السياسية في البلاد، ومن هذه الشروط ما يلي(9):
• تسجيل عشرة آلاف ناخب لكل حزب، أي بمعدل ألف ناخب في كل مدينة من المدن التسع الكبرى، ما يتضمن أيضًا أن يكون للحزب مقار ومكاتب في المدن الرئيسية الكبرى بالبلاد.
• ترشيح 275 ممثلًا لكل حزب لخوض سباق الانتخابات النيابية، وضرورة مراعاة التنوع القبلي في اختيار ممثيله وعدم الإفراط في كوتة المرأة الصومالية التي ستزداد حصتها النيابية هذه الدورة بمقدار 30 في المئة من مقاعد البرلمان.
• دفع مبلغ قدره 550,000 دولار أميركي، للتأهل لخوض غمار الانتخابات؛ حيث إن كل مرشح للبرلمان (275 عضوًا) سيدفع ألفي دولار أميركي.
تبدو هذه الشروط لا تعزز فرص مشاركة الأحزاب الصغيرة في الانتخابات المقبلة، وخاصة التي يشكلها الشباب، وهذه القيود ربما ستذهب بجهود هؤلاء اليافعين أدراج الرياح، فضلًا عن الأحزاب الأخرى التي تعاني من ضيق ذات اليد، فكلها لن يبقى لها رصيد أو أوراق للبقاء في ساحة سياسية تنافسية تكون الغلبة لأصحاب الجيوب الكبيرة، وهو ما يدفع تلك الأحزاب إلى البحث عن شراكة مع الدول التي تتمتع بتأثير قوي في الصومال وخاصة الدول الإقليمية والخليجية، وهو ما يخلط الأوراق السياسية لتلك الأحزاب عاجلًا أو آجلًا.
ومن المتوقع أن تزداد الأحزاب السياسية في المرحلة المقبلة، نظرًا للتحالفات والتكتلات الجارية حاليًّا داخل أروقة البرلمان وخارجها، فالرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، لم يعلن بعد عن تشكيل حزبه السياسي، كما أن بعض السياسيين السابقين في فترة حكومة الرئيس، حسن شيخ محمود، يخططون لتأليف حزب سياسي جديد، مناصفة للحزب الذي شكَّله حسن محمود عام 2018، وهو حزب قوي هيكليًّا وتنظيميًّا، لكن لا يمكن التكهن بمستقبله السياسي، فالانشقاقات داخل الأحزاب هي السمة الأبرز، بسبب اختلاف الأيديولوجيات السياسية والانتماءات القبلية.
ويمكن هنا حصر التحديات التي تواجهها الأحزاب السياسية في الصومال في النقاط التالية:
• الانشقاقات والكتل الحزبية: في موسم الانتخابات الرئاسية في الصومال، تولد الأحزاب السياسية وتذبل أوراقها دون سابق إنذار، وذلك بسبب انتهاء الانتخابات أو نتيجة الانشقاقات الداخلية بين الأحزاب السياسية، فبعد تنصيب فرماجو رئيسًا للبلاد، اختفت أحزاب كثيرة، لكنها سرعان ما عادت إلى الواجهة بعد منتصف عام 2018، لكنها بوجه مختلف، حيث تحالفت بعض الأحزاب لتشكِّل حزبًا واحدًا، مثل تحالف حزب دلجر وحزب PDP، لتشكيل حزب UPD، كما تفكك حزب كلن، إلى ثلاثة أحزاب سياسية، يقودها منتمون سابقون لحزب كلن، ما يوحي بأن الأحزاب السياسية في الصومال، تفتقر للديمومة والاستمرارية(10).
