سياسات التفاوض الأميركي في غزة.. كسب الوقت وهيمنة إسرائيل في الإقليم

استراتيجية التفاوض الأميركية بشأن غزة، تضع مسألة غزة في مرتبة ثانوية وتعتبر أن المسألة الأهم والأكثر إلحاحا هي التصعيد الإقليمي، مع ثبات موقفها من حركة حماس، وتعتبرها مصدر تهديد قائم بذاته.
25 August 2024
عدم ضغط واشنطن على نتنياهو ليقبل مبادرة الرئيس بايدن، عطّل المبادرة وأطلق يد "إسرائيل" لترتكب المزيد من المجازر بغزة (الأناضول).

مقدمة

إذا ما سلمنا أن لدى الولايات المتحدة الأميركية مخاوف حقيقية من توسع نطاق المواجهة العسكرية في غزة إلى نطاق إقليمي، فإن أسوأ توقعات واشنطن أصبح على شفا التحقق. فقد أعلنت الإدارة الأميركية مبكرا تحذيرها للأطراف الإقليمية، قاصدة إيران وحزب الله اللبناني، من التدخل في الحرب الدائرة في غزة. وكان هذا التحذير مشفوعا باستقدام حاملة الطائرات الأميركية "جيرالد فور" وملحقاتها إلى شرق المتوسط في رسالة ردع صريحة لهذه الأطراف.

على خط مواز، انخرطت الدبلوماسية الأميركية في عملية لم تتوقف من أجل التوصل إلى مخارج يمكنها الحد من تفاقم المواجهة الدائرة في قطاع غزة، ومنع تصاعد الحرب المنضبطة في شمال فلسطين بين حزب الله اللبناني و"إسرائيل"، فضلا عن وقف عمليات "أنصار الله" الحوثيين في اليمن و"المقاومة الإسلامية" في العراق.  إلا أن هذه الجهود لم تفلح في منع اتساع رقعة التصعيد وصولا إلى حافة الحرب الإقليمية، حيث تدحرجت المعركة في قطاع غزة إلى مستوى خطير من التصعيد بفعل إقدام "إسرائيل" على اغتيال كل من فواد شكر، الموصوف بأنه رئيس أركان حزب الله، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، على التوالي بفارق ست ساعات ليلة 31 يوليو/تموز الماضي (2024).

لقد وضعت هذه التطورات إقليم الشرق الأوسط والعالم أمام احتمال تفجر حرب إقليمية مدمرة ذات أبعاد دولية. إذ أعلنت إيران وحزب الله نيتهما المؤكدة للرد على عمليتي الاغتيال المذكورتين، (وقد رد حزب الله بالفعل لاحقا في 25 أغسطس/آب 2024)، مما يعني أن قدرة واشنطن على إبقاء الصراع محصورا في قطاع غزة، أصبحت محل شك كبير، وهو ما أعاد تحريك الدبلوماسية الأميركية للتعامل مع هذا التطور النوعي انطلاقا من التوصل إلى اتفاق ما بشأن الصراع في غزة، وهو ما سيؤدي (وفق المنطق الأميركي) إلى كسر حلقة التصعيد الإقليمي ومنح "إسرائيل" انتصارا تنتزعه من بين أنياب هزيمة وشيكة على هذا الصعيد.

كانت الدبلوماسية قد غابت عن المشهد في غزة منذ أن قبلت حركة حماس في الثاني من يوليو/تموز الماضي مبادرة الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، وبقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735(1)، في حين وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شروطا جديدة للقبول بمبادرة الرئيس بايدن. وهو ما عطّل المبادرة، وترك يد "إسرائيل" طليقة في قطاع غزة لترتكب المزيد من المجازر وعمليات التهجير، ومنحها قدرة أكبر على مناكفة الإدارة الأميركية وبالذات فيما يتعلق بالمسعى الأميركي للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة وصفقة لتبادل للأسرى.

 تتناول هذه المقالة أولا موقف الولايات المتحدة الأميركية من حركة حماس ومحور المقاومة، وهو الذي يشكل أساس تحركاتها وموقفها من الحرب برمتها منذ عملية "طوفان الأقصى". ثم تبحث في مدى تماسك ومنطقية الفرضيات الأميركية في المفاوضات، باعتبارها مدخلا لوضع حد لإمكانية التصعيد الإقليمي. ولاحقا تقف الورقة عند أهداف الإدارة الأميركية من الاستمرار في "لعبة المفاوضات"، وتنتهي بالتوقعات والسيناريوهات التي يمكن أن يأخذها مسارَا التفاوض والتصعيد.  

