شمال مالي: بؤرة للتوتر العرقي-القبلي في لبوس سياسي

يشرح ولد أبو المعالي الباحث المتخصص في قضايا الحركات الجهادية بالساحل في هذا التقرير جوانب من تعقيدات المشهد الأمني في أزواد، ويفسر طبيعة الهجمات المسلحة التي حدثت مؤخرا وكيف يمكن فهمها في سياق التحالفات والتحالفات المضادة بين المكونات الاجتماعية في الإقليم وبين اللاعبين العسكريين.
201511992659569580_20.jpg
مع تعقد خريطة التوترات والنزاعات في إقليم أزواد، ومع تصاعد حدة العنف هناك، يبدو أن منطقة الساحل مقبلة على استمرار أزمة شمال مالي وتعثر المفاوضات الساعية إلى حل تلك الأزمة (الجزيرة)
ملخص
لا تقتصر الأطراف المتصارعة في شمال مالي على الجيش المالي في مواجهة الحركات الجهادية المسلحة  بل إن هنالك دعما فرنسيا عسكريا بشريا ولوجستيا لحكومة باماكو فضلا عن مشاركة التشكيلات القبلية في إقليم أزواد كل من موقعه في هذه الحرب التي طال عليها الأمد. وقد عرف إقليم أزواد مؤخرا أحداث متلاحقة وهجومات متواصلة استهدفت الجيش المالي ولم يعلن حتى الآن أي طرف عن تبنيها، ويأتي هذا التقرير ليشرح أسباب تلك الهجمات ومن يمكن أن يقف وراءها فضلا عن تحليل جوانب من تعقيدات المشهد الأمني في الساحل وتعدد اللاعبين العسكريين والقبليين في هذا الفضاء المتأزم. والواقع أن هنالك ارتباطا وثيقا بين مكونات إقليم أزواد الاجتماعية وبين الأطراف المسلحة سواء أكانت الجيش المالي أو الجماعات الجهادية، فقد انقسمت هذه المكونات كل بحسب مصالحه وارتباطاته وحساباته على مختلف اللاعبين المتصارعين مما عقّد الوضع وجعل أغلب القراءات التي لا تأخذ هذا البعد المتداخل بين المعطى الاجتماعي وجهات الصراع المسلحة قراءات ينقصها العمق التحليلي والنظرة الشمولية. ولعل تكاثر هذه الدوائر المتصارعة والمتداخلة هو ما جعل أغلب المبادرات الساعية إلى مصالحة أطراف في شمال مالي وعلى رأسها المفاوضات التي تقودها الجزائر لا تعطي نتيجة بل إنها تفشل في أغلب الأحيان ليعود الإقليم من جديد إلى الصراع والاقتتال.

عودة الهجمات المسلحة إلى شمال جمهورية مالي وتقدمها بشكل نوعي ومتسارع نحو وسط البلاد وجنوبها، وتزامنها مع توسع رقعة التوتر العرقي في البلاد، والذي أخذ بُعدًا خطيرًا إثر تصاعد حدة الصراع بين بعض القوميات الإفريقية في البلد، كما حصل بين "البمبارا" وقبائل "الفُلّان"، إضافة إلى التوترات التقليدية بين قوميات العرب والطوارق والسونغاي والبمبارا، تشكِّل كلها واجهة لشبكة صراعات معقدة ومتجذرة في المنطقة. ويأتي تنوع وتعدد العمليات العسكرية في كل أرجاء شمال البلاد وغربها، رغم انتشار القوات الفرنسية والإفريقية هناك بشكل كبير، ليطرح أكثر من سؤال عن نتائج الحرب الفرنسية الإفريقية على الجماعات الجهادية المسلحة في المنطقة، والتي بدأت قبل سنتين من الآن، وإعلان فرنسا أكثر من مرة أنها تمكنت من تحييد تلك الجماعات، وشلّ قدراتها بشكل شبه نهائي، بل سبق وأن أعلنت وزارة الدفاع الفرنسية في يوليو/تموز 2014 عن نجاح العملية الأولى المسماة "سرفال" في مهمتها المتمثلة في طرد الجماعات الجهادية من شمال مالي وكسر شوكتها، والانتقال للمرحلة الثانية من الحرب المسماة عملية "بارخان"، التي ستخصص لاستئصال تلك الجماعات نهائيًّا وتطهير المنطقة منها، وبدأت العيون الفرنسية تشخص نحو الجنوب الليبي باعتباره الحديقة الخلفية لتلك الجماعات، والموئل الذي لجأت إليه بعد طردها المفترض من شمال مالي، كما يروّج لذلك الساسة وصناع القرار في باريس، مع الشروع في التحضير عمليًّا لغزو الجنوب الليبي، عبر إقامة قاعدة "ماداما" العسكرية في شمال النيجر قرب الحدود مع ليبيا.