• غياب التمويل: في الدول المتحضرة، تمول الحكومات الأحزاب السياسية بشقيها (اليمين واليسار)، لكن في الدول النامية، يعد التمويل أكبر تحد وهاجس يقلق النشاط السياسي للأحزاب، فمن دون ميزانية مالية لا تستطيع الأحزاب أن تقوم لها قائمة، ما يعني أن الاشتراكات الشهرية أو السنوية لأعضائها غير كافية، وهو ما يدفع تلك الأحزاب نحو البحث عمن يضمن لها التمويل في الداخل والخارج، ورغم أن قانون الأحزاب السياسية ضم بندًا مهمًّا بالنسبة للأحزاب، وهو أن تخصص الحكومة الصومالية 0.3% للأحزاب من ميزانية الدولة، لدعم التعددية الحزبية بدل القبلية التي يعاني الصومال من ويلاتها. لكن تطبيق هذا البند في الوضع الراهن ضرب من الخيال.
• الأيديولوجيا والشعبية: سمتان أساسيتان لكل حزب سياسي، فالأيديولوجية السياسية تمثل الروح والوجدان للأحزاب، بينما الشعبوية تعبِّر عن حالة الحزب الهيكلية التنظيمية، فغيابهما عن إطار الأحزاب السياسية في الشأن الصومالي، يمثل تحديًا قويًّا أمام الأحزاب، فتحقيق هاتين السمتين، غاية في الصعوبة، وهو ما يحتاج إلى جهد كبير، ويمكن تحقيق الأولى شرط أن تتوافر في الحزب نخب فكرية متنوعة تضع منهجه السياسي وتوجهاته الفكرية، بينما الثانية تحتاج إلى توظيف عنصر الشباب، كمنطلق لاستقطاب هذه الفئة التي تعد العمود الفقري للأحزاب من حيث التنوع والشعبية.
التحديات الداخلية
عانى الصومال -ولا يزال- منذ سقوط الدولة المركزية مطلع التسعينات من القرن الماضي، تحديات لا حصر لها، فقبل الألفية الجديدة كان عدم الاستقرار السياسي والأمني تحديين كبيرين بالنسبة له، لكن مع انتهاء فترة الحكومات الانتقالية، كثرت التحديات على عكس ما كان يتوقعه كثيرون، على الرغم من أن الظرف الأمني تبدل وتحسن نحو الأفضل منذ نشر قوات إفريقية في الصومال عام 2007.
وتكمن هنا ثلاثة تحديات رئيسة يواجهها الصومال في الفترة المقبلة، وهي كما يلي:
• معضلة الفيدراليات والحكومة: اختار الصومال "الفيدرالية" كنظام حكم سياسي مرن قابل لتقاسم السلطة بدلًا من المركزية الاستبدادية التي جربها الصومال في فترة حكم الرئيس الراحل، محمد سياد بري (1969-1991)، لكن اختياره للفيدرالية لم يخلُ من تحديات سياسية واختلافات على كافة الأصعدة، فبدل أن تكون الفيدرالية مخرجًا إلى بر الأمان، يبدو أنها مأزق سياسي يفتِّت الصومال، فكل دولة فيدرالية لديها شروط ومتطلبات كثيرة، ففي حال عدم حصول توافق سياسي بين السلطة المركزية في مقديشو والولايات الفيدرالية يصبح الطلاق السياسي العنوان الأبرز في الميديا الاجتماعية، فقد أعلنت إدارة بونتلاند وجلمدغ مقاطعتهما للحكومة الصومالية، بينما تعمل حكومة جروي على إبرام اتفاقيات لتطوير ميناء محلي مع شركة صينية دون الرجوع لحكومة مقديشو؛ ما يعني أن الفيدرالية في الصومال، معضلة تفكيك، وليست أداة لحل مشاكله المزمنة.
• تردي الأمن: منذ بروز الجماعات المسلحة ذات الأيديولوجيا الإسلامية المنبثقة من رحم الجماعات السلفية المرتبطة بالقاعدة والدولة الإسلامية، بات التحدي الأمني في القرن الإفريقي من أكبر المشاكل التي تعانيها دوله وليس الصومال وحده، فما زال الأمن على حدود كينيا مع الصومال غير مستتب ناهيك عن الصومال الذي يفتقر لجيش قوي منذ عقود، ويعيش حالة من التذمر وتفكك ما بعد الانهيار، وبهذا المنطلق سيبقى الأمن تحديًا أمام الصومال في المرحلة المقبلة وأثناء تنظيم الانتخابات التي سيشارك فيها أكثر من مليوني ناخب.