حماس في عين الاستراتيجية الإقليمية لواشنطن

تعمد الحكومة الإسرائيلية في كل جولة تفاوض، وتحديدا رئيسها نتنياهو، إلى إضافة شروط ومطالب جديدة سرعان ما يتم تبنيها من قبل الإدارة الأميركية، الأمر الذي يضع واشنطن في موضع الخصم التفاوضي وليس الوسيط. هذا الموقف يجد جذوره في التقييم الأميركي الأمني الاستراتيجي لتحديات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية مثلما عبر عنه بوضوح تقرير "مجتمع الاستخبارات الأميركي" الصادر في فبراير/شباط 2024(2). يرى التقرير أن حركة حماس هي أحد مصادر التهديد للأمن القومي الأميركي ولموقع الولايات المتحدة الأميركية المتفوق عالميا. فقد جاء في مقدمة التقرير أن النظام العالمي سيكون على امتداد السنوات القادمة هشًّا، وسيشهد تحديات عابرة للقوميات، وصراعات إقليمية متعددة لها ارتدادات بعيدة المدى. وإلى جانب التحديات التي تمثلها كل من الصين وروسيا، يضيف التقرير، أن بعض القوى الإقليمية مثل "إيران، وبعض القوى غير الدولاتية صاحبة القدرة، تتحدى القواعد الراسخة للنظام الدولي والموقع المتفوق للولايات المتحدة فيه".

وفق هذا التقييم فإن موقف الولايات المتحدة من العدوان على غزة، والاستراتيجية التفاوضية التي تسير وفقها، مستمدّان من مقدمتين راسختين ومترابطتين: الأولى، هي أن حركة حماس تمثل تهديدا صريحا للموقع المتفوق للولايات المتحدة من خلال تحديها للهيمنة "الإسرائيلية" المتعاظمة في الإقليم، وبخاصة لما تعنيه عملية "طوفان الأقصى" استراتيجيا على مستوى ضرب قدرات الردع الإسرائيلي ومعها السعي الأميركي لإيجاد بيئة مواتية استراتيجيا للنفوذ الإسرائيلي من خلال اتفاقيات التطبيع العربي الإسرائيلي. استنادا إلى ذلك فإن واشنطن متفقة تماما مع "إسرائيل" على هدف هزيمة حركة حماس، أو على الأقل تقويضها إلى الحد الذي لا تعود فيه تشكل تهديدا لإسرائيل، وتفقد قدرتها على أداء أيّ أدوار سياسية أو حكومية في قطاع غزة والضفة الغربية، فيما تسميه أميركا "اليوم التالي للحرب". الثانية، هي أن التعامل مع حركة حماس ينطلق من كونها تدور في فلك المصالح الإيرانية، والسعي الإيراني لزعزعة النظام الدولي. تجلت هذه الثنائية في الموقف الأميركي الراهن من التصعيد الإقليمي الذي أوجدته "إسرائيل". فواشنطن تريد للمفاوضات المتعلقة بغزة أن تشكل مدخلا لا غنى عنه لاحتواء إيران، ومنعها من تغيير معادلة التصعيد لصالحها، وتسعى لفك عرى الترابط بين التصعيد الذي تقوم به قوى "محور المقاومة" مدعومة من إيران، وبين الصراع الدائر في قطاع غزة.

يأتي هذا التقييم الاستخباري الأخير، في ظل نقاش أميركي في الوسط السياسي والأمني وفي الأوساط الأكاديمية، مستمر منذ أكثر من عقد من الزمن حول الاستراتيجية المثلى للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. فالحديث عن انسحاب أميركا من الإقليم، أو تراجع الإقليم في سلّم أولوياتها، عكس ذلك التدهور الملحوظ في نفوذها في المنطقة، وهو الأمر الذي سمح ببروز قوى إقليمية تسعى لإنشاء تحالفاتها والدفاع عن مصالحها. وليس ذلك بالضرورة من خلال واشنطن التي بدأت في هذه السنوات تحويل معظم اهتمامها ومواردها نحو ما سماه الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما "التحول نحو آسيا"(3)، إلا أن هذا التحول لم يعن أبدا تخلي الولايات المتحدة عن مصالحها وأدوارها في الشرق الأوسط، بقدر ما عنى إعادة ترتيب أولوياتها، وتكييف استراتيجيتها في الإقليم تبعا لتعقيدات حلبة السياسة الدولية، وهو ما تشهد عليه سياسات كل من الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن.  فبهدف التركيز على مواجهة تحدي الصعود الصيني والسياسات الهجومية لروسيا، دفعت واشنطن باتجاه إنشاء وتعزيز حلف إقليمي يدافع عن مصالحها، وتقع في قلب هذا الحلف اتفاقيات التطبيع العربي الإسرائيلي المعروفة باسم الاتفاقيات الإبراهيمية(4). بدت هذه الاتفاقيات بالنسبة لواشنطن بمثابة الترياق الذي سيعالج التحديات الإقليمية، ويُرسي خريطة جيوسياسية تشكل خط حماية لمصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة أمام تقلبات النظام الدولي، وأمام صعود إيران كقوة إقليمية.

