يتطلب تقدير أهمية النتائج التي أسفرت عنها انتخابات مجالس المحافظات في العراق، تحديد طبيعة علاقات القوة هناك والمدى الذي يمكن أن تبلغه القوى السياسية في جديتها باختيار الممارسة الانتخابية والعملية الديمقراطية إجمالا في تحديد أدوارها وخياراتها.
وليس من الطبيعي الركون التلقائي إلى ما تفرزه الصيغ الديمقراطية في بلد مثل العراق حيث تعاني فيه ركائز الدولة من أضرار جسيمة، وما زال يخضع لوجود أكثر من 140 ألف جندي أجنبي، ويسكن مجتمعه وطبقته السياسية هاجس تداعيات أحداث طائفية دامية كما يعاني وضعا أمنيا هشا، فضلا عن أنه يشكو من غياب مؤسسات رقابية فاعلة تتكفل بحماية متطلبات النظام الديمقراطي ومعاييره، أو بيئة اجتماعية وسياسية وحتى قانونية كفيلة بتوفير مثل هذه المتطلبات والمعايير أصلا.
فهذه الإشكاليات تجعل من الاعتماد المطلق على الأرقام التي نتجت عنها الانتخابات المحلية تبسيطا مخلا بصورة المشهد العراقي المعقد، لكن لن يكون من المنطق أيضا تجاهل هذه النتائج بوصفها أحد المتغيرات ذات الشأن التي يمكن أن تؤثر على طبيعة الأحداث في المستقبل المنظور.
الجغرافيا الطائفية
ثنائية الاحتلال والديمقراطية
مستقبل المشهد السياسي
خلاصات وخاتمة
في هذه الانتخابات كان المجلس الإسلامي الأعلى أبرز الخاسرين في بغداد ومحافظات الجنوب ذات الغالبية الشيعية، وتكرر الأمر نفسه من حيث الخسارة مع الحزب الإسلامي في المناطق ذات الطابع السني |
تاريخيا، حرصت الدولة العراقية المعاصرة على تجاوز الاستقطاب الطائفي برغم اعترافها بوجود طوائف وأعراق بل وبوجود مشكلة طائفية وعرقية، ولم يكن الوضع مثاليا على الدوام من حيث وجود حالات تمييز طائفي أو عرقي، لكن لم يجرؤ أحد طوال 82 عاما من عمر الدولة على التحدث علنا بلغة طائفية أو عن الطائفية، ناهيك عن الدعوة إليها.
وعلينا أن نعترف أيضا أن إشاعة الطائفية ليست من اختراع الاحتلال الأميركي، رغم أنه غير برئ من استخدامها وتكريسها، لكن ما حصل كان نتيجة حتمية لغلبة الأحزاب الدينية ذات البعد الطائفي التي سادت الساحة السياسية بعد الغزو، ومثل هذه الأحزاب يتحتم عليها بحكم التوزيع المذهبي في العراق أن تكون طائفية، لكن هذه الغلبة لم تعد كذلك في الانتخابات الأخيرة، حيث فشل الخطاب الديني بأبعاده الطائفية في الحشد واستقطاب الناس، وخسرت الأحزاب الدينية الطائفية عموما هيمنتها في مجالس المحافظات، وهو ما ينبغي الالتفات إليه بعناية مستقبلا.
في هذه الانتخابات كان أبرز الخاسرين في بغداد ومحافظات الجنوب ذات الغالبية الشيعية المجلس الإسلامي الأعلى- بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم- الذي خاض الانتخابات على قاعدة طابعه الديني وأطلق على قائمته اسما ذا بعد رمزي عند الشيعة، ( شهيد المحراب).
وجاء فشل هذا الحزب لصالح حزب ديني آخر هو حزب الدعوة -برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي- والذي أدرك تراجع تأثير الخطاب الطائفي شعبيا، فوضع نفسه على رأس تحالف أسماه "ائتلاف دولة القانون" وتقدم للانتخابات بوصفه ائتلافا سياسيا ليبراليا، مستندا إلى التحسن النسبي للوضع الأمني باعتباره أحد "إنجازات للمالكي" كما رفع راية الدولة المركزية ورفض الفيدرالية التي ينادي بها شريكه السابق المجلس الأعلى.