رغم "سرفال" و"بارخان": الجهاديون حاضرون

بعد سنتين من انطلاق حرب تطهير منطقة أزواد في شمال مالي من الجهاديين، تأتي الهجمات الخاطفة التي قام بها عشرات المسلحين على بلدة "نامبلا" قرب الحدود مع موريتانيا في أقصى الغرب، والتي استهدفت معسكرًا للجيش المالي، وأسفرت عن قتل عدد من الجنود واختطاف آخرين ومصادرة كميات من الأسلحة والذخيرة. ثم تأتي بعد ذلك عملية اجتياح أخرى خاطفة وسريعة نفذتها نفس المجموعة المسلحة على بلدة "تننغو" بولاية "موبتي" في الوسط الغربي من مالي، في وقت كان فيه والي الولاية موجودًا في القرية محاطًا بتعزيزات أمنية كبيرة، وقد نجا بأعجوبة من الوقوع في قبضة المهاجمين، كل ذلك يأتي بالتزامن مع هجمات متكررة ومتلاحقة استهدفت قوات حفظ السلام الدولية في مالي (المنيسما) في منطقة أزواد، وأدت إلى مقتل عدد من الجنود النيجريين والسنغاليين والتشاديين، وقد تركزت تلك الهجمات في مدن وبلدات متفرقة من بينها "أسنغو" و"منيكا" و"بوريم" و"كيدال" و"آغلهوك" وغيرها، وهي الهجمات التي تبناها تنظيم "المرابطون" بقيادة الجزائري المختار بلمختار الملقب "بلعور"، إضافة إلى "جماعة أنصار الدين"، وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي.

كل هذه الأحداث المتلاحقة تطرح أكثر من استفسار عن حقيقة العمليات الفرنسية، ونتائج الانتصارات التي تباهت بها فرنسا وأعلنت عنها أكثر من مرة، وما هو مصير التنظيمات الجهادية في المنطقة بعد سنتين من المواجهة المفتوحة مع القوات الفرنسية والإفريقية، وكيف تمكنت تلك التنظيمات من التأقلم سريعًا مع الوضع الجديد بعد مقتل عدد من قادتها وعناصرها البارزين في العمليات التي نفذتها القوات الفرنسية، وواصلت أنشطتها وهجماتها بوتيرة متصاعدة ومتنوعة، تراوحت بين الهجمات بالعبوات الناسفة والقصف بالصواريخ والعمليات الانتحارية.

وتبقى عمليات اجتياح القرى والمدن التي يعسكر فيها الجيش المالي غرب البلاد، من قِبل مسلحين مجهولين حتى الآن، وقتل واختطاف عدد من الجنود الماليين، الحدث الأبرز في مالي منذ مطلع العام الحالي، ويعكس بجلاء مدى هشاشة المنظومة العسكرية والأمنية المالية، وعدم قدرتها حتى الآن على حماية المناطق التي بحوزتها، بل وأكثر من ذلك تكشف عن مدى انهيار الروح المعنوية بشكل غير مسبوق لعناصر هذه المؤسسة؛ إذ يصر الجنود الماليون على الفرار وتفادي المواجهة مع تلك الجماعات كلما اقتربت من نقاط تمركزهم.

من هم المهاجمون المجهولون؟

ورغم أن أي جهة لم تتبنَّ حتى الآن بشكل صريح الهجمات الخاطفة على تلك القرى والقواعد العسكرية والسيطرة المؤقتة عليها، إلا أن المصادر الميدانية تؤكد أن المسلحين الذي نفذوا الهجمات كانوا يحملون شعارات جهادية ويهتفون بالتكبير، الأمر الذي يرجِّح حصر أصابع الاتهام بين ثلاثة فصائل جهادية تنشط في المنطقة هي: تنظيم "المرابطون" بقيادة الجزائري المختار بلمختار، والمؤلَّف من اتحاد جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وجماعة "الملثمون"، إضافة إلى إمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، بقيادة الجزائري جمال عكاشة المكنى "يحيى أبو الهمام"، وتنظيم جماعة "أنصار الدين" بقيادة الطارقي إياد أغ غالي المكنى "أبو الفضل".

