الانتخابات البرلمانية المصرية، الواقع واحتمالات المستقبل

فاز الحزب الوطني الحاكم بأغلب مقاعد البرلمان، وحكم القضاء المصري الإداري بإيقاف الانتخابات في عدد من الدوائر، قبل وأثناء وبعد عقد الجولة الأولى، إلا أن أجهزة الحكم التنفيذية رفضت الانصياع لأحكام القضاء، ما قد يترك جدلا حول شرعية المجلس المقبل.







 

مركز الجزيرة للدراسات





من الواضح أن مجلس الشعب المصري الجديد سيكون مجلس الحزب الوطني بلا منازع وبلا معارضة ذات قيمة.
انتهت يوم الأحد، 5 ديسمبر/ كانون أول، الجولة الثانية والأخيرة من الانتخابات البرلمانية المصرية، التي حسمت مصير المقاعد التي لم تحسم في الجولة الأولى، التي عقدت في الأحد السابق. وطبقاً للنتائج الرسمية، فقد فاز الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم) بأغلبية كاسحة من مقاعد البرلمان، وتجاوزت نسبة ما حصل عليه من مقاعد 83% (متوقع أن تزداد بعد أن ينضم إليه حوالي 70 عضوا من الوطني رشحوا أنفسهم كمستقلين خروجا على تعاليم الحزب)، في حين لم تفز أحزاب المعارضة التي شاركت في الجولتين الأولى والثانية سوى بـ 15 مقعدا فقط، ولم تحصل جماعة الإخوان المسلمين على أي مقعد بعد أن كان لها في البرلمان السابق 88 عضوا.

ستنظر هذه الورقة إلى سياق هذه الدورة من الانتخابات البرلمانية المصرية، وإلى الدلالات التي تحملها نتائجها على مستقبل الحكم وعلاقته بقوى المعارضة، كما ستشير إلى التحديات المقبلة التي تواجه الحياة السياسية المصرية.


المشهد الانتخابي
ما بعد الانتخابات
نتائج ودلالات


المشهد الانتخابي 


أسفرت الجولة الأولى عن فوز الحزب الوطني الحاكم في كل الدوائر التي أعلنت نتائجها، والتي تجاوزت المائتين من المقاعد محل التنافس. ولم يفز أي من مرشحي القوى السياسية المعارضة، سواء المعترف بها   مثل حزبي الوفد والتجمع والناصري، أو غير المعترف بها مثل الإخوان المسلمين، بأي من المقاعد المعلنة نتائجها، مما اعتبره الكثير من المراقبين "مجزرة انتخابية" بكل المعايير. وقد شهد الأسبوع الفاصل بين الجولتين الأولى والثانية ردود فعل واسعة النطاق، داخل مصر وخارجها، حول الطريقة التي أجريت فيها الانتخابات.


داخل مصر، اتهمت أحزاب المعارضة، بما في ذلك حزب التجمع المعروف بصلات بعض قياداته الوثيقة بأجهزة الأمن، الحزب الوطني (وأجهزة الحكم المشرفة على الانتخابات، ضمناً) بالتزييف السافر والواسع النطاق. وما أن اتضح أن قيادات الحزب الوطني والدولة لا تكترث كثيرا بالاتهامات الموجهة إليها، حتى أعلن حزب الوفد والأخوان المسلمون الانسحاب من المنافسة في الجولة الثانية. وكذلك أعلن المقاطعة عدد من المستقلين، أبرزهم النائب الناصري المخضرم حمدين صباحي. بيد أن الحزب المعارض الرئيسي الوحيد الذي أكد على استمراره المشاركة في العملية الانتخابية كان حزب التجمع، مما دفع عدداً من قياداته إلى الاستقالة. وقد وظف الحزب الوطني بعضاً من قياداته الكبار، والقطاع الصحافي الحكومي، وعدداً من المثقفين المصريين المرتبطين به، للدفاع عن نتيجة الانتخابات، سواء في مؤتمرات صحافية أو في وسائل الإعلام المملوكة للدولة.