وتكرر الأمر نفسه من حيث الخسارة مع الحزب الإسلامي ذي الطابع الديني السني والذي كان يتقدم العملية السياسية خلال الفترة التي علا فيها الخطاب الطائفي، على أنه ممثل العرب السنة.
فقد تراجعت أسهم هذا الحزب إلى حد أنه ما كان له أن يحظى بأية نتائج في الانتخابات الأخيرة لولا تحالفه مع قوى عشائرية وحزبية محلية في المحافظات ذات الغالبية السنية، لكنه بالإجمال فقد الكثير من مواقعه السابقة لصالح قوى جديدة.
فالمزاج الشعبي الذي تجلى خلال الانتخابات هذه ليس بلا معنى، فهو بشكل أو آخر يؤشر على وجود حالة رفض للطائفية كخيار سياسي واجتماعي، لكن مثل هذا الاستنتاج على واقعيته وأهميته ليس نهاية المطاف، ذلك أن جزءا أساسيا من أسباب خسارة المجلس الأعلى في بغداد والجنوب والحزب الإسلامي في الوسط تعود إلى فشلهما في إدارة المجالس التي كانا يقودانها وانقضاء السنوات الأربع من غير أن يجد المواطن في هذه المحافظات أي تحسن في حياته اليومية.
بعبارة أخرى فإن جزءا من إرادة التغيير لم يكن تعبيرا عن تيار جديد، بقدر ما كان شكلا من أشكال العقاب ورغبة في البحث عن بدائل أفضل، ولدينا دليل على مثل هذا الاستنتاج في خسارة حزب الفضيلة هيمنته على البصرة بسبب اتهامه بالفشل في إدارتها، رغم انه رفع شعارات انتخابية غير طائفية.
والخلاصة المهمة من ذلك كله أن الخطاب الطائفي لم يعد جذابا، كما أنه لم يعد كافيا للتغطية على الفشل والفساد، وهذا أمر مهم بحد ذاته ومؤشر لما يمكن أن يحصل في المستقبل، حتى ولو كان هذا الاتجاه لا يزال مجرد هاجس شعبي، أكثر من كونه تيارا فكريا وسياسيا مسيطرا.
نجحت القوى الرافضة للاحتلال وفي مقدمتها المقاومة المسلحة في تحقيق مكاسب مهمة ضد القوات الأميركية وأجبرتها على اتخاذ خطوات تسترضي بها العراقيين، وصولا إلى انسحاب أميركي متعجل. |
ويحرص كل من القوات الأجنبية والسلطات العراقية على تأكيد استقلالية المؤسسات الوطنية وتمتع البلاد بالسيادة الكاملة منذ تسلم السلطة من الحاكم المدني الأميركي في 28 يونيو/ حزيران 2004، لكن التدخل الأميركي في العديد من الملفات منذ ذلك الحين، دفع المعارضين إلى اعتبار العملية السياسية بما فيها الانتخابات ذاتها فاقدة للشرعية بوصفها إحدى تداعيات الاحتلال.
ولقد كان هذا الخطاب عاليا في عام 2005 مصحوبا بدعوات قوية للمقاطعة نجحت فعلا في المحافظات ذات الغالبية السنية بوجه خاص، فيما لم تجد هذه الدعوات صدى في المحافظات ذات الغالبية الشيعية رغم أنها صدرت في حينه من رجال دين شيعة رافضين للاحتلال أمثال أحمد البغدادي وجواد الخالصي وحسين المؤيد.
لكن، ومن غير خوض في تفاصيل الأسباب التي أدت إلى تباين المواقف قبل أربع سنوات، فإن تغيرا واضحا حصل خلال الانتخابات الأخيرة، حيث لم نجد أثرا لدعوات مقاطعة، والمحافظات السنية بدت أكثر حماسة للمشاركة وحاز بعضها على أعلى نسب التصويت، وبشكل واضح أصبحنا أمام واقع جديد انخفضت فيه بشكل جوهري حدة الرفض والممانعة أو تقلصت قوة ونفوذ أصحابها، وهو بدوره متغير ينبغي الانتباه له والتعامل معه بعناية.