فبالنسبة لفرضية مسؤولية جماعة "المرابطون" عن تلك العمليات، يمكن الاعتماد في هذا السياق على مؤشرات عديدة، منها: تهديد الجماعة بالانتقام لمقتل قائدها العسكري عبد الرحمن ولد العامر المكنى "أحمد التلمسي" في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول 2014 قرب مدينة غاوا على يد القوات الفرنسية بمشاركة الجيش المالي، ويعرف عن "التلمسي" أنه أحد أشهر قادة الجهاديين في المنطقة وأكثرهم غموضًا وشراسة، وكان يقود "كتيبة أسامة بن لادن" في جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، قبل أن يتولى منصب أمير الجماعة، وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى حين حُلّ التنظيم في أغسطس/آب عام 2013 واندماجه مع جماعة "الملثمون" في تنظيم واحد هو "المرابطون". كما أنه هو المسؤول عن عدد من عمليات الاختطاف في المنطقة، بينها اختطاف سبعة دبلوماسيين جزائريين في مدينة غاوا بداية شهر إبريل/نيسان 2012، وقتل أحدهم لاحقًا. وفي هذا الإطار يمكن تسجيل ملاحظة مهمة تعزِّز هذا الاحتمال، وهي اتهام جماعة "المرابطون" -في بيان رسمي لها صدر قبل الهجوم على قاعدة "نامبلا" العسكرية بساعات- القوات المالية بالضلوع في عملية اغتيال القائد العسكري "أحمد التلمسي"، والتعهد بالثأر له. كما أن حديث شهود العيان عن استخدام المهاجمين للدراجات النارية في العملية، يعزز القول بمسؤولية أبناء المنطقة الشرقية من إقليم أزواد المنتمين لجماعة "المرابطون" عن تلك العمليات؛ حيث درج مقاتلوها على استخدام الدراجات النارية المنتشرة في المناطق الشرقية من أزواد، أكثر من انتشارها في المناطق الغربية؛ نظرًا لأن تضاريس المناطق الشرقية من أزواد تتوزع أساسًا بين الغابات والجبال ويسهل استخدام الدراجات النارية فيها، بينما تنتشر الكثبان الرملية الوعرة في القسم الغربي من أزواد.

غير أن احتمال مسؤولية هذا التنظيم (المرابطون) عن الهجومَيْن اللذين وقعا في المنطقة الغربية الشمالية من مالي، لا تدعمه معطيات الجغرافيا؛ إذ من المعلوم أن مقاتلي التنظيم ينتشرون في المنطقة الشرقية من إقليم أزواد شمال مالي، والتي تقع بين مدن غاوا ومنيكا وأسنغو قرب الحدود مع النيجر، وهي المنطقة التي كانت تقع تحت سيطرتهم إبان استيلاء الجماعات المسلحة على الإقليم سنة 2013، ويعود ذلك إلى أن جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا التي كانت نواة لجماعة "المرابطون"، تأسست على بُعدٍ قبلي ومحلي هناك، حيث ينتمي أغلب عناصرها المؤسسين إلى قبائل "عرب تلمسي" المقيمين في الناحية الشرقية، وقبائل "الفُلّان" الإفريقية التي تنتشر قراها على ضفاف نهر النيجر، بينما كانت جماعة "الملثمون" -المكوّن الثاني لتنظيم "المرابطون"- والمؤلّفة من خليط من الجزائريين والماليين وجنسيات مختلفة، حليفة لجماعة التوحيد والجهاد خلال حرب السيطرة على الإقليم، وشريكة لها في السيطرة على المنطقة.

أما الاحتمال الثاني الذي يرجِّح فرضية مسؤولية تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، فتعززه معطيات عديدة، منها: أن الهجمات وقعت في المنطقة الغربية حيث تنشط كتائب إمارة الصحراء التابعة للتنظيم، وبالتحديد "كتيبة الفرقان" التي يقودها "عبد الرحمن الموريتاني" المكنى "طلحة"، ويتخذ عناصر هذه الكتيبة من غابة "وقادو" قرب قاعدة "نامبلا" العسكرية التي تعرضت للهجوم، معقلًا لهم على بُعد 25 كلم من الحدود مع موريتانيا.

