مصر بعد موجة الاحتجاج الثانية

منذ الجمعة 8 يوليو/تموز إلى الثلاثاء 2 أغسطس/آب، عاشت مصر موجة ثانية من الاحتجاجات، الجماهيرية أحيانًا، والأقل جماهيرية في أحيان أخرى. شهدت أيام الجمعة بين التاريخين تجمعات كبيرة في ميدان التحرير.
20118108340293734_2.jpg

مركز الجزيرة للدراسات

منذ الجمعة 8 يوليو/تموز إلى الثلاثاء 2 أغسطس/آب، عاشت مصر موجة ثانية من الاحتجاجات، الجماهيرية أحيانًا، والأقل جماهيرية في أحيان أخرى. شهدت أيام الجمعة بين التاريخين تجمعات كبيرة في ميدان التحرير وميادين المدن الكبرى الأخرى، وشهدت اعتصامًا مستمرًا في ميدان التحرير، بدأ بعدد ملموس من النشطين وأسر الشهداء، لينحدر سريعًا إلى اعتصام عشرات قلائل، ولكنه لم يُفَضّ إلا بتدخل الشرطة العسكرية وقوات الأمن المركزي. وجد فض الاعتصام ارتياحًا ملحوظًا من قطاعات شعبية واسعة ومن أصحاب المحال والمؤسسات التجارية في محيط ميدان التحرير، لاسيما أن المعتصمين أقفلوا كافة الطرق المؤدية إلى الميدان، الذي يحتل موقعًا مركزيًا من مدينة القاهرة، كما أوقفوا العمل في المجمع الحكومي الأكبر المطل على الميدان.
طرحت موجة الاحتجاج الثانية، التي اندلعت بعد الإفراج على ذمة القضية عن ضباط شرطة متهمين بإطلاق النار على الأهالي بمدينة السويس في أيام الثورة الأولى، عددًا من المطالب، وعكست حالة القلق التي شابت علاقة المصريين بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم الفعلي للبلاد منذ انهيار نظام مبارك، وانتهت الموجة بتحقيق عدد من المكاسب الرئيسية، وكشفت عن عمق الانقسام الذي يضرب جنبات الساحة السياسية المصرية في المرحلة الانتقالية، لكنها لم تبدد الشكوك حول توجهات المجلس العسكري.

تستهدف هذه الورقة قراءة مطالب موجة الاحتجاج الثانية، وما حققته، كما تستهدف تلمس الأثر الذي تركته على علاقات القوى السياسية المصرية، وعلى علاقات هذه القوى بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة.

موجة الاحتجاج الثانية: انجازات رغم الخلافات

اندلعت موجة الاحتجاج الثانية على خلفية من الشكوك المتزايدة لدى تجمعات الشباب الذين قادوا الثورة المصرية وقطاعات ملموسة من الشعب حول السياسة التي ينتهجها المجلس العسكري، ووتيرة التغيير في بنية الدولة وسياسات الحكومة الانتقالية؛ فمن ناحية، ساد شعور قوي بأن المجلس العسكري يجرّ خطواته بتثاقل نحو محاكمة رموز النظام السابق والمسؤولين عن مقتل أكثر من 850 مصريا أثناء أيام الثورة الثمانية عشر. ومن ناحية أخرى، بدا أن المجلس العسكري وضع قيودًا على صلاحيات رئيس الوزراء د. عصام شرف، الذي رشحه شباب الثورة لقيادة الحكومة الانتقالية، بما في ذلك منعه من إجراء تعديلات في حكومته، ومن القيام بالتغييرات التي تطالب بها القوى الشعبية في بنية الدولة ومؤسساتها.

بيد أن الدعوة لمظاهرة 8 يوليو/تموز لم تُستقبل بدرجة واحدة من الحماس من الدوائر السياسية المختلفة. وقد كان واضحًا أن القوى الإسلامية، لاسيما الإخوان المسلمون، والتيار السلفي بكافة جماعاته، لم ترحب بدعوة التظاهر. وأحد أبرز دوافع فتور الإسلاميين أن القوى السياسية الليبرالية والعلمانية لم تخف رغبتها في استغلال التظاهرة للدعوة إلى تقديم إعداد الدستور على الانتخابات البرلمانية، وهو الأمر الذي يناقض خارطة طريق المرحلة الانتقالية التي تم التصويت عليها ضمن التعديلات الدستورية في مارس/آذار الماضي. الخلاف حول هذه المسالة بالطبع ليس جديدًا، ويعود إلى فترة الاستفتاء ذاته، ويعكس المخاوف المتبادلة بين الإسلاميين، من جهة، والقوى والجماعات الليبرالية والعلمانية، من جهة أخرى.