خارج مصر، أجمعت وسائل الإعلام العربية والأجنبية، التي غطت الانتخابات، على التزييف المنهجي الواسع، وشراء الأصوات الذي شهدته العملية الانتخابية؛ وهو ما دفع كلا من الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية إلى إصدار بيانين يعربان فيهما عن القلق من الطريقة التي أجريت فيها الانتخابات. وقد أثار التصريح الأميركي، بوجه خاص، ردود فعل مصرية رسمية، حملت شجباً، وإن لم يكن على منوال الحدة المعتادة، لموقف واشنطن، صاحبتها اللغة الرسمية المعهودة حول استقلال القرار الوطني المصري والتلويح بمخاطر الأحزاب الدينية على استقرار مصر، في إشارة واضحة إلى الإخوان المسلمين.





المسألة التي لم يستطع الحزب الحاكم معالجتها في هذه الانتخابات، بأي حال من الأحوال، كان هبوط نسبة من أدلوا بأصواتهم إلى مستويات غير مسبوقة، ذكرت تقارير غير رسمية بأنها لم تتجاوز 15 بالمائة ممن يحق لهم التصويت.
وربما كان للضجة الكبيرة التي ثارت حول نتائج الجولة الأولى دور مباشر في الحرص الرسمي المصري على فوز العدد الضئيل من المرشحين من خلفيات حزبية أخرى في الجولة الثانية. ولكن هذه المنحة الصغيرة لم تستطع تحسين صورة الانتخابات، فضلاً عن أن شكوكاً تحيط بولاء القلة من المرشحين الحزبيين الفائزين لأحزابهم، بعد أن أعلن حزب الوفد تجميد عضوية 7 من مرشحيه الذين لم يلتزموا قرار المقاطعة، وأعلن الإخوان أن النائب الذي تردد أنه إخواني لا يعد من الجماعة. والأرجح أن حزب التجمع، بمقاعده الخمسة في المجلس، سيصبح حامل لواء المعارضة، في وجه أغلبية ساحقة للحزب الوطني واتهامات واسعة للتجمع بالانضواء تحت عباءة الحكم على أية حال.

ما ساهم في تصاعد ردود الفعل على الانتخابات يعود إلى وجود اعتقاد واسع بأن الحزب الحاكم لم يكن يحتاج أصلاً لتزييف النتائج. فأياً من الأحزاب المشاركة في الانتخابات لم ينافس على عدد كبير من مقاعد مجلس الشعب، رغبة منها في عدم استفزاز الحزب الحاكم. كما حرص الإخوان، على وجه الخصوص، على الابتعاد ما أمكن عن المنافسة على مقاعد القاهرة الكبرى، التي يعتبرها النظام والحزب الحاكم ساحة المعركة الانتخابية الأساسية. في إطارها العام، وفي تفاصيلها، اعتبرت انتخابات 2010 البرلمانية مواتية كلياً للحزب الحاكم، حتى أن الحزب قام وللمرة الأولى بالسماح بالتنافس على عدد ملموس من المقاعد بين أكثر من مرشح للحزب، منعاً للإحراج المعتاد في التفضيل بين مرشحي أسر الأعيان ومراكز النفوذ، ولأن أحداً في البلاد لم يكن لديه أدنى شك في أن الحزب سيفوز بالأغلبية العظمى من مقاعد مجلس الشعب المقبل.