أما الحديث عن احتمال مسؤولية "جماعة أنصار الدين" عن الهجمات، فتتنازعه عوامل التأكيد والتشكيك، حيث تتخذ "جماعة أنصار الدين" الجهادية المحلية من الجيش المالي عدوًّا لها، ويبقى هدفًا مفضلًا لها أينما كان، كما أنها تملك رصيدًا من الأنصار في المناطق الشمالية الغربية من مالي بعد مبايعة عدد من زعماء قبائل "الفلان" المقيمين هناك لزعيم التنظيم "إياد أغ غالي"، غير أن تنظيم "أنصار الدين" درج في السابق على التمسك بالمحلية، وتجنب أي نشاط خارج حدود إقليم أزواد، فضلًا عن أن منطقة نشاطه التي تعوّد على التحرك فيها وتنفيذ عمليات داخلها، توجد في أقصى شرق البلاد، وبالتحديد في منطقة أدرار الإفوغاس على الحدود مع النيجر والجزائر، تاركًا باقي المناطق لحليفيه "المرابطون" والقاعدة.

وإذا ما تأكدت مسؤولية التنظيمات الجهادية عن تلك الهجمات ذات الفاعل المجهول حتى الآن، فإنه يمكن القول: إن رسائل عديدة وواضحة سعت تلك التنظيمات إلى إرسالها من وراء تلك العمليات؛ أولاها: أن الضربات التي تلقتها على يد القوات الفرنسية والإفريقية ومقتل عدد من قادتها العسكريين ونشطائها الميدانيين لم يقضِ على قدراتها أو يشل تحركاتها. أما الرسالة الثانية فهي موجهة للفرنسيين ودول المنطقة التي دعت للتدخل في ليبيا، ومفاد هذه الرسالة أنه لا داعي للذهاب إلى جنوب أو شرق ليبيا لمحاربة التنظيمات الجهادية هناك، فهي ما تزال موجودة في شمال مالي، وقادرة على الضرب بقوة وبعدد كبير من المقاتلين في منطقة تتوغل كثيرًا نحو الجنوب إلى حد الخروج عن الحدود التقليدية لما يُعرف بمنطقة أزواد التي كانت مسرحًا لنشاطاتها وتحركاتها في السنوات الماضية. ويبقى الاحتمال المرجح لمسؤولية تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي عن الهجمات الأكثر إقناعًا، ويجد ظهيرًا له في مسار الأحداث في المنطقة منذ اندلاع الحرب الفرنسية الإفريقية ضد الجماعات المسلحة بداية عام 2013، ومعطيات الجغرافيا حيث دأبت هذه الجماعات على احترام التقسيم الجغرافي لمناطق نفوذها السابقة في نشاطاتها العسكرية، وهو توزيع يعتمد التقسيم الإداري التقليدي للمنطقة، فقد كرست جماعة أنصار الدين عملياتها في "كيدال" و"أجلهوك" و"أدرار الإفوغاس"، وهي كلها مناطق تتبع لولاية كيدال، وركزت جماعة "المرابطون" هجماتها على منطقة "غاوا" و"منيكا" و"أسنغو" و"بوريم"، وكلها تابعة لولاية غاوا، بينما كانت "تمبكتو" و"بير" و"غندام" والمناطق المحاذية لها حتى الحدود الموريتانية مسرحًا لهجمات وعمليات إمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وتتبع هذه المناطق لولاية تمبكتو.

"قبليون" برايات جهادية

وتبقى احتمالات أخرى بشأن الهجمات ضد الجيش المالي مطروحة بقوة، وتتعلق بالتشابك العرقي والاحتكاكات القبلية في المنطقة، إذ من غير المستبعد أن تكون تلك الهجمات ذات بُعد عرقي، قد يقف وراءها مقاتلون من قبائل "الفُلّان" الإفريقية التي طالما شكت -بوصفها أقلية عرقية في مالي- من التهميش والغبن والظلم، من طرف قبائل "البمبارا" التي تسيطر على مقاليد الحكم في البلاد منذ استقلالها عن فرنسا بداية ستينات القرن الماضي. وهنا لابد من التذكير بأن الهجومين الأخيرين الغامضين وقعا في منطقة انتشار قرى قبائل "الفلان"، واستهدفا القوات المالية التي ترابط في تلك القرى، وفي هذا السياق يمكن القول: إن رفع رايات الجهاديين والتكبير من طرف المهاجمين إنما كان للتمويه فقط؛ لإعطاء الانطباع بمسؤولية الجهاديين عن تلك العمليات.