ما أن تم حل الخلاف واستبعاد مسألة الدستور من شعارات المظاهرة، حتى أعلن الإخوان وأغلب الإسلاميين الآخرين عزمهم المشاركة في الحشد الجماهيري. وقد لعبت تظاهرة 8 يوليو/تموز دورًا مهمًا في إطلاق عجلة التغييرات السياسية، التي بدأت بوادرها بالفعل حتى قبل يوم التظاهرة الحاشدة. ولكن جماعات من شباب الثورة، مدعومة بعدد من أسر الشهداء، لم تقنعها المبادرات التي تقدم بها المجلس العسكري ورئيس الحكومة عصام شرف، وقررت في نهاية يوم 8 يوليو/تموز الاعتصام بميدان التحرير حتى تتحقق المطالب التي اتفقت عليها أغلبية الجماعات التي تمثل شباب ثورة 25 يناير/كانون الثاني.

الوحدة الهشة التي تجلت في مظاهرة الجمعة 8 يوليو/تموز، سرعان ما انهارت بفعل قرار الاعتصام، الذي رفضته القوى والأحزاب الإسلامية وبعض الأحزاب غير الإسلامية. والحقيقة أن الشارع المصري لم يكن في أغلبه مؤيدًا للاعتصام، لما يتركه من أثر على الحياة والأعمال في وسط القاهرة الكبرى. ولكن الاعتصام أثبت أنه لا يقل فعالية عن المظاهرة الحاشدة التي أفرزته، حيث أن الضغط الذي ولَّده الاعتصام في ميدان التحرير، أدار عجلة التغيير في جسم الدولة بسرعة ملحوظة.

أجرى عصام شرف تعديلاً واسعًا في حكومته، مطيحًا بكل وزراء عهد مبارك، وقام وزير الداخلية بحركة تطهير واسعة النطاق في جسم الوزارة الأكثر إثارة للجدل في البلاد، أدت إلى إحالة أكثر من 650 ضابطا للتقاعد، أغلبهم برتبة لواء. وأعيد تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وأُعلن عن بدء إجراءات محاكمة الرئيس السابق مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي بتهمة قتل مئات المتظاهرين أثناء الثورة، وعن مخطط لاستبدال عدد كبير من المحافظين، وعن حل المجالس المحلية الموروثة عن العهد السابق. كما تعهد رئيس الحكومة شخصيًا بمتابعة صرف حقوق أسر الشهداء. وقد بدأت محاكمة الرئيس السابق ووزير داخليته بالفعل في 3 أغسطس/آب. وفي اليوم التالي، أُعلن عن تغيير عدد من المحافظين، بالرغم من أن بعضهم أثار جدلاً جديدًا.

في التحرير تحول الموقف من الاعتصام إلى مرآة للانقسام السياسي في البلاد، وسرعان ما أفسح انقسام القوى السياسية التي لعبت دورًا مهمًا في الثورة مجالاً لتقدم القوى السلفية التي لم تشارك أصلا في فعاليات الثورة، أو وقفت منها موقفًا سلبيًا. وكان من المفترض أن تكون مظاهرة يوم الجمعة 29 يوليو/تموز مناسبة لإعادة توحيد الصفوف، والإعلان عن فض الاعتصام، الذي أصبح محل اعتراض من قطاعات شعبية واسعة، بعد أن بدا وكأن مطالب موجة الاحتجاج الثانية قد استجيب لها، أو لأغلبها على الأقل.