تعمدت هذه الاستراتيجية تجاهل المسألة الفلسطينية، وإحالتها إلى نوع من الضجيج الخافت الذي يمكن تدبره، فمنحت "إسرائيل" فرصة تاريخية لتصعيد "سياساتها العدوانية" بحق الفلسطينيين على كل الأصعدة، منطلقة من اعتقاد أنه لم يعد هناك ما يحول دون سحق إرادة الفلسطينيين وحقوقهم. فقد أعلن بنيامين نتانياهو على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022، أنه "لم يعد بوسع الفلسطينيين وضع فيتو على السلام مع العرب وفي المنطقة". وعاد إلى ذات المنبر عام 2023 قبل عملية طوفان الأقصى بأقل من شهر ليعلن أنه لا يوجد شيء اسمه فلسطين حاملا خريطة فلسطين وقد لوّنها باللون الأزرق ليضيف أن هذه هي "إسرائيل"، "هكذا كانت عام 1948 وهي كذلك اليوم وستبقى كذلك للأبد(5)".

تلقت هذه الاستراتيجية الأميركية ومعها غرور القوة الذي منحته لإسرائيل، ضربة في الصميم بفعل عملية "طوفان الأقصى"، التي أسقطت ما بدا كأنه ترسيم لمكانة تل أبيب وجعلها في موقع "المهيمن" في الإقليم على رأس تحالف يضمن التفوق الأميركي.

بالعودة إلى مخاوف تقرير الاستخبارات الأميركية عام 2022، تبدو عملية حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وكأنها تمثل كل التهديدات الاستراتيجية مجتمعة لاستمرار الهيمنة الأميركية. ففي سياق التدليل على تقييمه للأخطار، يقول التقرير إن الأزمات الإقليمية ووجود قوى "دون الدولة" متمكنة، يمكن أن تكون لها ارتدادات وامتدادات عالمية، ويؤكد ذلك بقوله: "ما عليك إلا النظر إلى أزمة غزة التي أطلقها لاعب "إرهابي غير دولتي" صاحب قدرات وهو حماس، تحركه جزئيا إيران صاحبة الطموح الإقليمي، وتفاقمه سردية تشجعها الصين وروسيا لتقويض مكانة الولايات المتحدة الأميركية على الساحة الدولية"(6).

من هذا المنظور، فإن استراتيجية التفاوض الأميركية بشأن غزة، تضع مسألة غزة في مرتبة ثانوية بالنسبة للمسألة الأهم وهي التصعيد الإقليمي، مع ثبات موقفها بالنظر إلى حركة حماس كمصدر تهديد قائم بذاته. وهي استراتيجية توجهها رؤية عالمية، تريد واشنطن من خلالها استعادة زمام الأمور في الإقليم، باعتبار أن ذلك شرط ضروري يمكّن الإدارة الأميركية من التصدي للنفوذ الصيني المتسع في الإقليم، وكذلك لاحتواء التغيرات الناشئة عن تحسن علاقات إيران الإقليمية وتقاربها مع روسيا. بهذا المعنى فإن الصراع الإقليمي الآخذ في الاتساع والتصاعد، يتطلب اهتمام وتدخل الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بقدر ما لهذا الصراع من تأثير في مكانتها الدولية واستقرار الإقليم، وليس لأنه ذو صلة بما رسمته الاستراتيجية الأساس لواشنطن، وسعت من خلالها لإعادة تشكيل الإقليم على حساب الفلسطينيين. وفي ذات الوقت فإن واشنطن تسعى لتحقيق هدفها المشترك مع "إسرائيل"، وهو هزيمة حركة حماس وإخراجها من المشهد الفلسطيني والمعادلة الإقليمية، وهو ما سيقود أيضا لإضعاف إيران وما يعرف باسم "محور المقاومة".

هذه هي المعادلة العصية على التحقق التي تواجه الجهد التفاوضي الراهن لواشنطن. فهي تهدف إلى التوصل إلى ما يوصف "بصفقة تبادل" بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل" لمنع التصعيد الإقليمي، وتحويل هذه الأزمة إلى فرصة للعودة إلى توسيع اتفاقيات التطبيع العربي الإسرائيلي، وبالتالي استكمال بناء التحالف الإقليمي الذي تسعى إليه واشنطن.

