ليبيا: هل هناك أفق للحل السياسي؟

يبدو أن الغرب لا يريد التورط في قتل القذافي لإنهاء الأزمة، والضربات الجوية لم تفلح في إضعافه بشكل يفسح المجال للانتفاض عليه من داخل طرابلس؛ لهذا يصبح احتمال التوافق على تسوية لا تُقصيه كلية ممكنا، ولا يُستبعد أن يقبل بها المجلس الانتقالي.
20117191170102580_2.jpg

صار الحديث عن مخرج سياسي للأزمة الليبية طاغيا على المشهد، إلا أن منعطف العسكرة والاحتراب الذي دخلته الثورة الليبية فرض معطى لا يمكن الاستغناء عنه عند البحث عن حل للأزمة، وهو العمل العسكري؛ فلأنها أزمة يتنازع فيها عدة أطراف، فلابد لتلك الأطراف أن تصل إلى اتفاق يؤدي إلى انتهائها، وفي الحالة الليبية فإن رفض القذافي التخلي عن السلطة جعل من العمل العسكري أداة رئيسية لممارسة الضغوط عليه لإجباره على ذلك. إلا أن الوضع الليبي يعاني جمودا بسبب عدة عوامل، من أبرزها:

  1. ضعف الأداء العسكري للناتو: وذلك لعدة أسباب، أهمها سوء تقدير قدرات وإمكانيات نظام القذافي، وظن الناتو أن هذا النظام سيخضع ويستسلم من أول ضربة عسكرية. ثم الارتباك الجلي في إدارة الحملة والذي كان من مظاهره التباطؤ والارتباك الذي أدى إلى وقوع العديد من الأخطاء، وكذلك ضعف التسليح؛ فمعظم دول الحلف ترفض المشاركة المباشرة لذا اقتصرت الحملة على أميركا وبريطانيا وفرنسا والنرويج والدنمارك، ومعظم هذه الدول تشارك بعدد محدود من الطائرات والكوادر العسكرية.
  2. ارتباك المواقف السياسية: انعكس الضعف العسكري للناتو على المواقف السياسية للأطراف الغربية التي قادت الحملة العسكرية، بالقدر الذي يمكن أن يهدد الإجماع الغربي حول ضرورة تنحي القذافي عن الحكم تمهيدا للوصول إلى تسوية سياسية تحقق الانتقال الديمقراطي؛ فقد أدى طول عمر الحملة العسكرية إلى حالة من الرفض لدى الرأي العام الأوربي؛ حيث تشير الأرقام إلى أن 51% من الفرنسيين لا يؤيدون العمليات العسكرية، بعد أن كانت نسبة هؤلاء 39% عند انطلاقها. والموقف لا يختلف كثيرا بالنسبة لمعظم الدول الأوربية. من ناحية أخرى أصبحت الحملة العسكرية الورقة التي تحبذها المعارضات السياسية في إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والدنمارك والنرويج لإحراج الحكومات وتسجيل نقاط سياسية ضدها؛ ولعل ما يؤكد ذلك قرار سحب النرويج لطائراتها الست من العملية بعد نجاح الحزب الاشتراكي المعارض في إحراج الحكومة وإضعاف موقفها داخل البرلمان، وهو الأمر ذاته الذي يقوم به حزب رابطة الشمال الإيطالي؛ إذ فُسِّرت مطالبة وزير الخارجية الإيطالي وقف العلميات العسكرية على أنه استجابة للضغوط الداخلية، وكذلك يوضع في السياق نفسه تصريح برلسكوني بأنه كان ضد الحرب، والحال لا يختلف بالنسبة للحزب الاشتراكي في الدنمارك. حتى بريطانيا التي يبدو موقفها متماسكا من الحملة كما يظهر على لسان رئيس حكومتها الائتلافية ووزير خارجيتها الذي صرح مؤخرا: أن لا تفاوض مع القذافي، إلا أن ظروفها الاقتصادية المتأزمة والتي انعكست في قرارات خفض ميزانيتها العسكرية يجعل ثبات موقفها لفترة أطول أمرا مشكوكا فيه.
  3. ضعف الثوار، وعدم قدرتهم على الحسم بشكل منفرد ودون الاعتماد على الناتو: وهو عائد لأسباب منها، عدم وجود جيش بالمفهوم التقليدي، وكذلك عدم وجود مؤسسة عسكرية موحدة يسود بين أفرادها التنسيق والتفاهم، بل إن المسميات الموجودة حاليا (وزارة دفاع، مجلس عسكري، هيئة أركان، قيادة عامة للجيش) تعاني الخلاف بين الرموز والرتب العسكرية الكبيرة بداخلها، الأمر الذي تسبب في حالة من العجز، وتشتيت الجهود، ومنعت من تمحور الثوار وعناصر "الجيش" حول قيادة واحدة، فضلا عن افتقاد المدنيين الذين يشتركون في العمليات العسكرية ضد قوات القذافي إلى الخبرات والمهارات القتالية، علاوة على ضعف التسليح ونقص الذخيرة والعتاد.
  4. غياب رموز ذات ثقل سياسي داخل النظام يمكن أن تشكل قوة ضاغطة وتدفع إلى تسوية محورها تنحي القذافي: وقد ضاعف من تعقيد المشهد تمركُز القرار السياسي في يد العقيد القذافي، وافتقاد البلاد طوال مدة حكمه إلى المؤسساتية؛ فضلا عن غياب الشخصيات ذات الوزن السياسي داخل بنية النظام والتي يمكن أن تدفع باتجاه حل سياسي للأزمة، والخطاب الذي اعتمده القذافي منذ بداية الأزمة وما يتضمنه من مفردات "الصمود حتى الموت وعدم الرضوخ للإملاءات..."؛ وهو ما أدى إلى أن يجعل من أي حل "براغماتي" يقدم عليه القذافي إيذانا بانهيار النظام بأكمله.