قررت القوى السلفية المشاركة بثقل كبير في مظاهرة 29 يوليو/تموز، موحية بأنها ستلتزم بالشعارات التي اتفقت عليها كافة القوى السياسية، ولكن المشهد في ميدان التحرير لم يكن كذلك على الإطلاق؛ إذ حشد التيار السلفي أنصاره بميدان التحرير من كافة أنحاء البلاد؛ وقد ساعد على إظهار الميدان وكأنه وقع كلية تحت تأثير الحشد السلفي أن الأخوان المسلمين تواجدوا بصورة رمزية. ولأن التيار السلفي كان قد تعبأ بضرورة مناهضة الدعوة التي أطلقتها القوى الليبرالية والعلمانية إلى "مبادئ فوق دستورية" بعد أن خسرت معركة "الدستور أولاً"؛ فقد تصاعدت الهتافات السلفية المؤكدة على إسلامية مصر والرافضة للدعوات الليبرالية-العلمانية. ولم يشهد الميدان في 29 يوليو/تموز حشدًا سلفيًا وحسب، بل وُجدت منصات للجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد، وأخرى مؤيدة للقاعدة.

في الثاني من أغسطس/آب، الموافق الثاني من شهر الصيام، فضت قوات الأمن والشرطة العسكرية الاعتصام، بعد أن برزت بوادر اندلاع اشتباكات بين أصحاب المحال التجارية وسكان منطقة الميدان، من ناحية، والمعتصمين القلائل، من ناحية أخرى. ولكن خطوة فض الاعتصام لم تُتخذ في الحقيقة إلا بعد أن اطمأن الجيش إلى أن المعتصمين خسروا غطاء أغلب القوى السياسية والشبابية، إضافة إلى خسارة الرأي العام.
ما تبقى خلف خيام المعتصمين كان تفاقم حالة الانقسام السياسي، وملفات لم تُفتح بعد حول العلاقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والجمهورية المصرية المرتقبة.

الانقسام السياسي: مخاوف متبادلة

تبدت ملامح الانقسام السياسي مباشرة بعد انتصار الثورة المصرية، ويعود في جانب منه إلى الانقسام السياسي-الأيديولوجي الذي رسم ملامح الاجتماع السياسي العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر؛ فالقوى السياسية تجتمع في البداية حول مطالب الحريات والتعددية، والتداول السلمي على الحكم، وشفافية الجهاز العدلي، وتحرير البلاد من الفساد، ولكن ما إن تدخل البلاد إلى مرحلة التغيير حتى تعود الساحة السياسية إلى الانقسام من جديد.

في الجانب الآخر، تشهد البيئة السياسية المصرية تصاعدًا للمخاوف المتبادلة بين القوى السياسية، لاسيما بين التيارات الإسلامية، من جهة، والعلمانية-الليبرالية، والقومية-العلمانية، من جهة أخرى. بتوجه مصر نحو تأسيس حياة سياسية ديمقراطية، تفتقد القوى السياسية إلى المعرفة الأولية لأحجامها ووزنها الجماهيري. ثمة اتفاق، مثلاً، على أن الإخوان المسلمين هم الأكثر تنظيمًا وفاعلية، والأوسع انتشارًا وقدرة على حشد الأنصار، ولكن أحدًا لا يعرف على وجه اليقين، ولا حتى الإخوان أنفسهم، ما يمكن أن يحققوه في انتخابات حرة وشفافة.
وبدخول السلفيين إلى الساحة السياسية، أصبح المشهد المصري أكثر تعقيدًا، فهم لا يمثلون كتلة سياسية واحدة، موحدة، مثل الإخوان، ولكن جمعة الانقسام الأخيرة في ميدان التحرير أظهرت قدرتهم الملموسة على الحشد الجماهيري، لاسيما في الأوساط المتدينة، الفقيرة، وغير المؤهلة تعليميًا بالضرورة.

وبعد أن أحجمت المجموعات السلفية عن الانخراط في العمل السياسي طوال سنوات، تسارع الآن إلى تشكيل أكثر من حزب. وكان يعتقد في البداية أن الإخوان سيستطيعون تطويع التيار السلفي وقيادته، ولكن جمعة الانقسام أظهرت استقلالية سلفية واضحة عن الإخوان. وبعد أن عادت الجماعة الإسلامية إلى العمل، بدت وكأنها أقرب إلى التيار السلفي منها إلى الإخوان. وكما الحال مع الإخوان، ليس من السهل التنبوء بما يمكن أن يحققه السلفيون –بكافة جماعاتهم وأحزابهم– في الانتخابات البرلمانية القادمة.