وأيا كانت أسباب هذا التغيير في رؤية هذا الجزء من العراق، فأنه ذو شأن في إفراز قوى محلية جديدة قبلية كانت أم حزبية اختارت أن تمارس اللعبة السياسية، لاسيما مع تصاعد خطاب سياسي كان يركز على أن فكرة "المقاطعة" لم تنجح في نزع الشرعية عن العملية السياسية بقدر ما سمحت بترتيب الواقع السياسي العراقي بعيدا عن إرادة جزء مهم من سكان البلاد، وأنتجت سلطات محلية لا تمثل الواقع إن لم تكن في حالة صدام معه، كما حدث حينما سيطر الأكراد على مجلس محافظة نينوى ذات الغالبية العربية.
لقد نجحت القوى الرافضة للاحتلال وفي مقدمتها المقاومة المسلحة في تحقيق مكاسب مهمة ضد القوات الأميركية وأجبرتها على اتخاذ خطوات تسترضي بها العراقيين، وصولا إلى انسحاب أميركي متعجل ما كان له أن يتم لولا أن المقاومة جعلت من مهمة الأميركيين في العراق صعبة وعالية الكلفة.
لكن هذا النجاح لم يقترن بمشروع سياسي موحد يستثمر النجاح ويسخره لبناء الدولة، الأمر الذي خلق فراغا ملأته قوى محلية بعضها كان جزءا من مشروع المقاومة وفضل في مرحلة ما أن يدخل العملية السياسية أو أن يضع قدما هنا وأخرى هناك، وبعضها الآخر تماهى مع المشروع الأميركي بمجرد أن وجد عنده مكانا وفرصة وهدفا مشتركا مثل الصحوات التي استخدمت في محاربة تنظيم القاعدة.
لكن هذا الواقع لن يكون هو السائد في نهاية المطاف، ذلك أن الذين تخلوا عن المقاطعة وشاركوا في الانتخابات دخلوا مشروعا لم يسهموا في تأسيسه، وبالتالي فمجرد المشاركة واختيار قيادات محلية جديدة لن ينهي أزمة علاقة مشوهة بين قوى مهيمنة على القرار السياسي في البلاد، ومتهمة بأنها بنت قوتها مستفيدة من "الوجود الأميركي أو النفوذ الإيراني"، ووفق قاعدة أن المنتصر يفرض شروطه، وبين أخرى قدمت كطرف مهزوم واضطرت في مراحل مختلفة لدفع تكاليف عالية ما زالت تعاني منها.
أسفرت الانتخابات عن فوز "ائتلاف دولة القانون" بما مجموعه 126 مقعدا من مجمل عدد المقاعد في مجالس المحافظات البالغة 440 مقعدا. وهو بهذا العدد من المقاعد يمكنه أن يفرض شروطه بالتحالف مع أي تنظيم آخر في معظم المحافظات، لاسيما في بغداد والجنوب.
وقد أعلن بالفعل عن ائتلاف بين حزب الدعوة والتيار الصدري يعطى لهما الأغلبية في محافظات بغداد والبصرة وميسان وواسط وذي قار إلى جانب ما يقارب من نصف المقاعد في مجالس كربلاء والنجف والقادسية، فيما توزعت السلطة في المحافظات السنية الأربع بين أحزاب وقوى عشائرية مختلفة.
لكن هذا التوزيع كما أفرزته الانتخابات الأخيرة لن يحسم قضية السلطات المحلية في العراق، ولن يحدد كما هو مفترض برامج هذه المحافظات للسنوات الأربع المقبلة، ولن يكون له التأثير الجوهري المتوقع في المراحل المقبلة من العملية السياسية وأبرز ما فيها الانتخابات العامة نهاية 2009، حيث يتوجب في التحليل النهائي ملاحظة المتغيرات التالية:
فرص استعادة إيران لنفوذها في العراق ليست عسيرة مع غياب قوى ردع داخلية مناسبة، وخاصة مع وجود خبرة إيرانية في بناء وتحريك القوى الداخلية العراقية، لاسيما وأن إيران تمكنت من بناء قواعد نفوذ قوية لها داخل العراق |
وتداعيات هذا الأمر تتعدى الملفات الأمنية التي تمسك بها القوات الأميركية، إذ بالإمكان تعويض ذلك جزئيا بالإبقاء على وحدات للتدخل السريع وقوات لتقديم دعم لوجستي للقوات العراقية عند الضرورة، ولكن ما لا يمكن تعويضه هو علاقة هذه القوات بمراكز القوى في العراق، وبتوزيع النفوذ بين القوى والشخصيات السياسية، حيث انشغلت إدارة الرئيس السابق بوش بهذا الأمر، فأعطت نوري المالكي مثلا دعما منحه الفرصة للهيمنة على مراكز السلطة والقرار في مواجهة خصوم مثل الأكراد والحزب الإسلامي.