وكانت الحكومة المالية قد اتهمت أكثر من مرة قبائل "الفلان" بالانضمام إلى حركتي التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وجماعة أنصار الدين سنة 2012، خلال فترة سيطرة تلك الجماعات على إقليم أزواد، في حين تتهم قبائل "الفلان" القوات المالية بارتكاب مذابح عرقية ضد تجمعاتهم السكانية مطلع عام 2013، خصوصًا في مدن وقرى "كونا" و"موبتي" و"جبالي" جنوب إقليم أزواد، وذلك عشية اندلاع الحرب ضد الجماعات الجهادية.

ويبدو أن الحكومة المالية ترجِّح فرضية تحالف قبائل "الفلان" مع الجهاديين لضرب قواتها؛ لذلك سارعت إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى بعض التجمعات السكانية الخاصة بقبائل "الفلان" لتأديبهم وقمعهم، وقد داهمت هذه القوات عددًا من القرى من بينها قرية "ديدي" التي يقيم فيها أحدُ أبرز شيوخ "الفلان" ويُدعى "الشيخ سيلا"، وهو ما أدى إلى حالة استنفار واحتقان في صفوف قبائل "الفلان" في قراهم المنتشرة على ضفاف نهر النيجر، والذين سارعوا إلى حشد وتجميع المقاتلين والتعبئة العامة في أوساطهم؛ استعدادًا للمواجهة مع القوات المالية.

رحيل زعيمين وصراعات على التهريب

وبالتوازي مع العمليات الخاطفة ذات المصدر المجهول، والهجمات التي تبنتها التنظيمات الجهادية ضد قوات المنيسما والقوات المالية، والصدامات مع قبائل الفلان الإفريقية، تشهد منطقة أزواد في الشمال المالي تطورات غير مسبوقة؛ حيث تتزامن هذه الأحداث مع رحيل شيخين قبليين تقليديين كانا يشكلان عمود فقري الحالة القلبية في المنطقة، وهما: "انتالا أغ الطاهر" شيخ شيوخ قبائل "الإفوغاس" الطارقية، والمعروف بأمير "أدرار الإفوغاس"، والشيخ "باب ولد الشيخ سيدي المختار" شيخ شيوخ قبائل "كنتة" العربية، وقد عمدت تلك القبائل إلى اختيار كل من "محمد أغ انتالا" خليفة لوالده "انتالا أغ الطاهر"، و"محمد الأمين ولد باب" الملقّب "ميني" خليفة لوالده "باب ولد الشيخ سيدي المختار". غير أن العارفين بالمنطقة وخارطتها الديمغرافية والاجتماعية، يؤكدون أن فجوة رحيل الشيخين التقليديين ستترك بصماتها على الوضع في أزواد، وعلى الاستقرار الداخلي فيه؛ فالزعيم الجديد لقبائل الإفوغاس الطارقية "محمد أغ انتالا" عضو في البرلمان المالي، فضلًا عن كونه شقيق زعيم حركة المجلس الأعلى لوحدة أزواد "العباس أغ انتالا" الذي يقود تمردًا عسكريًّا وسياسيًّا ضد الحكومة المالية، ومطلوب للقضاء المالي، وكان أحد قادة جماعة "أنصار الدين" الجهادية ورئيس وفدها المفاوض، كما أنه مقرّب من زعيمها "إياد أغ أغالي" المطلوب دوليًّا بتهمة الإرهاب. أما زعيم قبائل كنتة الجديد "محمد الأمين ولد الشيخ سيدي المختار" فهو من المحسوبين على الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تقاتل ضد القوات المالية؛ من أجل استقلال إقليم أزواد. وقد تم تنصيب الزعيمين الجديدين في مراسيم شهدتها مدينتا "كيدال" و"أنفيف"، وبحضور قادة حركات التمرد الأزوادية وغياب أي تمثيل للحكومة المالية، وهو ما يتوقع أن يرفع من وتيرة الاحتقان بين تلك القبائل، وبعض القبائل الأزوادية الأخرى الموالية للحكومة المالية، كقبائل "الإيمغاد" الطارقية وبعض قبائل "عرب تلمسي".