• ملف المصالحة الداخلية: كان شعار المصالحة بين أطياف المجتمع من بين الدعاية الانتخابية عام 2017 للمرشحين للرئاسة الصومالية، لكن يبقى هذا الملف مهمشًا، فمن دون مصالحة حقيقية بين المجتمع ونبذ الفروق القبلية بين مكوناته، يبقى الحنق في الحناجر والأسلحة ملقَّمة، فالمفاوضات بين جنوب الصومال وشماله متعثرة، ووزارة الداخلية الفيدرالية لم تحقق من مؤتمراتها وجهودها للمصالحة بين القبائل أية نتائج إيجابية، فرواندا التي نهضت من تحت الركام حققت مصالحة حقيقية في المجتمع المحلي، على الرغم من الدماء التي أُريقت بالسواطير والخناجر، وهي تجربة ماثلة يمكن للصومال أن يقتدي بها.
التحديات الخارجية
طبقًا للمقولة السائدة: "إن السياسة الخارجية للدولة هي انعكاس ووجه آخر للسياسة الداخلية"؛ فإن هذا القول ينطبق تمامًا على الواقع الصومالي، فغياب رؤية استراتيجية ومستقبلية للسياسة الخارجية الصومالية منذ عقود يجعل التحديات والصدامات تتزايد في الداخل والخارج، دون أن تكون سياسة رسمية وطنية للتوفيق بين السياستين الداخلية والخارجية، بسبب الحكومات المتعثرة والفوضى الداخلية السياسية، أي بمعنى آخر حسب منطوق ريتشارد هاس: "إن السياسة الخارجية تبدأ من الداخل".
ومع رصدنا للتحديات الداخلية، نتناول التحديات الخارجية التي يواجهها الصومال في المرحلة المقبلة في الحقول الآتية:
• التوتر الكيني-الصومالي: تشهد الساحة الصومالية-الكينية توترًا سياسيًّا متفاقمًا حينًا بعد الآخر، نتيجة الصراع على حقول مائية في المحيط الهندي بين البلدين، واحتكامهما إلى محكمة العدل الدولية؛ الأمر الذي دفع الجارتين لاحقًا إلى سحب سفيريهما من نيروبي ومقديشو. بالإضافة إلى ذلك، تمارس نيروبي ضغوطًا سياسية على الصومال للعودة إلى مفاوضات جانبية بين الدولتين بشأن الأحقية المتنازع عليها وإبرام اتفاقيات بعيدًا عن محافل العدل الدولية، لكن الصومال يبقى متمسكًا بقرار المحكمة المتوقع صدوره أواخر عام 2019، ما دفع كينيا إلى اتخاذ خطوات لبلبلة الرأي العام المحلي والإقليمي لإزعاج الحكومة الصومالية وجرها نحو اتخاذ قرارات ستؤدي إلى انهيار جدار العلاقات المهترئة بين الدولتين، لكن سياسة ضبط الأعصاب التي تمارسها مقديشو أتت بنتائج إيجابية عبر بيانات اتسمت بخطاب سياسي دبلوماسي هادئ ومتوازن.