صعوبات تعوق الوصول إلى حل سياسي 

في ظل المعطيات الراهنة يبدو الحل السياسي أمرا بالغ التعقيد؛ فالقذافي أظهر صلابة في الموقف يبدو التراجع عنها صعبا، كما أنه -وبحكم خبرته في الأزمات- يدرك ضعف الموقف الغربي، وعدم إمكانية الاستمرار لفترة أطول في العمل العسكري، وحاجة الغرب الأوربي لتسوية تقلل من خسائره جرّاء "مغامرته" غير المدروسة وتحفظ ماء وجهه أمام الرأي العام، وبالتالي ينجح القذافي نسبيا في المناورة، وتأتي وعوده بالتفاوض وحتى التنحي من باب كسب الوقت الذي يبدو في صالحه وليس في صالح الغرب، خصوصا وشهر رمضان على الأبواب الذي قد يشهد تخفيفا لحدة العمليات العسكرية من قبل الناتو.

أما المجلس الانتقالي والذي تضاربت مواقفه وتصريحات أعضائه فيما يتعلق بالمخرج من الأزمة فهو واقع بين المطرقة والسندان؛ فالغرب يمارس ضغوطا لتكييف موقف المجلس مع سيناريو التسوية المتوقعة، ويفسر مراقبون تردد الغرب في دعم الثورة ماليا، والارتباك في إدارة الحملة العسكرية، على أنه من قبيل الضغوط على المجلس الانتقالي لخفض سقف مطالبه المتمثلة في تنحي القذافي ونظامه بشكل كامل، إلى القبول بتنحي شخص العقيد وإشراك من يمثلونه في المرحلة الانتقالية. من ناحية أخرى يواجه المجلس شارعا رافضا لأية تسوية لا تُفضي إلى تنحي القذافي ونظامه بل ومقاضاتهم ومعاقبتهم.

أما الغرب فهو لا يتفق على مشروع لإنهاء الأزمة؛ فالواضح من تصريحات الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية كلينتون أنهم يرفضون أي تنازل للقذافي، ويصرون على ممارسة الضغط حتى تنحيه، ويوافقهم في ذلك البريطانيون، إلا أن الموقف الفرنسي شابه ما شابه من الارتباك والتناقض بعد تصريحات وزير دفاعه وما ظهر إلى العلن من خلافات بين المؤسسة السياسية والعسكرية حول الدور الفرنسي في الأزمة، وتشير الحوارات التي تجريها باريس مع أطراف من النظام إلى أن ساركوزي والمسؤولين الفرنسيين أقرب للتخلي عن الموقف المتشدد تجاه القذافي ونظامه والعدول عن فكرة ضرورة تنحيه كلية.