2- كما في كل حالات فراغ القوة تاريخيا في العراق، فإن إيران هي التي كانت تثب لتملأ هذا الفراغ، سواء باحتلال مباشر وهو ما حصل كثيرا من قبل، أو بتدخل واسع النطاق عبر حلفاء أو متعاونين أو حتى عناصر قتالية متخفية بأغطية مختلفة، وهو ما يمكن أن يحصل تماما مع بدء الانسحاب الأميركي.
وينظر البعض إلى نتائج الانتخابات الأخيرة على أنها في أحد جوانبها هزيمة لحلفاء إيران، وهو أمر قد يكون صحيحا بالنظر إلى الاتجاهات الشعبية السائدة، لكن فرص استعادة إيران لنفوذها لن تكون مسالة عسيرة مع غياب قوى ردع داخلية مناسبة، خاصة مع وجود خبرة إيرانية في بناء وتحريك القوى الداخلية العراقية، لاسيما وأن إيران تمكنت بالفعل خلال السنوات الماضية من بناء قواعد نفوذ قوية لها داخل العراق.
ويبدو مع هذه الانتخابات أن قاعدة القوة الإيرانية الرئيسة قد اهتزت مع خسارة حليفها المجلس الأعلى هيمنته في بغداد وجنوب العراق، لكن هذا التصور غير دقيق أو على الأقل غير متكامل، ذلك أن المجلس الأعلى قد يكون خسر جزءا من سلطته لكن نفوذه لم ينكسر، إذ إنه يستند إلى سيطرة واسعة على المؤسسة الدينية الشيعية، ويعتمد على انتشار عناصره وأنصاره في الجهاز الإداري والخدمي والأمني على الصعيدين الوطني والمحلي، إلى جانب ارتباط المجلس الأعلى بمنظمة مدربة ومجهزة وجاهزة عسكريا رغم أنها أعلنت عن تحولها إلى كيان سياسي وخيري، وحقيقة الحال أنها ما تزال أشبه بخلية نائمة تستطيع أن تعاود نشاطها المسلح في أي وقت.
فهذه المعادلة، من تراخي السيطرة الانتخابية واستمرار النفوذ بوسائل أخرى، يتوقع منها في حال وقوع أي اضطراب أن تؤدي إلى تهميش السلطة المنتخبة في مقابل سيطرة صاحب النفوذ على الأرض، وحينها فإن الإرادة الشعبية التي همشت "حلفاء إيران" لن تكون كافية أو قادرة على مواجهة هذا النفوذ باستخدام صناديق الاقتراع، لا سيما وأن منظمات أخرى مثل منظمات "بقية الله وكتائب حزب الله وثأر الله" التي بدا أنها تقهقرت في خضم الحرب على التنظيمات غير الشرعية خلال العام 2008 وهرب قادتها ومعظم عناصرها إلى إيران، يمكن أن تعاود الظهور مرة أخرى من أجل إعادة سيطرتها على "مجتمع الجنوب العراقي الشيعي"، مكررة ما قامت به سابقا لتحقيق هذه الغاية من الاستعانة بحملة اغتيالات تستهدف بها سياسيين وأكاديميين وزعماء عشائر وشخصيات محلية نافذة يرفضون هيمنتها باعتبار أنها هيمنة طائفية وامتداد إيراني في مناطقهم.
3- من أبرز مزايا الديمقراطية أنها تنتج نظاما سياسيا يحظى بدعم الأغلبية ويكون بوسعه تنفيذ برامجه أو مشروعه السياسي، لكن في العراق لا يبدو الأمر كذلك مع وجود أجندات متعارضة لمراكز قوى مختلفة، كثيرا ما كانت صراعاتها تخرج للعلن.