• الصراع المصري-الإثيوبي: أدى التزامن بين تولي إثيوبيا قيادة بعثة أميصوم من جهة، وتولي مصر قيادة الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي من جهة ثانية، مع بقاء الخلاف المصري-الإثيوبي حول حصص مياه النيل من جهة ثالثة، إلى زيادة المخاوف بشأن هذه الاعتبارات المتشابكة والمتعارضة بين مصالح مصر ومصالح إثيوبيا؛ الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى أن يبحث الطرفان عن مصالحهما الخاصة بمعزل عن المصالح الصومالية الأمنية، وبالتالي إلى تراجع الدور الأمني لقوات (أميصوم) في الصومال. وهذا النزاع الخفي بين القاهرة وأديس أبابا في الساحة الصومالية سيعرقل جهود القوات الإفريقية هناك، فمصر التي ترأس القيادة الإفريقية حاليًّا لا تقدر على اتخاذ قرارات لوحدها بشأن أمن الصومال ما لم تنسق مع الطرف الإثيوبي الذي يتزعم رئاسة البعثة الإفريقية في مقديشو(11).
• التحالفات الإقليمية والتدخل الخارجي: تعد سياسات الدول المانحة للصومال وتلك التي توفر الدعم الإنساني للمتضررين من الأزمات الإنسانية فيه مدخلًا للتدخل الخارجي، فدول عربية وخليجية لها تأثير قوي في السياسة الصومالية وخاصة بعد الأزمة الخليجية منتصف عام 2017، اعتبرت الصومال جزءًا من محور قطري-تركي، ولكن مكانة السياسة السعودية بشأن الصومال لم تتزعزع كثيرًا بقدر ما تضررت العلاقات الدبلوماسية بين الصومال والإمارات، رغم بقاء مقر سفارتها وبعثتها الدبلوماسية في مقديشو، لكن التحالفات الإقليمية الجديدة وخاصة "كيان دول البحر الأحمر وخليج عدن"، سيجعل الصومال في غرفة اختبار حقيقية لمستقبله السياسي، فضلًا عن المتغيرات الجيوسياسية التي شهدها القرن الإفريقي منذ وصول أبي أحمد إلى سدة الحكم.
القبيلة والأحزاب السياسية: من سيرسم مستقبل الصومال؟
كان لوجهاء القبائل وأعيان العشائر السلطة المحورية في تشكيل نواب البرلمان، كما كان التقسيم العشائري حاضرًا في تقاسم المناصب السيادية والحقائب الوزارية في الصومال، لكن تلك الهيمنة خفَّت وتيرتها في انتخابات عام 2017 التي شارك فيها نحو 14 ألف مقترع صومالي في مدن مختلفة بالبلاد، أي توسيع رقعة المشاركين في العملية الانتخابية على عكس انتخابات 2012 التي شارك فيها رجال القبائل الذين كان عددهم 135 شخصًا، لانتخاب نواب البرلمان وإقرار الدستور الصومالي، ومن المتوقع أن تتوسع القاعدة الانتخابية في الدورة المقبلة وأن يصل عدد الناخبين إلى نحو أكثر من مليونين وخمسمئة ألف ناخب؛ ما يوحي بأن زمن العشائرية في رسم معالم الانتخابات أشرف على نهايته(12).
ومما يقلِّل أيضًا حظوظ القبيلة في المشاركة في العملية الانتخابية المقبلة، نظام الانتخابات وفق القوائم المغلقة الذي لا يتيح للناخب معرفة قبائل المترشحين في الكتلة الحزبية التي سيصوِّت لها، على خلافات انتخابات 2017 التي كان المقترعون يصوتون لمرشحين يعرفون قبائلهم. كل تلك المعطيات الراهنة ستعزز فرص الأحزاب السياسية في رسم معالم مستقبل الصومال السياسي رغم أن غول القبيلة ليس من السهل التخلص به في ظرف زمني قليل في مجتمع قبلي بالدرجة الأولى.
خلاصة
في نهاية المطاف، تعد الانتخابات الرئاسية المقبلة بالنسبة للصومال نقطة عبور نحو الدولة المؤسساتية والخروج إلى بر الأمان، وهو ما يتطلع إليه الصوماليون الذين يتوقون لنظام سياسي مستقر ودولة صومالية رشيدة تقف على مسافة واحدة من مكونات المجتمع، لكن ما يخشاه المراقبون أن ينقلب المشهد السياسي والأمني رأسًا على عقب، وحذرت الأمم المتحدة من فشل يقوض جهود المجتمع الدولي، حيث ارتفعت وتيرة الهجمات في النصف الأول من عام 2019، بحسب تقرير الأمم المتحدة الأخير. ومع كل التحذيرات والتحديات تكمن هناك سيناريوهات حول مآلات الوضع السياسي الراهن في البلاد.