عقدت هذه الدورة من الانتخابات البرلمانية بدون الإشراف القضائي، الذي وفر قدراً ولو صغيراً من الحماية للانتخابات السابقة في 2005، والسبب في ذلك هو التعديلات الدستورية التي تمت عام 2007 والتي أبعدت القضاء من الإشراف على الانتخابات وأوجدت عوضا عن ذلك لجنة عليا للانتخابات، برئاسة وعضوية عدد من القضاة، إلا أن الانتخابات عقدت واللجنة لا تعرف على وجه التحديد حجم سلطاتها ودورها. وقد حشد الحزب الوطني الحاكم آلة انتخابية هائلة، كرست لها الأموال والعلاقات المحلية التقليدية ومقدرات الدولة المصرية وأجهزتها التنفيذية ووسائل إعلامها المختلفة. وبالرغم من أن القضاء المصري الإداري، المختص في مجلس الدولة بقضايا النزاع بين المواطنين والدولة، حكم بإيقاف الانتخابات في عدد ملموس من الدوائر، قبل وأثناء وبعد عقد الجولة الأولى، إلا أن أجهزة الحكم التنفيذية رفضت الانصياع لأحكام القضاء، معتبرة أن البرلمان منذ انعقاده يصبح سيد قراره، ومن ثم فإن القرارات القضائية  لن تشكل خطراً على شرعيته. بيد أن المسألة التي لم يستطع الحزب الحاكم معالجتها في هذه الانتخابات، بأي حال من الأحوال، كان هبوط نسبة من أدلوا بأصواتهم إلى مستويات غير مسبوقة، ذكرت تقارير غير رسمية بأنها لم تتجاوز 15 بالمائة ممن يحق لهم التصويت.


ما بعد الانتخابات 


صدرت توقعات في ظل أحكام القضاء الإداري، والاتهامات التي وجهت للانتخابات، وإعلان القوتين المعارضتين الرئيستين مقاطعة الجولة الثانية، بأن يبادر الرئيس المصري حسني مبارك إلى حل مجلس الشعب المنتخب والدعوة إلى انتخابات جديدة، خوفاً من الشكوك في شرعية المجلس، الذي ستجري في ظله انتخابات رئاسة الجمهورية في العام المقبل. ولكن الأرجح أن الرئيس لن يقدم على مثل هذه الخطوة، أولاً لأن النظام يدرك أن الاحتجاجات الغربية على الانتخابات ليست جادة، وأن ليس ثمة ردود فعل ملموسة داخل جسم الدولة المصرية، وأن تصرفات قوى المعارضة تتسم بالارتباك وفقدان القدرة، أو العزم، على مواجهة الحزب الوطني وحكومته، لا بفعل نتائج الانتخابات ولا لأي سبب آخر.


والحقيقة أن الانقسام حول الموقف من العملية الانتخابية قد شاب صفوف المعارضة حتى قبل انعقاد الانتخابات. فقد  دعت القوى والشخصيات الملتفة حول محمد البرادعي، إضافة إلى حركة كفاية، وحزب الجبهة الديمقراطية، إلى مقاطعة الانتخابات، وقرر كل من الوفد والإخوان والتجمع خوضها. وبالرغم من أن آمالاً عقدت في البداية حول السيد البرادعي، وإمكانية أن يتحول الحراك السياسي الذي أطلقه إلى إطار لوحدة قوى وشخصيات المعارضة المختلفة، إلا أنه من الواضح أن البرادعي، الذي يقضي فترات طويلة خارج البلاد، لم يستطع تحمل أعباء معارضة نظام سياسي متجذر بقوة الأجهزة، أو التعامل مع تعقيدات الساحة السياسية المصرية، مما تركه عرضة للنقد من طرف كثير من  شخصيات العمل العام التي التفت حوله عند إطلاق الحركة المصرية للتغيير. الإخوان، الذين يمثلون الكتلة الأكبر للمعارضة، تنظيماً وشارعاً، لا يرون حتى الآن أن مواجهة النظام هو خيار ممكن أو مجد، ويسود اعتقاد في صفوف الإخوان أن قوى المعارضة الأخرى لا وزن حقيقياً لها، وأنها تدفع نحو المواجهة لأن الأخوان وحدهم في النهاية من سيتحمل العواقب.


