تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحديات اقتصادية كثيرة وتداعيات اجتماعية عديدة، نتيجة التراجع الحاد والمتواصل في أسعار النفط العالمية، لاسيما منذ منتصف العام 2015؛ ما يجعل دول الخليج العربية تعيش لحظة تاريخية فارقة من المنظور الاستراتيجي الواسع لمفهوم الأمن.
وقد ترتَّب على هذه التطورات الدراماتيكية، تحول واضح في لغة الخطاب الرسمي الخليجي، حيث علت في مضمونه ومفرداته الإشارة إلى البُعد الاقتصادي والمالي كمرتكزات ذات أولوية متقدمة في استراتيجية الأمن الوطني لدول الخليج.
وعلى الرغم من الأهمية المتزايدة التي أصبحت توليها دول الخليج العربية لأمنها الاقتصادي، فإنه لا توجد ثمة شواهد عملية تؤشِّر إلى تراجع في أولوية الأمن العسكري التقليدي في الأجندة الخليجية الرسمية، بل العكس هو الصحيح تمامًا.
والمرجَّح، هو اتجاه دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة ضبط أولويات اهتماماتها الأمنية، بحيث تحافظ على صدارة الأمن التقليدي من جهة، وتولي مزيدًا من الاهتمام للبُعد الاقتصادي لأمنها الوطني والجماعي من جهة أخرى.
مقدمة
يشكِّل التراجع الحاد والمتواصل في أسعار النفط العالمية، منذ منتصف العام الماضي 2015، لحظة فارقة بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، من المنظور الاستراتيجي الواسع لمفهوم الأمن.
فقد ترتب على هذه التطورات الدراماتيكية، تحول واضح في لغة الخطاب الرسمي لدول الخليج، والذي عَلَتْ في مضمونه ومفرداته بشكل واضح، الإشارةُ إلى البُعد الاقتصادي والمالي كمرتكزات ذات أولوية متقدمة في استراتيجية الأمن الوطني لدول الخليج العربية.
واللافت هو أن الحديث عن الأمن الاقتصادي الخليجي والتنويه عن التداعيات الكارثية لتراجع أسعار النفط، أصبح يتصدر خطاب القادة السياسيين في دول الخليج.
في ضوء ذلك، يُثار التساؤل حول ما إذا كان هذا التطور يؤشِّر لتحول نوعي في طبيعة تحديات الأمن الخليجي خلال السنوات القادمة؛ من القضايا الاستراتيجية العسكرية إلى الملفات الاقتصادية المالية، أم أن دول مجلس التعاون الخليجي باتت تتجه نحو إعادة صياغة وترتيب أولويات أمنها الوطني على نحو يواكب التطورات الراهنة دون أن يؤثِّر "جذريًّا" على تحدياتها الأمنية التقليدية القائمة منذ تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981؟
وانطلاقًا من ذلك، يجتهد الباحث في هذه الورقة في تحليل طبيعة التطورات في ظل أزمة انخفاض أسعار النفط عالميًّا، مع محاولة الكشف عن التداعيات الناشئة عنها على تلك الدول، وصولًا إلى استشراف مآلاتها الاستراتيجية في ظل التوترات الإقليمية التي تشهدها المنطقة في الوقت الحالي.
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة تراجع أسعار النفط
أخذت أسعار النفط العالمية في التراجع الحاد بشكل غير مسبوق منذ النصف الثاني من العام 2014، وبلغ هبوط أسعار منتجات الطاقة مداه في الأشهر الأخيرة؛ حيث بلغ متوسط سعر برميل النفط 34 دولارًا في ختام تعاملات يناير/كانون الثاني 2016، مقارنة بـ 115 دولارًا للبرميل الواحد في نهاية يونيو/حزيران 2014.
ويدلُّ ذلك على أن أسعار النفط فقدت ما يزيد عن 70% من قيمتها في أقل من عامين، في أسوأ أزمة تشهدها أسواق "الذهب الأسود" عالميًّا منذ أكثر من 20 عامًا.