الفرضيات المؤسسة لمقاربة واشنطن التفاوضية

انطلاقا من الاستراتيجية الأميركية ومقتضياتها، يمكن القول إن ثمة ثلاث فرضيات أميركية توجه السلوك التفاوضي لواشنطن للخروج من أخطار اتساع الصراع إقليميا، في أعقاب اغتيال كل من فؤاد شكر وإسماعيل هنية، وتكفل تحقيق نتائج تخدم مصالح واشنطن وحلفائها.

الفرضية الأولى: أن التوصل إلى اتفاق ما بشأن الصراع في غزة، من شأنه أن يؤدي إلى كسر حلقة التصعيد الإقليمي ويمنح إسرائيل "انتصارا" بهذا الاعتبار. إذ تربط الإدارة الأميركية بين المفاوضات للتوصل إلى وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة، وبين ثني كل من إيران وحزب الله عن رد واسع على عمليتي الاغتيال، باعتبار أن نجاح هذه المفاوضات يشكل حافزا للامتناع عن الرد أو القيام برد محدود، مما يعني أن الكلمة الأخيرة في مستوى التصعيد ستكون لإسرائيل.

الفرضية الثانية: أن الانتشار العسكري الأميركي في الإقليم، وإعلان أميركا الواضح أنها ستدافع عن إسرائيل، سيرسل رسالة ردع صريحة إلى كل من إيران وحزب الله، ويجعل كلًّا منهما يعيد النظر في حجم ونوعية رده على اغتيال شكر وهنية، ولم يخرج رد حزب الله الأخير حتى اللحظة عن هذا السياق. وإذا كان هذا التهديد له منحى دفاعي لا هجومي، فإنه ينطوي على إصرار أميركي على استعادة توازن التصعيد الذي كان قائما قبل عملية طوفان الأقصى، وقبل قيام حزب الله بمساندة المقاومة الفلسطينية عبر تصعيده العسكري في شمال فلسطين، وقبل الهجوم الذي شنته إيران في شهر إبريل/نيسان 2024، ردا على العدوان الإسرائيلي على قنصلية طهران في دمشق وعمق تآكل الردع الإسرائيلي. وقد شاركت في التصدي للرد الإيراني حينها واشنطن ودول غربية وأوروبية، كما تصدت دول عربية للصواريخ والمسيّرات الإيرانية في مجالها الجوي.

الفرضية الثالثة: أن بوسع واشنطن تكرار حشد تحالف إبريل/نيسان الذي تصدى للرد الإيراني، والذي سيكون بمثابة حجر الأساس لبناء ما سماه حينها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، حلفا دفاعيا إقليميا في مواجهة التهديد الإيراني(7). في هذا الإطار يبدو أن الهم الأول للإدارة الأميركية لا يتعلق بقطاع غزة، بل بإعادة تشكيل الإقليم انطلاقا من اتفاق بشأن حرب غزة، بما يمهد الأرضية اللازمة لاستئناف مسار التطبيع العربي الإسرائيلي، وإنشاء حلف أمني عسكري بقيادة "إسرائيل" للتصدي لما يسمّى الخطر الإيراني.

تنطوي هذه الفرضيات على تناقضات ومغالطات يصعب معها التوفيق بينها كلها من جهة، وبين احتمالات التوصل إلى نهاية ناجحة لجولات التفاوض التي تقودها الإدارة الأميركية، وبخاصة في نسختها المرتبطة بالتصعيد الأخير بعد عمليات الاغتيال الأخيرة في طهران وضاحية بيروت.

إن الربط الأميركي بين التوصل إلى اتفاق هدنة أو وقف إطلاق النار في غزة وبين منع الانزلاق إلى حرب إقليمية مع احتمالات جدية بانجرار واشنطن إليها، وإن كان لا يعكس مصلحة أميركية أكيدة بوقف العدوان على غزة، فإنه مصمم لشراء الوقت، وتقديم مبرر أو سلّم نزول، لحزب الله وإيران لكي "يعقلنا" ردهما. وفي نفس الوقت فإن مظاهر الردع العسكري الأميركي الحاضر في الإقليم يربك بشكل جلي حسابات إيران وحلفائها ويدفعها إلى التفكير مليا فيما يمكن أن يترتب على تدهور التصعيد نحو مواجهة مع واشنطن.