النظام، من جهة أخرى، لم يعد يكترث كثيرا بصورته، ولا حتى بحجم التذمر في صفوف المصريين. أحد الأسباب الرئيسة خلف ثقة النظام بنفسه أن تماهياً يكاد يكون مطلقاً قد حصل بين الحزب الوطني ونظامه الحاكم، وبين جهاز الدولة المصرية، بحيث لم تعد أجهزة الدولة أداة لتنفيذ سياسات الحكم وحسب، بل هي باتت تعمل طوعاً من أجل تعزيز سيطرة النظام وهيمنة الحزب الوطني على الحياة السياسية. فما يشغل النظام منذ سنوات، ولم يزل يحتل قمة أولوياته، هو مسألة خلافة الرئيس مبارك الذي تجاوز الثمانين من عمره ويعاني من مشاكل صحية متلاحقة. وبالرغم من أن أحد أبرز أهداف النظام في هذه الانتخابات كان التخلص من الوزن الإخواني الملموس في المجلس السابق، فالأرجح أن مسألة خلافة الرئيس كانت الهم الآخر، نظراً لأن قلة فقط تتوقع أن يستمر الرئيس مبارك في موقعه حتى نهاية فترة مجلس الشعب الجديد، التي ستستمر لخمس سنوات قادمة.


نتائج ودلالات 





في حال تعسر بناء جبهة معارضة عريضة ومتماسكة، فإن مستقبل مصر سيكون مرهوناً، كما كان دائماً منذ ولادة الدولة المصرية الحديثة، بإرادة مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية التي تعد أكثر المؤسسات انضباطا وتماسكا وتوفرا على مقدرات القوة.
بالرغم من الاطمئنان في أوساط الحزب الحاكم إلى أن مجلس الشعب الجديد سيستمر إلى نهاية فترته، فلم يزل احتمال حل المجلس قائماً في حال تصاعدت التفاعلات القضائية وصدر حكم من المحكمة الدستورية العليا يقضي بعدم شرعية المجلس. ولكن المعروف في مثل هذه المسائل الدستورية الكبرى، أن الأحكام القضائية لا تجد طريقها عادة إلى التنفيذ بدون إرادة سياسية. وهذا ما يعيد المسألة برمتها إلى قرار الرئيس مبارك قبل غيره. المهم أن ثمة شعوراً عاما  بالإهانة بدأ يتسرب إلى جنبات المؤسسة القضائية بعد أن زج بها من خلال لجنة الانتخابات العليا إلى غمار عملية انتخابية لم تظهر بمظهر نزيه.

أما في حال مرت الأزمة المتعلقة بالانتخابات بدون عواقب قضائية إضافية، فستدخل البلاد خلال شهور قليلة مناخ الانتخابات الرئاسية وما سيكون عليه قرار الرئيس بخصوص إعادة الترشح أو التخلي عن موقعه، لابنه أو لمرشح آخر. أغلب التوقعات تشير الآن إلى تعزز حظوظ جمال مبارك، وإن كان تقدمه لشغل منصب الرئاسة لن يتم في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وسيكون على النظام هذه المرة أن يخرج انتخابات الرئاسة بمخرج لائق وأن يعالج عزوف المصريين الواسع النطاق عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع. أما قوى المعارضة المصرية فسيترتب عليها أن تعيد ترتيب صفوفها،لا سيما بعد أن تأكدت قيادة حزب الوفد الجديدة، التي جمعتها علاقة عمل ودودة بنظام الحكم، أن الحزب الوطني لن يفسح للوفد مجالاً لائقاً في الحياة البرلمانية، وخرج الوفد من الانتخابات وعلاقته بالنظام أسوأ مما كانت قبلها. المشكلة الكبرى أمام المعارضة هي الخروج من حالة تشرذمها الراهن، والاتفاق على القوة القائدة، شخصية أو حزباً، ووضع تصور سياسي لكيفية مواجهة وضع البلاد الراهن، والدفع باتجاه التغيير.


وفي حال تعسر بناء جبهة معارضة عريضة ومتماسكة، فإن مستقبل مصر سيكون مرهوناً، كما كان دائماً منذ ولادة الدولة المصرية الحديثة، بإرادة مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية التي تعد أكثر المؤسسات انضباطا وتماسكا وتوفرا على مقدرات القوة.