تعددت التحليلات التي سيقت لمحاولة تفسير هذا التراجع الكارثي في مستويات أسعار النفط(1)، والتي تَمَثَّل أهمها في فائض الإنتاج الذي بلغ مستويات مرتفعة جدًّا، وكذلك رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران بعد توقيعها الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 (الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانيا) في يوليو/ تموز 2015، مما أسهم في عودتها بقوة إلى الأسواق العالمية؛ حيث زادت طهران صادراتها النفطية بما يقارب 500 ألف برميل يوميًّا بدءًا من يناير/كانون الثاني 2015، على أن تصل هذه الزيادة إلى مليون برميل يوميًّا خلال العام 2016(2).
وقد أصبح الأمر شبه المؤكد هو صعوبة العودة السريعة لأسعار النفط لما كانت عليه قبل أغسطس/آب 2014؛ بل إن هناك شبه إجماع من قِبل المؤسسات والمنظمات المعنية بالشأن النفطي العالمي، على أن متوسط الأسعار سيبقى في حدود الـ 40 دولارًا أميركيًّا خلال العام 2016، وأن التحسن المعقول لن يبدأ قبل الربع الأول من العام 2017؛ حيث ترجِّح منظمة "أوبك" أن يصل متوسط سعر برميل النفط في عام 2017 إلى نحو 50 دولارًا أميركيًّا(3).
حرب نفطية باردة
تشير التطورات داخل أسواق النفط العالمية، إلى ملاحظة جديرة بالاهتمام تتمثَّل في أن أسعار النفط بدأت تبدو وكأنها خرجت عن الإطار الاقتصادي التقني البحت، وفقًا لمتطلبات معادلة العرض والطَّلب، وبدأت تتداخل بقوة مع التوترات الجيوستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، بحيث بات النفط يُستخدَم كورقة ضغط من جانب بعض القوى الإقليمية النفطية ضد قوى إقليمية كبرى ذات ثقل ونفوذ في المنطقة، بحيث أصبح المشهد أشبه ما يكون بحرب نفطية باردة مستعرة على خلفية النزاعات الإقليمية في ساحات ساخنة، كما في سوريا واليمن والعراق ولبنان.
ويبدو ذلك واضحًا من رفض إيران للاتفاق الذي توصلت إليه كل من السعودية وقطر وفنزويلا -الأعضاء في "أوبك"- وروسيا –الدولة غير العضو في منظمة أوبك-، إثر اجتماع وزاري في العاصمة القطرية الدوحة، في 16 فبراير/شباط 2016، والقاضي بتثبيت إنتاجها النفطي عند مستويات شهر يناير/كانون الثاني 2016 لإعادة الاستقرار لأسعار النفط المتهاوية؛ حيث وصف وزير النفط الإيراني، بيجن زنك، الاتفاق بأنه "مثير للضحك"؛ لأنه لا يسمح لطهران باستعادة الحصة السوقية التي خسرتها أثناء فرض العقوبات الدولية عليها(4).
ويبدو الموقف الايراني متناقضًا بالنظر إلى موقف طهران حتى الأمس القريب؛ حيث كانت ترى أن انخفاض أسعار النفط، قبل سنوات، لا يرجع لعوامل اقتصادية، ولكنَّه "مؤامرة ضد اقتصادات دول العالم الإسلامي"(5).
وفي مؤشر آخر يؤكد المنافسة الإيرانية المحتملة للنفط الخليجي، أقدمت طهران على "خفض الأسعار" لتوسيع حصتها في السوق النفطية وجذب عدد أكبر من الزبائن على حساب كبار المنتجين الآخرين وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية.
ومن ثَمَّ، خرقت طهران جميع التقاليد والأعراف التسويقية المتبعة، وقامت بخفض سعر نفطها ما بين 10 سنتات إلى 20 سنتًا عن الخام السعودي في شحنات فبراير/شباط ومارس/آذار 2016(6).