خوف القوى الليبرالية والعلمانية من التيار الإسلامي ككل هو الذي دفعها إلى التقدم بمطلب الاتفاق على "مبادئ فوق دستورية" قبل أن تُعقد انتخابات مجلس الشعب القادم، المقرر أن يختار الهيئة التأسيسية التي ستضع مسودة الدستور. ولكن خوف الإسلاميين من الليبراليين-العلمانيين لا يقل عن خوف الآخرين؛ حيث يتهم الإسلاميون القوى والشخصيات الليبرالية-العلمانية بالسيطرة على وسائل الإعلام، وعلى قطاع واسع من الساحة الاقتصادية-المالية، وبالاستقواء بالخارج. وفي حين تتهم القوى الليبرالية-العلمانية المجلس العسكري بالتواطؤ مع الإسلاميين، يرى بعض الإسلاميين أن المجلس بات تحت تأثير سطوة القوى ودوائر التأثير العلمانية-الليبرالية، وأنه بات يميل إلى تقبل فكرة "المبادئ فوق الدستورية" التي لا يكاد يوجد مثيل لها في أية دول ديمقراطية-دستورية أخرى.

محاولة الإخوان (المدعومة بحزب الوفد) خفض حدة الانقسام السياسي عن طريق تشكيل التحالف الديمقراطي من أجل مصر، الذي بات يضم 28 حزبًا وحزبًا تحت التأسيس وجماعة سياسية، ويلتقي أسبوعيًا لتنسيق الجهود والإعداد لخوض الانتخابات بتحالف وطني، حققت نجاحًا محدودًا حتى الآن. ما تشهده البلاد في الحقيقة هو أقرب لانفجار سياسي هائل، أشبه بانفجار كوني، دفع بالعشرات من القوى والجماعات والتيارات والشخصيات إلى ساحة عمل سياسي، واسعة الأرجاء، ولم يعد بالإمكان ضبطها أو التحكم بها. وما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا أن الغموض لم يزل يكتنف الكثير من مواقف المجلس العسكري وسياساته.

المجلس العسكري: الدور المرتقب في الجمهورية الجديدة

ليس ثمة شك أن المجلس العسكري، الذي صنع انحيازه السريع للحركة الشعبية انتصار الثورة، وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد منذ تنحي الرئيس مبارك، لم يكن يرغب في إحداث تغيير جوهري وعميق في بنية الحكم؛  فمثل كل الجيوش، يبدو الجيش المصري بطبيعته مؤسسة محافظة؛ ولأن المهنية هي السمة الرئيسة للمؤسسة العسكرية المصرية، فإن قادة الجيش يفتقدون الخبرة السياسية. وقد فوجئ الجيش منذ توليه شؤون البلاد بحجم الأعباء الملقاة على كاهله لإدارة بلد كبير، مخرَّب بالكامل تقريبًا، وذي حاجات اقتصادية لا حد لها.
أطاحت الثورة برأس النظام والفئة الحاكمة الصغيرة ولكن جذور النظام كانت تسيطر على بنية الدولة؛ وسرعان ما أدركت قوى المعارضة التقليدية والجماعات الشبابية الجديدة أن مسيرة الثورة لابد أن تستمر قبل أن يتحقق إصلاح فعلي في جسم الحكم وبنية الدولة. وقد ولَّد التصادم بين طبيعة المجلس العسكري المحافظة، من ناحية، وضرورة استمرار الثورة، من ناحية أخرى، حالة من الشك بين قوى الثورة والمجلس العسكري. ولا يكاد يوجد قرار سياسي كبير واحد اتخذه المجلس العسكري بدون ضغط شعبي، بما في ذلك إجراءات ما بعد موجة الاحتجاج الثانية.

ليس ثمة شك في أن الإجراءات الأخيرة، بما في ذلك وضع الرئيس السابق أمام محكمة جنائية، توحي برغبة المجلس في القطيعة مع النظام السابق. ولكن الساحة المصرية تعج بالأسئلة حول ما إن كانت هذه الإجراءات مجرد محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، وأن المجلس لا يزال يجر خطاه بتثاقل نحو إصلاح نظام الحكم والدولة.