كما أن القبائل العربية في شمالي مالي تعيش هي الأخرى حاليًا أسوأ فترات صراعاتها البينية، حيث تتبادل بعض قبائل "البرابيش" العربية، خصوصًا "أولاد إدريس" و"أولاد غنام"، الإغارة وعمليات الخطف والقتل والنهب، مع بعض قبائل "عرب تلمسي" من "الأمهار" و"التوابر"، وهو ما كانت بلدات "بير" و"زرهو" و"إينكيلا" و"القصبا" في شمال مالي مسرحًا له، حيث شهدت هذه التجمعات السكانية خلال الأسابيع الماضية هجمات متبادلة بين القبائل استهدفت المصالح التجارية والتنموية، وتم خلالها قتل بعض المسلحين من الطرفين، ونهب الكثير من المحلات التجارية، واختطاف عدد من الأشخاص ما زالوا رهن الاحتجاز. وتحشد المجموعتان القبليتان قواتهما حاليًا استعدادًا للمواجهة، وتحتفظ كلّ منهما بعدد من الرهائن لديها من القبيلة الأخرى. ورغم مساعي قوات حفظ السلام الدولية لنزع فتيل الصراع القبلي، وقيام بعض الوساطات المحلية التي يقودها شيوخ ووجهاء محليون، إلا أن الطرفين ما زالا يصران على المواجهة ورفض الإفراج عن المختطفين.

كما شهدت الأشهر الماضية مواجهات عنيفة بين قبيلة "أولاد إعيش" وقبيلة "أولاد إدريس" العربيتين في بلدة "الأرْنَب" قرب الحدود مع موريتانيا، سقط فيها عدد من القتلى والجرحى، كما اشتبكت قبائل "الأمهار" العربية المتحالفة مع قبائل "الإيمغاد" الطارقية الموالية لمالي، مع قبائل "مشظوف" و"كنتة" العربيتين المتحالفتين مع قبائل "إيدنان" الطارقية المنتمية للحركة الوطنية، في بلدة "تبنكورت" وسط إقليم أزواد. كما اندلع قتال عنيف الشهر الماضي بين قبائل "إيمغاد جنوب النهر" في منطقة أربندا قرب الحدود مع بوركينا فاسو، المنخرطين في الحركة الوطنية لتحرير أزواد، مع قبائل "إيمغاد شمال النهر"، المنخرطين في تنظيم مسلح يسمى "حركة الدفاع الذاتي" ويُعرف اختصارًا باسم "غاتيا"، وهو تنظيم يدين بالولاء للحكومة المالية، ويواصل الطرفان حاليًا استعداداتهما وحشد قواتهما للمواجهة العسكرية من جديد. كما تعيش المنطقة على وقع تطورات صراع تقليدي متجدد بين قبائل الإفوغاس، وقبائل الإيمغاد الطارقيتين، وهو صراع تعود أصوله إلى تسعينات القرن الماضي.

وتأخذ هذه الصراعات القبلية المتشعبة لَبُوسًا سياسيًّا في بعض الأحيان، حيث تتهم قبائل "أولاد إدريس" و"أولاد غنام"، وبعض قبائل الطوارق من "الإفوغاس" و"الإيدنان"، خصومهم القبليين من "أولاد إعيش" و"التوابر" و"الأمهار" و"الإيمغاد" بموالاة الحكومة المالية والسعي لمعاقبة القبائل المتمردة عليها. غير أن المراقبين يؤكدون أن خلفية تلك المواجهات تعود في الأساس إلى عداوات سابقة بين تلك القبائل، وتنافسها على طرق التهريب والتجارة في الصحراء.

ومع تعقد خريطة التوترات والنزاعات في الشمال المالي، وتصاعد حدة العنف هناك، تتعثر مفاوضات السلام في الجزائر بين الماليين وقادة الحركات الانفصالية الأزوادية، وذلك بعد عدة جولات في نهاية العام المنصرم؛ حيث توصلت إلى مقترح معدّل من الوسطاء لم يحظ حتى الآن بقبول كافة الأطراف المتنازعة، وهو ما يهدِّد بعودة الاقتتال من جديد بين الحركات المتمردة والقوات المالية، الأمر الذي قد ينسف كل جهود التسوية المعمول بها هناك.
____________________________________
محمد محمود ولد أبو المعالي - باحث متخصص في قضايا الحركات الجهادية.

ABOUT THE AUTHOR