لقد أكَّدت القيادة السياسية في أكثر من دولة خليجية حرصها على أن تكون الإجراءات التصحيحية للاقتصاد والميزانيات العامة حازمة، لكن دون المساس بمستوى الرفاه الذي اعتاد عليه المواطنون؛ ومن ذلك على سبيل المثال، تشديد أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، على الحكومة خلال ترؤسه اجتماعًا لمجلس الوزراء مطلع عام 2016، قائلًا: إن" مسؤوليتكم في ظلِّ انخفاض أسعار النفط أكبر، ولكن خدمة المواطنين وطريقة عيشهم يجب ألا تتأثر بهذه الأوضاع"(9).
كذلك، أكَّد أمير دولة الكويت، الشيخ صباح الأحمد، على أن إجراءات الترشيد الاقتصادي يتواكب معها "تأكيد الحفاظ على الحياة الكريمة للمواطنين وعدم المساس بمتطلباتهم المعيشية الأساسية"(10). وفي هذا السياق أيضًا يأتي تصريح الشيخ جابر المبارك، رئيس مجلس الوزراء الكويتي، بأن "سياسة التقشف (بسبب أزمة انخفاض أسعار النفط) لن تمس محدودي الدخل أو الحاجات الأساسية للأسرة"(11).
أثر انخفاض أسعار النفط على ميزانيات وخطط الدفاع الخليجية
ليس ثمة مؤشرات -حتى الآن- تدل على أن انخفاض أسعار النفط سيدفع دول الخليج العربية إلى تقليص إنفاقها على الأمن بمعناه العسكري التقليدي، بما في ذلك صفقات التسليح، وخطط وبرامج التدريب، والميزانيات الدفاعية وغيرها.
بل على العكس من ذلك، فقد أكَّد الخطاب الرسمي الخليجي على استمرار أولوية الأمن الدفاعي التقليدي رغم كافة التحديات الاقتصادية والمالية التي تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي في الأشهر الأخيرة. في هذا الإطار يأتي تأكيد رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ جابر المبارك على أن "أمن الوطن والدفاع عنه وضمان سلامته واستقراره لا تعلوه غاية أو التزامات أخرى"، وشدَّد على أن" الدولة لا تدَّخر وسعًا في دعم ومساندة أجهزة الداخلية والدفاع والحرس الوطني لتوفير جميع وسائل الردع والدفاع والحماية؛ حيث يمثِّل ذلك أولوية مهما كانت الأعباء والالتزامات"(12).
وثمة شواهد عملية واضحة تؤكد أن الأمن العسكري سيظل يشغل بؤرة اهتمام السياسات الخليجية، الوطنية والجماعية. وربما تجد هذه الاستمرارية تفسيرها فيما تحتمه المعطيات الموضوعية في بنية البيئة الأمنية الاستراتيجية في المنطقة وطبيعة موازين القوى فيها، إضافة إلى الأزمات والتحديات المُحدِقة بالإقليم والتي تهدد -بشكل مباشر وغير مباشر- أمن دول مجلس التعاون الخليجي واستقرارها.
ولعله يكفي في هذا المقام أن نشير إلى الأزمات في كلٍّ من سوريا واليمن والعراق ولبنان، وجميعها تتشابك فيها مصالح القوى العالمية الكبرى مع أطماع بعض القوى الإقليمية وسعيها الحثيث لبسط نفوذها وسيطرتها على المنطقة، ناهيك عن تعاظم خطر الإرهاب العابر للحدود.
التحديات الاقتصادية الجديدة وإعادة ترتيب أولويات الأمن الخليجي
ليس أدل على عظم التحديات التي أصبح من المُتعين على دول الخليج أن تواجهها، اقتصاديًّا واجتماعيًّا بسبب أزمة أسعار النفط الراهنة، مما عنون به أحد أشهر محللي صحيفة المال والأعمال ذائعة الصيت عالميًّا "فايننشال تايمز"، أحد مقالاته "نهاية قوة البترودولار"(18).
وقد أدَّت التحديات الاقتصادية المطَّردة التي باتت تواجهها دول الخليج العربية في ضوء التراجع المستمر في أسعار النفط، إلى إعادة ترتيب أولويات أجندة الأمن الخليجي، بما يواكب التطورات المحتملة في الحاضر والمستقبل.