فقد نشأت في هذا الإطار خلافات علنية متكررة بين مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء أو بين رئيس الوزراء وحكومة إقليم كردستان، ولا تزال كثير من عناصر الخلاف قائمة حتى الآن، أضف إلى ذلك أن ما نتج عن انتخابات المحافظات يمكن أن يؤدي إلى تعميق هذه الخلافات بدل حلها، وربما تحولها إلى مواجهات بين تحالفات ما زالت في طور التشكل أساسها التحضير لمواجهات سياسية بين أقطاب السلطة.
خاصة وأن فوز المالكي أزعج خصومه في السلطة فبات الحديث يجري عن تحالف يجمع الأكراد والمجلس الأعلى والحزب الإسلامي هدفه الرئيس توفير عدد كاف من الأصوات في البرلمان لحجب الثقة عن حكومة المالكي قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، وبالطبع سيقوم المالكي من جانبه بإعداد تحالف مضاد.
وعلى كل حال، أيا كان شكل المواجهة أو نتائجها فإن صراع السلطة هذا يمكن أن يتسبب بشلل الدولة، وحينها لن يبقى لما أفرزته نتائج الانتخابات كثير أهمية.
4- من المتوقع أن تواجه مجالس المحافظات الجديدة وضعا اقتصاديا صعبا بسبب الأزمة المالية العالمية وانخفاض أسعار النفط، ولقد بدت الملامح الأولية لهذه الأزمة بتقليص ميزانية العراق لعام 2009 مرتين قبل إقرارها، وبهذا سيكون -مع الحاجات الضخمة للمحافظات- من الصعب تحقيق انجازات ذات أثر خلال ما تبقى من هذا العام، هذا بالطبع مع افتراض وجود مجالس نزيهة وكفوءة، وعندها ربما يعمد الناخبون إلى معاقبة المجالس الجديدة لفشلها كما فعلوا مع سابقاتها، بالتصويت لصالح قوى أخرى خلال الانتخابات النيابية المقبلة.
والمهم في مثل هذا التحليل ليس تغيير قوى السلطة، بل في تقدير الأثر السياسي لنتائج الانتخابات الأخيرة على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، حيث اتجهت العديد من التكهنات إلى القوى الرئيسية الفائزة في المحافظات يمكن أن تحقق بنفس الزخم فوزا مماثلا في انتخابات نهاية العام.
5- جرت انتخابات المحافظات وسط عملية مصالحة وطنية مجتزأة وغير واضحة المعالم جرت بشكل انتقائي وتعاملت بفوقية ظاهرة مع القوى الرافضة للاحتلال وللعملية السياسية، وكان كل ذلك سببا في بقاء جذوة التوتر بين النظام السياسي الراهن وبين قوى المقاومة المقتنعة بأن نشاطها المسلح وراء الانسحاب الأميركي المزمع من العراق، أي أنها مقتنعة بقدرتها على الأرض.
وخلال الفترة المقبلة من المتوقع أن تعمد قوى المقاومة إلى استعادة نفوذها في بيئتها الحاضنة داخل المحافظات السنية، ومن المتوقع مع غياب مشروع مصالحة حقيقي وشامل، أن ينشأ صدام محلي بين القوى السياسية الجديدة التي باتت تشكل سلطة هذه المحافظات، وبين قوى المقاومة لاسيما وأن هذه الأخيرة دأبت على الإعلان أن نشاطها المسلح لن يتوقف بعد الانسحاب الأميركي وسيستمر لمواجهة النفوذ الإيراني وكذلك النظام السياسي الذي تعتبر أنه من مخلفات الاحتلال.
6- خسر الأكراد في الانتخابات الأخيرة هيمنتهم على مجلس محافظة "نينوى" وفقدوا كذلك جزءا من سلطتهم في "ديالى"، الأمر الذي يمس طموحاتهم بضم مناطق من المحافظتين إلى إقليم كردستان، لهذا فهم يشعرون أن نتائج الانتخابات سببت تهديدا جديا لمشروعهم هذا.