شكوك تحوم وثقة تُنْزع 

يعتقد قيادات سياسية في المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي، أن طرح الحل السياسي ليس تعبيرا عن مأزق يواجهه الناتو أو فشل الحملة العسكرية في دفع القذافي إلى التنحي، بل إن الحسم العسكري، وفق هؤلاء، ممكن ولكنه غير مرغوب فيه من قبل الأطراف الدولية لأسباب تتعلق بمخاوف من تفجر الأوضاع بعد سقوط القذافي؛ لذا فهم يدفعون إلى ما يرونه انتقالا شبه سلس للسلطة بإشراك عناصر النظام، وعدم ملاحقة القذافي قضائيا. هذا بالإضافة للاعتقاد بأن الغرب يماطل في الحسم العسكري للضغط على المجلس الانتقالي لفرض شروط تتعلق بمرحلة ما بعد القذافي.

جل الدول الغربية متخوفة من انهيار الدولة، واحتمال الاحتراب الداخلي بعد سقوط القذافي، وضعف المجلس الانتقالي عن احتواء الوضع. وعلى خلفية هذه المخاف يمكن فهم ما وراء دعوة فرنسا لمؤتمر وطني يضم القوى السياسية وشيوخ القبائل، وكذلك لقاء القبائل في روما الذي أشار إليه فرانكو فراتيني، وزير خارجية إيطاليا. وعلى نفس المنوال يمكن تبرير الضغوط الفرنسية والإيطالية لإشراك المنشقين من كبار العسكريين والأمنيين في الحكومة الانتقالية بعد سقوط النظام. فهذه الأطراف تعتقد أن التحديات في حال سقوط القذافي أكبر من القدرات والإمكانيات والشرعية التي تحصّل عليها المجلس الانتقالي، ولابد من توافق سياسي يضمن عدم انزلاق البلاد إلى الفوضى.

أفق الحل لدى النخبة الليبية 

كما سبق القول؛ فإن الحل السياسي صار يقابل الخيار العسكري الذي يبدو أنه إما غير ناجع كما يذهب الخبراء العسكريون، أو أنه غير مفضل نظرا للتبعات السياسية والأخلاقية التي تترتب عليه، فنجاعة الحل العسكري مقرونة بذهاب القذافي، ويبدو أن الغرب لا يريد التورط في قتل القذافي لإنهاء الأزمة، والضربات الجوية لم تفلح في إضعافه بشكل يفسح المجال للانتفاض عليه من داخل طرابلس ومحاصرته من الغرب والشرق من قبل ثوار الجبل ومصراته؛ لهذا يصبح احتمال التوافق على تسوية لا تُقصي القذافي كلية ممكنا، ولا يُستبعد أن يقبل بها المجلس الانتقالي.

غير إن هذا الخيار لن يكون مقبولا على الإطلاق من قِبل الثوار، وهنا يبرز خيار شريحة من النخبة الوطنية وما يطلق عليه بعضهم "واجب الوقت"، أو "أكبر المهام وأولى الأولويات"، وهو العمل على إيجاد التوازن في هذه المعادلة المختلة بسبب سيطرة الطرف الدولي على الوضع وإمساكه بخيوط اللعبة؛ وذلك من خلال فرض الثورة ومؤسساتها وجميع مكوناتها المدنية والعسكرية على الطرف الدولي من خلال إبراز ما تحققه من إنجازات متميزة سياسية واقتصادية واجتماعية وتطوير أدائها العسكري. إن غياب الصورة الحقيقية للثورة والأثر الواضح لها على الأرض سواء في الجبهة بتحقيق الانتصارات المتتابعة، أو على مستوى التنظيم السياسي والإدارة الاقتصادية وتنشيط الموارد الذاتية، والحراك المجتمعي الذي يعكس قوة تنطيم المجتمع، غياب هذه الصورة يفسح المجال لتغول الطرف الدولي، وبالتالي يتيح له المجال لفرض رؤيته للتسوية وشروطه المجحفة على المجلس الانتقالي؛ فالتغيير، حسب هؤلاء، يكون من خلال ضبط الاختلال في المعادلة بتعزيز الدور المحلي النخبوي والشعبي، وتحقيق تقدم سريع ولافت في الجبهات خاصة الشرقية منها (جبهة البريقة)، وكل تأخير في هذا الاتجاه يعني مزيدا من التخبط، ومزيدا من الضغوط والمساومات وفرض خيار الأطراف الغربية.