ومن ثم، أصبح الأمن الاقتصادي بمعناه الشامل متعدد الأبعاد، يشغل مكانة متقدمة في أجندة الاهتمام الخليجي الرسمي. ولذلك؛ لم يكن مستغربًا أن يُسلِّط خطاب القيادة السياسية في دول الخليج الضوء بشكلٍ ملحوظ وبتفصيل غير مسبوق -منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي- على أهمية البُعد الاقتصادي للأمن الوطني بمختلف روافده.
وفي هذا الخصوص، أكَّد أمير دولة الكويت، الشيخ صباح الأحمد، أن الدولة مطالَبة "بالبدء بمعالجات وخطوات اقتصادية وبرامج تهدف إلى الترشيد وخفض بنود الميزانية لمعالجة النقص في الموارد المالية"، بل ووجَّه إلى ترشيد مصروفات الديوان الأميري(19).
وبالتوازي مع ذلك، بادر العديد من دول الخليج إلى اتخاذ خطوات عملية ملموسة لجهة إدخال إصلاحات بنيوية في هيكل اقتصادها الوطني.
فقد أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة عن تحرير أسعار الوقود منذ يونيو/حزيران 2015، وأكَّدت عزمها رفع الدعم عن منتجات وخدمات أخرى كالكهرباء، والأمر نفسه فعلته مملكة البحرين.
وأعلنت الحكومة السعودية، إجراء تعديل على أسعار الطاقة والمياه والكهرباء والصرف الصحي، بما يتوافق مع الأسعار العالمية، وذلك بشكل تدرُّجي خلال السنوات الخمس المقبلة. كما قررت فرض رسوم سنوية على الأراضي الخالية المخصصة للبناء السكني أو التجاري "المعروفة بالأراضي البيضاء"، بنسبة 2.5?، بهدف استغلال هذه الأراضي والاستثمار فيها.
وفي الكويت، أعلنت الحكومة عزمها اتخاذ عدة تدابير لتقليص النفقات العامة، وفي هذا الإطار أعلن نائب رئيس الوزراء ووزير المالية ووزير النفط بالوكالة، أنس الصالح، أن الحكومة تناقش مع مجلس الأمة 20 إجراءً لتقنين الإنفاق الحكومي وترشيد الهدر، ومن بين هذه الاجراءات المقترحة: تخفيض مخصصات العلاج بالخارج، وزيادة إيجارات أملاك الدولة، وتطبيق قانون الضريبة، وتعديل أسعار البنزين والكهرباء والمياه وفق نظام الشرائح(20). وبادر القطاع الخاص ممثَّلًا في غرفة تجارة وصناعة الكويت إلى تقديم رؤية مكتوبة للإصلاح المالي واالتنموي في ضوء انخفاض أسعار النفط.
ورغم أهمية هذه الإجراءات في الحدِّ من عجز الموازنات العامة لدول الخليج، لاسيما في السنوات الخمس المقبلة، إلا أنها لن تكون كافية على المدى البعيد. فعلى سبيل المثال، سيوفِّر تقليص دول الخليج للدعم على أسعار الوقود ما يعادل 7 مليارات دولار أميركي في 2016، أي أقل من 1% من ناتجها المحلي السنوي، في حين يعادل العجز المتوقع في موازنات العام الجاري 2016 نحو 12.4% من هذا الناتج(21).
وبالتالي، فإنه يجدر بدول الخليج القيام بعملية إصلاح اقتصادي ومالي شاملة تتضمن إعادة هيكلة جذرية لِبِنْيَة الاقتصادات الخليجية، لتحويلها من اقتصادات ريعية أحادية مصدر الدخل، لتصبح اقتصادات متنوعة مصادر الدخل وتركِّز على قطاعات إنتاجية غير نفطية.
خاتمة
بالرغم من عظم التحديات التي تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي نتيجة التراجع القياسي لأسعار النفط، فإن أمامها فرصة مواتية لإصلاح هياكلها الاقتصادية قبل فوات الأوان، بحيث تُحوِّل هذه المحنة العارضة إلى منحة دائمة بتنويع مصادر دخلها الوطني وتقليل الاعتماد على الذهب الأسود الذي يبدو أن بريقه آخذ في التلاشي.