لكن من الواضح حتى الآن أن هذا التكتيك لا يأتي بنتائج موثوق بها، فحزب الله رد "ردا أوليا" على اغتيال شكر، ولا يزال يحافظ على وتيرة عملياته المتصاعدة. أما طهران وإن أبدت قبولها تأجيل الرد لمنح فرصة للتوصل إلى وقف العدوان على غزة، وأعلنت قبولها ما تقبله حركة حماس، فإنها أيضا تصرّ على مبدأ الرد، وتترك يد حلفائها طليقة في التصعيد، وترى أن مجريات الأحداث التي تربط مواجهتها مع إسرائيل بملف غزة، ستمنحها ميزة استراتيجية.

بهذا المعنى فإن من أهم النتائج غير المقصودة للمقاربة الأميركية، أنها منحت لحزب الله ولإيران صوتا وحضورا في ملف غزة، وقبلت ضمنيا أن على "إسرائيل" التفاوض تحت نيران حزب الله، وفي مواجهة رد إيراني مرتقب.

وبينما تسعى واشنطن إلى استعادة "إسرائيل" لقوة الردع، تبدو إسرائيل هي المرتدعة في انتظارها للرد، وفي اعتمادها على الوجود العسكري الأميركي لحماية نفسها. وهذا يجعلها أكثر انكشافا أمام ضغط الإدارة الأميركية لحملها على قبول وقف إطلاق النار في غزة، لكن مع حرص واشنطن على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه لصالح تل أبيب، وبما يمنع تدحرج التصعيد نحو حرب إقليمية. وهذا يستدعي بالمنطق الأميركي مراكمة ضغط إقليمي على إيران وحزب الله من جهة، وعلى حركة حماس من جهة أخرى لكي تذعن للشروط المتجددة لإسرائيل وبالتالي التوصل إلى صفقة يمكن أن تنهي الحرب في غزة، وتوفر ظروف تعاون إقليمي يمكّن إسرائيل من التصدي لأي هجوم إيراني عليها ولا سيما إذا كان مثل ما وقع في إبريل/نيسان الماضي.

لكن حسابات القوى الإقليمية ليست بالضرورة هي ذات الحسابات التي كانت قائمة في إبريل/نيسان. فقد ظهرت علامات التردد والنأي بالنفس عن مثل هذا التحالف خشية اندلاع حرب إقليمية ستكون مدمرة ولا أحد يمكن أن يتوقع مآلاتها. إذ أعلنت مصر أنها لن تكون طرفا في هذا الصراع، وبادر الأردن إلى التحرك الدبلوماسي العاجل على الخط الإيراني بغية استجلاء الموقف في طهران، وكي تترك عمان لنفسها مخرجا من مأزق التصعيد الذي يمكن أن يطيح باستقرارها. بل إن توسع العدوان الإسرائيلي قد يقدم فرصة للحكومة الفاشية في "إسرائيل" لتقوم بعملية تطهير عرقي واسع النطاق ضد الفلسطينيين، فيغرق الأردن باللاجئين الفلسطينيين مع كل ما يترتب على ذلك من تداعيات يصعب حصرها. كما أن كلًّا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لم تبد أيّ حماسة للانضمام إلى هذا التحالف، وهما اللتان رفضتا سابقا الانضمام إلى حلف "حارس الازدهار" ضد الحوثيين في اليمن، ولم تساهما في التصدي للرد الإيراني في إبريل/نيسان.

وفي سياق هذه الحسابات، فإن ورقة الحافز لإسرائيل المتمثلة في استئناف مسار التطبيع مع المملكة العربية السعودية، التي يمكن أن تستخدمها واشنطن لحمل نتنياهو على قبول اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، لم تعد مؤكدة، وبخاصة بعد أن تكشفت استراتيجية نتنياهو من خلال خطابه أمام الكونغرس الأميركي في 24 يوليو/تموز 2024، الذي أعلن فيه بثقة أن دولا عربية عديدة من بينها تلك التي تربطها بإسرائيل علاقات تطبيع ستكون جزءا من حلف إقليمي يتصدى لإيران وحلفائها.

في هذا المشهد المركب، تجد إدارة بايدن نفسها أمام تحدٍّ ساهمت هي في إيجاده أصلًا، وترى أن عليها تدوير الزوايا الحادة لأبعاد الموقف الإقليمي الراهن، حيث تنتظرها التناقضات العميقة في منطلقاتها السياسية التي صنعتها هي، إضافة إلى حساباتها ذات العلاقة بتعزيز حظوظ مرشحتها كامالا هاريس للفوز في انتخابات الرئاسة المقبلة. كما أن الحزب الجمهوري يتربص بهذه الإدارة لينقضّ عليها عند أي تراجع في دعمها للحكومة الإسرائيلية، ليستغله في تقويض حظوظ المرشحة الديمقراطية في الفوز بالانتخابات.