ومن المتوقع أن يترقب الأكراد المناقشات المزمعة في مارس/آذار لتحديد موعد الانتخابات المحلية في كركوك وآليات إجرائها، وربما حفزتهم نتائجهم الأخيرة ليكونوا أكثر استعداد للمضي إلى أبعد حد في الدفاع عن وجهة نظرهم فيما يتعلق بمستقبل كركوك أو طريقة الانتخاب فيها، تلافيا لهزيمة لا يتحملونها في هذه المحافظة.
ثمة عناصر عدة يمكن أن توفر بيئة مناسبة لتقدم سياسي جدي وجوهري منها: تحقق الانسحاب الأميركي، تراجع دور وحضور القوى الطائفية، تزايد وتنوع القوى المشاركة في إدارة المحافظات، تراجع حدة النقمة في المحافظات السنية، تحسن الوضع الأمني. |
7- بعد مرور أكثر من أربع سنوات على أول انتخابات عامة في العراق بعد الغزو، لم يتمكن النظام السياسي العراقي من بناء دولة مؤسسات راسخة ولم يقم بإعداد نظام رقابي مقتدر وكفؤ يتولى مراقبة المعايير الديمقراطية والمجالس المنتخبة.
فانتخاب مجالس محافظات جديدة لن يجعلها بالضرورة أفضل أو أكثر نزاهة من سابقاتها، وما دامت المجالس المنتخبة ستظل تعمل بموجب استحقاقات التوافق والمصالح المتبادلة بين القوى السياسية في غياب قوة ردع قانونية مستقلة أو صحافة حرة تعمل بلا ضغوط أو عنف، فلن يكون أمام الجمهور غير انتظار دورة انتخابية جديدة ستشهد مزيدا من المقاطعة بسبب الإحباط وخيبة الأمل.
تبدو انتخابات المحافظات في العراق وكأنها أفضل ما تحقق بعد الغزو ولم تخسر بريقها رغم كل الاتهامات الجدية التي وجهت إليها، بدء من تهمة التزوير مرورا بسوء التنظيم والمحاباة انتهاء باستغلال أموال وإمكانات الدولة في الدعاية الانتخابية إضافة إلى ما ماثلها من طعون أخرى.
لكن ما اعتبر نجاحا يمكن أن يتلاشى في الحالتين التاليتين :
- إذا لم تتمكن الطبقة السياسية في العراق من التصالح مع ذاتها في إطار نظام مؤسسي يحكم اللعبة الديمقراطية ويمنعها من الانفلات باتجاه العنف.
- إذا لم تتمكن هذه الطبقة من اعتماد رؤية واقعية في التعامل مع المعارضة السياسية، بما فيها الفصائل المسلحة التي قاومت الاحتلال الأميركي.
وفي الختام ثمة عناصر عدة يمكن أن توفر بيئة مناسبة لتقدم سياسي جدي وجوهري منها:
- تحقق الانسحاب الأميركي المرتقب.
- تراجع دور وحضور القوى الطائفية ولو نسبيا.
- تزايد وتنوع القوى الوطنية والقبلية المحلية المشاركة في إدارة المحافظات.
- تراجع حدة النقمة في المحافظات السنية على ما كان يعتبر إجحافا سياسيا وتهميشا للدور والموقف.
- تحسن الوضع الأمني واضمحلال "القوى المتطرفة" مثل جيش المهدي والقاعدة.
ولعله سيكون أحد أول ثمرات هذه البيئة تحقيق مصالحة وطنية غير انتقائية لا تستثني أي طرف ولا تتعامل بمنطق المنتصر والمهزوم، ولا يقدمها النظام السياسي الراهن كهبة بل كاستحقاق وطني ملزم وأساسي لبناء الدولة.
كما أن غياب مثل هذه المبادرات سيعني استمرار التوتر وفتح الباب واسعا على تطورات أمنية وسياسية خطيرة، وهو ما سيعني أيضا تلاشي المكاسب التي حققتها الانتخابات، وخلق أجواء مسمومة للاستحقاقات الانتخابية المقبلة في العام الجاري، مع العلم أن بعض استحقاقات الأخيرة أكثر أهمية وتعقيدا من انتخابات المحافظات.
________________
محلل سياسي عراقي