الأول: انعقاد الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد وهو الأقل ممكنًا، وهو مطلب سياسي محلي رغم التحديات التي ستكون مبررًا قويًّا لعدم تنظيم انتخابات رئاسية.
الثاني: تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية إلى شهور لدواع فنية من قبل اللجنة المستقلة للانتخابات، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا في أوساط المحللين والمراقبين.
الثالث: تمديد فترة الرئاسة الحالية لسنة كأقصى تقدير أو سنتين على الأكثر، وهو أمر مرفوض، وهو الأقل توقعًا، نظرًا للنهج السياسي للحكومة الصومالية الذي يتسم بالصرامة في حسم بعض المسائل الخلافية، ويمكن أن يكون هذا السيناريو من بين السيناريوهات المحتملة في فترة ستكون بلا شك كشد الحبل من كافة القوى والأقطاب السياسية في البلاد.
_______________________________
*الشافعي ابتدون، كاتب وباحث صومالي في شؤون القرن الإفريقي.
1- الحكومة الصومالية تصادق على مشروع قانون الانتخابات، وكالة الأناضول، 2 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2019):https://bit.ly/2X5MX5K
2 - حزب ودجر يعارض مسودة قانون الانتخابات، راديو الرسالة، 3 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 3 يونيو/حزيران 2019):
https://radiorisaala.com/xisbiga-wadajir-oo-ka-horyimid-sharciga-doorashooyinka-ee-la-ansixiyey/
3 - ثلاث ولايات إقليمية صومالية تقاطع قانوني الانتخابات والأحزاب، الصومال الجديد، 4 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 3 يونيو/حزيران 2019):https://bit.ly/2wpSSno
4 - انظر مسودة قانون الانتخابات، وزارة الداخلية الصومالية الفيدرالية، تاريخ النشر 2018، ص 31.
5 - الرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، يرفض تمديد فترة ولاية رئيس جلمدغ، جروي أون لاين، 16 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 5 يونيو/حزيران 2019): https://www.garoweonline.com/index.php/so/news/somalia/farmaajo-oo-shaaciyey-sababta-ay-df-muddo-kororsi-uga-diiday-xaaf
6 - اعتُمدت هذه القاعدة (4.5) في مؤتمر جيبوتي، عام 2000، وتعني أن 4 كتل عشائرية كبيرة، هي: هوية در، ودارود، ودغل، ومرفلي، تحصل على نسب متساوية من الحصص (61X4=244)، بينما الكتلة الخامسة تحصل على نصف حصة (31) التي هي عبارة عن تجمع للأقليات التي لا تنتمي للكتل الأربعة الكبري.
7 - ثغرات في مشروع قانون الانتخاب الصومالي الجديد، مركز الصومال للبحوث ودراسة السياسات، 29 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 7 يونيو/حزيران 2019):https://bit.ly/2ZppaLJ
8 - مرجع سابق، مسودة قانون الانتخابات.
9 - انظر قانون الأحزاب السياسية الصومالية، ص 3.
10 - حوار مع عبد القادر عثمان، رئيس حزب كلن (السابق) ورئيس حزب هلدور، مقديشو، 30 مايو/ أيار 2019.
11 - القيادة الإثيوبية للأميصوم في الصومال بين تعزيز الأمن وانتماءات المصالح، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، 12 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 8 يونيو/حزيران 2019):https://bit.ly/2WuZLOM
12 - رئيس الصومال: اختيار برلمان جديد في أغسطس، وكالة رويترز، 4 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 9 يونيو/حزيران 2019):https://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKCN0YQ0IO