وقد جاء التحرك الأميركي الأخير عبر بيان مشترك مع الوسيطين المصري والقطري في الثامن من يوليو/تموز 2024(8) وبشكل عاجل يعلن العودة السريعة إلى التفاوض للتوصل "إلى وقف لإطلاق النار وإنجاز صفقة تبادل" استنادا إلى مبادئ إعلان بايدن، أي الذي أعلنه في نهاية مايو/أيار المنصرم، وعلى أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735 الذي تبنى تلك المبادئ.

لكن بعد أقل من أسبوعين من التفاوض في العاصمة القطرية الدوحة، وانتقالا إلى القاهرة، وفي ظل عدم قبول حركة حماس المشاركة في هذه المفاوضات باعتبارها انقلابا على مبادئ بايدن وعلى قرار مجلس الأمن الدولي، تحققت مخاوف الحركة من أن الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية تسعيان لفرض اتفاق جديد يشطب كلّيًّا الخطة التي قدمها الرئيس بايدن. وقد تأكد هذا الاستنتاج للحركة بإعلان وزير الخارجة الأميركية بلينكن أن "إسرائيل" قد قبلت ما سماه مقترح "سد الفجوات" وأن على حماس الآن قبوله، من دون النظر حتى إلى الحد الأدنى من مطالب الحركة واعتباراتها.

هذا الموقف الأميركي الأخير تفسره الأهداف التي تريد واشنطن تحقيقها من وراء هذه الجولة التفاوضية، المتمثلة بالآتي:

أولا: تبرئة ساحة رئيس الحكومة الإسرائيلية من إفشال كل جولات التفاوض السابقة والحالية، أو على الأقل عدم إدانته أو تحميله مسؤولية فشلها، بالرغم من أنه هو الطرف الذي دأب على إضافة شروط جديدة لكل جولة تفاوض، وأقدم على خطوات أفشلت احتمالات التوصل إلى اتفاق في مطلع مايو/أيار، ومطلع يوليو/تموز 2024، بعدما قبلت المقاومة الفلسطينية في المناسبتين المقترحات التي كانت على الطاولة آنذاك. وفي مقابل ذلك تصر الإدارة الأميركية على تحميل حركة حماس مسؤولية الفشل، مكرسة بذلك قدرة نتنياهو على تحويل شروطه إلى مواقف أميركية، مستغلا حاجة واشنطن إلى حصر التصعيد، وكي لا تقع مسؤولية انفجار الإقليم على كاهل "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية. لكن نتنياهو لا يفكر أو يتصرف بذات المنطق الذي تفكر به إدارة بايدن، ألا وهو تفادي صراع إقليمي.

ثانيا: تأجيل أو منع اتساع رقعة المواجهة والصراع والحؤول دون تحوله إلى صراع مفتوح يقود إلى حرب إقليمية يمكن أن تتورط فيها واشنطن. في هذا السياق تستمر واشنطن في الضغط على إيران وأطراف المقاومة بالوسائل الدبلوماسية، والتهديدات العسكرية والاقتصادية والسياسية، كي لا ترد هذه القوى على عمليات الاغتيال التي قامت بها إسرائيل، أو لكي تؤجلها إلى أمد يفقدها مشروعيتها، أو لتكون في حدها الأدنى. لكنها في المقابل لا تستخدم نفوذها وقدرتها للحد من سلوك بنيامين نتنياهو و"إسرائيل"، وبالذات لوقف حمام الدم المستمر في قطاع غزة.

من هذه الزاوية أصبح من الواضح أن ما تريده واشنطن ليس منع التصعيد، بل تصعيد محسوب وتحت سيطرتها، بما يكفل لها و"لإسرائيل" استعادة الهيمنة في التصعيد والردع إقليميا، ارتباطا بهدف واشنطن الأساس المتمثل بترسيخ معادلة جيوسياسية مستقرة للمصالح الأميركية. من الواضح أن نتنياهو يفهم ذلك بطريقته على أنه قبول أميركي بكل ما يمكن أن يطرحه من شروط وتعقيدات من شأنها أن تحول المفاوضات إلى إملاءات استسلام على المقاومة الفلسطينية. في هذا السياق فإن ما تقوم به واشنطن هو محض ضجيج لشراء الوقت، بغض النظر عن سياسات "إسرائيل" في قطاع غزة. فمنذ بداية جهود الوساطة للتوصل إلى وقف العدوان على غزة في شهر مايو/أيار الماضي تعمدت الإدارة الأميركية عدم الإعلان عن فشل المفاوضات أو انتهائها، بل ذهبت إلى بث التفاؤل بقرب التوصل إلى اتفاق، واستنفرت مبعوثيها إلى المنطقة مما يوحي بأن ثمة ما يمكن التوافق حوله، لتنتهي كل هذه المحاولات عند قبول واشنطن بالفهم الإسرائيلي الخاص، وبتجنب طرح المسائل الكبرى ذات الصلة بسياسات "إسرائيل" وبحقوق الشعب الفلسطيني.