بيد أن من الصعب اتهام المجلس بأنه قد انحاز إلى أي من أطراف الساحة السياسية، بالرغم من أن المجلس لا يمكن أن يبرأ كلية من الاستجابة للضغوط، الخارجية منها والداخلية. والأرجح أن المجلس، بالرغم من حرصه على الظهور بمظهر المتحرر من عداء النظام السابق للتيار الإسلامي، يخشى هو الآخر سيطرة الإسلاميين على الحكم عبر صناديق الاقتراع. وهذا، ربما، ما يفسر ميل المجلس غير المتبلور بعد لفكرة المبادئ فوق الدستورية.
ما يمكن التوكيد عليه أن المجلس العسكري يفكر مليًا بدور وموقع الجيش في الجمهورية المصرية الجديدة. فالمعروف أن الجيش المصري، كما هي المؤسسات العسكرية في دول مثل تركيا وإيران، ليس جيشًا محترفًا وحسب، بل هو أقرب إلى ضامن لوجود الجمهورية وكينونتها، وأنه يرسل فيضًا لا يتوقف من الضباط إلى أجهزة الدولة المدنية، كما يلعب دورًا مهمًا في حقول الصناعة والتجارة والإنشاءات المدنية.

المسألة التي لم تطرح بعد على النقاش العام، إلا قليلاً، والتي تبدو وكأنها تستبطن أغلب تصرفات المجلس العسكري، تتعلق بما يمكن أن يقرره الدستور المصري الجديد بخصوص دور وموقع للجيش. هل ستقفز مصر إلى مرحلة جديدة، تتحرر فيها الدولة كلية من دور الجيش في الحكم، ليعود إلى مهماته العسكرية البحتة، أو أن المصريين سيقبلون بالجيش كضامن للنظام الديمقراطي على النحو الذي أصبح عليه الجيش التركي بعد انقلاب 1960؟ وفي أي من الحالتين، كيف سيتم التعبير السياسي عن هذا التوافق الدستوري؟

المشكلة أن المجلس العسكري لا يعبر بوضوح كاف عن طموحات الجيش ونواياه؛ وينعكس غياب الوضوح هذا في البطء الملموس للعملية السياسية الانتقالية؛ فبعد أن تم الاتفاق على إجراء الانتخابات البرلمانية في سبتمبر/أيلول، يقال الآن: إن الإعداد للانتخابات سيبدأ في سبتمبر/أيلول، على أن تجرى الانتخابات فعليًا، وعلى ثلاث مراحل، بداية من النصف الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني. أما الانتخابات الرئاسية، فلا يوجد مؤشر واضح على الموعد المحدد لإجرائها؛ بل إن قانون انتخابات الرئاسة لم يُطرح بعد على النقاش العام. هذا، بالرغم من أن تسليم المجلس العسكري السلطة نهائيًا لحكم مدني لن يكتمل إلا بانتخاب رئيس جديد.

متطلبات ملحة

ثمة ثلاث مهمات ملحة لابد أن تتصدى لها ثلاث جهات رئيسة في الساحة السياسية المصرية، من أجل ضمان مرحلة انتقالية سلسلة، تنتقل بالبلاد إلى نظام سياسي مستقر، يحوز ثقة الشعب والتفافه:
1. المهمة الأولى هي مواجهة القوى والدوائر الإسلامية المتطرفة، التي لم يكن لها من دور يُذكر في الثورة المصرية. وهذه المهمة لا يمكن أن يقوم بها إلا الإخوان والقوى السياسية الإسلامية الوسطية والمثقفون والعلماء المسلمون وأهل الرأي من التيار العام.
2. المهمة الثانية هي تخفيف حالة التوتر والاستقطاب السياسي في البلاد، التي ولدتها بصورة أساسية صراعات القوى السياسية التقليدية، التي ترى أن المرحلة القادمة هي قطف الثمار، بينما البلاد لم تزل فعليًا في بداية المرحلة الانتقالية، ولم تتضح صورة النظام السياسي الجديد بعد.
3. وتتعلق المهمة الثالثة بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي بات من الضروري أن يبادر، أو أن يُدفع بالضغط الشعبي-السياسي، إلى توضيح حقيقة نوايا الجيش وسقف مطالبه الدستورية، لينطلق بالفعل الحوار الوطني العام حول موقع الجيش ودوره في الجمهورية الجديدة.