ثالثا: عدم السماح لحركة حماس بتحقيق أية إنجازات سياسية أو ميدانية ولو على مستوى الوضع الإنساني في قطاع غزة، من خلال إدارة واشنطن لاستراتيجية التفاوض من أجل التفاوض من دون مخرجات. وهو ما جربته الإدارات الأميركية المتعاقبة في تماهٍ كامل مع "إسرائيل" في مفاوضاتها مع منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث أصبحت عملية التفاوض أهم من مضمونه. فقد أصبحت الإدارة الأميركية و"إسرائيل" على اقتناع بأن استراتيجية التفاوض التي تنتهجها حركة حماس عصية على الاختراق بما أبدته من قدرات ومرونة تكتيكية، وصلابة استراتيجية. ويدرك الطرفان أن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في ظل هذه المعادلة سينسحب لاحقا على أية مفاوضات ذات مغزى سياسي متعلق بقطاع غزة أو الضفة الغربية. كما سيكون لتحقيق أية إنجازات للمقاومة تداعيات استراتيجية في الإقليم، أقلها منح مشروع المقاومة درجة كبيرة من المصداقية بكل ما يعنيه ذلك من تغيير في توازنات الإقليم، فضلًا عما سيلحق بالتوازنات السياسية الفلسطينية الداخلية من تغييرات زلزالية، وتأثير دراماتيكي على المقاومة في الضفة الغربية.

رابعا: تكريس طاولة تفاوض عناصرها الأساسية هي مطالب إسرائيل واعتباراتها الأمنية، وتغييب المسائل الأساسية في الصراع، ومعها تغييب حركات المقاومة الفلسطينية، وحلفائها الإقليميين. وهو ما سيمكنها أيضا من تفتيت قضايا التفاوض بعيدا عن البحث في المسائل الكلية ذات الصلة بانسحاب "إسرائيل" الكامل من القطاع، وإعادة الإعمار، ورفع الحصار، والولاية السياسية والأمنية والإدارية في القطاع ارتباطا بالضفة الغربية ضمن وحدة واحدة.

بدائل أميركية

بسبب السلوك الأميركي الإسرائيلي، لم تشارك حماس في الجولة الأخيرة من التفاوض، وما حدث كان مجرد عملية تفاوض داخلية ونقاش بين إدارة بايدن ونتنياهو على مقترحات سابقة للإدارة الأميركية، وقد سمحت واشنطن لنتنياهو بأن يُدخل شروطا جديدة عليها، ثم طلبت من حماس أن توافق على مشروع لم تكن طرفا فيه. بهذا تكون الإدارة قد استبعدت حركة حماس من التفاوض، فمشاركتها تعني منح شرعية للمماطلة وللقبول المبدئي بالتفاوض انطلاقا من شروط جديدة، وعدم مشاركتها سيجعلها تبدو كمن لا يكترث بمعاناة سكان قطاع غزة. استنادا إلى هذه القراءة فإن واشنطن ستعمل على تحقيق مجموعة من البدائل أو مزيج منها، عوضا عن اتفاق لوقف إطلاق النار وعن تطبيق إعلان بايدن، إعلان مايو/أيار الماضي، وهي:

  • تجزئة القضايا التفاوضية والتوصل إلى تفاهمات محدودة مع مصر والسلطة الفلسطينية بشأن ترتيبات أمنية وعسكرية تتعلق بمحور صلاح الدين (فيلادلفيا) ومعبر رفح، بما يتيح لإسرائيل الاحتفاظ بوجود عسكري مؤقت وأمني دائم لمراقبة المحور والممر وإعادة فتح المعبر من خلال السلطة الفلسطينية بوجود أوروبي. والعمل في ذات الوقت على حل الخلاف بشأن ممر "نتساريم" من خلال قوات "حفظ سلام" عربية دولية تشرف على عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة.
  • حمل حركة حماس عبر مزيد من الجرائم "الإسرائيلية"، وتحت ضغط ما تمارسه "إسرائيل" في القطاع من تغييرات جيوسياسية وعسكرية، على قبول صفقة جزئية تسمح بتبادل للأسرى، وتدفق المساعدات الإنسانية، مقابل استبعاد الحركة من الترتيبات المشار إليها في البديل الأول.
  • تشكيل مكتب اتصال إقليمي دولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لمواصلة عملية تفاوضية ممتدة زمنيا للتوصل إلى ترتيبات لوضع القطاع بعد انتهاء "إسرائيل" من عملياتها العسكرية الرئيسية في القطاع. وهي الفكرة التي قدمتها واشنطن قبل عدة أشهر وقوبلت بردود عربية وإقليمية متفاوتة. وهذا البديل يمنح واشنطن و"إسرائيل" الوقت الكافي لاحتواء التصعيد الإقليمي، ولانتظار انتهاء الانتخابات الأميركية ونهاية العطلة الصيفية للكنيست الإسرائيلي، وهو ما سيمكن الطرفين من اتخاذ قرارات استراتيجية.

خاتمة

لقد كرست إدارة بايدن مسارا تفاوضيا يقوم على مقايضة ثنائية وما يقرب من تبادل أدوار مع "إسرائيل"، يقدم نتنياهو تصوراته وتعديلاته للحل، فتتبنّاه الإدارة الأميركية وتطرحه على الوسطاء لينقلوه إلى حماس، فترفضه الأخيرة لأنه لا يستجيب حتى للحد الأدنى من مطالبها فتطرح تعديلاتها وملاحظتها، عندئذ يرفض نتنياهو المقترح متهما حماس بعرقلة الاتفاق، ومن ثم تتبنى الإدارة الأميركية تفسيرات نتنياهو وتنوب عنه في إعلان قبوله المبدئي، وتترك له إعلان رفضه اللاحق.

إن إدارة بايدن لا يمكنها الاستمرار في التقدم خطوة إلى الأمام والتراجع اثنتين إلى الوراء في ملف غزة، فهي ترزح تحت ضغط اللحظة السياسية الحرجة بعد دخول الانتخابات الرئاسية في أشهر الحسم، وستزداد وطأة عامل الزمن عليها كلما امتدّ عمر الصراع، وتفاقم مسار التصعيد الراهن مع عدم قدرتها على التنبؤ بمساره وأحداثه.

في نهاية المطاف فإن إدارة بايدن إما أن تستمر في السير على أطراف أصابعها وانتهاج سياسات شراء الوقت وتجنب مواجهة نتنياهو وشروطه الجديدة التي تحول دون نجاح المفاوضات، مع كل ما يعنيه ذلك من أخطار التصعيد غير المسيطر عليه، وإما أن تقدم حلولا وبدائل وتستخدم نفوذها لحمل حليفها على الكف عن تعطيل المفاوضات؛ أي أن تعود إلى دور الوسيط القوي عوضا عن دور المحامي المدافع عن "إسرائيل".

ABOUT THE AUTHOR

References
  1. United Nations, Meetings Coverage and Press Releases, 10 June 2024, Accessed 24 August 2024: https://press.un.org/en/2024/sc15723.doc.htm
  2. Office of the Director of National Intelligence, Annual Threat Assessment of the U.S Intelligence Community. Washington DC, Feb 2024. Pp 5-6.
  3. The White House. Fact Sheet: Advancing the Rebalance to Asia and the Pacific. Washington, Nov 2015 https://obamawhitehouse.archives.gov/the-press-office/2015/11/16/fact-s…
  4. موسوعة موقع الجزيرة، اتفاقيات أبراهام: موجة التطبيع العربي مع "إسرائيل". الدوحة، يونيو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 24 أغسطس/آب 2024):  https://shorturl.at/3qZW8
  5. ديوان رئيس الوزراء، كلمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. القدس، 24 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 24 أغسطس/آب 2024): https://www.gov.il/ar/pages/event-un220923
  6. Office of the Director of National Intelligence, Annual Threat Assessment
  7. موقع الشروق الإخباري. بلينكن يدعو دول الخليج لتشديد التكامل الدفاعي بمواجهة التهديد الإيراني، 29 إبريل/نيسان 2024، (تاريخ الدخول: 24 أغسطس/آب 2024): https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=29042024&id=de82238d-7…
  8. سفارة الولايات المتحدة الأميركية في مصر. بيان مشترك لقادة الولايات المتحدة ومصر وقطر، 8 أغسطس/آب 2024، (تاريخ الدخول: 24 أغسطس/آب 2024): https://eg.usembassy.gov/ar/joint-statement-leaders-united-states-egypt…